تفشي النثر في الصلوات

نحت شعري مع محمود درويش

مازن نجار

الحديث عن محمود درويش يجرّنا مباشرة إلي سؤال وجودي هو كيف كان كائنٌ مثله، او كيف تشكل عالمه المدهش المليء بالحيوية والغني، ولعلَّ ميزةً أساسية تلفِت الإنتباه مباشرة إلي شعره هي القدرة علي تغيير جلده كالأفعي التي تسأم من نفسها... فلا يلبث إلا أن يجدد نفسه وتنحو تجربتُه نحو مساراتٍ لم تستردْها من قبل...

يدفعنا ما سبق إلي التساؤل: كيف استطاع محمود أن يأتي بهذا المخزون الواسع... وأن يضع أمامنا معجماً شعريا متنوع البني والدلالات والرؤي والمواضيع؟... وكيف يشعر عندما ينهي أي كتاب بأنه كتابه الأخير كما يقول ثم يعود ليكتشف أنه ما يزال علي قيد الشعر ليقول أكثر مما قاله من قبل؟ ورغم أن اللحظةَ التاريخيةَ الطارئة زمنياً مهما تكن كانت مهيمنةً علي اللحظة الجماليَّة عنده إلا أنه تدرّج في سيرورته نحو الانفلات من أعباء المرحلة والنحو نحو قصيدة أكثر شعرية ووضاءة.

يصرح قائلاً ّأنا من الشعراء الذين لا يحتاجون إلي نقاد ليدمروهم... أنا كفيل بتدمير نفسي والتمرد عليها"، وهو من يقول في جداريته:

كلما احترق الجناحان اقتربتُ من الحقيقة وانبعثتُ من الرماد
أنا حوار الحالمين
عزفتُ عن جسدي وعن نفسي
لأكملَ رحلتي الأولي إلي المعني
فأحرقني وغاب

وباعتبار أن الحالة الشعرية التي تعتري الشاعر وتحولُ له الذراتِ المتناثرة أمامَه في اللاشيء إلي كلماتٍ شعرية أو تلك الكهرباء التي تسري فجأة في جسد ميت فتعيدُ له الحياة هي حالة واحدة الماهيَّة والنتيجة لدي معظم الشعراء... وبعيدا عن القراءات الجزئية أو التفسيرية سنحاول أن نقدم قراءة استخلاصية تقعِّر النظرَ نحو بؤرةٍ محدّدة وهي محاولة معرفة سرِّ محمود درويش أو ما يحصل خلال تلك الالتماعة الشعرية، بعقلية من يكتب الشعر وليس بعقلية الناقد وأدواته الأكاديمية.

جداريَّة درويش وشعريَّة الشعر:
الملاحِظ لدرويش من خلال لقاءاته وشعره أنه يبدو أكثر صدقاً فيما يكتبُه من شعر وما يتجلَّي في ما بين أسطُرِه عما يقوله في مقابلاته... ويبدو أنه يحب أن يخفي سرَّه..ويرفض أن يعطي مسوَّداتِه الأولي للنقاد التي صرَّح أنها تختلفُ كثيراً عن قصيدتِه النهائيَّة...

لكن عندما يقفُ محمود أمامَ الموت وجهاً لوجه ويشعرُ أن الزمن خانه وهو لم يقُلْ بعد كل ما عنده... ينتفض ليُخرج من تحت جلده ما كان يخبئه ويصرح به في ساعة اليقين ـ عندما بصرُه يومئذ حديد ـ بما لم يكن ليصرح به لو لم يقترب منه الموت بهذه الدرجة:

كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي.

ولذلك تبدو جداريته بيئة وفرصة مناسبة لاستكشافه بعد أن خدعه الموت واضطرَه ليقول ما قاله ثم ولَّي عنهُ إلي ميعادٍ آخر وهو نفسه الذي يقول في مجموعته "لا تعتذر عما فعلت":

وعند الفجر أيقظني
نداء الحارس الليلي من حلمي ومن لغتي:
ستحيا ميتة ًأخري
فعدِّلْ في وصيتك الأخيرة
قد تأجَّلَ موعدُ الإعدام ثانية
سألتُ: إلي متي؟
قال: انتظرْ لتموتَ أكثر
قلت: لا أشياء أملكُها لتملكني...

في جداريَّته ـ الصوت القادم من الموت ـ العارف بأسرار الحياة بعد فوات أوانها، يأتينا صوتُه يبحثُ في أسرارِ الوجود وينقِّب في غياهبه... في الجدارية يسألُ نفسَه السؤال الذي طالما مارسَ إجابته دون ان يعيها... يسأل نفسه في بؤرة مهمِّةٍ جدا في جداريته عن ماهيَّة الشعر لديه وكيف تتجلَّي اللحظة الشعرية: من أين تأتي الشاعرية.

من ذكاء القلب، أم من فطرة الإحساس بالمجهول، أم من وردةٍ حمراءَ في الصحراء؟...
ويردفُ في تضاعيفِ جداريته:

الصحراء تنقص بالأغاني أو تزيد.

ليس المتكلم هنا هو درويش لكنه صوت الكشف الذي يحاول أن يحل خيوط أعقد سؤال عن التفاصيل التي تطرأ في تلك الالتماعة التي لا تستغرق إلا أجزاء من الثانية وتنبض فيها القصيدة... تلك التفاصيل التي تبدو أشد غموضاً حتي بالنسبة للشاعر نفسه.

ـ هل الشعرُ يأتي من حالة شعورية يستكشفها الحدس ويجسدها في أحاسيس معاشة يمكن للحدس التعبير عنها بسلطته اللامرئية ويجسدها في قدرة علي خفض مستوي ترددات الشعور حتي يتواكب َمع الاشياءِ غير المحسوسة في زحمة الحياة اليومية؟،

ـ أم أن الحالة الشعرية هي حالة فكرية فقط يجرِّدها العقل ويبنيها جزءا جزءا ويشكل حالة معينة قد تكون غير معاشة بالضرورة يعبر عنها شعرياً؟

كيف يصل إلي لحظة الالتماعة الشعرية وما هي مصادر الصورة الشعرية لديه؟

صحيحٌ أن كل الأسئلة النظرية عن الشعر وماهيته لا يمكن الإجابة عليها إلا شعريَّاً أي بالشعر نفسه... لكن المغامرة رغم هذا تحلو هنا خاصة مع شاعر مثله وتحيلنا أيضا ًلنكتشف أنفسنَا من جديد معه.

قدسيَّة الشعر:
الشعر كائن مقدس ما نزال نحاول معرفته. لكن المشكلةَ أنَّنا كلما حاولنا التقاط الشعر عندما يأتي إلينا واصطيادَه أثناء لحظة الكتابة الشعريَّة والعودة إلي الوعي لمعرفة ما يحصل... يهربُ الشعر ويتحوَّل إلي دخان أبيض يحرق أوراقه الخضراء:

للكلمات وهي بعيدةٌ أرضٌ تُجاورُ كوكباً أعلي
وللكلماتِ وهي قريبةٌ منفي
كلما فتَّشتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين
وكلَّما فتَّشتُ عنهم لم أجد فيهم سوي نفسي الغريبةِ
هل أنا الفردُ الحشود؟

ودرويش كذلك تصبح الشعرية عنده طريقةً للعيش والفهم وتجلياتُها حالةٌ مقدسة يحلو استكناهُها، وتثيرُ القلق الوجوديَّ في نفس الشاعر الذي يعتبرُها اتصالاً مباشراً مع خط السماء الساخن الذي يرتقي فوق العدم ويُرجع الأشياء إلي مكوناتها البدائية وعُري ولادتها الأول... كلما اتضح الطريق إلي السماء

وأسفر المجهول عن هدف نهائي

تفشي النثر في الصلوات

وانكسر النشيد الصلاة تتلي شعراً يتم التقرب به إلي الخالق... وما تبقي هو النثر... والنثر هو اللاشعر فقط...

وكلما حاولَ الشعر عند اقترابه من أبواب السماء فضَّ مغاليق السر ينكص إلي حالة النثر ويأتيه شهاب ثاقب يبعده عن تجليات هذه الحقيقة، وحينما يصبح الزمن نثرياً رديئاً ساعتها ستنتهي مطامح البنات بفرسان فلن يجدن إلا الدوني و: ستعثرُ الأنثي علي الذكرِ الملائم في جنوحِ الشعرِ نحو النثر ولعلَّ من إحدي مهمات قصيدة النثر أن تبرز كيف يستطيع الشعر دخول الجنة دون أي عبادة او مفاتيح ويتجاوز مغاليق الأبواب التي طالما غررتها الأناشيد المموسقة والابتهالات المرتلة.

محمود في مقابلاته:
لم يكتب محمود في تنظير الشعر أو الحديث عن تجربته الكثير فهو قد قال شعراً ما أراد ان يقوله نثراً وهذا يحسب له بعكس الآخرين... لكننا بالمرور علي مقابلاته التي تكلم فيها عن لحظة الشعر لديه نلاحظ وجود تباين متكامل في المواقف يكمل الدائرة لديه... فهو يقول في عبارة في إحدي المقابلات التي أجريت معه،: أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع، فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلي مرجعية سابقة. أي أنني أحول اليومي إلي رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري (اللقاء نشر في البيان الخليجية، 20/ 5/ 1986م).
لكن هذه العبارة تحيلنا إلي اللقاء الذي نشر مع الشاعر في مجلة مشارف في عددها الثالث، يوم سأله عباس بيضون عن بعض الصور الغامضة في مجموعة لماذا تركت الحصان وحيداً؟ ، وتحديداً الصورة التي ترد في قصيدة تعاليم حورية :

وخبزت للسمّاق عرف الديك.
أعرف ما يُخرِّبُ قلبَك المثقوبَ بالطاووس

وقد قال درويش في اللقاء عن مصدر الصوت ما يلي:

الصورة ليست دائماً ذات مرجع ذهني. قد أكون راجعاً من حديقة الحيوانات والطاووس. أعني ألوانه، مروحته اللونية، اخترقتني. من وظائف الشعر ـ وهذا ما تعلمناه من لوركا ـ تغيير الحواس. وقد أكون حينها أكتب هذه القصيدة، ودخل الطاووس فيها. لكني لا أعتقد أن هذا خرب القصيدة. هناك أيضاً المطبوع بعرف الديك . وحين يعقب عباس بيضون قائلاً: هل هذه الصورة ممكنة التخيل؟ يجيب الشاعر: يعني أن ألوان الطاووس تخترق كأنها تثقبه. ليس عندي دفاع علمي عن هذه الصورة .

لكننا سنجد علي طرف مقابل أن درويش، فيما بعد، وتحديداً في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في الشعراء يقول: إن الكتابة كتابة علي الكتابة، ولا توجد كتابة تبدأ من بياض 1999.من اين تأتي صوره إذاً؟ من الواقع أم من المتخيل الذاتي أم من القراءات السابقة؟ وهل تؤثرُ مطرقة اللحظة الشعورية لديه أثناء انبجاس الكتابة علي بناء الصورة بشكل دائم ووحيد...؟ نقول هذا مع معرفتنا بأن بعض كاتبي الشعر لا توجد لديهم لحظة شعورية أصلاً ويبدؤون كتاباتهم بدءاً من القصيدة نفسها بدون استمداد أي شيء من أي حالة...

أما مع درويش فالأمر مختلف أمام تنوعه في طرق نسج صوره وتجلياتها حتي مع الأخذ بعين الاعتبار ما سبق من دور اللحظة الشعورية... الجواب عن سؤال كهذا سيجيب عن سؤاله الدهري عن الشعرية... هل هي ذكاء قلب يعرف كيف يجرد حالاته، أم فطرة إحساس بالمجهول تجعله يغوص أعمق من الآخرين حتي يختبر أحوالاً جديدة، أم وردة ينبتها الغناء وتنمو بالسقاية والدربة؟يقولُ في مقابلةٍ طويلةٍ نشرت مؤخراً في جريدة الحياة (كلُّ تخطيطٍ لقصيدةٍ هو عملٌ فكريٌّ واعٍ، وإذا ظهرتْ ملامحه تتحول القصيدة إلي مجموعة مقولات، وتُصبحُ ايضاً فلسفة، وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقةَ اضطرادٍ متبادل... يجب أن يكون هناك تصورٌ لهندسةٍ معماريَّة تقوم القصيدة علي أساسها) فالقصيدة كما يبدو تبدأ بمقولات نثرية يتم استنتاجها ثم تتطور إلي نسيج شعري... وهو ضد قصائد اللاموضوع التي تعتمد علي الحالة إن كانت موجودة أساساً أولاً وأخيراً(قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلاميَّة.أحب أن يكون للقصيدة قوام وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري).

لكنه يتحدث من زاوية مختلفة عن مرحلة ما قبل الكتابة أيضاً في موضع آخر ليصل إلي لحظة الالتماعة الشعرية لديه يقول:

"تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة، أي يصيرُ الغامض والحلميُّ مجموعةَ صور، لكن هذا حتي الآن لا يفتتحُ مجري القصيدة، يجب ان تتحولَ الصورُ إلي إيقاعات" وكيف يكون الشعر لديه حالة شعورية وحالة عقلية.

كذلك محمود في مقابلاته يدور حول زوايا مختلفة ومتباينة مما يدفعنا إلي التمييز والمطاردة ولعلنا كشعراء حين نتخلي عن دور المحققين ويستجوبنا هو فسنصاب بالحيرةِ مثله أيضاً.

خرافة الإيقاع:
يعودُ محمود مرةً أخري ليصفَ عمليةِ ولادةِ قصائدِهِ"تولدُ القصيدةُ عبر الايقاع... أكتب أول سطر ثم تتدفق القصيدة"... "الإيقاع هو الذي يقودني إلي الكتابة... إذا لم يكن هنالك إيقاع، ومهما كانت عندي أفكارأو حدوس أو صور فهي ما لم تتحول إلي ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب..."

لكننا نعرفُ أن الحديثَ عن الإيقاعِ عند درويش يشوبُه صلفُه الإيقاعي وتشبُّثُه بنفسِه كنهايةٍ للمرحلةِ الإيقاعية للشعر العربي فهو يفتتح أول قصيدة من (لا تعتذر عما فعلت) بـ:

يختارني الإيقاع يشرَقُ بي
أنا رجعُ الكمانِ ولستُ عازفه
أنا في حضرة الذكري
صدي الاشياء تنطق بي

لكنَّ السؤال القادحَ لمحمود إذا كان يبدأ دائماً بالإيقاع ولا يكتب إلا عندما تتحول قصائده إلي إيقاعات.. يمكن أن يصاغ بالشكل التالي: هل يمكن ان نعثر علي قصيدة يمكن ان تُقالَ بصورةٍ أفضل لو تعرَّتْ من إيقاعِها وانزاحت وطأتُه من عليها؟ للإجابة عن سؤال كهذا يجب أن نتخيل الهيولي الأولي لكلمات القصيدة في مرحلة المخاض لنقرأ القصيدة في مرحلة ما قبل الكتابة... رغم هذا فالعثور علي نماذج مماثلة يبدو أمراً صعباً إلا أنه ممكن خاصَّة في المطولات التي كتبها والتي بدت فيها أحياناً نتيجة الإجهاد أثناء السير معالم ما تحت الثياب.

نري في الجدارية
كأن الأرض ضيقةٌ قليلاً علي المرضي الغنائيين
أحفاد الشياطين المساكين المجانين
الذين إذا رأوا شعرا ًجميلاً لقنوا الببغاء شعر الحب

تبدو بعضُ الكلماتِ الناتئة فائضةً عن المعني، وبعضُ الكلمات حُوِّرت في حالة الوعي لتناسب الوزن.
يمكن أيضاً العثور في قصائد اخري غير المطولات لنري في قصيدة (في يدي غيمة) من ديوانه لماذا تركت الحصان وحيدا؟

أسرجوا الخيل لا يعرفون لماذا
ولكنهم أسرجوا الخيل في السهلِ
كان المكان معداً لمولده: تلة من رياحين أجداده تتلفتُ شرقاً وغرباً...

ولا بدَّ أن تكرارَه لبعضِ مقولاتِه الذي يمكن أن يُلاحظ في تلافيف قصائده من خلال بني إيقاعية مختلفة يشي بأن الإيقاع جاء في مرحلة التشذيب النهائية للقصيدة وليس مولِّداً لها.

قصيدة الموضوع:
لا توجدُ أفضلُ من قصيدة ذات أفكار مسبقة وموضوع محدد لنعرف كيف يتعامل الشاعر معها ليكتب قصيدة ـ من خلالها نعرف إذا كانت اللحظة الشعورية جاءت من خلال الحدس والقدرة اللامرئية علي استبطان الأشياء من خلال فطرة الإحساس بالمجهول... ليتمثل الشاعر الحالة ويتقمصها ثم يعيدَ انتاجِها من خلالِ شعورِه الخاص الحقيقي ـ وأحياناً قد يُحدث انقلاباً جميلاً في المفهوم كما تعامل محمود مثلا ًمع الأساطير حيث غيرها وحورها..ونعرف من خلال قصيدة الموضوع أيضاً ما إذا فرضت المقولات المسبقة وغرض الموضوع علي الشاعر نفسها وأصبحت القصيدة مجردةً بناها العقل وأضيفت إليها المهارة اللغوية والتصويرية فقط. تبدو قصيدة محمد الدرة مثالا ًنموذجياً علي ما قلناه،فالملاحظ فيها أنها تفاوتت في كيفية المعالجة في مقاطعها المتنوعة، من السردي إلي التصويري الذي يجرده العقل إلي الانغماس في الحالة:

محمد
ملاكٌ فقيرٌ علي قاب قوسين من بندقيةصيَّاده الباردِ الدم
من ساعةٍترصدُ الكاميرا حركاتِ الصبي
الذي يتوحَّد في ظلِّه

المقطع هنا تصويريٌّ بحت لا دخل للشاعر فيه... لكننا نظلم القصيدة إن اجتزأنا منها هذا المقطع:

فما زال يولد، ما زال يولد في اسم يحمِّله لعنة الاسم
كم مرة سوف يُولد من نفسه...

المقولة الفكرية ـ لكل امرئ من اسمه نصيب ـ اسمه شابه اسم النبي (ص) وكانت نهايتُه الشهادةُ كأغلبِ الأنبياء... الشعر هنا نشأ من العقل وبدأ من القصيدة

يري موته قادماً لا محالة
لكنه يتذكر فهداً رآه علي شاشة التليفزيون
فهدا قوياً يحاصر ظبياً رضيعاً
وحين دنا منه شم الحليب فلم يفترسه
كأن الحليب يروض وحش الفلاة
إذاً سوف أنجو

محمود ساردٌ هنا فقط طرأتِ القصةُ علي ذهنه فقط ونثرها علي الأسطر شعرا واللحظة الشعورية هنا هي نفسها اللحظة الفيزيائية للمشاهد الخارجي... لكن محمود لا يترك القصيدة من دون أن يضرب ضربته القاضية عندما يقول

محمد... دم زاد عن حاجة الأنبياء إلي ما يريدون

من كتب هذا فقد تمثل الحالة قبل كل شيء واستطاع الصعود إلي السماء.

قصيدة غير ناجحة:
لا توجد عند محمود قصيدة غير ناجحة بشكل مطلق في أعماله الأخيرة... ولا نريد أن نقيم الآخرين ولا أن نسدَّ الذرائع لكنَّنا نري أن أفضل شيء يُعري الشاعر ويُرينا أدواتِه الحقيقية هي نماذجُه التي لم يُجِدْ فيها استخدام أدواته أو جميع أدواته لنتعرفَ علي الشيءِ المستعمل من خلال غيابِ استعماله.

ومن خلال فشلِه النسبيِّ في تلكَ النماذج سنعرفُ سرَّ نجاحه فيما تبقي.

تبدو قصيدة هي جملة اسمية، في ديوانه (لا تعتذر عما فعلت) نموذجاً مثاليَّاً لما نقوله... الشاعرُ قبلَ كلِّ شيء قرر بمحض اختياره وحبَّاً للتجديدِ الهيكليِّ أن يكتبَ قصيدة مكونةً من الأسماءِ فقط، بدون أي فعلٍ فيها.

هي جملة اسمية لا فعل فيها أو لها... يتدخَّل هنا الوعي في مرحلة لحظة اللاوعي الكتابية... ولا بدّ من تعديل أي فعلٍ يطرأ علي باله، وتحويله إلي اسم كما هو الأمر في المحسنَّات البديعية... ومع طرافةِ الفكرة إلا أنَّني لا أقتنعُ بالنتاجِ الشعري هنا بعد اكتماله... ما السبب؟ ليس لأننا نريد القول إن القصيدةَ فقدتْ براءَتها...

لكننا عندما نفتشُ عن الحلقة المفقودة نري أن اللحظة الشعورية التي ولدت القصيدة لديه نبعت من حالة عقلية مجردة بناها العقل واعتورها التفكير عوضاً عن الحدس. لنتأمل أسطره الشعرية منثورة علي مرحلة مخاضها.

فرحي جريحٌ ـ زهرتي خضراء كالعنقاء ـ قلبي فائض عن حاجتي ـ متردد ما بين بابين ـ أين ظلي مرشدي وسط

الزحامِ علي الطريقِ إلي القيامة؟ ـ ليتني حجرٌ في سورِ المدينة، ـ ليت للفعل المضارع موطئاً للسيرِ ـ أين طريقي

الثاني إلي درجِ المدي ـ أين الطريق إلي الطريق ـ وأينَ نحنُ السائرينَ علي خطي الفعلِ المضارعِ ـ كلامنا خبرٌ
مبتداٌ أمامَ البحر ـ فليت للفعل المضارعِ موطئاً فوق الرصيف...

وشأن أغلب شعراء اللاموضوع الذين يغورون في أنفسهم تبدو هذه القصيدة بلا هدف محدد تسير إليه... أو تجميعاً لأسطر شعرية وردت في قصائد سابقة انتقيت لأنها خالية من الأفعال... ولأن الحلقة المفقودة هنا هي الحالة فهي غير مفقودة في جميع قصائده الأخري... ولا ريب أن الشاعر يمرُّ في القصائد الأخري بمرحلة إعداد نفسي لكي يغوص في الحالة النفسية ويستطيع الإحساس بها بشكل حار وملائم.يمكِّنُه في النهاية من أن يفرز مشاعره صحيحة واضحة الرؤية لديه علي الأسطر عند الكتابة... هذا الإعداد قد يأتي فجأة أحياناً وقد يحدث نتيجة غمزة أو لفتة او انثناءة. إلا أنَّ الذي نتأكدُ منه أنه لدي كتابته لقصائده يستقي من الحالة النفسية أولاً وأخيراً واللغة عليها أن تخلق نفسها بنفسها... ثم يُعاد تشكيلُها من جديد في مرحلة التنقيح والصحوة من عملية الولادة.

وكما قال محمود عن الإلهام بأن (عثور اللا وعي علي كلامه)... فنقول إن اللاوعي هو سرٌّ سماويٌّ... اختلط بسببه احياناً مفهوم الشاعر بمفهوم النبي... وصرنا بسببه نحب الذي أنزلته السماء من الشعراء.