هوامش الأمة ومنفى المقتلعين

هوامش الأمة ومنفى المقتلعين

على بدر

وأنت أيتها الأرض ماذا نكون بعد فقدك، هكذا كتب Jean Olpjian في العام 1933 عن مدينته في أرمينيا، فماذا تكون فسلطين بعد العام 1948 إن لم تكن هي أول تبعثر في التاريخ لأمة في أمم الآخرين، هي أول تحول صادم من أمة إلى هامش أمة، وتحول الساكنين المتجذرين إلى مقتلعين ومنفيين. فاسرائيل ليست احتلالا فقط يبقي الساكن المحلي إلى جوار المستوطن الجديد، كما هو الحال في تاريخ كل زحف امبريالي أو امبراطوري حدث في العالم. إنما هو إزاحة واحدة شكلت مركزية أثنية إزاء جماعة مقتلعة وغير موجودة إلا في إطار افتراضي، نوع من الديمواغرافيا خارج الديموغرافيا الأممية، وهذا ما لم يحدث قط في التاريخ. وهكذا ترى فلسطين في الفلسطينيين، ولا ترى الفلسطينيين في فلسطين، وقد حدثت سلسلة من التواريخ الخارجة والانشقاقية تبعا لذلك: شرخ في الصلة بين الشرق والغرب، انتاج غزير من النثر المتجهم، واستبدال الإسم: إسرائيل محل فلسطين، الدولة العبرية محل الجماعات العربية، والوافدين محل الساكنيين الأصليين. ولكن ماذا حل بالبلد القديم؟

أصبحت فلسطين خارج أرضها، ويولد الفلسطينيون من كل التجمعات الطارئة: من مخيمات اللاجئين، من ساعات المقاهي، من حواف وأطراف المدن، من أسرة الأوتيلات، من باصات المسافرين، كما لو كان هنالك زمن أبدي للرحيل، كما لو كانت هنالك استعارة واحدة تنهي البلاد معها، في نوع من المجاز الخالص، ومع زمن الهجرة تبدأ هذه الزحزحة الانزياحية التاريخية: تبعثر أمة في أمم أخرى، تبعثر زمن في أزمان الآخرين، وغياب مكان عن مكانه، ومحاولة إيجاده في أمكنة الآخرين. هذا ما بدته لي فلسطين وأنا شاب يافع جدا أقرأ إريك هوبسباوم Eric Hobsbawm وهو يكتب موسوعته الكبيرة عن تاريخ الأمة من منظور المهاجرين والمنفيين في أمم أخرى.

لقد افتض هوبسباوم بنثر حي ومتفجر هذا الأرشيف المعقد والإشكالي على حد سواء في تاريخ الأمم، وهو تاريخ خفي على الدوام، لقد أبرز على نحو فظ هذا الخرق الذي تمت بلورته حول مواضع التمثيل غير المتكافئة، فهنالك تاريخ من التمييز وسوء التمثيل، بل هنالك تاريخ كامل من الانتهاك، إن تاريخ المستعمر كما أظهره هوبسباوم مع ظهور الامبراطوريات هو الذي أشعل مخيالا اجتماعيا كاملا، قائما على التحيز، وهو ما نرزح تحته اليوم كلنا، وهكذا بدت لي فلسطين وأنا مستغرق في قراءة الفصل الثالث من عصر الإمبراطورية 1875 ـ 1914، وكنت أتساءل: كيف ولدت هذه الاستعارة اللغوية من أرشيف كامل مخبوء ومخفي، وكان من القوة بحيث أنه حول أمة موجودة وكائنة إلى أمة غائبة، كما لو أن اعتباطية الدوال قدمت أشد التوصيفات بلاغة ليوم النكبة، حيث قابلتها استعارة أخرى في إسرائيل هي "يوم النصر" كما لو كانت هذه الاستعارة قادمة من زمن آخر ومن مكان آخر.

من زمن بعيد كنت قد حزت على شعور مقابل ومكافئ لشعوري وأنا أقرأ كتاب هوبسباوم، لم يكن شعورا كئيبا، إنما كان شعورا متسائلا هو ذاته الذي يثيره كتاب عصر الإمبراطورية، هذا الشعور جاء من قراءتي لشعر محمود درويش. كنت مراهقا ذلك الوقت فقرأته بشغف وحماسة عاطفية كاملة، دون أن أعلم أن الفصاحة الهائلة كانت أشبه بقرع الطبول على وجود ذات متشظية، مقتلعة من الحاضر والماضي، كانت أشبه بطاقة مخبوءة تتحول إلى طاقة استعارية، وفي خضم هذا المزيج يعاد الافصاح عن تشكلات رمزية وخطابية أعقد بكثير من الكلمات التي تنتجها القصيدة، هذه الاستعارة هي التي تمثل زمن الفلسطينيين، بل هي التي تحدث خلخلة أخلاقية في ضمير العالم، وهي أقوى من أي سلاح، بل هي التي تجعل من النكبة المنسية والمخبوءة نوعا من التفكير القائم والدائم.

لا أدري لماذا هيمن علي هذا الاحساس خلال صباي كله، كانت فلسطين في قصائد درويش تتراءى لي خلف دخان أسود، وكنت أشعر بها مثل كومبراي نسبة إلى مارسيل بروست بعيدة المنال، متخفية وراء العتمة، منحسرة عن البصر تماما، ومرغوبة مثل شيء عصي على التحقق. وهو الشعور ذاته الذي كنت أشعر به في نصوص هوبسباوم، إذ لم تكن الأرض المغيبة، أرض السكان الأصليين، هي أقل من هدف نهائي، هدف أقرب إلى أن يكون مستحيلا، وهكذا كنت أشعر على الدوام أن اسم فلسطين لم يعد نوعا من التعابير الجغرافية مثل أوروبا أو مثل خط الاستواء، إنما هي الطريق، وهي المسافة التي تتحول إلى طريق، وهي ممثلة أروع تمثيل لبداية التراجيديا، ومشاعر الفقد والغياب والحرمان والكرامة المهدورة.

كتب ماركيز في "مشاهدة المطر في غالسيا" بأنه من تلك التجربة نما اهتمامه في اقتفاء أثر نسب تلك النكهة، وفي البحث عنها، ذلك أن المدن لا تتشكل إلا عن طريق العلاقات الأدبية وهذا ما أدركه الساكنون الجدد لفلسطين، لقد أدركوا على نحو متواصل منذ موشيه سيملانسكي وبياليك أن تشكل بلاد جديدة لا يتم إلا عبر سرديات جديدة، هكذا يصبح التخييل عبورا للثقافات القومية المتجانسة، وانتقالا للتراثات التاريخية عبر الاستيطان، وتحولا فذا للقومية الهامشية إلى قومية عضوية، ليتحول بعد ذلك الموت الحرفي والمجازي للفلسطينيين إلى موت حقيقي، ويكون السرد النامي والجديد في الثقافة الإسرائيلية المبتكرة موجودا وقائما على حطام ثقافة وفلكلور الفلسطينيين، للمرة الأولى يتحول الاستعاري إلى حقيقة مادية ووجود دولة، وتتحول أمة الفلسطينيين إلى وجود افتراضي وعائم، وجود ممحي، هذا ما أدركه بعمق بنديكت أندرسون في كتابه الفذ (المتخيل الجمعي الوطني) والصادر في العام 1983، ذلك أن الأمة لا تدرك إلا من خلال عملية تخييلية يكون فيها الأدب عنصرا دافعا، وهذا ما جعل الأدباء الإسرائيليين برمتهم يدركون أن الأدب والقومية شيئا واحدا، أو أنهما وجهان لعملة واحدة.

بعد سنوات أصبح الفلسطينيون بدلا من اليهود أمة مشردة، لتنبعث الأرض مرة أخرى، لا من أسى الفقراء المقاومين فقط، إنما من قصيدة، من نثر متجهم، من منظور كتابي، من عوالم ثقافية متباينة ومتفاوتة موجودة في غير مكان، من ذاكرة تاريخية ووجدانية تراجيدية، لقد بدأت فلسطين حياتها الجديدة من شعر محمود درويش. ولكن كيف؟ في العام 1999 كنت جالسا في مقهى من مقاهي باريس، كانت الرياح قد صفرت في أول المساء، نثرت ندف الثلج معها على طول الشارع الملآن بالبنايات العالية ذات الواجهات المضيئة، هنالك ضوء خفيف يذوب في العتمة وأنا أضع كتاب إريك هوبسباوم أمامي وأقرأ في جزئه الأخير الذي يتحدث عن المنفى وهوامش الأمة، فأحس على البعد بشيء من الأسى، وبشيء من الكرامة المهدورة، ذلك لأن فلسطين لا تمثل الرحيل المبكر لوعد العرب بالخلاص، ووالغياب الكامل لمشروعهم عنه، إنما هي نوع من الهزيمة المنكرة، هي الطرد من التاريخ، وهي مضاعفة الأسى أيضا. ذلك لأن الخروج من التاريخ ليس خداعا، إنما هو الانخلاع البطيء من المكان والزمان متزاوجين.

كان الرجل الجالس على حاجز البار على مقربة مني هو الآخر يقرأ بكتاب صغير، ولا أدري كيف شممت من ورقه رائحة أليفة، كما لو كنت أشم رائحة نشارة الخشب في دكان، كان يضع أمامه صحن المقبلات وزجاجة البيرة، وأنا أنظر حذاءه المخطط متهرئا من بلل الثلج، تتأرجح ساقه اليسري في بطء أعلى الأرضية، فجأة توقفت ساقه وأخذ يشرب من الزجاجة وبشكل غير محسوس قرأت عنوان كتابه، كان ديوانا لمحمود درويش مترجما إلى الفرنسية، بعد أن مسح فمه نظر لي، فأثار فضولي لأسأله بالفرنسية: "هل أنت من فلسطين؟"، قال: "لا أنا من إسرائيل".

كائنا ما كان سيصبح ذلك الشخص نصف اسطوري وستنتقل شهرته من دغل إلى دغل هكذا كتب بيار بواديفر عن بيار جان جوف، وقد دهشت بعد سنوات حينما التقيت محمود درويش في مدينة آسيوية بعيدة بالرفقة العذبة والمتحمسة لكاتب فلسطيني آخر هو فخري صالح، كان محمود درويش شخصا قد حافظ على شبابه بصورة واضحة، وله هيئة متميزة جدا، لا يمكن أن تخلطها مع أي شخص آخر على الإطلاق، له هيئة أشبه بهيئة الخارجين عن القانون في الروايات الفرنسية، أما صوته فقد كان دافئا بصورة فاضحة لا يتلاءم مع فرديته التي تثير الاهتمام حقا.. وفي اللحظة التي رأيته فيها، لمعت في ذهني ساق الرجل الإسرائيلي الذي التقيته في باريس وهي مبللة تتأرج في الفراغ.

كان هذا اللقاء هو الذي فجر في التفكير بشعر محمود درويش مرة أخرى، لأن شعره هو إحالة مجازية إلى توحش حقيقي حدث في موقع ما على الأرض، وقد يلفت الانتباه بشأن الأممية الجديدة التي حدثت في العصر الاستعماري والتي كتب عنها ستيفان هول بعمق، فهنالك منظور أممي يضع رؤية للعالم على الدوام مزدوجة، وما يقرأ حقا في شعر محمود درويش هو سيرورة الانزياح والتفارق، بالقياس إلى شعر الدولة، أو شعر الأمة الكائنة: شعر بياليك ومردخاي وغيرهم من الشعراء الإسرائيليين، مثلما صنع شعر إيميه سيزير نوعا من الانزياح والتفارق في تاريخ العبودية، ومثلما صنع شعر لوركا نوعا من الانزياح والتفارق في تاريخ الغجر، هذا الجنس الجوال. من هنا تبرز أهمية شعر محمود درويش: إنه تأصيل لتاريخ منسي أو مخبوء كما يسمي هومي بابا شعراء الثورة، وكشف عن النزعة الامتصاصية الظالمة، إنه إعادة نقش المخيال على جسد الثقافة العالمية مرة أخرى. لقد صنع شعر محمود درويش ببراعة طفلية رؤية عميقة للمشردين والمهزومين، والذين أضفى وجودهم على القربان المقدس صورته الكئيبة، إنه الصوت الآخر الذي صنع حكاية ثانية كشلال صغير لا يتكرر، لقد وضع النكبة أمام يوم النصر عنصرا هداما ومكافئا، لقد صنع بأقل ما يمكن من الكلمات حركة ذات كبرياء، صنعها فوق عالم متحجر وهو يفرض سيادته المطلقة.

بماذا افترق شعر محمود درويش عن الشعر العربي الذي تناول النكبة؟

لقد افترق عنه بسب طبيعته الطفلية والبريئة، لقد كتب محمود درويش الشعر بعفوية الطفل الذي ينظر إلى العالم الذي يحيط به بعينين تخلوان من التحيز تماما، كما خلق نوعا من التوق البريء لتقديم العالم المحيط به بمشهد أسمى، لم يكن لاجئا كئيبا ومقهورا، كان واقعا على الحدود الفاصلة بين حدثين إثنين، حطام الفلكلور الفلسطيني وبروز إسرائيل، أي كان في إسرائيل الواقعة على خارطة فلسطين، ليبرز في شعره الخارطة القديمة والمهدومة في توثب محموم، ليظهر العالم المغيب بانتظار وعد آخر بالخلاص، فهذا الصنيع الأدبي جعل من الخارطة التي تبخرت في الدخان، جوهرا في الكتابة.

"لا شيء معطى، لا شيء صالح للقطاف، الحب، والفن، والسعادة هي إنتاج إنبيق"

هكذا قال جاك شاردان في زمن أبعد من هذا الزمن بكثير، أتذكر ما قاله جاك شاردان وأنا أقرأ خبر موت محمود درويش كما لو كان هذا الخبر هو النطاق الذي يتحدد فيه مكان كل واحد فينا. لم تكن واقعة الموت هي واقعته وحده، إنما واقعتنا جميعا، وأقصد بهذا هو موت شيء ما في أدبنا وتاريخنا وثقافتنا، موت ليس سهلا أبدا، ذلك أن وجودنا التاريخي يغشاه خطر جسيم هذه الأيام، وحسبنا أن نستحضر ما لحقه من إهانة، بلغت حد الزراية بروحه في القرن العشرين، وعلى نحو كارثي أيضا: ضياع فلسطين، نهاية وعد الأمة بالخلاص، تبدد الحلم القومي بالاستقلال، وقد ظهر محمود درويش من زمن الحداثة العربية وهو جزء من مشروع النهضة العربية، بل هو الجزء الوحيد الذي نجح منها وقطع أشواطا بعيدة، بينما بقيت مجتمعاتنا على قدمها، هذا القدم هو أحد مصادر التهديد الذي يتربص بحداثتنا.

بماذ يذكرنا محمود درويش، إنه يذكرنا بالمشروع الكبير الذي جاء ردا على تهديد هويتنا ووجودنا بالعمق، وقد سعى هو وشعراء الطليعة في الستينيات والسبعينيات إلى استكناه تجربة سياسية تامة، تستعيد روحها من خلال مقاومة دائمة، مقاومة ضارية تجد مسوغها في الأليغورة، التي شدد فريدريك جيمسون على أنها فردية بالكامل، وهي خاصة، ولكنها تشتمل أيضا وفي جوهرها على كامل الحكاية الجماعية، بل تشتمل أحيانا على كامل الفلكلور القومي، وهو أمر مهم جدا، من وجهة نظري، لا في أنساق تحولات الشعر فقط إنما في أنظمته التي قننها الفكر النقدي، وعمليات التأثير والأنظمة التي ترادف، بناء على هذه الحال، نسيان الوجود، أو نسيان الهوية، حيث يمكن للكينونات الهوياتية الأخرى أن تؤثر وتشد وتحور، عند تعطل الشعر، فالشعر هو حارس الهوية الوطنية والقومية، وهو يمارس حضوره الكامل على الجماعة من خلال إنعاش اللغة، وتجديد المعجم، وإعادة بناء الذاكرة الجماعية التي تبرع بها التمثيلات الوطنية، ومن هنا تنبع أهمية شعر درويش.