الولادة على دفعات

محمود درويش

نادراً ما أقرأ مقدمات الشعراء لأعمالهم، وإن فعلت ذلك فلكي أحتفي بالفارق الجميل بين ما يود الشاعر أن يقوله عن قصيدته... وبين ما تقوله قصيدته. فالقصيدة كثيراً ما تفلت من سياق التفكير بها ومن مشروعها الذهني، ولا تخضع خضوعاً كاملاً لوضوح الفكر الذي يحركها، وكأنها، إذ تستقل في صيرورتها الذاتية، تستقل أيضاً عن شاعرها. فماذا سأفعل بما هو مطلوب مني بإلحاح: أن أقدم هذه المختارات؟

سأقول أيضاً: إن المختارات تنطوي دائماً على خدعة، ففي وسع من يختار أن يصنع بشاعره ما يشاء: أن يختار البؤرة المشعة في القصيدة تاركاً جانباً ما تحدق فيه من ظلام، مهملاً سياقها العام... سياق القصيدة وموقعها من شعر الشاعر. وفي وسعه أن يفعل العكس: أن يختار منها طريقها النثري إلى الشعر. وفي وسعه أيضاً التركيز على صورة، أو استعارة، أو خلاصة، أو حكمة شعرية... منحازاً إلى طريقته في فهم الشعر، وطبقاً لهذا الفهم الخاص نجعل من شاعر عادي شاعرا استثنائياًُ، ومن شاعر استثنائي شاعراً عادياً... باستحضار البؤر المشعة أو باستبعادها.

وهكذا، يبقى السؤال مثيراًُ للشكوك: هل نستطيع التعرف على حقيقة الشاعر الشعرية من خلال المختارات؟ سيبقى الجواب نسبياً وقابلاً للتضليل. ولكن السؤال التالي هو الأصعب: هل نستطيع التعرف على لغة الشاعر الجمالية من خلال مختارات مترجمة من لغة إلى أخرى؟ غني عن القول إن لكل لغة نظامها الدلالي وأسلوبيتها الخاصة وتركيبها النحوي. وبما أن اللغة في الشعر ليست وسيلة أو أداة فقط لنقل المعنى، والمعنى في الشعر ليس سابقاً لبنية القصيدة، فإن على الترجمة أن تنقل ما ليس وسيلة للنقل أصلاً.. إلى نظام لغة أخرى. وهنا، لا يكون المترجم ناقلاً للكلمات، بل مؤلفاً لعلاقاتها الجديدة. ولا يكون مصوراً لضوء المعنى، بل راصداً للظل، ولما يؤدي لا لما يقول. لذا، يتحول مترجم الشعر إلى شاعر مواز، متحرر من نظام اللغة الأصل، يفعل في اللغة الثانية ما فعله الشاعر في اللغة الأولى.

في فسحة التحرر هذه، ثرتكب الخيانة الجميلة التي لا بد منها، الخيانة التي تحمي لغة الشعر المنقول من عناد وطنيتها، ومن اندماجها الكامل في مناخ لغة أخرى، في آن واحد. فعلى الشعر أن يحافظ على نفسه الإنساني العام، القادم من بعيد مشترك من ناحية، ومن ناحية أخرى، عليه أن يحافظ على ما يدلنا على أنه مترجم، أي قادم من خصوصية تجربة أخرى، عبرت عن نفسها بتركيب لغوي مختلف وفي سياق مرجعية ثقافية مختلفة. ولعل ذلك هو ما يغرينا بقراءة الشعر المترجم، لا للحوار مع المشترك والمختلف، والبحث عن غني التجربة الشعرية الإنسانية وتنوعها فقط، بل أيضاً لفتح قابلية التأثر التي تحتاج إليه لغتنا الشعرية، أية لغة، لتجديد أسلوبيتها وبناء جملتها، عن طريق الإصغاء إلى تجربة لغة أخرى.

هنا، يمتلك المترجم/ المبدع سلطة البناء والهدم. فكم من قصيدة كبرى قرأناها بأكثر من ترجمة، فلم تكن هي ذاتها، لا بسبب تعدد مستويات قراءتها، بل بسبب تحكم المترجم في مساراتها وطريقة تنفسها، فلم تعد قصيدة شاعرها فقط، بل قصيدة مترجمها/ شاعرها المؤول أيضاًُ. ولا يهمنا في هذا المجال إن كانت أفضل من الأصل أو أسوأ.

كيف نصدق الشعر المترجم إذا؟ سنصدق منه ما يتخفي، وما يتحفز للظهور، ذلك الظل المطل من خلف الكلمات، وربما ذلك البعد الذي يشير إلى وجوده ويغيب. وكيف نصدق المختارات التي اختارها الشاعر، وهنا، كيف تصدقونني؟ إن العنوان الثانوي لهذه المجموعة "مختارات شخصية" هو عنوان مجازي، لأنها ليست شخصية تماماً. فلو كان الأمر متعلقاً بي وحدي، دون تدخل أي أعتبار آخر، لما أخترت من شعري إلا ما كتبته في العقدين الآخيرين. لأن كل عمل جديد لي ينزع إلى قطيعة ما قائمة على استمرارية. في كل عمل جديد محاولة لهدم ما سبق، من خلال تطوير ما كان يبدو لي هامشياً وثانوياً، وتقريبه من المركز. ربما لأنني لا أسكن النهر، بل أقيم على الضفاف. وربما لأن الزمن يعلمني الحكمة، بينما يعلمني التاريخ السخرية، أو ربما لأنني أكبر واقترب من أسئلة ميتافيزيقية تتلاءم مع حيرة الوجود، وقد تحمي اللغة الشعرية من سرعة الراهن.

بيد أن صورتي العامة أقوى من قلقي. فأنا المسمي "شاعراً فلسطينياً" أو "شاعر فلسطين" مطالب ـ مني ومن شرطي التاريخي ـ بتثبيت المكان في اللغة، وبحماية واقعي من الأسطورة، وبأمتلاكها معاً لأكون جزءاً من التاريخ وشاهدا على ما فعله التاريخ بي في آن واحد. لذا يتطلب حقي في الغد تمرداً على الحاضر، ودفاعاً عن شرعية وجودي في الماضي الذي زج به إلى المناظرة، حيث تصبح القصيدة دليلاً على وجود أو عدم. أما سكان القصيدة، فلا يكترث بهم مؤرخو الشعر.

حين بدأت الكتاب، كنت مسكونا بهاجس التعبير عن خسارتي، عن حواسي، عن حدود وجودي المحدد، وعن ذاتي في محيطها وجغرافيتها المحددين، دون أن أنتبه إلى تقاطع هذه الذات مع ذات جماعية. كنت أسعي إلى التعبير، غير حالم بتغيير أي شيء سوى نفسي، ولكن قصتي الشخصية، الاقتلاع الكبير من المكان، كانت قصة شعب كامل. لذلك، وجد القراء في صوتي الخاص صوتهم الخاص والعام. فعندما كتبت حنيني إلى خبز أمي وقهوتها، داخل السجن، لم أقصد تجاوز تلك المساحة العائلية، وحين كتبت اغترابي في بلادي وشقاء الحياة والتوق إلى الحرية، لم أقصد إلى كتابة "شعر مقاومة" كما سماه النقد العربي، ووجد في القراء العرب تعويضاً شعرياً مبالغاً فيه عن هزيمة العرب في ما سمي بحرب الأيام الستة.

حين أتذكر الآن تلك المرحلة، أتذكر قدرة الشعر على الأنتشار حين لا يطلب العزلة هدفاً ولا يطلب الانتشار أيضاً. فلا الانتشار ولا نقيضه يصلحان معياراً للحكم على جمالية الشعر. كما أن هنالك ما هو أسوأ من الشعر السياسي، هو الإفراط في تعالي الشعر على السياسة، بمعناها العميق، أي الأصغاء إلى أسئلة الواقع وإلى حركة التاريخ، والمشاركة الضمنية في أقتراح الأمل. فاللاسياسة هي أيضا سياسة مبطنة. من هذا المنظور، لا نستطيع هذه المختارات أن تخدع قارئها أو شاعرها، بفصل البدايات عما وصلت إليه تجربتي الشعرية الآن. وهكذا، لا أستطيع تحديد النقطة التي حدثت فيها القطيعة النسبية في سياق الاستمرارية، لأن العملية متداخلة متشابكة، ولأن كل مرحلة سابقة تحمل بذور تطور المرحلة اللاحقة.

يهمني كثيراً أن أطور شعري بطريقة نوعية. ولكن هل يمكن فصل ذلك عن الحالة التراكمية؟ لا أدري. وهكذا أرى في مرحلة المنافي امتداداً للصوت الذاتي/ الجماعي على أرض عمل أخرى، أوسع في الجغرافيا وفي التنوع الثقافي واللغوي، يرافقها تطور في المعرفة، وإعادة نظر دائمة في مفهوم الشعر، واقتراب من الإدراك الشعري للتجربة الإنسانية. إن صبر المسافة، ومساحة التأمل من بعيد ما، توفر للشاعرية فرصة للتخفيف من درجة حماسة اللغة، وفرصة النظر إلى ذاتها وأدواتها بطريقة أبرأ وأهدأ من ناحية، وتحملها من ناحية أخرى أعباء استحضار المكان بذاكرته وعناصره خالياً من الغبار ومن الروتين!

إنني شديد الأصغاء إلى حركة الزمن، وإلى إيقاعات المشهد الشعري العالمي، لا أتوقف عن التدرب على كيفية الاقتراب من توفير حياة خاصة للقصيدة بشرطها التاريخي وباستقلالها عنه معاً. ولا أتوقف عن تدريب القصيدة على الاقتراب من سلالتها الاسطورية، لا بالاعتماد على رموزها فقط، بل بإنجاز بنيتها الأسطورية المعاصرة من عناصرها الذاتية. ولكن، كيف للشاعر أن يتقن الرحلة من داخله إلى خارجه، ومن خارجه إلى داخله، دون أن يغرق في "أناه" ودون أن يفقدها، بتحويلها إلى ناطقة باسم الجماعة، وكيف يحميها من قصدية التمثيل؟ لعل مصدر الشعر واحد، هو هويتنا الإنسانية، من ماضي غربتها على هذه الأرض إلى حاضرها المغترب. لقد ولد الشعر من أولى أسئلة الدهشة عن وجودنا، من ذلك البعيد الذي تساءل فيه طفلنا الإنساني عن أسرار وجوده الأولى. من هنا لم تكن العالمية، منذ البداية، إلا محلية.

في سياق السفر الواحد من الذات إلى العالم، في هذا السياق المتعدد اللغات والمناطق ودرجات التطور التاريخي، تتوحد التجربة الشعرية الإنسانية، وتحقق "عولمتها" الخاصة بها، متحررة من هيمنة المركز وتبعية الطرف، بإسهام كل محلية شعرية في صياغة ما نسميه الشعر العالمي. لكن، لا بد للجهات من تسميات على ما يبدو، فماذا يعني أن أقول إن شعري قادم من الجنوب، من شرط تاريخي لم تتحقق فيه حرية الفرد ولا تحرر الجماعة، ومن بلد أنكسرت فيه العلاقة بين المكان والزمان، وتحول فيه الكائن إلى شبح؟ إن ذلك لا يرمي إلى أكثر من الإشارة إلى مأزق الحداثة الشعرية العربية، على طريق الرحلة من القبيلة التي اندثرت خيامها إلى المدينة التي لم تنشأ بعد. ماذا تفعل الحداثة في مجتمعات عربية تعيش مرحلة ما قبل الحداثة؟ من الطبيعي أن تبقى هامشية ومجازية. ومن الطبيعي أيضاً أن تتشظي إلى حداثات لا يجمعها غير الشكل.

ليس الغموض هدف الشاعر. لكنه ينتج عن التوتربين حركة القصيدة وبين ما يحركها من فكر، وعن التوتر بين حالتها النثرية وحالتها الإيقاعية، وهذا الغموض، الشبيه بإيماءات الظلال، هو أحد أشكال صراع اللغة الشعرية مع الواقع الذي لم يعد الشعر مشغولاً بوصفه، بل بالنفاذ إلى جوهره، وبصراع اللغة مع مرجعياتها. ولعل هذا النوع من الغموض هو الفضاء المفتوح لدور القارئ في منح القصيدة حياة ثانية، إذ يوفر له دوراً إبداعياً في القراءة والتأويل، بدلاً من تلقي الرسالة كاملة نهائية. فليس هذا الغموض نقيض الوضوح، بل نقيض الوضوح التعليمي الذي يترك القارئ عاطلاً عن العمل. ولكن، لا غموضي ولا وضوحي هو ما أنقذ شعري من القطيعة مع قارئ يجددني وأجدده. فمن مفارقات تجربتي الشعرية أنها كلما طورت أدواتها التعبيرية وأسلوبيتها، كلما حفزت قارئها إلى القبول بالمزيد من التجديد. فتقاربت ذائقة الشاعر والقارئ الجمالية. ربما لأن أقتراحاتي الشعرية تنبع من سياق تاريخ الشعر العربي وإيقاعاته ومن داخل جماليات اللغة العربية.

ومن المعروف أن القصيدة العربية الحديثة لم تصل إلى ما وصلت إليه الآن دفعة واحدة. صحيح، أنه ليس هنالك من شاعر حقيقي يأذن لأي أعتبار خارجي، ولا لأي قارئ، بأن يراقب عملية الكتابة الشعرية، لكن الشاعر قارئ شديد المطالبة. وهو القارئ الأول لنصه. وما تنقيح النص مراراً إلا فعل قراءة كاتبة، يخضع لمعايير واعية لمدي ما في الذات الشخصية من لقاء مع ذوات أخرى. لكل شاعر طريقته الخاصة، أو تقاليده، في الكتابة، وأنا من أولئك الذين يكتبون النص مرتين: في المرة الأولى تقودني سليقتي الشعرية ولا وعيي. وفي المرة الثانية يقودهما إدراكي لمتطلبات بناء القصيدة. وغالباً ما لا تشبه الكتابة الثانية صورة الكتابة الأولى، لا تشبهها أبداً.

إن أحد تدريباتي على امتحان قصيدتي هو أن أنساها لفترة طويلة. وحين أعود لزيارتها للتحقق من طبيعتها الشعرية أحكم عليها بمدي الشبه بينها وبيني. فإذا تعرفت عليها من الوهلة الأولى أدركت أنها تقلدني أو أنني أقلد نفسي. أما إذا أحسست بأن شاعراً آخر هو الذي كتبها، متجاوزاً الشاعر الذي كنته. أدركت أنها قصيدة جديدة.

ولكن، من يعنيه هذا السر؟

إن ما يعنيني في هذه المختارات، التي شارك في اقتراحها عدد من الأصدقاء، هو أن تكون أمينة وصادقة في تمثيل تجربتي الشعرية وتطورها زمنياً وجمالياً، كما هي في بحثها عن الشعر في القصيدة، وفي بحثها عن القصيدة في الشعر. قليلون هم الشعراء الذين يولدون شعرياً دفعة واحدة. أما أنا، فقد ولدت تدريجياً وعلى دفعات متباعدة. وما زلت أتعلم المشي العسير على الطريق الطويل إلى قصيدتي التي لم أكتبها بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) صدرت عن دار "غاليمار" الفرنسية، ضمن سلسلتها الشعرية الشهيرة، مختارات شعرية لمحمود درويش تحت عنوان "تضيق بنا الأرض، وقصائد أخرى"، تقع في 396 صفحة، ترجمها الكاتب والمؤرخ اليأس صنبر. وهذه هي المقدمة الخاصة التي كتبها الشاعر لهذه المختارات.