محمود درويش وتناغميّة الاغتراب والكشف

غالية خوجة

كيف تستحضر القصيدةُ ذكرياتِها، وحدوسَ اللحظَتين: الحاضرة والغائبة..؟‏

وعندما تفعل القصيدة ذلك، هل تكون قد كتبت سيرة وطنها.. أم أنها تظلّ وطناً جوّالاً بين اللغة والشاعر والقارئ..؟‏

يجوب محمود درويش اللغة مخترقاً مساماتها إلى نيران الرموز.. يحترق معها، ويشكّلان فراشة تشبه فلسطين، جناحُها الأول يظلّل مجموعات "درويش" من "أوراق الزيتون"، وحتى "سرير الغريبة"‏

وجناحُها الثاني يظلّل المجهول، ويسترق منه أناشيدَه وما تبقّى فيه من غربة..‏

هكذا، وعبْر حركات هذين الجناحَين، تتشابك الشعرية "الدرويشية" التي نختطف منها مجموعة (لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً) حيث يطالعنا الرمز ومنذ العنوان بطريقة استفهامية معاتبة وجامحة وغير ناسية لِما قالتْه في (أحمد الزعتر):‏

ليدَين من حجر وزعترْ‏
هذا النشيدُ... لأحمد المنسيّ بين فراشتَين‏
مضت الغيومُ وشرّدتني‏
ورمتْ معاطفَها الجبالُ وخبّأتني(1)‏.

في التجربة الدرويشية تتحرر طاقة الوحدة والاغتراب إلى منطقة القلق النصّي المتكوّنة من ترابطات الصور ودراميّتها وتجاوراتِ علائقها وإيقاعات حالاتها.. ولا تصبّ هذه الطاقة المتحررة في الرمز وحده، بل تتجاوزه.. تاركة لنا الرمز ككهف نعبر منه الدالَ إلى الدلالة.. وعندما نكون قد أصبحنا في (البرزخ) حيث الوجود واللاوجود، الحضور والغياب، فإننا نستكشف كيف تتلاقى الرموز الموروثة والمبتكرة لتتناصّ مع الأسطورة كذاكرة خلفية متفاعلة مع الصورة الدرويشية، القابلة لقراءات متعددة، والمستمرة في حركتها الصيرورية..‏

فما هي سمات هذه الحركية وإلى أيّ فضاء استطاعت أن توسّع بنية قصائدها عندما ارتكزت على العوامل الفنية وأهمّها: الرمز والأسطورة..؟.‏

بين النشيد والبحر والزعتر يغترب (أحمد العربي) وفي ذلك الاغتراب إشارة استبدالية بين (أحمد) و (محمود درويش) بمعنى بين إسقاطات (محمد "ص") وبين الذات الشاعرة الرافضة للواقع والراغبة بالانبعاث من صورها بهيئة جذور أرضية وجذور سماوية وبهيئة العناصر الموحية، المتماوجة بين هذين النوعين من الجذور (الغيوم/ الجبال/ الجرح/ المدن/ الزمن/ الرماد/ النخلة) وتكتسب هذه الرموز الطبيعية مجالاً آخر في مجموعة (لماذا تركتَ الحصان وحيداً)(2) مستبدلة رموز (الانبعاث) برموز أخرى تبدأ مع (الحصان) بكل دلالاته عابرة رموزاً طبيعية أخرى (النورس/ الشجر/ الماء/ النار/ الصبار/ السماء/ الأرض/ إلى آخر ما في المجموعة من رموز) ولا تنتهي في القصيدة الأخيرة (عندما يبتعد) المتمحورة حول (الفرس) وما يقابلها من شمولية للأرض والوطن:‏

الشاي/ التل/ التين/ الشعير...‏

تنسجم المجموعة مع عنوانها المجزّأ إلى ستّ بوّابات مزجت الواقع بالحائر، ونسلت منه الحلم إلى صورها المنبنية على الإيقاع وإيقاع الحواس والرؤيا، وعلى المخيلة المسترجعة لأبعادها التراثية، وعلى الغامض القادم من جهة المستقبل. سبقت البوابات قصيدةُ الافتتاحية التي اختزلت فضاءات المجموعة بين الذات وشبحها كدليل على الانفصام الأنوي الشعري المنبعث من المعاش اليومي بكل أبعاده: الوطنية، السياسية، الاجتماعية، وكأن قصيدة (أرى شبحي قادماً من بعيد) تختصر مسافة الآتي وما سيحدث ليس في القصائد وحسب، بل، في الواقع العربي الآتي أيضاً، المتفتّت قبل البوابات والمتهيكل بعد رمادها الذي حين نضيف إليه القصيدة الافتتاحية، نجد أن وحدة (الحصان) قد أصبحت سبع بوابات ولا يخفى ما لهذا‏ الرقم من دلالات مقدسة يكتمل عبرها الخلْق مثلما تكتمل معها طرواديّة الحصان وشبحيته المتمسكة بالتحول من خلال عناوين المجموعة المشكّلة في النهاية وحدة نصية كبرى:‏

(1) أيقونات من بلّور المكان وتضمّن هذا العنوان ـ البوابة: القصائد (في يدي غيمة/ قرويون من غير سوء/ ليلة البوم/ أبد الصبار/ كم مرة ينتهي أمرنا/ إلى آخرى وإلى آخره).‏
(2) فضاء هابيل: (عود إسماعيل/ نزهة الغرباء/ حبر الغراب/ سنونو التتار/ مرّ القطار).‏
(3) فوضى على باب القيامة: (البئر/ كالنون في سورة الرحمن/ تعاليم حورية/ أمشاط عاجية/ أطوار أنات/ مصرع العنقاء).‏
(4) غرفة للكلام مع النفس: (تدابير شعرية/ من روميات أبي فراس الحمداني/ من سماء إلى أختها يعبر الحالمون/ قال المسافر للمسافر: لن أعود كما../ قافية من أجل المعلقات/ الدوري، كما هو).‏
(5) مطر فوق برج الكنيسة: (هيلين، يا له من مطر/ ليل يفيض من الجسد/ للغجرية، سماء مُدّربة/ تمارين أولى على جيتارة إسبانية/ أيام الحب السبعة).‏
(6) أغلقوا المشهد: (شهادة من برتولت بريخت أمام المحكمة/ خلاف غير لغوي، مع امرئ القيس/ متتاليات لزمن آخر/ عندما يبتعد).‏

ثلاث وثلاثون قصيدة توزعت على سبعة مرتكزات، كأنها تتناغم مع (أيام الحب السبعة). ظهر التوزيع بشكل تقاسيم حافظت فيه قصيدة (أرى شبحي قادماً من بعيد) على رقمها(1) لتكون قابلة للإضافة كدلالة مدوّرة في المجموعة إلى باقي القصائد التي توزعت على الأرقام:‏

(6): في كل من العناوين (أيقونات من بلور المكان/ فوضى على باب القيامة/ غرفة للكلام مع النفس).‏
(5): في العنوانين: (فضاء هابيل/ مطر فوق برج الكنيسة).‏
(4): في العنوان الأخير (أغلقوا المشهد).‏

وهكذا تدور دلالات الرقم سبعة بين النصوص بشكل ممحو لا تكتبه سوى الإشارة التي ذكرناها، حيث تنعزف هذه الدلالات مع بقية الرموز الموروثة من أسطورية وواقعية لتدور في مدارها الأعظم الناتج من تقابل الرمزين المحوريين في المجموعة (الحصان/ شبح الشاعر القادم من بعيد) بحيث يظل هذا المدار مركزاً يتجسد كشخصية أسيّة في حدثيّةِ القصائد وسيْرتِها الجمعية والذاتية. وعلى ذلك فإن بناء النصوص لم يقتصر على المخيلة، بل امتد عميقاً في الذاكرة، وضم إلى أحلامها حيزاً نفسياً. زمكانياً، تنوع ظهوره بين السردية والتوامض.‏

الحركة الافتتاحيّة:‏

يختزل (درويش) حدسَه الرؤيوي الكلّي في قصيدته الأولى (أرى شبحي قادماً من بعيد..) وذلك من خلال بؤرة الفعل (أطلّ) = (هو الذي رأى كلّ شيء) المتعادلة مع الفعل الرؤيوي (أرى) والذي يشكّل الرحم العمائي الأول للمجموعة، حيث الاستشراف المتّسع والمنطلق إلى جهتين: جهة الهبوط إلى الحدس الجوّاني. وجهة الصعود إلى البُعد الكوني. أمّا نقطة التقاء الجهتين، فهي المدار القصيدي الذي تشكلتْ منه‏

جهة ثالثة. بإمكاننا تسميتها (جهة الأثر) حيث اللغة النصية ببنْيَتَيْها (العميقة والسطحية) المكوّنة لفضاء جهة الأثر والتي فيها تتم عملية التحوّل (الصاعدة. الهابطة) وكأنها بذلك تؤلف العالم الأرضي* كعالم ثالث تتفاعل فيه حركة الجهتين بكامل مرموزاتهما، إيقاعاتهما، صراعاتهما، وما يبقى من صورهما في منطقة الأثر. إذن، النبرة الأولى هي ذاك المحفّز التراكمي الكامن في فعل (أطلّ) وما يولّده من شبكة مدلولية تتناسل أحداثُها في القصائد الأخرى من المجموعة. وما تكرار لازمة (أطلّ) إلاّ عامل توكيدي للمسافة الكامنة بين (أرى) و (شبحي) حيث تعبر حركة النصوص لتنزلق من مسرح (أطلّ) كفعل جانسَ الحركة المستمرة بأطلال الماضي عن طريق بثّهِ فيها روحاً أخرى حرّضتْها على التداخل مع نسق القصيدة عبر ثلاثة منحنيات بيانية:‏

(1) الإطلالة على الخارجي الموضوعي: (أطل، كشرفة بيت على ما أريدْ/ أطل على نورس، وعلى شاحنات جنودْ).‏
(2) الإطلالة على الداخلي الذاتي: (أطل على صورتي وهي تهرب من نفسها/ أطل على جسدي خائفاً من بعيد).‏
(3) الإطلالة على اللغة: (أطل على المفردات التي انقرضت في "لسان العرب"/ أطل على لغتي بعد يومين). إطلالة ثلاثية التباعد، اتخذت هيئةً شبحيّةً دالّة على الكثافة والتحوّل في ذات الآن:‏

أطلّ على ما وراء الطبيعة:‏
ماذا سيحدث... ماذا سيحدث بعد الرماد؟‏

لا بد لمن يقرأ بحدس فني أن يكتشف الصلة البنائية بين (الحصان/ الجسد/ الرماد) المنجدلة كحدقة لفعلية الإطلالة المختلية في ما ورائية الصورة المتحركة بين قطبَيْن: (ما وراء الطبيعة) و (بعد الرماد). وما (سين) سيحدث، سوى مفتاح للدخول إلى المتجاذبات، المتنافرات، في تلك الصلة وقطبَيْها، بما فيها من تجادلات قائمة: على اللغة العادية (أطل على أصدقائي وهم يحملون بريد المساء: نبيذاً وخبزاً. وبعضَ الروايات والأسطواناتْ)، وعلى اللغة المدهشة العابرة للا مألوفها من خلال الرموز الموروثة والمستحدَثة. والتي لا تخرج عن مقصدية الإطلالة بتشعّباتها: الموضوعية/ الذاتية/ اللغوية:‏

الصورة الرؤيا:‏

انبنتْ بعض الصور على حركة تأويلية إشباعية، منحت مكونها السياقي دلالة فائضة كانت السبب للاحتمالات المشعّة في النص ولدراميته المنتقلة بين الإشارات على هيئة شُحنات تدور حول بروتون أسّيّ هو (الأنا الرائية) والمريدة. والباحثة والمتوغلة في الإطلالة الثلاثية السابقة (الإطلالة على الخارجي ـ الداخلي ـ اللغوي):‏

أطلّ على شجر يحرس الليل من نفسهِ‏
ويحرس نومَ الذين يحبونني ميّتاً...‏
أطلّ على الريح تبحث عن وطن الريحِ‏
في نفسها...‏
أطلّ على امرأة تتشمّس في نفسها...‏

تتعالق مرموزات (الشجر/ الريح/ المرأة) بالفعلية التي تؤديها توالياً: (يحرس/ تبحث/ تتشمس) منشئة في الحيز البَعدي لهذه الفعلية إيحاءات للمداليل تصارعت بين (الليل) وما يختزله من حركة معتمة أضاءتها (المرأة) كمرآة أخرى لـ (الأنا) أزاحت الحالة المعهودة للفعل تتشمس، وأدخلتها في مسافة الإطلالة الجوانية للرؤيا (في نفسها). وكأن الشاعر أراد أن يحرس العتمة من العتمة التي بات يخشى عليها من الخطر. والمألوف أن الإنسان يخشى من الليل وإيماءاته المظلمة القادمة من الحركة الاجتماعية وطغيانات الآخر كأحد المدلولات، أما الخشية على الليل فهي حالة تُجسّم الخطر وتجعله بُعداً إشباعيّاً يخاف منه الليل ذاته و لا يبقى الحارس غير (الشجر) بما تحمله هذه اللفظة من رمز لوني (الأخضر) ومن رمز انبعاثي، قد يكون واحداً من الأشياء التي ستحدث (بعد الرماد) ـ الدلالة المؤقتة على (الموت). نجد ترابطاً شفيفاً بين (الشجر) و (المرأة) يُعلنه الخصب والحياة والانبعاث، ولا يسكن هذا العامل في (أعماق الأنا الشاعرة) بل، نلمسه يتحرك في اللاثبات الذي نستدلّ عليه بـ (الريح) كدلالة مستمرة على (التغيّر) انضافت إليها دلالة فائضة عبر فعل (تبحث) وما تلاها من تكرار للفظة (الريح). وبينما تلتقي (الرِّيْحان)، نتراءى أن التنامي بين طرفَي الخصب (الشجر/ المرأة) يلتقيان في الإطلالة (الجوانية).. كيف؟ هذا ما تومئ إليه جملة الريح المتحركة بينهما والمنسحبة نحو الداخل (تبحث عن وطن الريح في نفسها). ولا يحضر الوطن الغائب ـ المفقود ـ المغتصب إلا عبر تحويلية الداخل إلى خارج في صورة رؤيوية أخرى ناتجة عن جملتين متباعدتين في جسد النص، ملتحمتين عبر بنيته العمقى، ومشكّلَتيْن فيما بعد لثنائية الخارطة الرمزية:‏

(1) (أطلّ على جسدي خائفاً من بعيد).‏
(2) (أطلّ على شبحي قادماً من بعيد).‏

وهكذا تنقلب العناصر على علاقاتها لتكون (في نفسها) ولتطل (على جسدها وعلى شبحها) وذلك ضمن خارطة رمزية ثنائية الانفصام والالتحام:‏

(أ) الرموز المنزاحة عن ذاكرتها الموروثة:‏

تمفصلت الرموز المستحضرة من الموروث الأسطوري (السومريون/ أسخيلوس) مع الرموز المستحضَرة من الموروث الديني (زكريّا/ هدهد سليمان) مع الرموز المستحضَرة من الموروث الشعري (أبو الطيب المتنبي/ طاغور) مع تلك المستحضرة من التاريخ (الفُرس/ الروم/ أنطونيو) ومنحت القصيد خلفية قائمة على صراعات الحياة أتت بمثابة (الذاكرة الجمعية) للنص. وعن كيفية ظهور هذه الذاكرة نلمح ألقاً منزاحاً خدَم النص في الرمز الديني (أطل على جذع زيتونة خبّأت زكريا) بما في هذا الانزياح من استبدال واضح بين (النخلة) وبين (مريم) و (عيسى).‏

ظهر هذا الاستبدال كبُعد ثان للجملة التي رغبت بإيصال محمولها المباشر أيضاً (الزيتونة = الأرض = فلسطين تحديداً) وما يُثبت هذا التحديد هو استحضار (زكريا).‏

تُرى، ألا ينطوي الاستشراف المخبوء في فاعلية الإطلالة على تداول غايته المتجهة إلى مُواحدة‏

الشاعر بروحه وجسده وشبحيته مع (زكريا)؟ وكذلك مواحدته مع (الشجر/ المرأة/ الزيتونة)؟. تشتمل الإطلالة على هذا البُعد بالإضافة إلى تضمّنها لفضاء جغرافي متعيّن انعكس بين (مصر) و (أورشليم): (المسافر من طبريا إلى مصر)/ (وهم يصعدون حُفاة إلى أورشليم) ولا تكتمل جغرافية السفر المنسوبة إلى المتنبي، ولا جغرافية الصعود المنسوبة إلى الأنبياء القدامى إلا بصراعية الرموز الأخرى الظاهرة في النص:‏

أطل على لغتي بعد يومين. يكفي غيابٌ‏
قليلٌ ليفتح أسخيلوسُ البابَ للسلْمِ،‏
يكفي‏
خطابٌ قصيرٌ ليُشعل أنطونيو الحربَ‏

(ب) الرموز المبتكَرة وإسقاطاتها:‏

تجاوزت الرموز الموروثة أبعادها المتجادلة بين الشرق وبين الغرب. وغادرت إلى رموز (درويش) المستحدَثة، والمتداخلة في النسيج الشعري، لتبرز بعد الغَور في عمق البنية. لتبرز كذاكرة ذاتية للنص. فيها من التصوف مثلما فيها من الانتظار والترائي:‏

حصان النشيد: وما اختزله هذا الرمز من إيماء إلى (الشعر) ذاته. وإلى (حصان طروادة) وإلى الجزء الأخير من عنوان المجموعة (الحصان وحيداً) وإلى فجوة التغيّر المبثوثة من القصيدة (الريح تبحث عن وطن الريح في نفسها) وما شظّتْه هذه الفجوة من احتمالات العودة المجسّدة بحركة الغوص في الذات العارجة نحو (أناها) العليا بين الشعر والملحمة (الحصان) الموحي بتلك المدلولات، وبين المجال الحركي لهذا الرمز المرصود بمسارَين رمزيين:‏

(الريح) و (الوردة الفارسية) المتشعّبة بالإيحاءات المتصوفة والموارية لـ (الزهرة الذهبية) كدال خفيّ على (التكوين) دعمته رمزية السؤال:‏

وأسألُ: هل من نبيّ جديدٍ‏
لهذا الزمان الجديدْ؟‏

يعرف تماماً (درويش) أنه لا نبي جديد.. ولكن (النبي) هنا تمركز رمزاً للسؤال عن إمكانية انوجاد مصدر إنساني تغييري ملائم لهذا العصر الموبوء بالفساد والباطل.. وكأن (النبي) هنا يشير بطريقة أو بأخرى إلى (زرداشت) نيتشه وإنسانه المتفوق، والمنتظَر.. تكتسي لفظة (النبي) بهذا الاحتمال وباحتمال مُسقَط على الذات الشاعرة من خلال (زكريا) ومن خلال الرغبة بالعودة إلى مدلولات البياض الأولى (الطفولة):‏

أطل على صورتي وهي تهرب من نفسها‏
إلى السلّم الحجريّ، وتحمل منديل أمّي‏
وتخفق في الريح: ماذا سيحدث لو عدتُ‏
طفلاً؟ وعدتُ إليكِ... وعدتِ إليّ‏

ولو جعلْنا مدلولات (الطفولة) تعود إلى الوراء، لوجدناها تتحد برمزية السؤال (النبي) وبرمزية الغاية (الحصان) ثم تظهر كمعادل غير مرئي للإطلالة على علائق البحث المتناوبة بين (الريح) و (اللغة): (أطل على المفردات التي انقرضت في "لسان العرب"). تلك المفردات الموسوم بها العرب والتي لم يعد يجدها الشاعر فيهم: (الحرية/ الكرامة/ الإباء/ الشرف/ الشجاعة/ الكرم...).‏

لكنّ الطفولة لا تعود، ولا يأتي النبي، ورغم ذلك يبقى للشاعر فضاء آخر يتجاوز الواقع بالواقع، تاركاً الحلم نقطة تلتقي فيها ذاكرتَا النص (الجمعية/ الذاتية) لتُشَكِّلا صورة الحياة الطالعة من (الرماد) أو من (بعد الرماد):‏

تكفي‏
يدُ امرأة في يدي‏
كي أعانق حريتي‏
وأن يبدأ المدّ والجزْرُ في جسدي من جديدْ‏

ولا تتخلى صورة الحياة عن صراعها رغم بدئها من جديد فـ (المدّ) و (الجزْر) يتداولان دواخل الشاعر المتكنيّة بآثار حركة (البحر) التابعة لـ (القمر) وهذا ما يحيل إلى التسامي الروحي الهابط/ الصاعد في آن. والمتخذ من الجسد النصي المدون مكانية لعبور الروح وللتناقض الواقعي المبتعد إلى الحلم كبدء ـ دائماً ـ جديد. ومن مرادفات هذا الابتعاد. المعادلة التالية:‏

(المرأة = زكريا = الزيتونة = الحرية = الوطن = الذات الشاعرة).‏

رغم هذا التشابك الدلائلي إلا أن قصيدة (أرى شبحي قادماً من بعيد) لم تخل من اللغة المباشرة التي شوّشت على فنية الكثافة وصفائها، وهذه الملاحظة تنطبق على بعض ما جاء في المجموعة. فإضافة إلى ما ورد عن الأصدقاء الحاملين لبريد المساء،... نجد هذه العبارة (أطل على كلب جاري المهاجر من كندا منذ عام ونصف..)، ونستطيع أن نضيف كذلك اللازمة التي تتكرر لمجرد الحفاظ على الإيقاع (أطل، كشرفة بيت، على ما أريد) حيث برزت في النص أربع مرات دون أن ينوع فيها الشاعر الذي كان بإمكانه استبدال (بيت) الدال على (الوطن) بكلمات مناسبة أخرى، يحتمل مرتكزها، إضافة إلى "بيت" ـ وأعني بالمرتكز هنا (الشرفة) ثلاث ألفاظ تُناسب مدلولاتها حرارة النص وحركيته: أطلّ كشرفة "نار" على ما أريد/ كشرفة "بحر" / أما أطل الرابعة فتحتمل أن تكون (كشرفة ريح)..‏

بذلك نكون قد فتحنا البوابة الأولى على حركية المجموعة، مدركين أنها المسرح الذي تحرّكت عليه القصائد الأخرى الناهضة على تلوينات اللحظة الذاكرتية والآنيّة والآتية.‏

الحركة التحاوريّة‏

ترحل الحركة الافتتاحية إلى نصوص المجموعة بطريقة انتشارية توسّع آثارها عبر اليومي والماضي وما يتجزأ بينهما من مشاهد يستحضر فيها الشاعر صوت أبيه كصوت رديف للذاكرة وللمعاناة وللرحيل والاغتراب والخيمة.. ويدور هذا الصوت مع غيوم المجموعة وجراحها منسكباً بين البيوت الفلسطينية والمخيمات والأمكنة الأرضية الأخرى إضافة إلى الأمكنة التي تُنشئها القصائد والتي لها ملامح الخروج من الذات والعودة إلى الذات.‏

ومن ملامح الخروج والدخول يتكون بُعد زمانيٌّ نصيّ يصطدم بنفسه ليُنتج في الباطن الصوري تسارعاً وتباطؤاً لا مكتوبَيْن تدلنا عليهما حركيّة التواشج والتعارض والبوح والانبجاس والتألق، المؤلفة من حركتين أساسيتين هما الأثر المتراكم في الحيز الحلمي المؤدي إلى الأبدية:‏

(1) حركة الاستعادة ـ الذاكرة:‏

تنعطف الحركة الاستعادية في المجموعة عبر مسارب متلولبة. متوزعة على جسد النصوص، ومتضامنة في أثر السيرة الذاتية بكل تحولاتها، والسيرة الجمعية بكل تحاورياتها القائمة على تفعيل الرموز الموروثة (قرآنية/ أسطورية/ تاريخية..) وذلك لتجعل من هذه الرموز ذاكرة تراثية انتفض من فراغاتها الذاتيّ.. ولا تطلّ هذه الذاكرة كاستعادة عادية لزمن ماض وحسب، بل تتكثف لتكون زمناً جديداً لذاكرة متفرعة إلى: (الذاكرة الطفولية/ الذاكرة البدئية للأشياء/ ذاكرة الغربة/ ذاكرة الحاضر) والثيمة الأهم لهذه الذاكرة هي: السرد الدرامي الذي يحيل على تفاصيل الخلْق (قابيل/ هابيل/ الغراب/ إسماعيل/ البئر) وعلى تفاصيل الخراب وتراجيدية الواقع المتناقض مع مقولة (الزمن كالنهر) حيث تُعيد الآلام جراحَها بشكل دائري ما بين (التتار والمغول والصهاينة وبونابرت والقيصر و...) ضمن هذه الدائرة يسرد (درويش) حساسيته التي لا تقف على حواف المحيط، بل تمتد إلى المركز بطريقة خافتة، تكتسب حضورَها من الأثر الرجعي للكلمات المتخذ سبيلاً للوصول موجتَين: المد والجزر. فموجة المد تُحيل على السيرة الذاتية. أما موجة الجزْر فتحيل على السيرة الجمعية.‏

(أ) ـ موجة المد وتداعيات الذات:‏

سنُركّب حركة الموجة وإيقاعاتها من خلال جمل شعرية متفرقة حققت أثر الاستعادة:‏

(وقلتُ للذكرى: سلاماً يا كلام الجدة العفويّ يأخذنا إلى أيامنا البيضاء تحت نعاسها ص 70/ ما زلتُ حيّاً في خضمّكِ. لم تقولي ما تقول الأمّ للولد المريضِ. مرضتُ من قمرِ النحاس على خيام البدو. هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ، حيث نسيتني ونسيتِ كيسَ الخبز (كان الخبز قمحياً). ولم أصرخ لئلا أوقظ الحراس ص 78/.. وتركنا طفولتنا للفراشة، حين تركْنا على الدرجات قليلاً من الزيت ص 106/ لكننا لم نكن خائفين.‏

لأن طفولتنا لم تجئ معنا. واكتفينا بأغنيّة: سوف نرجع عمّا قليل إلى بيتنا ص 27/ ـ هل تعرف الدرب يا ابني؟ ـ نعم يا أبي: شرق خرّوبة الشارع العامّ دربٌ صغير يضيق بصبّاره في البداية، ثم يسير إلى البئر أوسعَ أوسعَ، ثم يطلّ على كرم عمي "جميلْ" بائع التبغ والحلويات ص 41).‏

وكما تعلن اللغة عن ذاكرتها، فإن الذاكرة الحاضرة تُعلن عن ماضيها بالعودة المتشابكة إلى الشخوص (الأم/ الأب/ الجدة/ الآخر/..) وإلى جغرافية المنسَلّ من الذاكرة (موقع بيت درويش في فلسطين وتحديداً قرية "البروة") وهكذا عبر الامتداد نحو ملامح الماضي وشخوصه ونحو الامتداد في الفضاء الجغرافي واستحضاره إلى الذاكرة الحاضرة. تظهر الذاكرتان (الطفولية/ الغربة) لتمتد في مساحة الكلمات كظلال متعاكسة مع ظلال الانحسار المتمثلة بالواقع.‏

(ب) موجة الجزْر والتداخل مع الجمْع:‏

يشحن الشاعر موجة الجزر بموجة المد وذلك عبر (أناه) الظاهرة كراوية مباشرة وغير مباشرة‏ للسيرة الجمعية (سوف تكبر يا ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهمْ سيرة الدم فوق الحديد. ص 33) ولتكتمل رواية السيرة بين الدم والبنادق، بين التتار والبئر والروم والغراب، فإن (درويش) يعيد للوطن حكايته أولاً (كبرتُ ليلاً في الحكاية بين أضلاع المثلث: مصرَ، سوريا، وبابلَ. ههنا وحدي كبرتُ بلا الهات الزراعة ص 71) ثم يربط بين رمزين: أولهما ديني، وثانيهما أسطوري: (بحثتَ في بستان آدمَ. كي يواري قاتل ضجرٌ أخاهُ ص 54) يخاطب الشاعر هنا (الغراب، أو كما جاء رمزه في القصيدة (جرس الغروب الداكن) وما المخاطب في النهاية سوى العصر المتلون بالأسود وبدماء الأخوة (هابيل) المتناسل من (آدم) والذي نجد له دلالة إسقاطية في موضع آخر من المجموعة:‏

(رمتني الأرض خارج أرضها، واسمي يرنّ على خُطايَ كحذوة الفرسِ: اقتربْ.. لأعود من هذا الفراغ إليكَ يا جلجامشُ الأبديّ في اسمكَ ص 71). تختلط الشخوص الرمزية (آدم/ هابيل/ جلجامش) في الذات الشاعرة، جاعلة من مرموزاتها ظلالاً لـ (الأنا) المستقرئة للواقع، حيث لا قيامة (فلتكنْ يقظاً قيامتنا ستُرجأ يا غراب ص 54) ولا حرب ولا سلام ولا..:‏

كل شيء هادئٌ في ملتقى البحرينِ‏
لا تاريخ للأيام منذ اليوم،‏
لا موتى ولا أحياءَ، لا هدنةَ،‏
لا حرب علينا أو سلامْ/ قصيدة متتاليات لزمن آخر ص 161‏

وتتناسج هذه الرؤيا مع تضمين قرآني، يثبت استمرار السَواد والدماء: (ويضيئكَ القرآنُ: "فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليُريه كيف يواري سَوأةَ أخيه، قال: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" ص 65) على ذلك، نتبين أن شبكة العلاقات المكوّنة لحركة الاستعادة لم تقتصر على الاسترجاع الاعتيادي للذاكرة؟‏

لماذا؟ لأنها وظفته كأثر تصيّري متصارع بين موجَتَي السيرتين الذاتية والموضوعية، انتقل توالياً داخل حركة متعاكسة:‏

معادلة حركة الاستعادة‏
من الحاضر إلى الماضي‏
من الماضي إلى الحاضر‏
إلى المستقبل‏

إذن، من هذه المعادلة، نكتشف أن المستقبل هو مصدر الجدل المتقاطع مع الذاكرتين والمانح للنصوص مساحة رؤيوية رفضت أن تدور في هامش الموجة (الامتدادية/ الانحسارية) بل، وتوغلت في الحلم لتشكل منه تلك القيامة المتأخرة أو المؤجلة. وهذا ما يقودنا لمناقشة الحركة الثانية.‏

(2) حركة الاشتعال:‏

وترتسم هذه الحركة بعناصر الطبيعة المختلفة (الماء/ النار/ التراب/ الهواء) وبإيحاءاتها المتدرجة كالمطر. واشتقاقاته من سحاب وبرق ورعد و... وكالريح وتقلباتها الفصلية والموسمية من خريف وصيف‏

وشتاء وربيع. وكاللهب وأطواره من رماد وموت وانبعاث، وكالصلصال وإشاراته من الجرة والأرض والشجر المتنوع ودلالاته المتحابكة مع العبق (الصنوبر) ومع الامتداد العمودي (السرو) ومع الساكن المتحرك بين القبور والحياة (الزيزفون والزعفران) والصامد عبر رمزية (السنديان والزيتون و..).‏

تنقسم هذه الحركة الاشتعالية إلى حركّتي انبعاث هما:‏

(أ) حركة الانبعاث على صعيد الحركة السابقة (حركة الاستعادة ـ الذاكرة):‏

تتداخل الإشارات الرمزية النصية لتنجز تواترها المتقطّع في البنية الكلية للمجموعة المختطّة لنفسها دائرة سيرورية مرت من (آذار) كشهر له بُعده المدلولي في التجربة الدرويشية وحبكت جوهره الانبعاثي برموز أخرى، بحيث تساوت الرموز في النهاية وكونت صورة شاملة لرمز واحد هو (القيامة) التي نستقرئ وشيعتها الدلالية عبر الحركة التالية: آذار = الجرّة (والدموع جفّت من جرّة الفخار ص 88) = عشتار والعنقاء والفينيق وأنّات وأنّانا والفراشة وهيلين (هيلينُ هيلينُ! هل تصعد الآن رائحة الخبز منكِ، إلى شرفةٍ في بلاد بعيدةْ ص 126) = تموز (ياسمينٌ على ليل تموز ص 130) = هوميروس (لتنسخ أقوالَ "هوميرَ".. ص 127) = أوليس (كم كان إغريق ذاك الزمان قساةً، وكم كان "أوليسُ" وحشاً يحب السفرْ ص 128) = المطر والسحاب والأرض و "الأنا" الشاعرة (أنا السحاب، وأنتِ الأرضُ، يُسندها على السياج أنينُ الرغبة الأبدي ص 146) = الأندلس وسمرقند وإيقاعات التفاعل الداخلي ما بين "النهاوند" و "الموشّح" وما بين إيقاعات التفاعل القبْلي والبَعدي، وأعني بهما الأثر المائي في المجموعة حيث الماء الأزلي السالب لمعنى العماء والتخلّق: (لا شيء يأخذ منك أندلسَ الزمانِ ولا سمرقند الزمانْ إلاّ خُطى النهوند ص 141) وتمتد تفاعلية الوقع المكاني الذاكرتي عبر الخيط الزماني ليتجادل مع معادلة المستقبل السابقة المنتجة من حركة الاستعادة الماضية والتي نلمح تشعباتها في الصور التالية غير المستقرة ـ كالماء ـ بين الظل والريح والأرض وأنّات والحصان كرمز محوري للمجموعة.‏

(ب) حركة الانبعاث الصُوَري:‏

تكمن جمالية القول الأكثر إدهاشاً في ذلك الفضاء الصوري الذي تتقابل وتفترق فيه دلالات الأثر المائي القادم إلى الأثر الناري الذي تتعدد فيه الحركة الإبداعية المنتجة لسرّ الشعرية الدرويشية. وأقصد، المنتجة لأهم الثيمات القصيدية والتي امتازت بها هذه الحركة، ألا وهي: التوامض بتدرجاته الناتجة عن نفسها: / (الخفوت/ الترمّد/ الاشتعال) ولم تنضج هذه الحركية إلا من خلال دينامية الحلم والمخيلة كعاملين محوريين تدفّقاً من الأثر المائي ليكّونا الأثر الناري وذلك عبر متواليات الانبعاث المتسلسلة بخفوت في أوائل المجموعة والمتصاعدة مع درجات الاحتراق التي لا تلبث أن تنصهر في الأثر الصوري مخلّفة من الغيمة صهيلاً ملوّناً وأبدية زرقاء:‏

(1) الطفل ـ الحلم ـ الشبح:‏

في قصيدة (غيمة في يدي) نلاحظ أن الولادة لا توحي بإنجاب مستقبل هائم، لأن الولادة بكلّ مدلولاتها وحركتها القادمة ارتبطت بمجال متعيّن هو (المكان) الرامز هنا إلى الأرض وتحديداً (فلسطين) المختزلة للوطن العربي في أحد تضاعيفها. وتتحرك طفولة المكان مع حركة الاستعداد الملائمة مع الصهيل (أسرجوا الخيل) والواقفة بين دلالتَي السواد (آخر الليل) و (الانتظار) الذي لم يؤدّ إلاّ إلى شبحية الولادة الطالعة من ذات المكان. وتتراكم دلالات (الشبح) كـ (شيء) وكـ (لا شيء) في قصيدة أخرى‏

(مرّ القطار) التي تعالج فيها الصورة نقائض الولادة واللا ولادة من خلال الزاوية الزمنية لـ (الانتظار) و (المكان):‏

هنا ولدتُ ولم أولدْ‏
سيكمل ميلادي الحرونَ إذاً‏
هذا القطارُ‏
ويمشي حوليَ الشجرُ/ ص 64‏

هل هو التأكيد على الفوات وعلى استمرارية الانتظار. أم أن هنالك تصالباً أعمق بين الواقع ومخيلة الصور؟‏

تتعمق آليّة الانبعاث بما وراء الطفولة والطبيعة لتُجرّد أبعادها ضمن حركة لا تُعيّن الولادة فقط، بل تولّدها وذلك ما سنتراءاه في الفقرة الثانية:‏

(2) الولادة التجريديّة:‏

تتناسل مدلولات الاحتراق التي تحملها اندفاعات القطار ـ الزمن، لتُعير طاقةَ خضرتها المنبعثة من (الشجر) بهيئة دوران أوروبورسي مركزه الشاعر (ويمشي حولي الشجر)، لتُعير هذه الطاقة إلى رمز أسطوريّ ركّز عليه (درويش) وجعله وقوداً لنيران رموزه (العنقاء) التي يريثها ويبثّ فيها نسقاً توالدياً ابتدأ بالأناشيد وطبقات فونيماتها المخمِّرة لـ (الناي) كدال على الجرح والموروث والحزن والانعتاق نحو الفضاء المحمول على الصوت الداخلي الممتزج بالصوت الملوِّن لبياضات الصورة والرؤيا (النار) التي تختمر بدورها في الناي. ومن التواشج التجريدي تنبجس آثار الأثر الناري للمحور المطابق للرمز المحوري للمجموعة (العنقاء = الحصان). وحين يتضافر الرمزان نجد أن دلالة الخضرة (الشجر) باتت تدور حول (الأنا) الشاعرة (لم أعرف رمادي من غباركْ). وهكذا جسدت الصورة حواسها في حدوس اللغة المتكورة على ولادة من الولادة. مشكلة من نفسها (أفعى) التكوين الغائبة في المكتوب والمتجلية في اللا مكتوب ضمن الحركة الدائرية المبتدئة بالأناشيد. المنتهية بالأناشيد حيث الأثر الناري دائرة تحفّها الأناشيد المتمركزة حول (الشجر/ الذات/ العنقاء) والتي لا تلبث أن تستغرق مركزها بطريقة لا مرئية. فيمتصّ أحدهما حلمَ الآخر ويتراكبان كنجم يهيّئ نفسه للانتحار/ للانفجار.‏

الحركة الختاميّة:‏
لم يكن للكواكب دورٌ،‏
سوى أنها علّمتني القراءةَ:‏
لي لغةٌ في السماءْ‏
وعلى الأرض لي لغةٌ‏
مَن أنا؟ مَنْ أنا؟ / تدابير شعرية ص 99‏

ما بين اللغتين تنمو ألوان الاغتراب ولا تنغلق مع بوّابة (أغلقوا المشهد) التي تختتم نفسها بالقصيدة السردية: (عندما يبتعد). وبذلك نتبيّن أن هناك لغات أخرى تتماوج في المجموعة وتتعانق كغريب وغريبة‏ (من أنا بعد عينين لوزيتينِ؟ يقول الغريبْ من أنا بعد منفاكَ فيّ؟ تقولُ الغريبةُ ص 130) حواريّة مونولوغية دائمة البحث عن الأنا المتواحدة كما رأينا بالرموز الانبعاثية وكأن (درويش) يشكك بالحالة النهائية للانوجاد من أجل أن يمنح هذا الانوجاد طوراً أبعد من الاحتراق اختزل الغربة والمنفى في وطن من الصلصال المتناقض ( الجسد الأنثوي) المنبعث كذلك من (الخرافة): (هنالك امرأةٌ تعيد الماءَ للينبوعِ. وامرأةٌ تقود النارَ في الغاباتِ. أما الخيلُ فلترقصْ طويلاً فوق هاويتينِ. لا موتٌ هناك.. ولا حياةْ ص 87) تأخذ الأنثى ـ الأرض انقسامات الأنا لتزدوج مع المتناقضات ثم توائمها في حركيات درامية متنوعة انضغطت في سؤال شفيف عميق: (ـ كم تبعد الأرض عني؟ وكم يبعد الحبّ عنكِ؟ ص 126) ولا يترك (درويش) لـ (أنواته) أن تتباعد عن (أناه) ولو ظهرت مرتدية لعدة شخوص (الأمّ/ الجدة/ الحبيبة/ أنات/ الأب/ الجد/ الفينيق/ الشجر/ الريح/ أبو فراس الحمداني/ امرؤ القيس/..) وبهذا التشخيص يمنح الشاعر بُعداً لـ (الآخر) الحاضر في نصوصه. وهذا البُعد يظل متشاكلاً مع محتملات (المونولوغ) الشاهدة على الواقع. الرافضة له، والمجروحة به، والهادفة كذلك إلى تغييره عبر العزْف على الروح وآثارها المحلّقة من طاقة الكُمون (الفراشة) إلى الابتهال (هللويا) إلى مدلولات الدعاء الرافّة على الماء.‏

(وفي بركة الماء تمشي السماءُ قليلاً على وجهها وتطيرُ وروحي تطيرُ ص 82). في هذا المستوى الصوتي لحركات الصوتين (الداخلي والخارجي) تتشوش مسافة البنية المدلولية، إضافة إلى ما ذكرناه في الحركات السابقة، بعناصر أخرى خالفت الاعتيادي ونزّحتْه إلى دهشته اللونية: (يسامرنا لمعانُ الزمّرد في ليل زيتوننا ص 27/ سيرة الدم فوق الحديد ص33/ أغنيّة بيضاء لسمراء ص 140/ نهداكِ ليلٌ يقبّلني ص 131/ سماء نبيذيّة اللون ص 132/ حبر الغراب ص 54/ سيرتفع الغيم أحمر فوق صفوف النخيل ص 82/ أولى النوافذ تجنح نحو الفراشات.. زرقاءَ.. حمراء ص 50/ يركض الماء والسرو يركض، والريح تركض في الريحِ، والأرض تركض في نفسها ص 52).‏

لا شك بأن اللون هو (رمز) يستحدثه (درويش) من مكونات الطبيعة والحواس ليصل إلى ما فوق الطبيعي ضمن عملية كيمائية تفرز أحلامَها، وتُصعّد الرؤيا حتى فجوتها اللونية المتناسجة في صور رؤيوية تخلق نفسها من نفسها دائماً لأول مرة (كل شيء سوف يبدأ من جديد) ومن هذا البدء نستقرئ كيف تتصيّر (السماء) طائراً أزرق يمشي في بركة الماء ثم يطير، والتحليق لا يوظف في الصورة إلاّ ليضيف دالّة تنويعية فائضة لـ (الروح) الشاعرة الزرقاء، أي الراغبة بـ (الأبدية) المشتقّةِ لِلْقُزح الْمَعْنَيي في المجموعة (الزمرد/ الزيتون/ الدم/ الغيم/ الأحمر/ النبيذية/ الأغنية البيضاء/ الأنثى ـ الأرض السمراء) حيث تكوّن هذه التلوينات الصوتية والحسيّة والحدسيّة خلفيّة يقظة للوحات المجموعة التي تمزج غناء هذه التلوينات بين الانفعالات الحارّة والحيادية والقاتمة، مخترقة ترانيمَها بظلالية فعلية ناتجة عن الخلائط اللونية، مثلاً ما يرسمه (الجنوح) المتعلق بالنوافذ ـ النافذة معبر للخارج والداخل بطريقة متوازية ومتعاكسة ـ وطريقة جنوحها المعلقة بالفراشات (الزرقاء، الحمراء) وما لهذين اللونين من حركة امتزاجية ـ البنفسجي ـ مؤثرة في ديمومة الفعل المتسارع الحركة (الركض) حيث (الماء) الأصل غير الملوّن. يركض من هلامه إلى هلام التخلّق (الأخضر + تدرجات البنّي) = (السرو) الذي يمارس ذاتَ الفاعلية (يركض) ثم تتحوّر دلالة (الركض) من المكانية الصوريّة غير المنفصلة عن الموضوعي، إلى المكانية الصورية المتباطنة مع نفسها عبر (الريح) كتغيّر يتحرك في تغيّره (الريح تركض في الريح) ولا تنزح الحركة عن بُعدها العمودي الغائر في (نفسه) إلا لتغور في معطياتها الأخرى بكيفية أعمق (والأرض تركض في‏ نفسها) ومن هذه الاتصالات المنفصلة بين الصورة وإيماءاتها، نكتشف أن المجهول عنصر دراميٌّ أخفته المجموعة يبن أثرَين:‏

(1) أثر الركض المجاور للركض‏
(2) أثر البحث المتسرب من تكرارية (من أنا؟)‏

ومن هذين الأثرين تتعقد إشارات اللون متوزعة على ثلاثة دلالات:‏

(1) الدلالات المضيئة:‏

وهي الدلالات المقصودة في نصوص المجموعة والتي بإمكاننا الإشارة إلى أهمها، كونه شكّل مجالاً افتراعياً للقصائد. وهي دلالات الملفوظات: (النار/ النهار/ الضوء/ الدم/ الفراشة/ الماء/ الزرقة/ القمر/ الشمس/ النجوم/ البحر/ الشجر/ الحجر/ الياسمين/ السوسن/ الزيتون/ التين/ الغيم/ الكواكب/ الصهيل/ الفخار/ الريح/ العنقاء/ الفينيق/ امرؤ القيس/ أبو فراس الحمداني/ الأرض ـ الأنثى/..).‏

(2) الدلالات المعتمة:‏

وهي تلك الدلالات المرفوضة والمترامزة بألوان العدم والفناء، أمثّل لها بـ (الليل/ الغراب وحبره/ التشرد/ السراب/ المقابر/ الزنزانة/ الجلاد/ المنفى/..‏

(3) ألوان دلالية مفرّدة:‏

وهي الدلالات القابلة للتلوّن بالحواس وبالمخيلة والتي تتمركز بين الدلالات الأولى (المضيئة) لتُضيف إليها حيزاً يُناغم غربتَه مع الوحدات الجزئية والكبرى. وسمة هذه الألوان الدلالية أنها دائمة الصعود من الباطن إلى الظاهر ودائمة الهبوط من الظاهر إلى الباطن. وهذه الدينامية لا تعتمد الشكل العمودي للحركة فقط، بل تنبني كذلك على الشكل الأفقي، بسبب طبيعتها الانتشارية، ومن هذه الدلالات: (الغسق/ الشفق/ النخيل/ الحنين/ الحلم/ اللازمان/ اللامكان/..).‏

لقد نبضتْ مجموعة (لماذا تركت الحصان وحيداً) بحرائق اجتمع فيها الماضي. والحاضر، والآتي، مثلما تلامح التاريخي والنفسي والطبيعي. وتنوعت صورُها بين سرد اليومي العادي وبين التشكيلي الذي يُسريل تناغمَه في الرؤيا البكْر وفي تلاوين الكشف والانكشاف. ودليلنا على ذلك أيضاً ما يقوله (محمود درويش):‏

وأنشأ المنفى لنا لغتَين:‏
دارجةً... ليفهمها الحمامُ ويحفظ الذكرى‏
وفصحى.. كي أفسّر الظلال ظلالّها! / تعاليم حورية ص 78‏

إذن، لنا أن نتساءل: تُرى، ومن خلال مجموعته (لماذا تركت الحصان وحيداً) ما رأي (درويش) بمجموعته خاصة. وباللغة الشعرية بشكل عام؟؟.‏

بإمكاننا الإجابة عن ذلك (درويشياً) من خلال متابعتنا لأثر الرائي والرؤيا والرأي. المتسرب بشكل‏

عفوي من تحت النصوص إلى فضائها المقروء الذي أوضح المفاصلَ التالية:‏

(1) ـ الغموض:‏

ينبلج الغموض في المجموعة كألق جمالي يشعّ ويختفي، يختفي ويشعّ، منشئاً (هوّة) للمعنى تتقاطع فيها حواس اللغة وحواس ما تحتها:‏

(يتحرك المعنى بنا.. فنطير من سفح إلى‏ سفح رخاميّ. ونركض بين هاويتين زرقاوين. ص 47).‏

(2) ـ الوضوح:‏

حيث اللغة لا تندفع إلى أبعادها العمقى وتُراوح في بنيتها السطحية، المتحركة غالباً في فضاء أفقي:‏

(فكتبتُ: مَن يكتبْ حكايته يرثْ‏
أرضَ الكلام، ويملك المعنى تماماً/ ص 112)‏

(3) الضمير ـ الشخوص:‏

كما لاحظنا يعتمد الشاعر محمود درويش على توزيعات الأنا بهيئة ضمائر متعددة، تخلق مجالاتها، ولا تلبث أن تعود إلى (الذات) بهيئات مختلفة أو متوافقة، وفيما سنقرأ. سنجد أن (الأنا) تتحول إلى (الجمع) وإلى المفرد الجمعي المتحرر منها (أنتَ) كضمير مخاطب يشتمل الإنسان العربي من كل مواقعه، إضافة إلى كونه (قارئاً):‏

(أنا أنتَ في الكلمات. ص 56)‏

(4) الشعر:‏

يؤسطر (درويش) الشعرَ بالشعر ويمنح قصيدته لوناً آخر للصهيل والحياة (قصيدتي زبدُ اللهاث وصرخةُ الحيوانِ عند صعودِه العالي وعند هبوطه العاري: أناتُ/ ص 87) وترتفع درامية هذه الدلالة اللونية لتكون (طريقاً للعروج) بين مدلولات (القمر/ أنات/ الحدائق):‏

(الشعرُ سُلّمنا إلى قمر تعلّقه أناتُ‏
على حديقتها (ص87)‏

(5) اللغة والزمن:‏

إذا سحرَ المبدعُ الزمنَ، فإنه يستوطن الأبدية المتجددة حيث ينبوع اللغة يرنّ غير متشابه، أليس ذلك ما فعله شاعر العصور (المتنبّي: وما الدهرُ إلاّ من رواة قصائدي)؟ وعلى هذه الانبعاثية يفصل (درويش) الزمنَ عن لغتهِ تاركاً فيها ما لا يؤاكله الفناء:‏

(... فلتنتصرْ‏
لغتي على الدهر العدوّ، على سُلالاتي،‏
عليّ، على أبي، وعلى زوال لا يزولُ‏
هذه لغتي ومعجزتي، عصا سحري.‏
حدائق بابلي ومسلّتي، وهويتي الأولى،‏
ومعدني الصقيلُ/ ص 118)‏.

وتلمع إزاحة الزمن ببريقها المصقول أكثر في مقطع آخر، تَجرّدَ من المجسّد وتداخلَ في السيرورة اللا ثابتة.‏

الجاعلة من المعنى (حصاناً) طائراً يجرف كلَّ أثر وراءه ليطأ أثرَه التشكيلي المتسريل بين الرموز الطبيعية والمخيلتية. منتجاً لحظته الموشورية في حركة الأجنحة الألماسية التي تستنطق من الظلال ظلالَها لتلّون بها حركية الصهيل.‏  
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمود درويش/ أعراس/ دار العودة/ ط1/ 1977/ قصيدة (أحمد الزعتر) ص (35 ـ 36).‏
(2) ـ محمود درويش/ لماذا تركت الحصان وحيداً/ دار الريس/ ط1/ 1995/ عدد الصفحات (168).‏
(*) ـ العالم الأرضي هو أحد العوالم التي تتألف منها الأسطورة، فإضافة إلى العالم الأرضي هناك العالمان: (العلوي) و (السفلي).