محمود درويش: المبدع الذي قام بواجبه قبل رحيله

فيصل درّاج

ذهب دون أن يتأهب لرحيله، وأنجز عمله كما لو كان قد تأهب للرحيل منذ زمن طويل. جاء مع آخرين دعاهم غسان كنفاني "شعراء المقاومة"، كتبوا قصائد تواجه الاحتلال الصهيوني، وتطلعوا إلى قارئ ينصر الأرض والقصيدة التي تدافع عنها. غير أن محمود درويش تقدم على غيره، من دون انتظار طويل، فأصبح "شاعر المقاومة الفلسطينية"، في انتظار من جعل منه "الشاعر الفلسطيني"، دون إضافة زائدة. تقاسم مع غيره تجربة الحياة تحت الاحتلال، ووصل إلى تجربة شعرية لم يتقاسمها مع أحد.

أدرج في ديوانه الأول "أوراق الزيتون"، وهو ليس الأول تماماً، مواضيع أرض مغتصبة عناوينها: ولاء , أمل, مرثية، صمود، والحزن والغضب والبكاء وبطاقة الهوية، "ذلك الصاحب الحزين" الذي مضى وعاد "في كفن". تطلّع الشاب إلى قارئ مختلف، لا يطلب "الهمس" ولا ينشد "الطرب"، فالقصيدة الفلسطينية غاضبة وصاحب القصيدة "أوردته عصير من غضب". اعتبر درويش القصيدة الأولى من ديوانه الأول، وعنوانها "إلى القارئ" بياناً شعرياً مضمراً، يساوي بين الشاعر والقصيدة وبين القصيدة والكتابة الغاضبة. ولعل التحالف المأمول بين القارئ والقصيدة، هو ماجعل ذلك الصوت الفلسطيني النجيب يقول: "أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلبْ كل قارئ".

صاغ الشاعر الشاب بياناً شعرياً، يقول بقصيدة غاضبة سهلة التلقي، وبقارئ ينظر إليه الشاعر وهو يكتب "أجمل الأشعار". وإذا كانت العقول المطمئنة قد ارتاحت إلى البيان في جزئه الأول، محتفية بقارئ عام عصيّ على التحديد، فقد غفلت عن الجزء الثاني القائل "أجمل الأشعار"، تلك الأشعار التي اقتفى محمود أثرها حتى الرمق الأخير. والفرق بين العقل المبدع، المشبع بالقلق، والعقول المطمئنة الأقرب إلى الانغلاق، هو الفرق بين المعطى الحي الذي لا يظل على حاله والمعطى النهائي الساكن الذي لا تبدّل فيه. كان طبيعياً أن يخلق العجز عن إدراك "أجمل الأشعار" هوة متوسعة بين الشاعر وأنصار "الكلام العام"، وأن يملأوا الهوة بألوان مختلفة من الهجاء.

ميّز محمود مبكراً بين الحقيقة في التصور الشعري والحقيقة في الخطاب الوطني الفلسطيني، وميّز أكثر بين الإنسان الفلسطيني بالمعنى الجغرافي والإنسان الشعري، الذي يأتي من القصيدة لا من الجغرافيا. ذلك أن الشعر الحقيقي، الذي يوازي التاريخ ولا يلتقي به إلاّ للضرورة، يبدأ من الإنسان، من حيث هو، بمعزل عن العرق واللون والطائفة. وهذا الهاجس الشعري، الذي يشتق الإنسان من بنية القصيدة، جعل محمود يعود بعد عامين، مع ديوانه: "عاشق من فلسطين"، حيث استبدل بـ "قصيدة الغزل" التقليدية، التي تدور حول امرأة محدودة أو قريبة من التحديد، قصيدة "العشق" الأكثر رحابة واتساعاً، إذ في المعشوق احتمالات كثيرة، تقبل بالأرض والأم والأب والوطن وإطلالة الصباح وامرأة عابرة رآها الناظر في الزحام. أراد الشاعر، الباحث عن أجمل الأشعار، أن يميّز بين "الخطابة" التي تستثير الجسد قبل أن تتجه إلى العقل، والكتابة الشعرية، التي تنتمي إلى تاريخ الشعر وإلى ذائقة لا تكترث بالخطابة كثيراً. كان يدرك أن السطو على الأفكار الجميلة يسوّغ شعراً لا جمال فيه، لأن "الشعر الجماهيري" يرضي الجمهور ويعبث بالقيم الجمالية. مارس محمود، منذ ظهور ديوانه "عاشق من فلسطين"، مقاومة مزدوجة: مقاومة الاحتلال والدفاع عن الهوية الوطنية، ومقاومة "الشعر التحريضي البسيط"، الذي يحتفي بهوية الأرض ويتساهل في "هوية الشعر".

في بحثه الشعري، المشدود إلى أرض "أورق فيها الحجر"، كما قال، وصل محمود إلى صيغة "الأنا الرومانسية"، الشاعر النبي الذي يرى ما يريد أن يرى ويحمل البشارة، الشاعر ـ الدليل الذي لا يكذب أهله، الشاعر الذي يمتد في الأرض وتمتد الأرض فيه، فهي فيه ولو بدت بعيدة، يُنطقها وتنطق بلسانه ويتوازعان لغة واحدة: "وأنا البلاد وقد أتت وتقمصتني وأنا الرحيل المستمر إلى البلاد، وجدت نفسي قرب نفسي". وصل الشاعر إلى مرحلة "الأنا الرومانسية" بعد أن سافر عن أرضه، معلناً أن الإنسان ـ الدليل لا يسافر عن أرضه، وانه رحل عن ارضه ولم يرحل عنها في آن. يقول في ديوانه "محاولة رقم 7" ـ 1973ـ: "سيل من الأشجار في صدري.  أتيتُ... أتيتُ، سيروا في شوارع ساعدي تصلوا"، "أنا الاحياء والمدن القديمة"...

استأنف الشاعر تصوره الرومانسي، وبشكل أكثر وضوحاً، في ديوانه: "وتلك صورتها وهذا انتحار العاشق" ـ 1970ـ إذ لا مسافة بين ذراعيه وزيتون فلسطين، ولا فرق بين عينيه وزهر اللوز في أرض الجليل:

المستحيل هويتي، وهويتي ورق الحقول.

والأرض تبدأ من يديه ومن نهايتها. والأرض تبدا من نسيج الجرح ـ أشبهها وأمشي فوق رأس الريح ـ تشبهني وامشي في لهيب القمح... "يمشي الشاعر حيثما شاء ولا يغادر الأرض التي هي فيه". ويقول في قصيدة "الارض": "بوسع النبات الجليلي أن يترعرع بين أصباع كفي. أنا الأرض. يا أيها العابرون على الأرض في صحوها. لن تمروا. لن تمروا". حقق محمود تصوراً عضوياً للقصيدة، يعيّنه مركزاً للأرض في أشجارها وجبالها وقراها الراحلة ومدنها القديمة، بل يعيّنه أصلاً لفلسطين كما كانت وكما ستكون. ولأن الحديث عن الأصل، بالمعنى الرومانسي حديث النقاء والإبداع والجدة المستمرة، حاول محمود لغة شعرية جديدة، أو لغة أصلية، مدركاً أن الشاعر النجيب يجدّد شعراء نجباء سبقوه، ويتجدّد في احفاد على صورة أجدادهم.

عاش الشاعر تناقضات "الأنا الرومانسية". التي اطمأن إليها فترة من إبداعه، دون أن يطمئن إليها تماماً. ذلك أن سؤال اللغة الشعرية قاده إلى بحث شعري دؤوب، حيث ادرك أن الأصل النقي لا وجود له، وأنّ في كل قصيدة، مهما يكن صاحبها، مجموعة قصائد لشعراء آخرين، وأن كتاب الشعر واسع ممتد انجزه وينجزه شعراء راحلون وقادمون. حرّر محمود ذاته من أسطورة الخالق النقي، وعرف أن التعدد المتوالد أصل الإبداع الشعري، وان الشاعر المبدع متعدد الأصول، وأن في كل هوية جملة هويات سالفة ولاحقة، وأن تعددية مصادر القصيدة هي التي تنقل الشاعر من حقبة شعرية إلى أخرى. سيقول بعد فترة "يوجد جمهور في داخلي، وأنا بدوري جمهور وللحقيقة وجوهها المتعددة. وحتى خصوم الحقيقة لهم الحق في التعبير عن أنفسهم، فأنا لست ملاكاً على الحقيقة...، ومن وجهة نظر أدبية، فإن الحوار يتيح للقصيدة أن تحمل جزْاً من العبء، الذي لا تستطيع حمله لوحدها". لا وجود لشيء بصيغة المفرد لا القصيدة ولا اللغة ولا المقاومة، ولا تختصر المقاومة إلى عنصر وحيد، إلا إذا أرادت أن تكون مخفقة. ولعل معنى المتعدد هو الذي جعله، كما أدوارد سعيد لا يميل كثيراً غلى مفهوم الهوية، لأن الهوية المقاومة إبداع متجدد، تتكوّن ولا تعطى جاهزة، إلا لدى إنسان لا يعترف بقدراته بعد خروجه من طوره الرومانسي دخل في طوره الشعري الأكثر تجدد، فأعطى "ورد اقل"، "ارى ما أريد" وصولاً إلى: "لماذا تركت الحصان وحيداً". لم تعد الأرض تنطق باسمه، أوكلت الكلام إلى حصارها الدامي الذي لا ينتهي، ولم يعد ينطق باسم الأرض، بل يسرد شعراً متاهة الذاهبين إليها. في زمن البدايات الواعدة، كان الأب في ديوان "آخر الليل" ـ 1967ـ يمد ولده بالثقة والأمل: "إنني إبصر في عينيك ميلاد الغد"، اما في زمن مابعد ا تفاق أوسلو، فلم يبق لدى الأب إلا ألإشارة إلى الريح والأماني المؤجلة: "إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي".  تلك الريح الظالمة التي تنذر بالفرق ولا تعد بالنجاة إلا قليلاً.

بعد انكسار الأب وأفول "الأنا الرومانسية"، لم تعد الأرض امتداداً للشاعر ولم يعد الشاعر أصلاً لها، فلا هو بالشاعر ـ النبي ولا بالدليل الذي يقود أهله إلى الجنة، ولا الواحد ــ المركز الذي تنبثق منه الأشياء والحقيقة. أصبح محمود درويش، بعد خيبات وطنية كثيرة، يكتب الشعر ويراقب بقايا أرضه الفلسطينية مع بقية الفلسطينيين. انتقل من مقاومة الاحتلال المتوجّة بالنصر إلى مقاومة اليأس المفتوحة على الأمل. بقي، في الحالين، مقاوماً وإن كان السياق قد فرض عليه تغيير اللغة والمقاومة. غاب العشب الجليلي الواعد وانتشرت أشجار مقطوعة الظلال، وبقي من الأمل ظل أو ما يشبه الظل. يقول في "حالة حصار" ـ 2002 ـ "قرب بساتين مقطوعة الظل، نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل: نربي الأمل"، ويقول أيضاً: في الحصار تكون الحياة هي الوقت، بين تذكّر أولها، ونسيان آخرها. "مضى زمن القصيدة المغلقة"، التي تعرف البداية الواضحة وتشتق منها نهاية لا تقل وضوحاً، وجاءت قصيدة مفتوحة تعرف البداية وتؤثر نسيان النهاية، في انتظار تكوّن أمل قوي قادر على المقاومة البصيرة. ومع غياب النهاية رحلت "الأنا" وأتت الـ "نحن" لأن الشاعر المحاصر في رام الله لا يختلف عن غيره من المحاصرين: "والحياة هنا تتساءل: كيف نعيد إليها الحياة"، ولذلك أضاف الشاعر إلى صوته الحزين كل أصوات العناصر المحاصرة: الأشجار، الأم الثكلى، الضباب، الفلسطيني الغارق بدمه، الحمام والسماء والطفل الذي خرج ولم يعد.

لم يتبق للشاعر إلا الأمل، وكتابة الشعر، الذي يحاور الأمل ويستولده: "كتبت عن الحب عشرين سطراً، فيخيّل لي أن هذا الحصار تراجع عشرين متراً" لم يتبق للشاعر المقاوم الذي تقمصته البلاد وتقمص الأشجار والأسطورة إلا عشرين متراً حرّرتها، مؤقتاً، "قصيدة حب"، قبل أن ترجع الكراهية الصهيونية وتحتل العشرين متراً من جديد، دون أن تستطيع إحتلال القصيدة. بقي محمود مع احلامه، ومع حلم فلسطيني ممزق أرهقه تُمزقه، كلما نظر إليه موحداً خاب نظره، فيعيد بناءه شعراً مدافعاً عن قوة الحياة: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

كان الشاعر، الذي أدمن مقاومة لليأس في عقده الأخير، قد جاوز الستين، وذاق مرارة الخسران الفلسطيني حتى الثمالة، أصبح مشدوداً إلى فكرة الموت والرحيل. في ديوانه الأخير "أثر الفراشة"، وقبل رحيله باكثر من عام، كتب في قصيدته "إجازة قصيرة":

وقلت: علي أن أمضي إلى قبري
لاملأه، فلم أجد الطريق
وظل قبري خالياً مني
وقلت: عليّ واجب أن أؤدي واجبي:
أن أكتب السطر الأخير على الظلال
فسال منها الماء فوق الحرف...
قلت: عليّ أن آتي بفعل ما
والآن
لكن لم أجد عملاً يليق بميت

كتب موته شعراً، مقرراً أن الكتابة حياة، وان السلطة الحياة تأخذ الكاتب، وتترك ما كتب في ضيافة الحياة.
محمود درويش، ذهب دون أن يتأهب لرحيله، وأنجز عمله كما لو كان قد تأهّب للرحيل منذ زمن طويل.