نعرف جميعا مدى فداحة الجريمة التي ارتكتب في حق العراق، ولكن قليلون منا هم الذين يعرفون أثر هذه الجريمة، أو بالأحرى الجرائم المتتابعة على أجيال العراق الجديدة، بل على أطفاله الذين لم يولدوا بعد. وهذه القصة ترصد لنا واقع العراق الدامي الآن، لواحده من كاتبات العراق وشاعراته الجديدات.

خمسة سي سي

سمرقند

ككل مرة وبلا وعي؛ ياتي صوت رئيسة الممرضات(سستر محاسن) كي يجبرني ان اسحب من الهواء خمس سي سي لادسها في وريد الطفل الصغير الملقى أمامي. كي اضع نهاية اتفق عليها طرفان، توالت الحقن منذ سنواتي الخمس التي عملتها في مستشفى الولادة، فاكثر النساء في بلدي يحملن بأطفال مشوهين ويحلُمن لشهور طوال بأطفال أصحاء، ولا علاقة لتوسلاتنا بالسماء. فسموم الحرب أكبر من أحلام الأمهات.

لقد كنت ارى اشكالاً مؤلمة لحديثي الولادة ، انهم اقرب إلى مخلوقات من جنس آخر مشوهي الخلقة، وبعد الحقن بربع ساعة أسلم الصغير إلى مركز الابحاث، وأنا أعرف مسبقا بأنه سينتهي: إما الى قنينة فورمالين ليحفظ، أو إلى نفاية المستشفى التي تتجمع حولها القطط والكلاب، سيقولون للأم: إنه مات، وأن المهم هو سلامتها. لتدخل إلى المستشفى حالمة وتخرج مخدوعة.

كان الامر يصدر لي، أنا التي أفضل أن تبتلعني طبقات الأرض السبع، على أن أزهق روح ملاك. ولكني في خفارتي الليلية أسأل نفسي "كيف لأي أم أن تربي بين أحضانها طفلا يشبه فاكهة الرقي، بلا ملامح. أو طفلا بأطراف كالماعز، أو وجه بعين واحدة؟ وبعد الكثير من التواء المعدة أشرب كوب الشاي، وأردد آيات من القرآن الكريم، وأكمل العمل...
أنا اعيش في غرفة في ذات المستشفى. بعد تهدم بيتي على كل أفراد عائلتي. لذا لم أبرح هذا المكان منذ جئت، ودنو الشتاء يعني تكدس الأحلام عن ممر مليء بالاطفال. يحمل بعضهم أغراضي وصوت مواء ونباح فاصحو محمومة. سستر محاسن تقول إني لا اقرأ ما يكفي من الدعاء، ولكني لم اعتد على محو صورة حديث الولادة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي ممرضة لا رحمة في قلبها. كي أرحمه من تشوهات سببتها كيمياء الحرب لأرحام بريئة.

أكره يوم السبت! لقد انهيت حياة خمسة أولاد لحد الآن. ولكن الأم التي كانت تعاني علامات الطلق منذ يومين تؤلمني بتوسلاتها وأحلامها. فكلما رأيتها تسير في الممر تحدث نفسها بدموع غزيرة وابتسامة أجمل من ندى االجنة:

"ـ سأسميه علي كما أردت!" ولكن ألمي يغلبني، نم في قبرك مرتاحاً لقد أنهيت الشهور التسع. وصرخت فجأة لاقترب منها، وأطمأنها بأن البكر يطيل الجلوس في بطن أمه غنجا. فامسكت بيدي قائلة: سيفرح مصطفى كثيرا. فلن يمحو ذكره ذئاب البعث. إنه يتخبط في بطني بقوة، شجاع كأبيه. فأنفجر أنفها بالدماء وتراكضنا بها إلى صالة العمليات. وها هو صغيرها بين يدي يشبه أسماك دجلة! بلا تفاصيل بشرية! سحبت الهواء، ونظرت إلى الصغير، فرميت الحقنة وأجهشت بالبكاء. كأن سقف بيتي تهاوى على رأسي ثانية. فدخلت محاسن وسارعت إلى حقنه ونظرت إلي:
ـ إنه عراق الحزن يا فاطمة، اذهبي الى غرفتك الان ولا تعيديها!

بغداد                                  سمرقند