في مقالته يقدم الباحث السوري عرضاً للمنجز الفلسفي والأفكار السياسية الخاصة بسبينوزا، يتناول تطوراتها من قوله بالحالة الطبيعية للإنسان إلى حالة العقد الاجتماعي وكيفية نشوء الدولة ومعايير الأخلاق والحق والحرية والمواطنة، كما يقارب أشكال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ليخلص للقول بأنه فيلسوف سابق لعصره.

قراءة في رسالة سبينوزا السياسية

سومر الياس

تميز الفكر السياسي الأوروبي الحديث بفلسفة خاصة مميزة له على الرغم من تنوع مدارسه المختلفة، كان من نتائجها ظهور النموذج السياسي المسمى بالدولة الليبرالية الديمقراطية، تلك الدولة التي باتت تطرح نفسها وكأنها النموذج الوحيد والمنتصر في عالم الأفكار السياسية، أو كما تجرأ بعض منظريها وأعلنها بأنها نهاية التاريخ. ويدفعنا هذا النموذج - خصوصاً وأنه بات يطرح نفسه غازياً للشعوب الأخرى - إلى الغوص في تفاصيل هذه الفلسفة وجذورها الفكرية لفهم عالم الأفكار السياسية من حولنا، والذي من حيث لا ندري يصوغ لنا حياتنا ومصيرنا. والرسالة السياسية التي نحن بصدد القراءة في صفحاتها تعتبر من الركائز التي قامت عليها تلك الفلسفة، وأعني هنا دولة العقد الاجتماعي أو الدولة المدنية، وريثة دولة الحق الإلهي أو الدولة الدينية، وصاحب الرسالة هو باروخ سبينوزا فيلسوف امستردام المنبوذ، المولود عام 1632 والمتوفى عام 1677 في أشد العصور ظلامية، تاركاً للتراث الفلسفي للبشرية أربعة أبحاث جعلته أحد عمالقة الفلسفة في التاريخ. وعلى الرغم من أن البحث الأخير وهو الرسالة السياسية لم يكتمل بسبب موت الرجل، إلا أنه قدر لسبينوزا أن يصوغ من خلاله فلسفته السياسية، وقدر للكتاب أن يكون من أمهات الكتب وأن يمتلك قدره عجيبة لاختراق أي فلسفة سياسية أتت من بعده. ويمكن تقسيم الرسالة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية حسب المواضيع المطروحة. الأول يضم خمسة فصول، وفيه يتحدث سبينوزا عن علم السياسة بشكل عام ونشوء الدولة المدنية، والثاني يضم فصلين عن الملكيات، والثالث يضم ثلاثة فصول عن الأرستقراطيات. ومات سبينوزا وهو يكتب الفصل الحادي عشر عن الديمقراطية، وفهم فيما بعد من رسالة كتبها لأحد أصدقاءه انه كان ينوي التحدث في فصول قادمة عن القانون وأنه أراد أن يضمن الكتاب أسئلة هامة في السياسة.

 

مقدمة

يبدأ سبينوزا بحثه بضربة معلم، كما يقال في العامية، عندما يبدأ بالحديث عن علم السياسة كغيره من العلوم القابلة للتطبيق، ناقلاً السياسة من طوباوية كلاسيكية تميز المجتمع التقليدي، ولا عجب في ذلك لفيلسوف لقب مهندساً. فيعتبر أنه لا يوجد أسوأ من الفلاسفة والمفكرين عندما يتحدثون أو يكتبون في السياسة أو في إدارة شؤون الجماهير، حيث أن هؤلاء لم يتخيلوا أبدا نظريات قابلة للتطبيق، ولم ينظروا إلى الناس كما هم، بل نظروا إليهم أو تخيلوهم كما يريدونهم أن يكونوا وبأسلوب طوباوي، فمجدوا الطبيعة البشرية غير الموجودة على أرض الواقع، واسترسلوا في هجاء الطبيعة البشرية الحقيقية للناس، فحوت كتاباتهم على الكثير من الهجاء واللوم، والقليل من علم الأخلاق والسياسة. أما نظرياتهم فوجدت نفسها دوماً في يوتوبيا قصية عصية على التطبيق. ولكن على الطرف الآخر فإن رجال الدولة والسياسة أيضاً كانت لهم مشاكلهم عند تناول السياسة، فهم دوماً مهووسين بالمؤامرة، وتخامرهم الشكوك بالناس أكثر من مراعاتهم لمصالح هؤلاء الناس، وهم بالأساس قد تم اختيارهم لكونهم مخادعين، لا لكونهم على درجة من العلم والمعرفة، وهم يعلمون بالخبرة أن الخوف هو الذي يقود الناس، أما العقل والسبب فلا يحرك بهم ساكن، كما أن التجربة علمتهم أن الخطيئة موجودة في الطبيعة ما دام الإنسان موجوداً. بشكل عام استطاع هؤلاء السياسيون أن يكتبوا بالسياسة بنجاح أكثر مما كتب الفلاسفة، ونادراً ما تجد في كتاباتهم شيئاً يتعارض مع التطبيق، وهنا تبرز المعضلة الفلسفية فالناس لا تطيق ذرعاً بأن تعيش بلا قانون، ولكن من يسنّ القانون هو أكثرهم حذاقة ودهاء، وقل إن شئت مكراً وخداعاً، وكم يصعب على فيلسوف أن يصدق أن قانوناً يخدم الصالح العام لم تصنعه الضرورة أو المصادفة.

ويبتدأ سبينوزا في شرح أفكاره السياسية عن طريق فهم التصرفات البشرية منطلقاً من العواطف البشرية، وهنا ضربة معلم أخرى ومهمة في ذلك العصر تحسب للرجل، وهي أن تسبق الدراسة السياسة بدراسة النفس البشرية، أي أن تسبق علم السياسة بعلم النفس وكان قد أشار في موضع آخر إلى أن هدف رسالته السياسية الأساسي هو البحث عن حكومة قادرة على التعامل مع عواطف البشر ونوازعهم، ويقصد بالعواطف البشرية المحبة والكراهية، الطموح والحسد، الغضب والرحمة. ويقول إنني سأتناول العواطف البشرية بنفس الروح الفكرية التي تدرس بها الرياضيات، هذه العواطف التي تلعب دوراً أساسياً في تحريك الناس ورسم مسار حياتهم. وبسخرية لاذعة يقول أن الناس عاشت منذ البدء بعواطف جياشة، فكان المريض يثير في نفوسهم الشفقة، وكانوا بنفس الوقت يحسدون الأصحاء. وكما أن لديهم ميلاً للرحمة فإن لديهم ميل أكثر للانتقام، وكل فرد منهم يتمنى في قرارة نفسه أن يرى الآخرين وراءه يوافقون على ما يوافق عليه ويرفضون ما يرفضه، وهم متساوون في توقهم لأن يكونوا أوليين، فتراهم ساقطين في النزاع كيفما نظرت إليهم، ويدهشك المعتدي الغازي منهم فخوراً بالأذى الذي ألحقه بالآخرين أكثر مما هو فخور بالصالح الذي فعله في نفسه. وعلى الرغم من أن العقائد الدينية تعلم بني البشر أن يحب الإنسان جاره كنفسه، وان يصون حقوق الآخرين كما يصون حقه، إلا أنه وكما يبدو أن للعقيدة تأثير ضعيف على العاطفة، ومؤسف أن لا يظهر تأثيرها إلا ساعة الموت وعلى فراشه عندما يضعف المرض العاطفة ويقهرها.

وعلى الرغم من أن العقل أو السبب أكثر قدرة على السيطرة على العاطفة وتهذيبها وتشذيبها والتخفيف من غلوائها من العقائد الدينية، إلا أن النقطة التي يشير إليها السبب شاهقة الارتفاع، وطريقه وعرة شديدة الانحدار إلى الحدّ الذي يجعل الناس وخاصة السياسيين غير قادرين على احتمال حكمه، وأن يبحثوا عن طرق أقل وعورة وأكثر رحابة، كما تجعلهم ينعتون من أخضع حياتة للعقل والسبب من بني البشر بالحالم بعصر الشعراء الذهبي في التاريخ.

نشوء الدولة المدنية

خلل مهم جداً يمكن استنباطه عند قراءة الفلسفة السياسية الأوروبية في الفكر والثقافة العربية، وفي فهمها لحركة التاريخ عندما تلاحظ كيف يقسم التاريخ البشري لدى سبينوزا، وكيف يستنتج ظهور الدولة من هذا التقسيم، فالتاريخ هنا يقسم كما مع هوبز ولوك وروسو وكل فيلسوف أوروبي تنويري إلى الإنسان الاجتماعي والإنسان الماقبل اجتماعي. لا إلى الإنسان الجاهلي والإنسان المؤمن بالله كما هو لدى المثقفين العرب إجمالاً، فالحياة الاجتماعية الصالحة تبدأ بالعقل والسبب، ولا تبدأ بالوحي الالهي. يثير هذا الاختلاف الجوهري، في المنطلق لفهم نشوء التنظيم الاجتماعي من واقع وحي إلهي كسمة أساسية مميزة للثقافة العربية، ألف تساؤل في رأسك عندما تربطه بكون هذه المجتمعات من أسوأ المجتمعات البشرية على الإطلاق من ناحية التنظيم الاجتماعي والقدرة على إنتاج إدارة شرعية للدولة في ظل فكر يعتبر أن الشرعية شيء نازل من السماء. يستنتج سبينوزا نشوء الدولة المدنية كغيره من فلاسفة التنوير من دولة الطبيعة أو دولة الغابة، التي هي نقطة مفترضة في التاريخ ومنها تنطلق كل المدارس السياسية سواء واقعية نفعية انجليزية أو مثالية المانية.

وما من شك ان سبينوزا ينتمي إلى المدرسة الانجليزية، فنراه يميز بين نوعين متمايزين من الوجود البشري. الأول قبل وجود قوانين علم الاجتماع الأخلاقية، والثاني بعد وجود قوانين علم الاجتماع الأخلاقية. افترض سبينوزا أن الانسان في البداية قد عاش وحيداً وبدون تنظيم اجتماعي متمتعاً بما سماه الحق الطبيعي، وهو الحق الفردي الذي ليس له من حدود سوى قوة هذا الفرد، حتى أنه يمكن القول أن الحق والقوة هما الشيء ذاته، فهذا الحق يعطي الإنسان حرية مطلقة تمتد مع امتداد القوة في ظل غياب مفاهيم الخير والشر، الخطأ والصواب، العدل والجور التي هي مفاهيم اجتماعية وأطلق سبينوزا على هذا النوع من الوجود تسمية الدولة الطبيعة السابقة على دولة المدنية. والإنسان في دولة الطبيعة لا يرى سوى منفعته الخاصة، ويعين الصالح والطالح وفقاً لقوته وفائدته وهواه، فالقانون في دولة الطبيعة الذي يولد بموجبة البشر غير الاجتماعيين هو قانون غابوي تسنه الشهوة والحاجة الفردية، وهو لا يحرم أي شيء إلا ما لا يرغب الإنسان في إتيانه، كما الوحوش البرية كل يعيش لنفسه وعلى هواه، وفي ظل خطر عظيم على حياته ولا يمكن لأحد أن يدرك الخطيئة. ولكن الحرية بالنسبة للنوع الإنساني ليست كل شيء فالإنسان مثله مثل باقي الكائنات يرغب بالحفاظ على وجوده ودرء الأخطار عنه، وتأمين ضروريات حياته، كما وتسري عليه غرائز حفظ النوع كما تسري على غيره من المخلوقات، كما أنه يخاف العزلة فتراه ينزع نحو التنظيم الاجتماعي، فالحاجات المشتركة بين الناس تولد المساعدة المتبادلة، وهكذا نرى أنه ضمن سياق تطوري تاريخي فإن قانون القوة الفردية أو قانون الطبيعة قد تحول إلى قانون حقوقي للجماعة ذو سمة أخلاقية، أو عقد اجتماعي، وتحول الحق الطبيعي إلى حق مدني لتنشأ الدولة المدنية على أنقاض دولة الطبيعة، حيث يشترع فيها وبموافقة عامة الناس على ما يكون صالحاً وطالحاً، وينشأ الخير والشر الاجتماعيين، ويظهر ضمن السياق التطوري ذاته الإنسان الأرقى الذي يعتبر نفسه مسؤولاً أمام المجموع، وتنشأ داخل الإنسان درجة من الضمير، والذي ليس بأي حال من الأحوال فطرياً في الإنسان كما تزعم بعض المدارس الفلسفية لأنه مكتسب بالتجربة، ومختلف تبعاً لاختلاف البيئة والتجربة، وهو في جوهره مخزون التقاليد الاجتماعية للجماعة، وهو حليف للمجتمع يخلقه من واقع حاجة وتجربة في نفس عدوه، والمقصود بعدو المجتمع النفس الفردية وشريعتها.

من هنا فإن سيطرة العقل الاجتماعي في نفوس الأفراد هو ما يعطي الإنسان قدرة على التنازل عن جزء من قوته واستقلاليته للمجتمع المنظم نظير توسيع ميدان باقي حقوقه أو حرياته في ميادين أخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه متى نشأ المجتمع فإن القانون الذي يحكم علاقة هذا المجتمع بالمجتمع الآخر هو نفسه الذي كان يحكم علاقة الإنسان بالإنسان الآخر في دولة الطبيعة، وكما كان الرجال أعداء بالطبيعة، فإن الدول متعادية ومتنازعة في طبيعة وجودها. ويمكن ملاحظة ذلك بسهوله عندما نلاحظ سلوك الدول وكيف أنه لا توجد إيثارية بينها قالقانون الأخلاقي في نظر سبينوزا يطبق على المجتمع الواحد، وليس بين مجتمع ومجتمع آخر لأن منشئه السبب. وكما كان الحال في دولة الطبيعة حينما كان الإنسان الأقوى هو الإنسان الذي يستخدم العقل والسبب، فكذلك الحال بين المجتمعات والدول فإن أكثر الدول قوة واستقلالية هي الدول التي أنشأها السبب والتي يقودها ويرشدها السبب.

والدولة المدنية في نظر سبينوزا هي كلاسيكية التقسيم، ولا تختلف عن التقسيم الارسطوطاليسي بأشكالها الرئيسة الثلاث: ملكية، أو ارستقراطية، أو ديمقراطية. وأفراد الدولة إما أن يكونوا مواطنين سنّوا قوانينهم، أو رعايا في فيما إذا أجبروا على إطاعة قوانين مستبدة بهم. وأفضل أشكال الدولة المدنية، على اختلافها، هو الدولة التي تخلق السلام والاستقرار والأمان لمواطنيها، والتي لا يتم فيها خرق القوانين والعصيان، ويرجع سبينوزا أسباب خرق القوانين واحتقارها والتحريض على العصيان إلى الإدارة السيئة للدولة، أكثر مما يرجعه إلى الطبيعة المخادعة للجماهير حيث أن الناس لم تخلق للمواطنة، ولكن يجب أن يكون هناك من يجعلهم أناس لائقين لها، فالغرائز الاجتماعية هي غرائز مستحدثة وأضعف من الغرائز الفردية المتأصلة في الإنسان والمتجذرة في نفسية هذا القادم من دولة الغابة وتحتاج دائماً إلى من يرعاها وينميها ويحميها وهي مسؤولية الدولة، أو الوعي الجمعي على جميع الأحوال. إن الدولة التي لا تعالج أسباب العصيان وخرق القوانين ونوازع التمرد الإنسانية لا تعود تختلف كثيراً عن دولة الطبيعة، حيث أن لسان حال أفرادها أو وحوشها الضارية يصبح كل يعيش لنفسه في ظل خطر عظيم على حياتة.

الملكيات والديمقراطيات

كما بينا قبل قليل إنه حتى بعد ظهور الدولة المدنية يبقى في الإنسان دوماً شيء من دولة الطبيعة ومن وحوش البرية، وكما كان بالإمس تقوده نفسٌ واحدة هي نفسه، يبقى فيه هذا الميل في الدولة المدنية في أعماق نفسه. وهكذا وتحت تأثير عاطفة عامة بين الجماهير وليس بتأثير العقل أو السبب تتجمع الناس وتتجمهر وتتمنى بأن تقودها نفس واحدة ورجل واحد تترجى فيه الخلاص ومن هنا تنشأ الملكيات. ويتناول سبينوزا الملكيات من حيث كونها حكم مطلق تضعه الجماهير في يد الملك، فلم تكن الملكيات الدستورية قد ظهرت بعد إلى الوجود. ويعتبر أن الطبيعة البشرية لا تجعل الناس إجمالا يطلبون ما هو مفيد لهم، ولو كان في الأمر وعقل سبب راجح يحرك الناس لما ظهرت الحاجة إلى القانون أساساً، ولكن الطبيعة البشرية غير ذلك. ومن هنا تظهر الحاجة إلى تسليم السلطات جميعها إلى رجل واحد قوي، حيث تصل النزاعات في المجتمع إلى طريق مسدود وتظهر حاجة ملحة إلى أن تصبح الدولة منظمة بشكل صارم ومؤتمرة، بحيث أن جميع الناس سواء أرادوا أم لم يريدوا أن يفعلوا ما هو للصالح العام بدوافعهم الشخصية أم بالقوة. ويفاضل سبينوزا بين الملكيات والديمقراطيات بسخرية فيلسوف مظهراً عيوب النظامين وميزاتهما، فيقول أن الخبرة تعلمنا انه ما من دولة وقفت جبارة ثابتة كالدولة العثمانية، وليس هناك اقصر عمراً وأكثر اضطراباً من الديمقراطيات التي تفتك بها حركات العصيان في كل زمان وكل عصر، ولكن من جهة أخرى إذا كانوا يسمون العبودية ثباتاً والبربرية سلاماً واستقراراً فما أسوأ طالع الرجال عندها، وأي بؤس ينتظرهم. حيث يعتقد سبينوزا أن الملكيات المطلقة تؤدي إلى العبودية، لا إلى السلام. فالسلام لا يعني مجرد غياب الحرب الذي يضمنه البطش ولكنه واقع في وحدة واتفاق العقول طوعاً. ويرتكب خطأ جسيماً من يعتقد بقدرة رجل واحد على أن يجمع في يديه سلطات الدولة جميعها. فسبينوزا كباقي الفلاسفة يعتبر أن الحق هو القوة دائماً، فحتى كبار الطوباويون في دولة الشعب يعتبرون أن حق الشعب هو قوة الشعب المتمثلة في وعيه الاجتماعي الذي يترجم نفسه في مؤسسات. وبما أن الحق لا حدود له سوى القوة، فإنه وفي الحالة الملكية يكون حق الملك هو قوة هذا الملك. ولكن المشكلة هنا تكمن في أن حمل الدولة ثقيل لأن فحواه التعامل مع الطبيعة البشرية وتقيد نوازعها، وقوة رجل واحد غير كافية من أجل حمل ثقيل كهذا الحمل، وهكذا نرى أن الرجل الذي اختارته الجماهير ملكاً غالباً ما يضعف ويسقط في البحث عن مصالحه ومصالح أقرباءه وأصدقاءه ومستشاريه، فليس ثمة عين تبقى على الدوام ساهرة وليس ثمة جفن لا يغافله النعاس.

وبما أن الصالحون قلة أما الطالحون، فحدث ولا حرج، ويمكن أن تجد أن خطر الدولة في هذه الحالة قد يأتي من مواطنيها أكثر مما يأتي من أعدائها. ومن هنا يصبح الملك خائفاً من مواطنيه أكثر مما هو خائف من أعداءه وسيهتم بأمنه وسلامته أكثر من اهتمامه بمصالح رعاياه حتى أنه قد يتآمر عليهم في السلم كما يتآمر على أعداء الدولة في الخارج أثناء الحرب، خصوصاً على اولئك الذين يظهرون ميلاً نحو التعليم أو من لهم تأثير في المجتمع عن طريق ثرواتهم، فالمرء قد يذعن لسيطرة الدولة على أفعاله لكنه لا يسلم بسهوله بسيطرتها على رأيه وعقله، كما هي في الحالة الملكية السائرة بطبيعتها نحو الاستبداد. وبما أنه ليس للجميع الرأي نفسه فالأفضل أن يكون لرأي الأغلبية قوة القانون، أي أن القوة هنا تنتقل من الرجل الواحد الرازح تحت حمل الدولة الثقيل إلى قوة الأغلبية، وهذه هي الديمقراطية أو حكم الجماهير. ولكن من جهة أخرى فإن للديمقراطيات عيوبها أيضاً. فالعدد في الديمقراطيات يحكم ومنه تتحدد القوة أو الحق هنا، ولكن بالمقابل من الأعداد لا تنبثق حكمة والعدد منتج طبيعي للغوغاء والدهماء، ومن هنا يمكن فهم ميل الديمقراطية لتولية المتوسطين من الناس عقلاً وقدرة مقاليد الأمور، فالجماهير تهب مناصبها لمن يحابيها ويداهنها وهي بالأساس جبلت على الأهواء المتقلبة ونوازع الحرق والتدمير وعصيان القوانين وليس العقل والسبب ما يرشدها كما هو مرشد للنخب الفكرية في المجتمع، وهي تبدو لاعقلانية إلى حدّ مرعب كيفما نظرت إليها، وكل هذا يساهم في تحول الحكومات الديمقراطية إلى موكب من المنافقين والمداهنين والمختصين في التعامل مع الطبيعة السيئة للبشر، والعاملين على تسخير تلك الطبيعة للوصول إلى المنصب. وبالنتيجة تشمئز النخب الفكرية وأصحاب الحكمة والمعرفة من دخول مجالس حكوماتها، حيث يتوجب على تلك النخب سماع تقييم من هم دونهم لهم، وتلقي الأحكام والأوامر من الغوغاء ومنتج الغوغاء وعاجلاً أم آجلا سوف ينتفض ذوي الكفاءة الأجدر على نظام يهمشهم، رغم كونهم أقلية في المجتمع. ومن هنا تتحول الديمقراطيات إلى أرستقراطيات نخبوية تعتمد مبدأ الاصطفاء أساساً لها، فتقبض النخب ونبلاء النفوس على زمام الأمور في الدولة وتقصى الغوغاء عن شؤؤن الإدارة والحكم فيها، وتتحول الأرستقراطيات أيضاً إلى ملكيات بمرور الزمن، واستمرار الميل والحاجة إلى النفس الواحدة، والرجل الواحد وهكذا تدور الدائرة. إن الناس في نهاية المطاف تفضل الطغيان على الفوضى، وهم في النهاية يعلمون في قرارة نفوسهم بأنهم غير متساويين، وأن من يطلب المساواة بين اللامتساويين إنما يطلب المستحيل. ويعتقد سبينوزا أن على الديمقراطية أن تحلّ مشكلتها الرئيسية الكامنة في تجنيد طاقات الأجدر والأكثر كفاءة بين الناس حتى يعتد بها كنظام سياسي له أهميته.

 

غاية الدولة هي الحرية

تدهش عندما تقارن النتيجة التي توصل إليها سبينوزا مع بدايات الفلسفة السياسية في أوروبا بالنتيجة التي وصلت إليها في ذروتها مع هيجل، فكما يعتبر هيجل أن غاية التاريخ هي الحرية وما عدا ذلك باطل الأباطيل وقبض الريح واضعاً فلاسفة التاريخ وأفكارهم وصراعاتهم تروساً في ماكينة من تصميمه لإنتاج الحرية وفقط الحرية، كذلك اعتبر سبينوزا قبل قرون أن غاية الدولة هي الحرية وفقط الحرية. فالدولة الكاملة بنظر سبينوزا (وهي أيضاً نقطة مفترضة في التاريخ حيث أن الدولة بالنسبة إلى الفرد لدى سبينوزا هي كالعقل بالنسبة للعاطفة لدى الإنسان وكما أنه لا يوجد عقل كامل فلا توجد كذلك دولة كاملة) هي تلك الدولة التي لن تحد من حريات أو حقوق أو قوى مواطنيها، إلا عندما تكون تلك الحريات أو الحقوق أو القوى مدمرة بشكل متبادل بين الأفراد، كحرية السرقة عند اشتهاء مقتنى الآخر مثلاً، أو القتل عند الغضب. وهي لن تحرم أي حرية إلا لتضيف حريات أوسع، فتحريم القتل عند الغضب مثلاً يعطي بالمقابل حريات أو حقوق للناس بأن تعيش بأمان وهكذا دواليك.

إن غاية الدولة النهائية لا تتمثل بالسيطرة على الناس وتخويفهم وإرهابهم، بل على العكس من ذلك، فإن غايتها تحريرهم من الخوف ليعملوا بأمن واطمئنان حتى تتحرر طاقاتهم، فغاية المجموع بالأساس، وانطلاقاً من الفرضية الأساسية ألا وهي دولة الطبيعة أو الغابة، هي إتاحة فرصة للنماء والتطور للنوع، لم تكن لتتوفر للناس فيما لو كانوا يعيشون فرادى. وبما أن النماء والتطور غير ممكن إلا في ظل أجواء الحرية، فان غاية الدولة واقعاً وفعلاً هي الحرية. هنا تظهر عبقرية الرجل واضحة في عرض سابق لعصره على ما يصطلح على تسميته بالكلمة النهائية في علم السياسة وعلم الأخلاق أيضاً، ألا وهي: كيف نحدّ من شهواتنا وعواطفنا وغرائزنا في ضوء تجربتنا، كما يظهر لنا الفرق واضحاً بين النظام المدني والنظام الديني الذي يحد من الشهوة والغريزة والعاطفة في ضوء وحي إلهي كموني، فالمتراجحة السياسية في الفكر الحداثي السياسي هي حرية ونظام، وفي أي دولة مدنية حداثية إلى يومنا هذا. والدولة العبقرية هي التي تؤمّن لمواطنيها أكبر قدر ممكن من الحرية مع أكبر قدر ممكن من النظام. وقد يبدو للوهلة الأولى أن النظام في الدولة الحديثة هو غاية أيضا، ولكنه في واقع الأمر ليس غاية بحد ذاته، فهو في النهاية لحماية الحرية أي أن قيمته من قيمة الحرية. فمحدد حرية الفرد هو حرية الأفراد الآخرين، والتي يكفلها النظام الاجتماعي، وليس وحياً أو حقاً إلهياً يمتد ويمتد في نفوس الأفراد بحسب أهوائهم وقناعاتهم الإيمانية وفهمهم للميتافيزيقي أو احتكارهم له.

بالعودة إلى سبينوزا نجد أن المشكلة كما يراها تكمن دائماً في تحول الدولة، وهي تنشد الحفاظ على وجودها والذي هو عملياً محافظة ذوي المناصب على مناصبهم، إلى نظام ميكانيكي ظالم وجائر ومستبد. أي وكما أسلفنا سابقاً، يصبح النظام بحد ذاته غاية. وهنا يتسائل سبينوزا عما يجب فعله في هذه الحالة، ويجيب كغيره من الفلاسفة وبنفس القدر من الحكمة بأن أطيعوا هذا القانون الجائر إذا كان هناك هامش لحرية النقاش والاعتراض المعقولين، حتى نستطيع أن نغير تلك الحالة وتلك القوانين سلمياً وبدون فوضى تأتي على الأخضر واليابس. من المدهش أيضاً النتيجة المهمة التي وصل إليها في ذلك العصر عند مقارنتها بفلسفة ستيوارت ميل الليبرالية بعد قرون، عندما فصل ميل حرية الرأي عن باقي الحريات واعتبرها حقاً مطلقاً في منظومته الفلسفية. وبشكل مشابه يعتقد سبينوزا أن القانون الذي يحرم حرية الرأي هو القانون الهادم لجميع القوانين الأخرى، فالناس لا تحترم على المدى الطويل القوانين التي لا يجوز لهم انتقادها، والمشكلة تكمن في أنه كلما زادت جهود الحكومة لخنق حرية التفكير والتعبير أو حرية الرأي، كلما كانت مقاومة الناس لها أشد ضراوة وعناداً، وعلى أرض الواقع لا يقاوم هذا الكبت للحرية أولاءك من يشغف بجمع المال، بل أولاءك التي جعلت منهم علومهم وثقافتهم أناس أوسع حرية من أولاءك المكتنزين. إن الناس وبشكل عام لا تستطيع أن تفهم كيف أن الآراء الخاصة بها هي جرائم ضد القانون وفي ظروف كهذه سيجدون أنه ومن المشرف لهم أن يمقتوا تلك القوانين ويحتقروها، حتى أنهم لن يتورعوا عن أي عمل ضد الدولة. وكمخرج يعتقد سبينوزا أنه من الأفضل للدولة اعتبار أفعال الناس لا آرائهم هي الأساس للملاحقات القانونية الجزائية، حتى تستطيع الدولة أن حريم الفتنة من جميع أوجه التبرير لها. وكلما تناقصت سلطة الدولة على العقل كان ذلك أفضل للدولة وللمواطن على حد سواء، فإن انتقال السلطة من أجساد الناس إلى عقولهم وأفكارهم هو موت للجماعة البشرية.

 

خاتمة

ما من شك أننا أمام أفكار ذات محتوى تدميري هائل وخطير جداً لبنية المجتمع التقليدية في ذلك العصر، بل ولبنية الإنسان النفسية التقليدية، ويمكن من خلال هذه الرسالة السياسية تتبع الفضيلة الساقطة في أوروبا التنوير، ألا وهي الإيمان المسيحي وكذلك تتبع الفضيلة الصاعدة أيضاً، ألا وهي المواطنة الإغريقية، ففي علم السياسة وانطلاقاً من السؤال الفلسفي الكلاسيكي والجوهري "ما هي غاية الحياة؟" يميزون بين نوعين من الفضيلة: الأولى المدرسة المسيحية وتعتبر أن الفضيلة النهائية أو الغاية هي الإيمان، وأن الخير الأعلى موجود في عالم آخر، والثانية المدرسة اليونانية وتعتبر أن الفضيلة أو الغاية هي الحرية وأن الخير الأعلى هو في دولة المواطنة حيث تعيش حراً في دولة حرة.

لقد كان الرجل هو الهدام بامتياز بمفهوم عصره، وربما كان هذا من الأسباب التي دعت رؤساء المجمع اليهودي أن يمنعوا الناس من الاقتراب منه لمسافة أربعة أذرع، وأن يأمروهم بعدم الكلام معه، وأن لا يقدم أحد على قراءة أي شيئ جرى به قلمه أو أملاه لسانه، وأن يلعنوه وعلى رؤؤس الأشهاد جميع اللعنات الواردة في سفر الشريعة نهاراً وليلاً، وفي نومه وصبحه، وفي ذهابه وايابه، ودخوله وخروجه. ربما كان هذا هو السبب في أنه طبع كتبه بدون أن يجرأ على وضع اسمه عليها تاركاً كنزه الثمين لأجيال أخرى وقرون تالية. هو بلا أدنى شك عقل فلسفي جبار رفض مجداً زائلاً في عصره، مفضلاً عليه مجداً أعظم تأتي به العصور اللاحقة، وخلوداً يحسد عليه في ذاكرة الإنسانية.

تقول الحكمة الفلسفية الويل لمن يعلم الناس بسرعة تفوق مقدرتهم على التعلم لقد دفع الرجل ثمن الحكمة وأوفى حتى الفلس الأخير. كرهه معاصروه وكرهته أجيال أتت بعده، ولكن الفلسفه صنفته عبقرياً قلب عالي الأمور سافلها في النفس البشرية، لقد حطم موازين كثيرة وصنع موازين أخرى.