رسالة المغرب

محمود درويش شاعرا "مغاربيا"

عبدالحق ميفراني

"أنا مدين للمغرب بنص شعري، لكن أتمنى أن أعيش تجربة عميقة كي لا أكتب نصا سياحيا عندما ألتقي بجمهور مسرح محمد الخامس لا أشعر بأنني أقرأ نصا شعريا مكتوبا، بل أشعر أننا نعيد كتابة هذا النص..."  محمود درويش. 


محمود درويش شاعرا مغاربيا
لم يكن استثناء أن يحظى رحيل الشاعر العربي محمود درويش باهتمام جل وسائل الإعلام السمعية البصرية والمكتوبة للدول المغاربية. إذ كان يستجيب في معنى من المعاني، الى حضور محمود درويش الشاعر في المشهد الثقافي المغاربي، كإحدى العلامات الفارقة اليوم في الشعرية العربية الحديثة. ولطالما حضر الشاعر محمود درويش، متأبطا قصائده، يواصل حضوره المجازي. من خلال الأمسيات الشعرية التي تعرف حضورا اسثتنائيا وجماهيريا. ظلت تعيد سؤال الشاعر الـ"جماهيري" القريب من وجدان الأمة. حاملا جراح الوطن، ومفارقات القضية وألق الشعر.

امتد حضور محمود درويش بقصيدته، التي نسجت مجازات حضورها في المثن الشعري المغاربي، وامتدت لتنسج تفاصيل تشكل "شعرية درويشية النفس والرؤية" والتي ألهمت تجارب شعرية أمكنها مد جسور خفية بين المشرق والمغرب، وأعطت زخما شعريا أمكن في مرحلة من المراحل أن تحول النص الشعري الى مخاض مفتوح، تتحاور التجارب الشعرية من كل جانب. ويكفي أن نستدعي التجربة الشعرية منتصف (70 وبداية 80) كي نتمثل هذا الحضور، بل إن العديد من التجارب التي انعتقت من رحم "نشدان نداء الحرية" في غياهب السجوب والاعتقال (أدب السجون)، أمكنها أن تشكل نقط تقاطع مع تجربة محمود درويش ولو أن هذه التجارب قد استلهمت قصيدة درويش كإحدى أوجه هذا الأفق. إذ قدمت هذه التجارب في حواريتها المفتوحة تجربة محمود درويش وغيرها، سياقا ثقافيا مختلفا لرؤية تؤسس للشعر وللعالم كما تراه..

حضور الشاعر محمود درويش متجذر في السياق الثقافي المغاربي، ولعله حضور ممتد في سياق نشدان أفق أكثر رحابة يتمثل في شعارات كانت تستنزف حينها المخيال الثقافي كمقولة "الالتزام" المقولة التي تحولت اليوم، الى مفهوم أكثر تجذرا ووعيا لطبيعة المرحلة وهي مقولة "أدب المقاومة". لقد حضر درويش أكثر من مرة الى المغرب وتونس والجزائر.. بل إن هذه البلدان توجته أكثر من مرة بجوائزها لعل آخرها كانت هذه السنة: الجائزة العالمية للشعر "الأركانة" والتي يشرف عليها بيت الشعر في المغرب، يأتي درويش محملا بقصيدته، وفي كل مرة، كان يجد نفسه مدفوعا الى التفاعل مع قرائه. وهنا مكمن بلاغة حضور محمود درويش المغاربي.

لقد عبر الشاعر مرارا عن آرائه في مختلف القضايا التي تهم القصيدة العربية، بل كان كل مرة يستلهم من المناخ والسياق الثقافي المغاربي، سؤالا جديدا، يبلوره في دينامية تحول نسق النصي الشعري لتجربته. الى درجة جعلته ميالا المحافظة على عبوره المجازي في مسارات هذا التحول والتفاعل المتبادل. خصوصا أننا لا ننسى أن المثن الشعري المغاربي ظل دائما يحفر خصوصية في جسد القصيدة العربية الحديثة بمنأى عن أي "تجربة مقدسة"، اللهم حوار مفتوح يستلهم التجارب الشعرية المتعددة من جغرافيات شعرية أيضا مفتوحة. لقد أمكن ظهور هذا التحول، إما من خلال التأكيد على رؤيته المتجذرة للقصيدة والتي أمكنه في الكثير من المرات أن يفصح عن  رأيه الخاص في ضرورة قراءة "درويش شاعرا" لا نبيا أو قديسا، أو حاملا لبيانات قضية...، الشعر أقدر على تمثل مفارقات اليومي وهو في نفس الآن أبعد ما يكون على أن يتحول الى نسخ بلاغي له.

لم يستطع قارئ درويش أن يفرق بين نصوصه، ولا أن يفكر في مسارات تشكل هذه التجربة الشعرية، بقدر ما كان ينصت لهذه التغريبة الفلسطينية التي تفضح جروح وطن. فدرويش "احن الى خبز أمي" وهو "مديح الظل العالي" هو أحمد العربي، وهو "الكمنجات"، وهو "لاعب النرد"، في النهاية يظل محمود درويش شاعرا مختلفا يأتي مع الشعر ويسافر معه في مقعد واحد. وفي كل مرة يأتي محمود درويش، يتأكد للشعر جمهوريته واستثنائه الباذخ. لقد استطاع الشاعر محمود درويش أن يوحد فرقاء القصيدة من عمودها الى التفعيلة الى قصيدة النثر. حضوة لم تكن لغيره، لكن في نفس الآن، أسهم في جعل فلسطين أبعد من قطعة تراب وجرح في القلب. بل أمكنه أن يحولها لقضية وطنية للمغاربيين جميعا. يحبه اليساري واليميني، كل يجد في محمود درويش صوتا مختلفا منه، وفي ذلك قدرة الشاعر أن يظل حاضرا في ذاكرة ووجدان قرائه ومحبيه والشعراء من كل الأطياف، مستمرا ككينونة تأبى على الانمحاء.

وفي غمرة استدعاء هذا الحضور المجازي لشاعر رسم بقصائده مفارقة هامة في تاريخ الشعرية العربية الحديثة. نتساءل فعلا ماذا قدم النقد العربي لمقاربة هذه التجربة؟ كيف استقرأ خباياها؟ وما الذي جعلها تجربة استثنائية في المشهد الشعري العربي؟

مرد هذا السؤال، وبعيدا عن خطاب التواطؤ الذي عانى منه الشاعر في حياته، وبعيدا أيضا عن لغة الخشب، والاكليشيهات الجاهزة. هي هذه العناوين المحدودة والقليلة التي تصفف عناوين المكتبات العربية. وكأن الشاعر محمود درويش خلق استثناءا في حياته، وفي مسارات تشكل تجربته الشعرية التي كانت تأبى عن النقد. وكأنها تجربة أسست مسارها وسؤال الكتابة من رحم تجربتها، ولعل ذيول وشيوع هذه التجربة في جسد النص الشعري العربي عموما على اختلاف الجغرافيات الشعرية العربية كفيل بتقديم جزء من الإجابة. هذا الإجماع الاستثنائي حول شاعر رسم طلاقة "جماهيريته" اللامحدودة، جزء آخر من هذه الإجابة. لكننا في النهاية نفترض أن راهن الخطاب النقدي المفكر في الشعر، جزء فعلي ونهائي للإجابة.. لرصد هذا التفاعل وهذا الحضور لتجربة الشاعر محمود درويش، في المشهد الثقافي المغاربي. نستقصي شهادات لكتاب مغاربيين. كما نقدم صدى هذا الحضور من خلال وثائق نعتبرها أساسية، ونخص هنا الحوارات، والتي قدمت حقائق إضافية على شاعر اسثتنائي بامتياز.. 

شهادات
وهكذا يؤكد الكاتب والصحفي الجزائري أزراج عمر أنه: "عندما توفي الناقد والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد" بكى "العرب" من المحيط إلى الخليج، وكان هذا البكاء بدافع سيكولوجي هو أن "سعيد" قد ربح الحرب الفكرية ضد جيوش المستشرفين الغربيين الكولونياليين، والمتخالفين مع الكولونيالية ذهنيا، وبشهادة اليسار الفكري الأوروبي ذاته. بعد انتهاء مراسيم العزاء، وجفت الدموع، عاد كل شيء إلى مكانه غير الطبيعي من المحيط إلى الخليج، أي إلى الصمت، وعدم  فعل أي شيء لتطوير إنجازات إدوار سعيد في النقد الثقافي، وفي نظرية الأدب، والفكر ما بعد الكولونيالي. أما في أمريكا فقد حدث العكس، إذ تم إنشاء كرسي بجامعة كولومبيا يحمل اسم "كرسي دراسات إدوارد سعيد". أما في بريطانيا، وأستراليا وجنوب إفريقيا وجامعات الولايات المتحدة، وكندا وغيرها في الغرب، فقد أدخلت كل أعمال إدوارد سعيد في المناهج والبرامج الجامعية بدءا من برامج الليسانس والماجستير، فالدكتوراه، وخاصة في مجالات الدراسات الثقافية والكولونيالية والنسوية والتاريخية والعلاقات الثقافية الدولية والدراسات الإثنية. فالغربيون لم يعتبروا رحيل إدوارد سعيد نكبة للفكر والنقد، أو نهاية لهما، بل فقد عومل هذا الرحيل بعقلانية وبعيدا عن تقليد المراثي، وندب الوجوه. وهكذا أصبحت أعمال إدوارد سعيد مزرعة للغرس، وتجديد الشتلات، ومنطلقا للتجاوز، والإضافات. هكذا كان الموقف مع برتراند راسل، وفيتغنشين، وفوكو، ودريدا ورونيه شار، وبابلو نيرودا، وت.س. إيليوت وآخرين.

و إثر وفاة محمودة درويش الشاعر الموهوب، والحقيقي، والذكي، عاد إلينا تقليد الندب والمراثي، وهو التقليد الذي تعودنا عليه عند وفاة جمال عبد الناصر، وهواري بومدين.. إلخ. منذ وفاة ناصر، وبومدين لا أحد قام بتأسيس مركز أو كراسي جامعية لدراسات أفكار، ومشاريع هذين الرجلين. وبالعكس، فإن الآلة السياسية الانقلابية لعبت ولا تزال تلعب أدوارا في طمس كل ما يتصل بهما بحجة العودة إلى الصفر فضيلة. محمود درويش نفسه كتب بعد وفاة عبد الناصر بقليل قصيدة يخاطبه هكذا: "نعيش معك، نسير معك، وحين تموت نحاول أن لا نموت معك". بمعنى، فإنه وقف ضد عادات الندب، والتماهي المرَضي مع المفقود والفقدان. وهنا أستغرب كثيرا ما صدر عن بعض الإعلاميين، والأدباء بأن رحيل درويش هو نهاية للشعر، وللشعر العربي معا. فالأمة الفرنسية لم تضع نهاية للشعر الفرنسي عند وفاة بودلير، وملارميه، وفكتور هيغو. كما أن الأمة الإيطالية لم تصدر بيانا شعبيا أو حكوميا بوفاة الشعر الإيطالي بعد وفاة الشاعر فيرجيل. إن العقلية الغربية تؤمن بتواصل الزمن والإبداع والفكر، أما القبيلة العربية فلا تشارك الغرب في هذا التواصل والإيمان والعمل به. فالقبيلة العربية بقدر ما تتشبث بالزعيم الأوحد والرأي الواحد، فإنها تعتبر الشعر بطولة فردية وليس ترجمة وتأكيدا للوعي الجماعي، أو الحلم الجماعي للشعب، فالحلم الجماعي له أكثر من شاعر وأديب وموسيقي ونحات ومعماري وفيلسوف إن المشكلة الكبرى في الثقافة العربية تتمثل على نحو مركزي في إفناء الجماعة في الفرد على طريقة المقابر الجماعية للسياسة والناس والشعر أيضا. أما المشكلة الثانية على صعيد الشعر مرة أخرى في الحياة العربية، فتتمثل في تفويض الشعر أن يكون ناطقا باسم الإمارة، أو القبيلة، أو الحزب، أو الحكومة، وليس ظاهرة شخصية تحاول أن تجد المعادل الثقافي لروح الجماعة التي تتحول في التاريخ وتحول التاريخ أيضا. إن درويش قد اعترف قائلا: "كان لديّ صديق لا أريد أن أسميه، كان قد أصيب بحالة جفاف شعري، ولما استشهد أحد أصدقائنا، قال: ربنا  رزقني بقصيدة!". ألا ينطبق هذا على الذين جفّوا شعريا ورزقهم الله بقصيدة إثر وفاة درويش. وعلى أولئك الذين أخذوا عطلة طويلة بعيدا عن النقد، ثم عادوا سريعا وراحوا يقدمون المواساة للشعر الذي عزلوه وحيدا تحت الإقامة الجبرية!..

أما الكاتب التونسي عبد الدائم السلامي، فيشير "ظلّ محمود درويش عصيًّا عن مجال الفعل السياسيّ وأحابيلِه رغم انخراطه الطوعيّ فى الممارسة السياسيّة منذ صغره، ذلك أنّه يرى فى السياسة ملعَبًا مُسيَّجًا بالأشواكِ تتبارى فيه المناوراتُ ولا تتركُ منفَذًا لدخول ضوءِ المعنى الحياتيِّ الحقيقيّ، لا بل يراها مهنةَ الفارغين من أوقاتِهم، فاعتزلَها، وبنى لروحه أفقًا جيِّدًا جديدًا تمتزج فيه عناصر الأرضِ بأحلام السماء، أو هى تتزيَّا بها أحلامًا فنشيدًا فأنغامًا لها فعلُ الخمرةِ ولها فعلُ اليقينِ ولها فعل العواصِفِ فى هدوءِ الواقع وروتينيتِه ومواتِه، فيصرخ فى اللغة... رحلَ محمود درويش، ولم ترحل قصائدُه، كَمْ تمنّى أن يكتُبَ ما كتب المتنبّى"على قَلَقٍ كأنَّ الرِّيحَ تحتي..."كم تمنّى أن يكون شاعِرًا، وكان شاعِرًا، لا تقتصرُ قصائده على معاينةِ الواقع العربيّ وتعرية المسكوتِ عنه باللغة، بأرقى مفردات اللغة، بل ترقى تنفذُ إلى جوهر الإنسان، فيتشرَّبها الكونُ صلاةً للغائبين عن معانيهم الصغرى: معانى الطفولة، و "بين ريتا وعيونى بندقيّة" ومعانى التهجير والبحث عن الهُويّة فى زمنٍ أعمى لا يُجيدُ سوى التعتيمِ عن صبايا الأفكارِ وتلوينِها بما يتساوقُ وهجمة الهمجيّة التقنيةِ الشرسةِ..."

الباحث زهير الخويلدي يقر فيما يشبه الاستباق "كان الشاعر محمود درويش ما سوف يكون"، مؤكدا: "كتب الناقد توفيق بكار" عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رحل يوم 09-08-2008 عن سن تناهز السبع والستين ما يلي: "اسمان في الشعر مترادفان درويش وفلسطين وصورتان توأمان من حقيقة واحدة ان حدثك عن نفسه فعن أرضه يحكي وان قصها لك فقصته يروي أولها العشق وللعشق كان في التيه الموت والفداء ومع كل شهيد تنبعث الحياة من الدماء ويتجدد الهوى". ولم يترك لنا هول الفاجعة وحجم المصيبة الوقت الكافي والتركيز الضروري لتقييم سيرة ذاتية مليئة بالكفاح والتحزب والتمرد والهجرة والانشداد إلى الأصول والتعلق بأرض المولد والحافلة بالشعر والسياسة والنقد والمداهمة بالمؤامرات والمكائد والتراجعات والاستقالات مثل سيرة ابن مدينة عكا شاعر فلسطين الأبرز وحامل هم القضية لأكثر من أربعين سنة بين دفاتر أشعاره ولكن حبنا الكبير له واحترامنا وتقديرنا لما أثثه من جدل داخل الفضاءات الثقافية العربية ولما حفزه من همم وسواعد يجعلنا نقبل على التعزية والتعبير عن الحزن والأسى لفقدان العرب هذا الهرم الشعري دون تردد. ارتبط اسم درويش بأسماء شعراء فلسطينيين كبار مثل معين بسيسو وسميح القاسم وأحمد مطر وبالمطرب اللبناني الملتزم مارسيل خليفة الذي حول جزء كبير من قصائده إلى ألحان وأغاني رائعة وتمركزت تجربته الشعرية حول مجلة الكرمل التي تخصصت في شعر المقاومة والأدب الملتزم ولعل. أول ما نتذكر من درويش عروبته وآخر ما يتكلم فيه قبل أن يسلم نفسه إلى المنام هي عروبته وآيتنا في ذلك نصه بطاقة هوية الذي سجل فيه سجيته ودون بواسطته ثورته.. ما خطب درويش يرحل في عز النهار دون أن يستأذن ودون أن يترك وصيته، ما دره يستسلم للمرض وهو الذي قهر الحصار وتغلب على العار وضرب في الكون شرقا وغربا وينتصر على الروح الثقيل، ما باله يغادر أسطورة قداسه ويدفن قلمه وكراسه،ألم تسرق منه لحظة الميلاد كما حدثنا في بطاقة هويته ولبس ثوب العيش دون أن يستشر في قصيدته جواز السفر فلماذا يسرق هو مرة ثانية ويخطفها التيار الهابط نحو الليس ويطبق عليه الدهر حد الغياب، ربما يكون الوجود هو الذي صرف عنه منحة العمر وعجل بنفائسه إلى خارج هذه الزمانية الرديئة. هوية درويش العربية وانتمائه للشرق لا يتناقض مع إيمانه بالحداثة والقيم الكونية الإنسانية فهو فلسطيني إلى حد النخاع ولكنه أممي يؤمن بالطبقة العاملة والطفل والمرأة والكائن الحي دون تمييز.. سوف يظل درويش نبي الرفض الأكبر وفلاح الكتابة الأرضية بامتياز وزارع الليلك والأقحوان في قلوب المدافعين عن العرض.. ألم يقولوا عنه انه شيوعي يساري وما قدروا أن ينكسوا أعلام قضيته الفلسطينية التي تزوجها والرايات الثورية التي رفعها عاليا من خلال القصائد وما استطاعوا أن يفصلوه عن محيطه العربي ويشككوا في هواه الشرقي وحب المتدينين البسطاء له ولأشعاره. أليس هو الذي أرخ للحياة داخل المخيمات وتحدث عن هوية الإنسان عندما تنحدر إلى مرتبة لاجئ، أليس هو الذي أرشف حصار بيروت يوم غطت ركام السحب الرمادية سماءها وسدت جحافل الغربان شرايينها وعروقها ومنعت الدماء من التدفق فيها، أليس هو الذي حلم بالدولة للفلسطيني ورفع غصن الزيتون تعبيرا عن تعانق الحق مع الحكمة والسلام مع العدل والمحبة مع الإنسان. إنه شاعر البلاد والعباد ومطرب الأشجار والأحجار.. ذلك هو محمود درويش عصفور يناجي حبيبة يراها ولكن لا يستطيع يضمها إلى صدره، ذلك هو سرحان وأحمد الزعتر وعويس وكل الشخوص التي تزن رفوف أبياته عاشق من فلسطين وشاعر على الدوام ومدافع عن عروبته وقضيته باستمرار ومحب للإنسانية في كل مكان وباحثا عن معنى في كل كتاب، "ذلك هو الشاعر الفلسطيني المنتج المبهج الناقد المرتجل المحاضر ملك الإلقاء وسيد الشاشة وعريس المسرح عملاق على الدوام. نصيحة لمحبيه وقرائه لا تقولوا عنه كان بل قولوا سوف يكون..."

الشاعر المغربي ياسين عدنان يستعيد الشاعر محمود درويش بموازاة فوزه بجائزة الأركانة الشعرية: "محمود درويش" "أركانة الشعر" التي لن تموت: وأخيراً عادت جائزة «الأركانة» لمحمود درويش. هنيئا لها إذن. هنيئا لهذه الشجرة النادرة التي لا تنبت إلا في المغرب بطائر حُر اسمه محمود درويش. فدرويش من طينة المبدعين الذين تُهنَّأ بهم الجوائز قبل أن يهنّؤوا عليها. وثلة الشعراء والنقاد المغاربة الذين تحلقوا حول محمد الأشعري قبل أسابيع بفاس ليحسموا في مصير الجائزة العالمية لبيت الشعر المغربي في دورتها الثالثة كانوا فعلاً وهم يتهامسون فيما بينهم باسم درويش، يرتَقون بهذه الجائزة إلى أعالي الكلام، هناك حيثُ الشعر في بُعْده الجمالي العميق يعكس ملامح الوجهِ الآخر للمقاومة. فبعد الشاعر الصيني بي ضاو، والرائد المغربي محمد السرغيني، يحظى محمود درويش بالأركانة في طبعتها الثالثة.

تقرير لجنة التحكيم الذي وقَّعه الأشعري ورفاقه (الشعراء المهدي أخريف، حسن نجمي، رشيد المومني، والناقدان عبد الرحمان طنكول وخالد بلقاسم) اعتبرَ درويش «لحظةً مضيئة في تاريخ الشعر الإنساني» إذ «لم يكفَّ، منذ أن وعى بأن الشعر مصيري، عن البحث عن القصيدة في الألم والفرح، في الحياة والموت، في الورد والشوك، في الكلي والجزئي، من غير أن يُفرِّط في شهوة الإيقاع، أي في الماء السري للقصيدة». وأضاف التقرير أن درويش «رسَّخ، ولا يزال، القيم الخالدة، مؤكداً في مُنجزه الكتابي وعبره، أن المادة الرئيسية لهذا الترسيخ لغةٌ لا تتنازل عن جماليتها وبهائها، ولا تتنكر لدمها الخاص.

محمود درويش، الشاعر الملحمي الذي لم يكفَّ منذ الجداريات عن مُنازلة نفسه داخل الفضاء التراجيدي الذي ارتضاه منذ شهْقتِه الشعرية الأولى، كان سعيداً بالجائزة. هذا على الأقل ما أكده لصديق مغربي اتصل به مهنئاً فور إعلان فوزه بها. والمؤكد أن الكثيرين كانوا بانتظار محمود درويش في مسرح محمد الخامس بالرباط يوم 24 أكتوبر القادم، حيث كان من المفترض أن تجري وقائع حفل تسليم درع الأركانة للشاعر الكبير، وحيث كان من المتوقع أيضاً أن يعانق صاحب (سرير الغريبة) جمهوراً صديقاً جمعته به ألفة خاصة. فمسرح محمد الخامس كان إحدى الفضاءات الأثيرة لدى الشاعر الفلسطيني الراحل. هناك اعتاد أن يقرأ شعره كلما زار المغرب. أي منذ (غضبٌ فمي)، (لابدَّ أن أرفض الموت) وغيرها من (وعود العاصفة)، حتى قصائد دواوينه الأخيرة التي صار فيها درويش أكثر إصغاءً إلى الحياة وانشغالاً بالبحث في أشكال الكتابة. في مسرح محمد الخامس قرأ درويش لشباب اليسار الجديد الذي لم يكن يرضى عن الثورة الوطنية الديمقراطية بديلاً. ثم قرأ أمام أبنائهم وقد كبروا وصاروا طلبة في معاهد المسرح والسينما والتشكيل وكليات الطب والصيدلة، وأمام الآباء أيضاً وقد صاروا يجلسون أمامه مباشرة في الصفوف الأولى بربطات عنق وبذل تليق بمسؤولياتهم الجديدة. الصداقة ضاربة في العمق إذن وكل طرف ظل يراقب تحوُّلات الآخر. ومسرح العاصمة العريق كان يتحفز لاستعادة عنفوانه بضمِّه نفس الوجوه القديمة إلى أخرى جديدة مادام الضيف المنتظر هو درويش.

في بداية التسعينات، وبعد يوم نضالي ساخن، أوقفنا معركتنا داخل كلية العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم خرجنا في ما يشبه المظاهرة مشياً على الأقدام باتجاه المسرح. كان درويش سيقرأ تلك الليلة. واعتبرنا حضور أمسيته ومُقاطعَته من حين لآخر بالشعارات تتويجاً مستحقاً ليومنا النضالي الحافل. لكننا وجدنا الباب شبه مغلق. أخبرَنا الحراس أن الدخول بالدعوات ثم إن قاعة مسرح محمد الخامس مكتظة عن آخرها. أُسقط في يد الرفاق. الشرطة تطوّق المكان. ونحن منهكون بسبب معركة كلية العلوم وقطع كل هذه المسافة سيراً على الأقدام. الرفاق حائرون. بدأنا نقلب الأمر على كافة أوجُهه. في تلك اللحظة ظهر درويش. كان قادماً للتوّ من فندق حسان القريب محفوفاً بشخصيات ثقافية وسياسية بارزة. حينها صرخ في وجهه أحد الرفاق: « نحن ممنوعون من الدخول يا درويش، لكننا سنحضر أمسيتك غصباً عن الجميع». فغمغم الشاعر الراحل مرتبكاً: «من حقكم الدخول. لكن باللين وبدون فوضى». أجابه رفيقنا الغاضب: «بل غصْباً وفوضى ورغم أنف الجميع. ألستَ القائل: حريتي فوضاي؟» هنا نظر إليه درويش بارتباكٍ داراهُ بابتسامة متضامنة وانسلَّ إلى الداخل. بدأ بعض الرفاق يرددون الشعارات في الخلف. ثم اشتدت حرارة المشهد. رجال الشرطة يتأهبون. نحن نسينا الشعر وانخرطنا في ترديد الشعارات مفكرين في مواجهة البوليس. في تلك اللحظة، جاء موظف ثخين يركض نحونا. صرخ في وجه الحراس: «افتحوا الأبواب فوراً ليدخل الجميع». فدخلنا وطبعاً أغْنَينا الأمسية بما جادت به القريحة من شعارات غاضبة. غضبٌ يدي. غضبٌ فمي. ودماء أوردتي عصيرٌ من غضب.

عزيزي محمود درويش، كنتُ سأحضر أمسية 24 أكتوبر. كنت سأصغي إلى قصيدتك الجديدة كالعادة بحبّ وتعلم وتقدير. كنت سأحتمي بشعرك من شعاراتٍ كثيراً ما خذلتنا وهي تبدِّل جلدها في منتصف الطريق. لكنك لن تأتي إلى الرباط. لن تقرأ قصيدتك. ولهذا السبب بالضبط، كل شجر الأركان في المغرب يبدو حزيناً. أهو الحدادُ إذن؟. أيها الشاعر الكبير، الأركانة على الأقل استحقتك. وتستحق أن نهنئها بك. فقد نجحتْ فيما فشلت فيه نوبل. ثم إنك أيها الشاعر كنت على الدوام أكبر من كلّ الجوائز، أعلى هامة وأكثر سموقاً.."

الشاعر حسن نجمي: محمود درويش: قصة حب مغربية

(رئيس بيت الشعر في المغرب)

لقد فجعنا فجيعة قاسية لرحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش، صديق المغرب الثقافي، صديق القصيدة المغربية الحديثة وصديقنا الشخصي. قد لا أكون في حاجة الى التذكير بالمكانة الشعرية والرمزية لمحمود، فالجميع من قرائه وجمهوره الواسع يدركون و يلمسون هذه المكانةالرفيعة التي ظل يتبوؤها الراحل الكبير؛ ذلك لأنه استطاع بفضل شعره ووعيه الفني وذكائه الجمالي أولا، وكذا بفضل التزامه الوطني كمناضل وكمعبر عن روح وعمق القضية الفلسطينية، استطاع أن يحفر لنفسه هذا الموقع المتقدم في خريطة الشعر العربي المعاصر بل وأن تكون له هذه الحظوة في الشعرية الانسانية الحديثة فأصبح يعد من كبار شعراء العالم الى جانب أسماء شعرية بارزة أمثال فيديريكو غارسيا لوركا، رفاييل ألبيرتي، بابلو نيرودا، يانيس ريتسوس وآخرين فضلا عن كبار شعراء العربية الحديثة الذين كان يشكل واسطة العقد بينهم من أمثال شعرائنا الكبار أدونيس، سعدي يوسف، نزار قباني، محمد الماغوط، ممدوح عدوان، محمد عفيفي مطر، سركون بولص، أحمد المجاطي، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال وغيرهم.

تعرفت على محمود درويش في مارس 1983 بمكناس، ثم كان اللقاء الثاني سنة 86 عندما أحيى أمسية شعرية في ذكرى استشهاد المناضل عمر بنجلون، وبعدها تعددت لقاءاتنا الأخوية في المغرب أو في باريس. وإلى جانب صداقاتنا، كنت أعتز دائما بصداقته مع المغرب الثقافي والشعري، وبحرصه الدائم على الاستجابة لرغباتنا سواء في اتحاد كتاب المغرب أو في بيت الشعر في المغرب. لم يرفض لنا طلبا، ولم يعترض على مقترح. ولذلك آثرنا أن ننظم احتفالية تكريمية له سنة 2000 في الرباط دعونا اليها، ثلة من أصدقائه الشعراء و النقاد العرب. وكان جميلا أن يتوج هذا الحدث التكريمي للمرحوم محمود درويش بالتفاتة رمزية وازنة حين دعاه جلالة الملك محمد السادس الى القصر الملكي بالرباط ومنحه وسام الكفاءة الفكرية، أرفع وسام وطني في المغرب يمكن أن يحصل عليه رجل فكر أو إبداع. وتمتد علاقة محمود بالمغرب الثقافي لحوالي أربعة عقود، إذ جاء الى المغرب لأول مرة في بداية السبعينيات من القرن العشرين و ظل يتردد على المغرب دون انقطاع، وكان آخر لقاء شعري له في الرباط في فبراير 2007 على هامش المعرض الدولي للكتاب. كما كان منتظرا أن يزورنا يوم الجمعة 24 أكتوبر المقبل ليتسلم جائزة الارانة للشعر العالمي التي يمنحها بيت الشعر في المغرب، بدعم وشراكة مع مؤسسة الرعاية لصندوق الايداع والتدبير وكان سيحيي أمسية شعرية جديدة له في نفس اليوم في المسرح الوطني محمد الخامس. وكنا نضع أيدينا على قلوبنا مخافة أن لا يأتي، مخافة أن يتوقف قلب الشاعر أو يصاب بشلل إذا ما أجريت العملية الجراحية المتوقعة. ومثلما أبهجه خبر فوزه بهذه الجائزة بقدر ما كان يعاني من الام مضاعفة أصبح الامل ضئيلا جدا أمامه لكي يتخطاها. وها قد ذهب الى مدينة هوستن بولاية تيكساس الأمريكية بحثا عن ذلك الأمل الصغير الذي تبقى له فخاب الأمل وكانت خيبتنا الكبيرة جميعا ـ نحن اللذين احببناه وصادقناه وواكبنا خطواته واقتفينا أثر قصيدته كلما تحركت وتفاعل دبيبها.

سنفقد برحيل محمود درويش علما شعريا شامخا، و اسما مرجعيا مؤثرا في سيرورة القصيدة العربية الحديثة، وأحد أصدقاء المغرب الكبار. فعسى أن نعثر في قصيدته وفي ثراته الأدبي والانساني على بعض العزاء. وبالمناسبة، فإنني آمل من اخوتي الشعراء والكتاب في فلسطين، في بيت الشعر الفلسطيني وفي الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين وكذا في وزارة الثقافة وعلى مستوى الرئاسة الفلسطينية أن يوفروا لرفاة الشاعر الكبير مكانا جديرا باسمه داخل التراب الوطني المحرر (في رام الله مثلا) حتى لا يعبث الكيان الصهيوني بقبره كما عبثوا بقريته «البروة» فمحوها من الخريطة، وأن يتم التفكير في الآجال القريبة المعقولة بتأسيس مؤسسة ثقافية باسم الشاعر الكبير محمود درويش تصون كل ثراته الادبي والشعري وتحافظ على حقوق ذويه الفكرية والادبية وتجمع كل مخطوطاته وممتلكاته الشخصية الصغيرة والأوسمة والدروع والجوائز التي فاز بها في حياته ومخطوطاته المختلفة كي توضع في متحف يليق باسمه وبمكانته وبدوره الريادي كشاعر و كمناضل رفع سقف القصيدة العربية عاليا واسهم بحظ وافر في توطين القضية الفلسطسنية في الوعي والوجدان العربيين والانسانيين. تعازينا الحارة الصادقة الى السيدة حورية والدة محمود درويش وشقيقاته وأشقائه بفلسطين المحتلة، والى أصدقائه الشعراء والكتاب الفلسطينيين والعرب. وكل التعازي الى الشعراء والمثقفين والقراء المغاربة الذين أحبوا هذا الهرم الشعري وتفاعلوا معه فقرؤوه بحب واستشهدوا بشعره وكلامه في رسائل حبهم وفي خطابهم اليومي. ورحم الله الشاعر محمود درويش الاخ والصديق العزيز والمعلم الكبير. المجد والخلود لروحه. وإنا لله وإنا إليه راجعون... 

الكاتب حسن الحداد: لا تقتلوا الشاعر مرتين

إنه الغياب الذي تغنى به الشاعر محمود درويش يوما، بعد أول عملية جراحية أجريت له على القلب، إنه الرحيل بعد الاستسلام لأنامل أطباء شيكاغو، الغياب هنا ليس نقيض الحضور بمعناه الفلسفي، إنه اختفاء جسد فقدناه كما فقده عشاق الحب والسلام في فلسطين والوطن العربي والعالم، الفقدان هنا ليس غيابا، لأن الغياب عدم، ودرويش لن يغيب يوما وأبدا عن شجرة الإبداع العظيمة، التي ستحتفظ له دوما بغصن الخلود إلى جانب عظماء الشعر في هذا العالم عبر التاريخ. رحيل الشاعر محمود درويش ليس غيابا، إنه حضور الشعر وغياب الجسد.

لن يغيب الشاعر الذي خاطب في العدو قبحه وإيمانه بالعرق النقي والإلغاء، خاطبه لعله يكف عن النظر إلى المرآة التي لا يرى فيها إلا نفسه، لأن انكسار نظرته في المرآة خطوة نحو الشبيه، والشبيه ليس مثيلا، الشبيه آخر. لن يغيب سيد الشعر، لأن الشعر ماء صحرائنا العربية، ولولا وصال الماء ما صارت الصحراء حجرا، وما صارت أقواس الأبواب والنوافذ محاكاة لكوريغرافيا الكثبان الرملية. لن يغيب ابن الأرض الذي انبجس من أعماقها وردة وانطفأ، فالخصوبة لا تخجل من انطفاء الورد، لأن الخصوبة أصل اللذة، واللذة انطفاء وانبعاث، اللذة فينيق. لن يغيب سيد الشعر الذي سما بالقضية الفلسطينية إلى الكونية، معانقا أحلام الإنسان، محدثا ثقبا في الدائرة، غازيا المركز بالكلمة، ليصير حلم الفلسطيني أفقا لكل المهمشين في هذا العالم. لن يغيب سيد الشعر الذي كان يرشق دوما ستار المركز بالورد وضفائر الشمس الذهبية، عله يزيله، لأنه بإزالة الستار عن الخارج تحمر وجنتا الداخل خجلا من أوهامه، الستار أكذوبة المركز. لن يغيب سيد الشعر، ولو حاصرته بعض القنوات الإعلامية العربية في الدائرة بقولها: "وداعا شاعر المقاومة الفلسطينية" ونسيت بأن شعره سما بهذه المقاومة متجاوزا الدائرة الضيقة إلى مقاومة حراس العقم، ونشدان الحرية، والانتصار للإنسان في كل زمان ومكان، وبحصارها هذا حاولت قتل الشاعرمرتين لأنه في أوج الهزيمة يشتد الرقص حول الدائرة.

لن يغيب سيد الشعر الذي كان نصيبه مواجهة التهجير من قريته وهو صبيا، ثم مقاومة حصار بيروت، ومراودة الكلمة المأسورة بين كليشيهات اليومي ووجع القلب، لأن مصير الشاعر وفراشة الليل الرقص حول الكارثة. لن يغيب سيد الشعر الذي رفض حقيبة وزارة الثقافة مطالبا فقط بالعودة إلى الوطن، لأن تاريخ الإنسانية لم يحتفظ لنا بأحد يمقت السلطة إلا اثنين: المجنون وزوجة الديكتاتور. لن يغيب سيد الشعر، بل تسلل في غفلة، هروبا من نبضات قلب على  إيقاع التقنية، كما تسلل جيل دولوز ذات ليلة عبر قفزة من الطابق الخامس بحثا عن نفَس لرئتيه، إنها رحلة مبدعين هروبا من حياة ربما ستستعصي فيها الكتابة، هروبا من بياض بلا سواد، من نهار بلا ليل،  لأن الليل رمز الحبر، وليل المبدع ليلان: تيه الحقيقة وقناعها. 

وثائق

في حوار مع الخبر الجزائرية، يؤكد الشاعر محمود درويش في إحدى إشراقاته: حرية الرواية وسجن القصيدة

ـ "في الرواية يمكن توظيف كل الأجناس الأدبية، كما أنها وعاء أدبي يتسع لكل أنواع المعارف الإنسانية.. نحن نتحدث اليوم عن أزمة شعر، لكن الحديث عن أزمة رواية غير ممكن، لأن هذه الأخيرة شكل من النص المفتوح وغير المقيد بالضوابط التي تسجن القصيدة. لهذا فإنني أعتبر كل إنسان فوق هذه الأرض روائيا، لأن الإنسان عندما يحكي حياته هو يكتب رواية، فتصوروا كم مليار رواية يحتويها هذا العالم!".

"سجّل أنا عربي" وأخواتها
ـ "أعترف أنني مدين لقصيدة "سجّل أنا عربي"، التي ساعدتني على الانتشار في البدايات، وتحولت القصيدة إلى بطاقة هويتي الشعرية. لكن السكنى الدائمة في بطاقة الهوية هذه جعلتني من جهة أخرى أنفتح على تجارب عدة، ودفعتني إلى البحث عن أساليب شعرية جديدة ولم تكن سببا في الوقوع في أزمة إبداعية.. هذه القصيدة كتبتها في سن مبكرة والناس يعرفونني بها لكنني تمردت عليها، وأردت أن يعرفني الناس بأخواتها".

العودة إلى الوطن أجمل
ـ "المنفي، انفصال عن فضاء مرجعي، وهو ألم لا يمكن التخلص منه إلا بالعودة.. المنفي يحمل في ذاكرته كل صور تكوينه الأولى، الطبيعة والروائح والنساء، لكنه يكتشف بعد العودة أن الوطن هو بالضرورة أجمل من المنفى"

حاشية على باب النشيد
ترجل الشاعر محمود درويش من على منصة سفره الشعري ليرقد هناك، يطل على القدس السليبة. حمل أوجاع الشاعر والقضية وسكن الى الأبدية، يرتل هزائمنا في الغياب. ترجل الشاعر بعدما طلب منا أن لا نصدق "فراشاتنا"..وعاش على آمل أن ثمة "مايستحق الحياة على هذه الأرض"..  انسل منا فجأة، وكأننا كنا سفرا لاينتهي. نحن الذين انتظرنا فقط، أن تعد له "الأرض كي يستريح".. الأرض التي أحبها حتى التعب.

رحل محمود درويش وحمل معه خيباتنا التي لا تنتهي، في الحياة، وفي الشعر، وفي الجغرافيا. "غيتوهات" معزولة، تعري كما تعودنا شكل خساراتنا، وبداهة الغياب. هناك، حيث نلتقي. أما في مملكة الشعراء، فلا شيء تماما تغير، تظل قصائد درويش تنسج حضورها الأبدي في مضمر النصوص، ولا شيء يحرك جغرافيا الشعر. حتى صمت "سليم بركات" دفنه في متاهات السرد، حيث كينونة الأشياء، وأحيانا الفراغ.

ترجل الفلسطيني كعادته، الموسوم بـ "حسه التراجيدي" من أعلى منصة "تشاؤله". انقطعت شرايين تدفق الهواء، صفف شعره بيده وكتب وصيته الأخيرة.. نعي نفسه بنفسه. لاحاجة لرثاء الشعراء. وترك خصومات الساسة وفرقاء البحث عن الحرية وعن فلسطين، كما تركهم منشغلين بديباجة مزيدا من الخسارات، وكأن "الوطن" لا يحتمل.

انتهى الشاعر محمود درويش حيث ينتهي الفلسطيني في أوجاعه المرة، الشهادة أو الغياب.

أما نحن، فبقينا أوفياء لدورنا الأبدي:

"الكورال" التقليدي القديم، نصفف ضفائر هزائمنا، ونصفق لمن يبحث عن إيقاع المسير..كما كنا ولا زلنا، خارج جداريتك البهية يا محمود..

فقط ستذكرك ما تركته خلفك امتداد وصيرورة: "30 ديوانا شعريا ونثريا، وثمانية كتب، وترجمة شعرك إلى عشرين لغة، كما حزت عدة جوائز منها اللوتس عام 1969، جائزة البحر المتوسط عام 1980، درع الثورة الفلسطينية عام 1981، لوحة أوروبا للشعر عام 1981، جائزة ابن سينا السوفيتية عام 1982، جائزة لينين 1983، جائزة الأمير كلاوس الهولندية عام 2004، وجائزة سلطان العويس مناصفة مع الشاعر أدونيس في نفس العام...".