الهوية وسؤال المصير
قيمة الجمال يجب ان تتقدم على قيمتي الحق والخير
غادرنا الشاعر الكبير محمود درويش وقد شاءت الصدف في المدة الاخيرة التي سبقت وفاة الشاعر ان يحتد النقاش كثيرا حول القصائد الجديدة التي جاد بها الفقيد عل جمهوره وتفردت مؤسسة "رياض الريس" وصحيفة (القدس العربي) بنشرها، حيث بدى مجرى التحولات بارزا في هذا المنتج الشعري الجديد، وكان الحديث حول أبعاد النبرة الوجودية التي تتخلله طاغيا في المسامرات النقدية. ولكن لم يكن يجري في الحسبان ان الشاعر سوف يكتب عبر هذه النصوص ولا سيما قصيدته الاخيرة «لاعب النرد» مرثيته الخاصة التي سيلهج فيها عل نحو غير مسبوق باحاسيس موصولة بكنه الهوية وسؤال المصير. لقد شكلت هذه النصوص الشعرية انزياحا ملحوظا عن مستوى السياق الأصلي الذي وسم تجربة الشاعر خلال عقود متتابعة بصفة شاعر القضية، وربطها بأفق انتظار قرائي محدد ينخرط في خط الالتزام. وغير خاف على القراء المتتبعين لهذا المسار الشعري الملتزم ما لابسه من لبوس العقيدة القومية، ومن فورة الوجدان العربي الغاضب الذي احتلت فيه القضية الفلسطينية موقع البؤرة. فكانت المجاميع الشعرية: (أوراق الزيتون) و(عاشق من فلسطين)، و(آخر اللي)"، و(مديح الظل) 1983. ثم كانت القصائد: «وعاد في كفن»، «نشيد الرجال»، «بطاقة هوية: سجل أنا عربي» «الموت في الغابة» «رسالة من المنفى» «أغاني الأسير» «جواز سفر»، «الجسر»، «يوميات جرح فلسطيني»، «العصافير تموت في الجليل». (ديوان محمود درويش الطبعة 1981.8). بيد أن حتمية الحركة وشروط التطور في زمن التحولات راحت تملي على الرؤيا طقوسا جديدة استشعرتها من وحي المنعطف التاريخي الجديد، وبفعل الطفرة الوجودية التي آلت إليها الكينونة. ويعد ديوان (أثر الفراشة) من بين اهم المجاميع الشعرية الاخيرة التي افصحت عن هذا التحول الرؤيوي من منح راسخ في التمرد والمعاندة الثورية وخط واضح في التعبير عن ثبات الهوية واطلاق صوتها الجهير النطاق من الاستسلام لمنطق السؤال حول سر الكينونة التي يطوقها مجاز الهوية ولغز المصير. وفي هذا الديوان يعرض الشاعر من خلال قصيدة له تحت عنوان «اغتيال» فرضية الصدمة التي قد تعكسها هذه الانزياحات الشعرية عل افاق التلقي الموسومة بالمواقف المسبقة، ليس عل مستوى القراءة العادية فحسب، بل حت عل مستوى القراءة العالمة المتمثلة لدى فئة النقاد: يغتالني النُقَّاد أَحياناً: يريدون القصيدةَ ذاتَها والاستعارة ذاتها. فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً قالوا: لقد خان الطريقَ وإن عثرتُ على بلاغة عُشبَةٍ قالوا: تخلَّى عن عناد السنديان وإن رأيتُ الورد أصفرَ في الربيع تساءلوا: أَين الدمُ الوطنيُّ في أوراقهِ؟ وإذا نظرتُ الى السماء لكي أَرى ما لا يُرَى قالوا تَعَالى الشعرُ عن أَغراضه. يغتالني النُقّادُ أَحياناً وأَنجو من قراءتهم، وأشكرهم على سوء التفاهم ثم أَبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ! وبرغم هذا التحول الكيفي فقد ظل الشعر عند محمود درويش حت اخر رمق من حياته تركيبا فنيا جماليا كامنا في بنية اللغة. أما مقاصد الكلام ومقامات الابلاغ فتأتي في الدرجة الثانية، واللغة هي مأوى الوجود على حد تعبير فيلسوف الوجود هيدغر. ومن ثم فإن الادب مؤسسة اجتماعية أداتها اللغة. والشاعر نفسه هو عضو في مجتمع ومنغمس في وضع اجتماعي معين. ويتلقى نوعا من الاعتراف والتقدير الاجتماعي، وفقا لهذا الانتماء. لذا كانت القصيدة عند الشاعر الفقيد عملا فرديا واجتماعيا في وقت واحد. وتنظيما لتجارب لم تقع الا لهذا الفنان العظيم. لكنها تنتظم في سياق الاطار ذي الاصول الاجتماعية الذي يحمله، ويتخذ منه عاملا من عوامل التنظيم. ومن هنا كان على الشاعر أن ينصاع لشرطين أساسيين متلازمين هما: احترام مواضع (مواقع) المقام الأصلي التي ترتهن بها الرؤيا الشعرية الاستمرارية، والاستجابة إلى تنامي الرؤيا في انسجام مع امتداد الكينونة ونضوج التجربة الوجودية. إن إدراك صيرورة التفاعل بين هذين الشرطين يشكل المدخل إلى فهم تحولات اللهجة الشعرية في قصائد الشاعر الأخيرة التي توجتها القصيدة الاخيرة «لاعب النرد» ذلك أن الشرط الأول هو المدخل الطبيعي لفهم تنامي الحس المأساوي المتأصل في الرؤية الشعرية. أما الشرط الثاني فموصول بنضوج الرؤيا، وبالإيقاع المتسارع لايقاع الوجود. لقد سعى الشاعر محمود درويش في هذه المرحلة التي سبقت وفاته إلى أن يوفق بين هاتين القيمتين الأسلوبيتين، في توازن تلقائي اقتضته طبيعة مذهبه الشعري الذي الذي يمتاز ضمن مدرسة الحداثة الشعرية العربية، بوضع القضية الوطنية والقضايا الإنسانية في صلب اللغة وفي مركز التعبير الشعري لا في هامشه. ولعل من أبرز مظاهر هذا التوافق اعتماد الإهاب الرمزي الكثيف، والاحتفاء بتلوينات الإيقاع الشعري الشفيف. والجامع بينهما على مستوى الأثر القرائي لنصوص هذا الشعر هو التشبع بالقيم الإنسانية المثلى في مستوييها الذهني ـ الموضوعي المنضبط إلى الأعراف والمقاصد المرجعية، والوجداني ـ الباطني المشبع بالحس الجمالي. ويتحصل من ذلك أن أداة اللغة هي الضابط الفعلي في تحقيق المقاصد الشعرية. فاللغة محكومة برهان التحول والتجدد ومجانبة النمط والتكرار. ذلك لأن الادب يجب ان يظل أدبا وان ينطلق في الاساس كتعبير عن قيمة الجمال. وقد يفلح عبر هذا السبيل في استكناه القيم المعنوية. ولا يكون الادب كذلك الا اذا حافظ عل الجوهر الذي يميزه عن البحث العلمي أو البحث الاخلاقي. والحقيقة أن قيمة الجمال يجب ان تتقدم في الاثر الادبي عل قيمتي الحق والخير، وتحظى بتوجيههما. بحيث ان هاتتين القيمتين لا تبدوان الا من خلالها؛ حتى لو كان الادب ادبا ملتزما، وكان موضوعا في خدمة الجماعة وفي خدمة الانسانية. في هذا المنحى الادبي المتطور تصّعدت الجذور وجعلته يتجاوز سلطة المرجعي وهيمنة القيم المطلقة ويعمل عل نفيها بواسطة الجديد الذي يحمل في طياته تشكيلا آخر للوعي الأزلي المهيب. وهكذا يغدو الشعر مهتديا بالحدس لأنه يشكل بالنسبة إليه مظهر الحقيقة، ويمثل حرية الوعي. ويلخص هذا الكنه الشعري الموصول بنداء الحدوس، المتحرر من منطق السؤال، المقطع التالي من نص «الحياة... حتى آخر قطرة»: وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟ لن أحتاج الى مهلة للرد: إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. (ديوان: أثر الفراشة). وقد يتمثل هذا البعد على نحو أجلى وأبلغ أثرا، في نص "أَثر الفراشة" الذي استعيرت منه تسمية الديوان من خلال تداعيات الرمز الشفيف واعتمالات التشخيص اللماح. يقول الشاعر: أَثر الفراشة لا يُرَى أَثر الفراشة لا يزولُ هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ أشواقٌ إلى أعلى وإشراقٌ جميلُ هو شامَةٌ في الضوء تومئ حين يرشدنا الى الكلماتِ باطننا الدليلُ هو مثل أُغنية تحاولُ أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقولُ َثرُ الفراشة لا يُرَى، وينتهي الشاعر في قصيدته الأخيرة «لاعب النرد» إلى أن يصل الأمر كله بانفلات معنى ثابت واسم للهوية، وارتهان مستقبل الكينونة بعشوائية الصدف، كما «لاعب النرد» تتقاذفه ورميته الحظوظ. حيث تغدو الرمية المتجددة عنصرا حاسما في توجيه الهوية عبر مغامرة المجهول الذي يبدو محاطا عل غير العادة بسمات تراجيدية تجاهر بضعف الكينونة وهشاشتها وبتلخيص المسار في ضربة نرد: أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً. مَنْ أنا لأقول لكم ما أقول لكم عند باب الكنيسةْ ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ مَنْ أَنا لأقول لكم ما أقولُ لكم، مَنْ أنا؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ والوحي حظُّ الوحيدين إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ" على رُقْعَةٍ من ظلامْ تشعُّ، وقد لا تشعُّ فيهوي الكلامْ وكأني بالشاعر عبر هذه الغنائية الموسومة بحس الرثاء قد حدس النهايات فتفجرت لديه بوارق السؤال، واعقبتها لجلجة الرعود. وارتفع الشعر عبر هذه الالوان الصاخبة الى درجات من السمو المطلق الذي يجاوز لعنة المفارقات وخطية الواقع النسبي الى دوائر التاريخ ومطلقات الوجود. كاتب من المغرب
غادرنا الشاعر الكبير محمود درويش وقد شاءت الصدف في المدة الاخيرة التي سبقت وفاة الشاعر ان يحتد النقاش كثيرا حول القصائد الجديدة التي جاد بها الفقيد عل جمهوره وتفردت مؤسسة "رياض الريس" وصحيفة (القدس العربي) بنشرها، حيث بدى مجرى التحولات بارزا في هذا المنتج الشعري الجديد، وكان الحديث حول أبعاد النبرة الوجودية التي تتخلله طاغيا في المسامرات النقدية. ولكن لم يكن يجري في الحسبان ان الشاعر سوف يكتب عبر هذه النصوص ولا سيما قصيدته الاخيرة «لاعب النرد» مرثيته الخاصة التي سيلهج فيها عل نحو غير مسبوق باحاسيس موصولة بكنه الهوية وسؤال المصير. لقد شكلت هذه النصوص الشعرية انزياحا ملحوظا عن مستوى السياق الأصلي الذي وسم تجربة الشاعر خلال عقود متتابعة بصفة شاعر القضية، وربطها بأفق انتظار قرائي محدد ينخرط في خط الالتزام. وغير خاف على القراء المتتبعين لهذا المسار الشعري الملتزم ما لابسه من لبوس العقيدة القومية، ومن فورة الوجدان العربي الغاضب الذي احتلت فيه القضية الفلسطينية موقع البؤرة. فكانت المجاميع الشعرية: (أوراق الزيتون) و(عاشق من فلسطين)، و(آخر اللي)"، و(مديح الظل) 1983. ثم كانت القصائد: «وعاد في كفن»، «نشيد الرجال»، «بطاقة هوية: سجل أنا عربي» «الموت في الغابة» «رسالة من المنفى» «أغاني الأسير» «جواز سفر»، «الجسر»، «يوميات جرح فلسطيني»، «العصافير تموت في الجليل». (ديوان محمود درويش الطبعة 1981.8).
بيد أن حتمية الحركة وشروط التطور في زمن التحولات راحت تملي على الرؤيا طقوسا جديدة استشعرتها من وحي المنعطف التاريخي الجديد، وبفعل الطفرة الوجودية التي آلت إليها الكينونة. ويعد ديوان (أثر الفراشة) من بين اهم المجاميع الشعرية الاخيرة التي افصحت عن هذا التحول الرؤيوي من منح راسخ في التمرد والمعاندة الثورية وخط واضح في التعبير عن ثبات الهوية واطلاق صوتها الجهير النطاق من الاستسلام لمنطق السؤال حول سر الكينونة التي يطوقها مجاز الهوية ولغز المصير. وفي هذا الديوان يعرض الشاعر من خلال قصيدة له تحت عنوان «اغتيال» فرضية الصدمة التي قد تعكسها هذه الانزياحات الشعرية عل افاق التلقي الموسومة بالمواقف المسبقة، ليس عل مستوى القراءة العادية فحسب، بل حت عل مستوى القراءة العالمة المتمثلة لدى فئة النقاد:
يغتالني النُقَّاد أَحياناً: يريدون القصيدةَ ذاتَها والاستعارة ذاتها. فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً قالوا: لقد خان الطريقَ وإن عثرتُ على بلاغة عُشبَةٍ قالوا: تخلَّى عن عناد السنديان وإن رأيتُ الورد أصفرَ في الربيع تساءلوا: أَين الدمُ الوطنيُّ في أوراقهِ؟ وإذا نظرتُ الى السماء لكي أَرى ما لا يُرَى قالوا تَعَالى الشعرُ عن أَغراضه. يغتالني النُقّادُ أَحياناً وأَنجو من قراءتهم، وأشكرهم على سوء التفاهم ثم أَبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!
وبرغم هذا التحول الكيفي فقد ظل الشعر عند محمود درويش حت اخر رمق من حياته تركيبا فنيا جماليا كامنا في بنية اللغة. أما مقاصد الكلام ومقامات الابلاغ فتأتي في الدرجة الثانية، واللغة هي مأوى الوجود على حد تعبير فيلسوف الوجود هيدغر. ومن ثم فإن الادب مؤسسة اجتماعية أداتها اللغة. والشاعر نفسه هو عضو في مجتمع ومنغمس في وضع اجتماعي معين. ويتلقى نوعا من الاعتراف والتقدير الاجتماعي، وفقا لهذا الانتماء. لذا كانت القصيدة عند الشاعر الفقيد عملا فرديا واجتماعيا في وقت واحد. وتنظيما لتجارب لم تقع الا لهذا الفنان العظيم. لكنها تنتظم في سياق الاطار ذي الاصول الاجتماعية الذي يحمله، ويتخذ منه عاملا من عوامل التنظيم. ومن هنا كان على الشاعر أن ينصاع لشرطين أساسيين متلازمين هما: احترام مواضع (مواقع) المقام الأصلي التي ترتهن بها الرؤيا الشعرية الاستمرارية، والاستجابة إلى تنامي الرؤيا في انسجام مع امتداد الكينونة ونضوج التجربة الوجودية.
إن إدراك صيرورة التفاعل بين هذين الشرطين يشكل المدخل إلى فهم تحولات اللهجة الشعرية في قصائد الشاعر الأخيرة التي توجتها القصيدة الاخيرة «لاعب النرد» ذلك أن الشرط الأول هو المدخل الطبيعي لفهم تنامي الحس المأساوي المتأصل في الرؤية الشعرية. أما الشرط الثاني فموصول بنضوج الرؤيا، وبالإيقاع المتسارع لايقاع الوجود. لقد سعى الشاعر محمود درويش في هذه المرحلة التي سبقت وفاته إلى أن يوفق بين هاتين القيمتين الأسلوبيتين، في توازن تلقائي اقتضته طبيعة مذهبه الشعري الذي الذي يمتاز ضمن مدرسة الحداثة الشعرية العربية، بوضع القضية الوطنية والقضايا الإنسانية في صلب اللغة وفي مركز التعبير الشعري لا في هامشه. ولعل من أبرز مظاهر هذا التوافق اعتماد الإهاب الرمزي الكثيف، والاحتفاء بتلوينات الإيقاع الشعري الشفيف. والجامع بينهما على مستوى الأثر القرائي لنصوص هذا الشعر هو التشبع بالقيم الإنسانية المثلى في مستوييها الذهني ـ الموضوعي المنضبط إلى الأعراف والمقاصد المرجعية، والوجداني ـ الباطني المشبع بالحس الجمالي.
ويتحصل من ذلك أن أداة اللغة هي الضابط الفعلي في تحقيق المقاصد الشعرية. فاللغة محكومة برهان التحول والتجدد ومجانبة النمط والتكرار. ذلك لأن الادب يجب ان يظل أدبا وان ينطلق في الاساس كتعبير عن قيمة الجمال. وقد يفلح عبر هذا السبيل في استكناه القيم المعنوية. ولا يكون الادب كذلك الا اذا حافظ عل الجوهر الذي يميزه عن البحث العلمي أو البحث الاخلاقي. والحقيقة أن قيمة الجمال يجب ان تتقدم في الاثر الادبي عل قيمتي الحق والخير، وتحظى بتوجيههما. بحيث ان هاتتين القيمتين لا تبدوان الا من خلالها؛ حتى لو كان الادب ادبا ملتزما، وكان موضوعا في خدمة الجماعة وفي خدمة الانسانية. في هذا المنحى الادبي المتطور تصّعدت الجذور وجعلته يتجاوز سلطة المرجعي وهيمنة القيم المطلقة ويعمل عل نفيها بواسطة الجديد الذي يحمل في طياته تشكيلا آخر للوعي الأزلي المهيب. وهكذا يغدو الشعر مهتديا بالحدس لأنه يشكل بالنسبة إليه مظهر الحقيقة، ويمثل حرية الوعي. ويلخص هذا الكنه الشعري الموصول بنداء الحدوس، المتحرر من منطق السؤال، المقطع التالي من نص «الحياة... حتى آخر قطرة»: وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟
لن أحتاج الى مهلة للرد: إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. (ديوان: أثر الفراشة).
وقد يتمثل هذا البعد على نحو أجلى وأبلغ أثرا، في نص "أَثر الفراشة" الذي استعيرت منه تسمية الديوان من خلال تداعيات الرمز الشفيف واعتمالات التشخيص اللماح. يقول الشاعر:
أَثر الفراشة لا يُرَى أَثر الفراشة لا يزولُ هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ أشواقٌ إلى أعلى وإشراقٌ جميلُ هو شامَةٌ في الضوء تومئ حين يرشدنا الى الكلماتِ باطننا الدليلُ هو مثل أُغنية تحاولُ أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقولُ َثرُ الفراشة لا يُرَى،
وينتهي الشاعر في قصيدته الأخيرة «لاعب النرد» إلى أن يصل الأمر كله بانفلات معنى ثابت واسم للهوية، وارتهان مستقبل الكينونة بعشوائية الصدف، كما «لاعب النرد» تتقاذفه ورميته الحظوظ. حيث تغدو الرمية المتجددة عنصرا حاسما في توجيه الهوية عبر مغامرة المجهول الذي يبدو محاطا عل غير العادة بسمات تراجيدية تجاهر بضعف الكينونة وهشاشتها وبتلخيص المسار في ضربة نرد:
أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً. مَنْ أنا لأقول لكم ما أقول لكم عند باب الكنيسةْ ولستُ سوى رمية النرد ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ مَنْ أَنا لأقول لكم ما أقولُ لكم، مَنْ أنا؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ والوحي حظُّ الوحيدين إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ" على رُقْعَةٍ من ظلامْ تشعُّ، وقد لا تشعُّ فيهوي الكلامْ
وكأني بالشاعر عبر هذه الغنائية الموسومة بحس الرثاء قد حدس النهايات فتفجرت لديه بوارق السؤال، واعقبتها لجلجة الرعود. وارتفع الشعر عبر هذه الالوان الصاخبة الى درجات من السمو المطلق الذي يجاوز لعنة المفارقات وخطية الواقع النسبي الى دوائر التاريخ ومطلقات الوجود.
كاتب من المغرب