يسائل الباحث المغربي في نص هذا الحوار الجسد، وعبر المسائلة يفكك معنى الوجود الفيزيائي للجسد والمفاهيم والالتباسات والاستعارات المتواشجة معه، كما يتناول العلاقة القائمة بين الجسد وفعل العنف الموجه نحوه، ليخلص إلى تعريات دلالية شيقة عنه.

حوار عن الجسد في المجتمع المغربي

فريد الزاهي

الجسد؟

يلزم أولاً أن نفرق بين الجسد العضوي وهو ما يسمى في الآداب الفقهية الإسلامية بالبدن ويطلق عليه في الثقافة الشعبية "الذات"، وهو المقابل للمفهوم المسيحي واللاتيني (Chair)، وفي هذه الحالة يعتبر الجسد كومة من اللحم تغلف تناسقاً هيكلياً من العظام له مجموعة من الوظائف الحيوية التي تعمل بشكل "آلي"، والجسد الإنساني بما هو جسد تعتبره الديانات والفلسفات المثالية عموماً مادة الروح وغلافها وعمادها الأرضي وسندها الدنيوي فيما يمكن أن ننظر إليه انطلاقاً من تصورات أخرى على أنه موطن الوجود ومصدر المتخيل وعماد الحياة. والحقيقة أن الجسد الإنساني ليس واحداً بالرغم من التشابهات التي ينبني عليه فالجنس واللون يشكلان في هذا المضمار مفاصل انبنت عليها التمايزات الجنسية أو النوعية، والاختلافات العرقية والإيديولوجية. من ثم يمكن القول بأن الاختلاف بين الأنوثي والذكوري، وظهور وضعيات نوعية وسطى (الخنثى) تعد الأساس الذي تبني عليه الثقافة مفهومها للجسد. فإذا كان أفلاطون في "المأدبة" يعتبر أن "الأندروجين" هو أصل الذكوري والأنوثي فإن التصور الكتابي لا يختلف كثيراً عن ذلك، فجسد آدم كان أندروجينياً لأنه كان يتضمن الذكر والأنثى، وولادة حواء من ضلع آدم يعني أن آدم كان له جانبه الأنثوي، على الأقل في بعض من ضلوعه. وانطلاقاً من ثنائية الذكوري والأنوثي انبنى المتخيل العالمي للإنسان الذي لا يزال يتحكم في تصوراته الذهنية ووعيه ولاوعيه. الجسد إذن كيان له جوانبه الأسطورية (الخلق) وجوانبه التاريخية (التطور التقني وتملك المهارات وتراكم المعارف، والحركات النزوحية وبناء الحضارات)، كما له جوانبه الثقافية والمتخيلة وله جوانبه الدينية والمقدسة. من ثم يمكننا الافتراض بأن كل ما أسبغ على الروح من أهمية يعود في جوانبه الكبرى للجسد إن لم يكن يعود كلية له.

 

ما هو موقف المجتمع المغربي من الجسد؟

هل يبلور المجتمع، أي مجتمع موقفاً من الجسد؟ أم أنه يبلور مواقف متعلقة بممارسات جسدية معينة ومن ثقافات معينة لها مرجعية جسدية؟ لنبدأ بالقول بأن الجسد أصبح اليوم في مجتمعات من قبيل المغرب محفل كل المفارقات الممكنة. ثمة فعلاً اهتمام كبير بالجسد والجسدي وبالمظاهر والأزياء وبكل ما يحيط بالجسماني من رياضة وحجاب وغير ذلك، بحيث نكاد نقول إن الجسدي غدا محوراً رئيساً من محاور الممارسة الاجتماعية. كيف ذلك؟

كان الإنسان التقليدي المغربي يحتفي احتفاء عبادياً بجسده بحيث لم يكن من الممكن التفرقة بين البعد الديني المقدس والبعد الدنيوي اليومي في ذلك. أما اليوم فإن الفواصل بين الديني والدنيوي صارت تجاور المطابقة بينهما في هذا المضمار. لنأخذ مثالين على ذلك: الاهتمام الذي صار يبديه المغاربة بالرياضة والجري والمشي، بحيث إنك ترى امرأة ذات مظهر قروي، تمارس ذلك في الصباح المبكر في الغابة الأقرب، بعد أن تكون طبعاً قد صلت صلاة الفجر. وهو اهتمام يطاول أيضاً العناية بالأسنان أكثر من ذي قبل، وانتشار الجراحة التجميلية، وغيرها من المظاهر التي تؤكد تغلغل ما سماه ميشال فوكو في سياق آخر الاهتمام بالذات. ثم الأمر الثاني، ويتعلق بما يسمى بالحجاب. فالحجاب هو نفسه متعدد، لأن الإنسان ما أن يضع يده على شيء حتى يحوله. ثمة عودة للحجاب الذي يعود للجاهلية وما قبل الجاهلية لدى الآشوريين وغيرهم بتأويل أنه حجاب إسلامي. ثم تأويل للحجاب نفسه بحيث اتخذ ألواناً وتلاويناً وغدا موضة "سيكسي" وأكثر جاذبية وإثارة من "التنورة القصيرة" (الميني جيب) والديكولطي، وصار "صناعة محلية" لا تضاهيها غير الصناعات التصميمية الجديدة للقفطان.

هذه المفارقات هي ما يمكن أن نطلق عليه مواقف المغربي من الجسد، بالكثير من التجوّز طبعاً؛ ذلك أن الجسد ليس سلبياً وسكونياً إلى هذا الحد بحيث يشكل فقط موضوعاً لنزواتنا ورغائبنا الاجتماعية. إن له "استقلاليته" النسبية وألاعيبه، والكثير منها يتصل باللاوعي. ومن ثم "سلطة" الجسد بل طابعه الرهيب أحياناً. لذلك يتصف موقف المغربي من الجسد بالتذبذب، فهو يمنحه الأهمية التي يستحقها مظهرياً واجتماعياً، وهو يمجه حقه في أن يكون مشاركاً في بلورة الهوية الشخصية. وهو يؤمن به من حيث هو كذلك غير أنه يردد كل المكرورات التي تنفيه وتجعله قشرة لا أهمية لها لأنها بائدة، ومصدر لكل النزوات والشهوات. وأنا أحب مقابلة شهوات البطن والفرج، بقول المغاربة: "نفسي تشهات شي حاجة".

 

هل تشكل الثقافة الدينية أساس أساس هذه النظرة للجسد؟

أعتقد أن الجسد من حيث هو محفل ثقافي يشكل مجالاً للمزج بين العديد من التصورات منها الإسلامي وما قبل الإسلامي ومنها الأسطوري والديني ومنها العلاجي التقليدي والحديث، الخ. من ثم إذا كان الجسد يخضع لمجمل القواعد السلوكية الإسلامية فإنه أيضاً مفتوح على المصادر الأخرى وبشكل متداخل أحياناً. لنأخذ الجسد العليل مثلاً: هنا قد يتم البدء بالعلاج التقليدي الإسلامي الذي جاء به الحديث، ثم ينتقل الأمر بالانزلاق نحو الثقافة الشعبية العلاجية ليصل الأمر إلى السحر ثم إلى الممارسات "الشامانية" من حضرة ووجد وغيرهما. لذا من الصعب الحسم في الأمر، لأننا نلاحظ في هذه المجالات تصورات دينية غير "خالصة" مشوبة بعناصر أنيمية وأخرى سحرية. ويمكن أن نلاحظ هذا التداخل أيضاً في المظاهر اللباسية بحيث إن الجلباب النسوي (الذي كان إلى بداية القرن الماضي لباساً ذكورياً) الذي صار مدخلاً للمظهرية الاجتماعية للمرأة المغربية، صار مجالاً لكل "البدع"، أي مجالا للتمثلات الاجتماعية للأنوثة والجمال والغواية.

 

لماذا نتعامل مع جسد المرأة وجسد الرجل بمكيالين، مكيال القبول ومكيال الرفض؟

لا أعتقد أننا نقبل الجسد أو نرفضه هكذا من حيث هو أنثوي أو ذكوري (إلا في حالات قليلة تتعلق بالبنوة وهنا لا يقبل الجسد وإنما مبدأ الذكورة والأنوثة) وإنما يقيم المجتمع تراتبية مبنية على الجنس (ذكر أنثى)، أو هو يقبل أو يرفض ظواهر جسدية معينة كظواهر الإعاقة من عور وبرص وعرج الخ، ليربطها بدلالات أسطورية سلبية في الغالب من نحس وسوء طالع وغيرهما (وهو ما ليس أمراً مطلقاً لأن الجاحظ ألف رسالة رائعة عن البرصان والعرجان والعميان والحولان يمتدح فيها شرفهم). لكن ثمة آلية للقبول يمكن التعبير عنها بمعايير الحسن وهي التي تتداولها الأخبار والأشعار. فالبهكنة (المرأة الغليظة السمينة التي تقبل بأٍربع وتدبر بثمان) كانت نموذج الحسن في الجاهلية وصدر الإسلام، إلى أن امتدح الشعراء ومعهم الجاحظ المرأة المجدولة والتي تحاكي قدّ الأسل. والأمر نفسه في الغرب إلى حدود القرن التاسع عشر. وقد كانت العرب تسمِّن الفتاة النحيفة عند حلول زواجها وهو أمر لا نزال نجد له آثار في المجتمعات البدوية وفي جنوب البلاد المغاربية بالأخص.

لكن، بما أن الجسد بناء ثقافي فهو لا جوهر له. إنه يبتكر ويبتدع وهو ما صرنا نعيشه مع الموضة والإشهار من تحويل الجسد إلى بلاغة بصرية تجعل الناس تعشق النموذج وتجعله مرجعياً وحتى وإن لم يكن له مقابل في الواقع.

 

من أين يأتي الخوف من جسد الأنثى؟

ثمة ظاهرة جوهرية في العلاقة بكل ما هو غامض (ومن ثم مقدس): الرهبة والفتنة، الجاذبية والممانعة. وجسد الأنثى من هذه الفصيلة، فهو مصدر الخصوبة وموطن الخلق الإنساني، ومصدر الرغبة والعشق، لذلك فهو أيضاً مصدر لكل المخاوف. ولعل الخوف الكبير من الأنثى يتمثل في التباساتها الكبرى وفي لغز الأنوثة. الأنثى في المتخيل الكوني ترتبط بالقمر والبحر وبالعمق والليل وبالمغاور، فيما يرتبط الذكوري بالفحولة والنهارية والعمودية والوضوح. وكأننا هنا أمام ثنائية العقلاني واللاعقلاني. وهي ثنائية غير وجيهة سوى نظرياً، لأن الكائن الإنساني يملك في ذاته الذكورة والأنوثة، وهو حين يخاف الأنثى فهو يخاف الأنثوي الذي يحتل موطناً ما في وعيه ولاوعيه بل في جسده حتى. أما الخوف الأكبر من الأنثى فهو في الطابع الأسطوري لرغبتها الجنسية الخارقة التي لا يمكن لأي رجل وحده أن يشبعها. ولعل ذلك هو ما نجد تمثيلاً له في ألف ليلة وليلة، حيث ثمة مشاهد لامرأة تعاشر العشرات من الرجال الواحد تلو الآخر. إنها المرأة البلوعة (ventouse)، التي عنها نتجت صورة الغولة، وعيشة قنديشة.

 

كيف نفسر بعض مظاهر العنف التي تمارس على الجسد؟

بدءا لماذا يمارس التعذيب والعنف على الجسد؟ لأنه الجانب الظاهر من النفس والروح وموطنهما. من ثم فالتعذيب الجسدي مدخل للتعذيب النفسي، والألم الجسدي مصدر للألم النفسي. الاغتصاب مثلاً هو عنف يمارس على الجسد. بيد أن آثاره النفسية تتجاوز ذلك لتنطبع في النفس طول الحياة وتترك آثاراً لا تمحى، خاصة أن البكارة والجنس لهما مدلولات رمزية ومقدسة كبرى في كافة المجتمعات وفي أغلب الديانات. لهذا ابتكر الصينيون التعذيب النفسي من القديم. فهم يربطون الشخص إلى كرسي، ويحلقون رأسه ويطلقون عليها قطرات ماء لا تنضب، يؤدي تكرارها لأن يفقد المعذّب عقله. وتلكم طريقة تؤكد تزاوج الجسماني والنفسي في العنف والعذاب. بل إن جهنم نفسها تؤكد ذلك باعتبارها موطناً للعذاب الجسماني على ما اقترفته النفس الإنسانية. وهو الأمر الذي يؤكد مرة أخرى على أن الجسماني ليس فقط غلافاً أو قشرة للنفس والروح، وإنما هو جزؤها الظاهر المادي لأن جسدنا هو مظهر هويتنا وصورة وجودنا في العالم.

 

أليس الحجاب بمختلف أشكاله وألوانه وأحجامه عنفاً ممارساً على الجسد، والوشم عنفاً ضد جسد الذكر؟

لا يجب التسرع في إطلاق الأحكام، لأن العنف أيضاً مكون أساس من مكونات المقدس منذ وجود البشر على ظهر البسيطة. والحجاب كما هو معروف ليس ظاهرة إسلامية. فقد عرف في الجاهلية كما عرفته قبل الشعوب الإسلامية حضارة بلاد الرافدين. الحجاب يعني ثقافياً وأولاً وقبل كل شيء الفصل بين الشخصي والغيري، كما أن مفهوم الحجاب هو مفهوم مقدس في حد ذاته لأنه يعني أيضاً الذات الإلهية الموجودة وراء حجب هي حجب الغيب.

والمعروف عن أكثر النساء المثقفات البليغات ورعاً في صدر الإسلام وفي عصور ذروة الحضارة الإسلامية أنهن كن يجالسن ويناظرن الرجال من وراء حجاب، وهو حجاب كان يمكنهن من ممارسة وجودهن الثقافي. ليس المشكل هو الحجاب ولكن هو ما عرف في الفقه بالعورة. ما الذي يجب ستره عن الآخر أي عن الغريب؟ وبالرجوع إلى الأئمة لا يعتبر الوجه ولا اليدان والرجلان عورة. أما ابن عربي الظاهري، فقد أفتى في الفتوحات المكية بأن لا شيء في المرأة عورة غير فرجها وثدييها، أي ما يغطى بالضبط في الشواطئ. والحال أن الوجه أهم شيء في الجسد، لأنه يجمع الحواس الخمس كلها. والمعروف في الأدبيات العربية أن الناس كانت تعتبر العين أكثر من أي شيء آخر حتى إن بعضهم حين رأى أحدهم يحدق في امرأة قال له: أخاف أن تفتضها بنظرك. فالعين مصدر كافة الاستيهامات الجنسية التي تغذي الرغبة. والعين أيضاً مصدر التواصل، ولا يؤمر بغض البصر إلا اتقاء للفتنة.

لذلك اختار الله أن يلاقيه الناس رجالاً ونساء في بيته الحرام ووجوههم حاسرة سافرة. كيف نحجب ما حلل الله في بيته أن يكون سافراً؟ فبما أن الله خلق الإنسان على صورته فهي صورة مقدسة، وحجب الصورة المقدسة كلية يعني حجب ما خلقه الله ليتواصلوا فيما بينهم وفيما بينهم وبين خالقهم. وما دام الله يحب وجوه عباده فليس لأحد الحق في حجبها.

 

ما علاقة الجسد بالجنس؟

علاقة الجسد بالجنس أنه منطلقه ومنتهاه.

 

هل استطاعت الثقافة أن تحرر الجسد من سجن الطابوهات وخاصة الفن التشكيلي والرواية؟

كيف نطالب الثقافة بأن تحرر الجسد من شيء هي صانعته؟ الثقافة الأولية، الدينية والمقدسة، هي التي ابتكرت الممنوعات والمحظورات. والديانات باعتبارها خميرة الثقافات ومجالاً من مجالات تطورها انبنت على المحظورات، التي كانت بدورها تندرج ضمن جدل المقدس والدنيوي، والحلال والحرام. أما مفهوم الطابو فهو لا ينطبق انطباقاً كبيراً على ثقافاتنا والأفضل لنا أن نعوضه بمفهوم الحرام الذي يشمله، وفي الآن نفسه يبين عن الجانب المقدس.

ومن الواضح لدى كافة أنثربيولوجيي الثقافة والدين أن الحرام يؤسس الحضارات والثقافات. أما الثقافة الحديثة فهي إن كانت قد قامت على التحرير والتحرر، الشيء الذي لا نزال نجد له صدى في العديد من التيارات ولعل أكبرها الإباحية الفوضوية (بمعناها المنهجي والثقافي)، فإن ما بعد الحداثة تعني أساساً عودة للمقدس والمحرم وأهم ظاهرة تعبر عنه هي عودة التدين والرجوع للمعتقدات. أما دور الرواية والتشكيل في هذا المجال (أي في ثقافة الحداثة) فكانت عموماً تتمثل في مسايرة هذه التحولات، لأن التشكيل الكلاسيكي كان قد عرى الجسد منذ المنحوتات الإغريقية، وإن كانت لوحة كوربي مثلاً "أصل العالم" قد أبانت عن الخفي والشهواني فيه. أما الرواية فإنها موطن الكشف عن هذه التحولات واستشرافها أحياناً.