من الغنائية إلى الملحمية ومن المحلية إلى العالمية

خليل الموسى

 

إنَّ الكتابة عن شاعر بحجم محمود درويش في مدة وجيزة جداً مغامرة غير محمودة العواقب، فهي تحتاج إلى تخطيط طويل بعد اطلاع مديد وتأمل بصير وتنفيذ متأنٍّ، ولكنَّ الأمر لا يحتمل التأجيل في مثل هذه المناسبة الأليمة، ثمَّ إن الشاعر الحقيقي نادر في كلّ الأزمنة، وهو كالشهيد لا يموت، ولننظر إلى صدى الصوت الدرويشيّ في معظم الشعر الجديد الذي ينظمه شعراء من فلسطين وسورية والأردن والعراق ومصر.. ولذلك نرثي لهؤلاء الشعراء اليتامى الذين كانوا ينتظرون هذا الصوت الأصيل لينظموا على صداه قصائدهم، وقد ذهب معينهم وأصبحوا بلا أب حقيقي، وستمرّ عليهم الصباحات من دون أن يصيح الديك، ولا أظنُّ أنّ صوتاً آخر قادر على أن يحلّ محلّ هذا الصوت في قريب الزمان، ولا أفضح سراً إذا قلت إنَّ لصوت درويش بصمات واضحة في أعمال لشعراء تجاوزت تجربتهم الثلاثين عاماً، ولكل منهم ما يزيد على عشر مجموعات شعرية يتباهى بها وكأنَّها له.‏

وصحيح أن الشعر ديوان العرب، ولكنّه تراجع في الأزمنة الأخيرة حين صار بقدرة كلّ عابر طريق أن يدعي بكلّ فصاحة بأنّه شاعر، وصارت الفضائيات الهابطة تُسَمِّي عازف الربابة وقارع الطبل شاعراً بالفطرة، ولا يقتصر الأمر على إمارات الشعر وأمير الشعراء، وإنما صار كلّ من أطال لحيته أو شعره قادراً على أن يطرق باب عبقر بدلاً من أن يطرق باباً آخر.. ولكنَّك اليوم إزاء حالة أخرى ومناخ آخر يصحّ فيه ما ذهب إليه جان كوهين في مقولته: «على الشعر أن يظلّ سلطاناً أو يتنحّى»، وإذا كنتَ قبل اليوم لم تخصص مساحة كافية لدرويش بسبب الطحالب التي تتغذَّى على شعره من جهة، وبسبب أنّ الدخول إلى حرم الشعر الحقيقي يحتاج إلى طقوس قاسية من جهة أخرى، فإنَّك اليوم مضطر إلى الذهاب إلى الينابيع، وهذا يحتاج إلى جهود عظيمة، لأن الشربَ من الينابيع يختلف عن ارتياد السواقي.. في حضرة درويش أنتَ إزاء شاعر حقيقي أكمل عدّته وسلَّم أوراقه، ومضى أخيراً بعد أن أخلص لجمهورية الشعر ومملكته وملكوته.‏

نستطيع أن نقول بادئ ذي بدء إنَّ شعر محمود درويش مرَّ بمرحلتين طويلتين عزف فيهما لفلسطين وحدها، ولكنَّ عزفه تغيَّر في المرحلة الثانية مع أنَّ الصوت الأصيل لا يتغيّر، ومع أنَّ التداخل واضح بين المرحلتين.‏

كان محمود درويش في المرحلة الأولى شاعر الأرض المحتلة بلا استثناء، كان يتنافس مع زملائه، ولكنَّ صوته ـ منذ البداية ـ كان مختلفاً عن أصواتهم، ففيه نبرة غنائية صافية درجتها أعلى مما عند سواه وأوضح.. لم يكن أكثر التزاماً بالقضية، ولكنَّه كان أكثر شاعرية، ففيه شيء غير قليل من التوهّج، وفيه وعد صادق بولادة شاعر مختلف.. لم يتكئ على القضية بقدر ما غنَّى لها غناء تراجيديا، فخرج في وقت مبكر إلى القارئ في المجموعة الشعرية الأولى «أوراق الزيتون» 1964 كالبطل الملحمي الأسطوري مندفعاً إلى تحدّي جبروت العدو الذي لا يُقهر في مقطوعته «ولاء»، وهو يحمل صوت الفلسطيني الثائر:‏

حملْتُ صوتَك في قلبي وأوردتي ‏
فما عليكَ إذا فارقتَ معركتي‏
أطعمْتُ للريحِ أبياتي وزخرفها‏
إن لم تكن كسيوف النار. قافيتي!‏
آمنتُ بالحرفِ.. إمَّا ميِّتاً عَدَماً‏
أو ناصباً لعدوِّي حبلَ مشنقةِ‏
آمنتُ بالحرفِ ناراً.. لا يضيرُ إذا‏
كنتُ الرمادَ أنا.. أو كان طاغيتي!‏
فإن سقطْتُ وكفِّي رافعٌ علمي‏
سَيَكْتُبُ النَّاسُ فوقَ القبرِ: «لم يَمُتِ» (1/ 9)‏

لا نجد في هذا التحدّي رائحة الكراهية للآخر، ولكنَّه يذكّر هذا الآخر بالمناضلين الذين يدافعون عن حقوقهم، فيدفعون ثمن ذلك حرياتهم الشخصية، ويتعرّضون لأقسى أنواع التعذيب في السجون، ومن هنا هو يقف إلى جانب المظلومين، ويعدهم بالنصر القريب والفرج العاجل بتفاؤلية واضحة:‏

يا داميَ العينين والكفّين! إنَّ الليلَ زائلْ‏
لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ ولا زَرَدُ السَّلاسِلْ!‏
نيرونُ ماتَ، ولم تمتْ روما.. بعينيها تُقاتِلْ!‏
وحبوبُ سنبلةٍ تموتُ ستملأ الوادي سنابلْ..! (1/ 13)‏

وبما أنَّ درويش ـ ككلّ شعراء مرحلة ما قبل حزيران ـ كان ضمير الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، وكان مؤمناً بقدرة هذا الشعب المطارد والمشتّت أن ينهض من عمق المأساة ليستردّ حقوقه، وتعود إليه أرضه ودياره، فقد تعلَّم من التاريخ أنَّ الطبقات الشعبية هي صاحبة الحقّ الأول وهي المعنية بخطابه، ولذلك اتجه إليها بشفافية عالية، وكأنَّه كان يدرك أنَّ للشعر رسالة تغييرية، والشعر سلاح فعّال في معركة الوجود، فقال:‏

قصائدُنا، بلا لَوْنٍ‏
بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!‏
إذا لم تحملِ المصباحَ من بيتٍ إلى بيتِ!‏
وإنْ لم يفهمِ «الْبُسَطَا» معانيها‏
فَأَوْلى أنْ نُذَرِّيها‏
ونَخْلُدُ نحنُ للصَّمْتِ!! (1/ 54)‏

والملاحظ على شعر درويش ـ وهو اليساريّ الملتزم في هذه المرحلة من شبابه ـ أنَّه في صراعه مع الآخر لا يتعرَّض له بالعداوة، ولكنَّه يبحث عن حقّ ضائع، ولذلك كان شعره ذا نبرة واحدة منذ البدايات، فهو مسالم كشعبه، وهو يحتضن الآخر للعيش المشترك، ولا يتفاخر عليه أو يرى أنَّه الأرقى والأسمى والمختار، وإنّما يريد ألاَّ يُعتدى عليه، ومن هنا جاءت قصيدته الأخيرة في مجموعته الأولى دعوة للعيش المشترك أكثر مما هي دعوة للتباغض والتفاخر كما كانت الحال في شعر تلك المرحلة:‏

سجّل أنا عربي‏
سلبتَ كرومَ أجدادي‏
وأرضاً كنتُ أفْلَحُها‏
أنا وجميعُ أولادي‏
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي‏
سوى هذي الصخورِ.. فهلْ سَتَأخُذُها‏
حُكُومتكم... كما قِيلا؟!‏
إذنْ!... سجّلْ برأسِ الصفحةِ الأولى‏
أنا لا أكرهُ الناسَ‏
ولا أسطو على أحدِ‏
ولكني إذا ما جعتُ‏
آكلُ لحمَ مغتصبي‏
حذارِ... حذارِ... من جوعي ومن غضبي!! (1/ 74).‏

سار درويش في مجموعته الثانية «عاشق من فلسطين» (1966) ضمن هذا الخط الغنائي الشفاف، فهو أولاً شاعر القضية والأرض، ولذلك غنّاهما بحرارة، وبما أنّ الأرض متنازع عليها، وكل يدعي حبه لليلى، فإنه أراد أن يوضّح تاريخها، ويُبيّن أنّ المحاولات المستمرة لتغيير ملامحها غير مجدية، فهي أرض كنعان، وبما أنه يستهدف أولاً وأخيراً مخاطبة الشعب الفلسطيني، وخاصة في المخيمات، فلذلك كان يسعى إلى أن يكون هذا الخطاب واضحاً، فلجأ إلى الغنائية المباشرة من جهة، والإصرار على هوية الأرض من جهة أخرى، فقال:‏

فلسطينيةَ العينينِ والوشمِ‏
فلسطينية الاسْمِ‏
فلسطينية الأحلامِ والهمِّ‏
فلسطينية المنديلِ والقدمينِ والجسمِ‏
فلسطينية الكلماتِ والصمتِ‏
فلسطينية الصوتِ‏
فلسطينية الميلادِ والموتِ (1/ 82).‏

هكذا غنّى درويش للقدس وظلَّ مصراً على الموت حباً في مجموعته الثالثة «آخر الليل» (1967)، واقترب شيئاً فشيئاً من الرمز في مجموعته الرابعة «العصافير تموتُ في الجليل» 1969، وأخذ يُغَنّي لريتا على طريقة السياب (ريتا.. أحبيني) (1/ 270) ليتخلّص من السجان والسلاسل، ولما أنشئت المقاومة الفلسطينية كانت مجموعته الخامسة «حبيبتي تنهض من نومها» (1970)، وأخذت قصيدته تميل إلى الطول والإصرار على استعادة الحق، وأخذ يدرك أن العدو ماضٍ في غطرسته وجبروته، ولذلك خاطب الشاعرة فدوى طوقان في «يوميات جرح فلسطيني» بأربعة وعشرين مقطعاً، ومنها هذا المقطع:‏

لم نكنْ قبلَ حزيرانَ كأفراخ الحمامْ‏
ولذا لم يتَفتَّتْ حُبُّنا بينَ السلاسِلْ‏
نحنُ يا أختاهُ، من عشرينَ عامْ‏
نحن لا نكتبُ أشعاراً، ولكنّا نقاتلْ (1/ 342).‏

هكذا كان الأمر أيضاً في مجموعته «أحبُّك أو لا أحبّك»» (1972) التي أخذ يتحوّل فيها شيئاً فشيئاً إلى الترميز والمرحلة الثانية، وخاصة في قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكفتيريا»، وفي مجموعة «محاولة رقم 7» (1973) التي حمل فيها قضيته إلى خارج فلسطين، وفيها «الرمادي» و«طريق دمشق».‏

والحقيقة أن صوت درويش واحد، ولكن الأحداث تغيّرت من حوله، فالتفاؤل الذي كان في بداياته أخذ يخفّ ويخفت شيئاً فشيئاً، ثم جاءت أحداث عمان واستهداف الشعب الفلسطيني في الحرب الأهلية في لبنان واجتياح بيروت 1982 ممّا عمّق المأساة، فالتفت إلى قضيّته من الجانب الفني، ولذلك كانت المرحلة الثانية متداخلة بالمرحلة الأولى، وكأنّ الملحمية كانت في عمق غنائيته في المرحلة الأولى، وصارت الغنائية رديفاً لملحميته في المرحلة الثانية، فالصوت الواحد يتغيّر، ولكنّه لا يختلف، هذا ما نجده في عمله الطويل «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (1975) وبرزت قصائد «أعراس» و«أحمد الزعتر» و«قصيدة الأرض» في مجموعته «أعراس» (1977) لتمهّد لمرحلة جديدة في «مديح الظل العالي» (1983)، و«حصار لمدائح البحر» (1984)، وفيها قصيدتا «رحلة المتنبي إلى مصر» و«قصيدة بيروت» لتتعمّق المأساة الفلسطينية في صوت درويش، فاتجه إلى الداخل أكثر فأكثر في «هي أغنية... هي أغنية» (1986) و«ورد أقل» (1986) و«أرى ما أريد» 1990 و«أحد عشر كوكباً» (1992)، ولم يتخلَّ درويش ـ كما يُشاع ـ عن قضيّته، ولكنّه أدرك أبعاد المأساة وما يُخَطّط لمستقبل الشعب الفلسطيني.. أدرك أن اللعبة الزمنية أكبر مما كان يتصوّرُه، وأن اللاعبين ليسوا واحداً، وهم في الداخل والخارج، وأن ما يحمله المستقبل ربما كان أكبر مما حمله الماضي، ثم أدرك أيضاً أن خطابه القديم لا يجدي نفعاً، فأخوة يوسف رموه في الجبّ وباعوه للقافلة وادعوا أنّ ذئباً أكله، ولذلك كانت أعماله الجديدة ذات نغمة مختلفة، وهي موجهة إلى الآخر ليدرك حقيقة ما يجري على التراب من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، ومن ذلك «لا تعتذر عما فعلت» (2004)، و«حالة حصار» (2002)، و«لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995)، وعزف في «سرير الغريبة» (1999) على العشق الصوفي، واستبدل بفلسطين بثينة وليلى، واتحد بجميل وقيس، وغنّى لدمشق «طوق الحمامة الدمشقي» على أنها آخر الحصون العربية التي لا تعرف الاستسلام، وكانت قصيدته الطويلة «جدارية» (2000) في تجربته مع الموت، وهي تجربة مختلفة عن تجارب الشعراء الآخرين في القديم والحديث ممن تناولوا هذا الموضوع، فقد كان حلم درويش أن يرى شعبه يعود إلى أرضه، فيطمئن في موته كما يطمئن الشهداء، ولكنه يغمض عينيه فلا يرى قادماً سوى موته، وهذا ما جعل من هذه القصيدة ذات الموضوع الذاتي تراجيديا الشعر الفلسطيني كله، فهو يموت عاشقاً متيّماً بعيداً عما كان يحلم به:‏

واسْمي، وإن أخطأتُ لفظَ اسمي‏
بخمسةِ أحرفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي:‏
ميمُ/ المُتَيَّمُ والمُيَتَّمُ والمُتَمِّمُ ما مضى‏
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان‏
ميمُ/ المغامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعِدُّ لموتِهِ‏
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى‏
واوُ/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،‏
وَلاءٌ للولادةِ أينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين‏
دالٌ/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ‏
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريٌّ يُدَلِّلُني ويُدْميني‏
وهذا الاسمُ لي...‏
ولأصدقائي، أينما كانوا، ولي‏
جسدي المُؤَقَّتُ، حاضراً أم غائباً...‏
مترانِ من هذا الترابِ سيكفيانِ الآن...‏
لي مترٌ و75 سنتمتراً...‏
والباقي لِزَهْرٍ فوضويِّ اللونِ،‏
يشربُني، على مَهَلٍ، ولي‏
ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي‏
غَدِيَ البعيدُ، وعودةُ الروحِ الشريدِ‏
كأنَّ شيئاً لم يَكُنْ‏
كأنَّ شيئاً لم يَكُنْ‏
جرحٌ طفيفٌ في ذراعِ الحاضرِ العبثيِّ...‏
والتاريخُ يسخرُ من ضحاياهُ ومن أبطالِهِ...‏
يُلقي عليهم نظرةً ويمرُّ...‏
هذا البحرُ لي/ هذا الهواءُ الرطبُ لي‏
واسمي ـ وإنْ أخطأتُ لفظَ اسمي على التابوتِ ـ‏
لي. أما أنا ـ وقدِ امتلأتُ،‏
بكُلِّ أسبابِ الرحيل ـ‏
فلستُ لي. أنا لستُ لي أنا لستُ لي... (3/ 534 ـ 536).‏

هكذا انتقل درويش من غنائيته الشفافة اللماحة إلى ملحمية غنائية لا مثيل لها إلا في قليل من الشعر العالمي، واستطاع أن يحمل قضية وطنه العادلة إلى العالم، وخاصة بعد أن تُرجمت أعماله إلى ما يزيد عن عشرين لغة، ومع ذلك صدقت نبوءته التي جاءت مبكرة في قصيدة «إلى أمي» من مجموعته الثانية، فقد ظلّ يحنّ إلى خبز أمه، ويخجل من دمعها إذا مات قبلها، وقد تحقق ذلك ليكون لدمع أمه طعم المأساة الفلسطينية:‏

أحنَّ إلى خبزِ أُمِّي/ وقهوةِ أمي/ ولمسة أمّي...‏
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ/ يوماً على صدر يومِ‏
وأعشقُ عمري لأني/ إذا مُتُّ‏
أَخْجَلُ من دمعِ أمِّي (1/ 93).‏

المصدر: الأسبوع الأدبي ـ سوريا ـ عدد 1115