محمد الماغوط: الشاعر الحي
غريبٌ هو الشعر. غريب ومفاجئ. كأنه يُولَدُ في البداية عندما لا يعرف قائله أَنَّ ما يقوله شعر، بل هو تعبيرٌ عفويّ عن ذات تصرخ أًو تهمس بكلمات غير مألوفة، تتدفّق على رسلها... فتدهشنا ونقول: هذا شعر. ونعيد النظر في ما أَلِفْنا من تعريف سابق لمفهوم الشعر. وبقدر ما يتعرَّض هذا المفهوم للتعديل مع كل نص لا عهد لنا به، بقدر ما يتطوَّر الشعر ويتجدَّد. محمد الماغوط، الذي فاجأنا غيابُهُ كما فاجأنا حضورُهُ، كان يقول دائماً إنه لم يعرف إن كان ما يكتبه من خواطر هو شعر أَم نثر، فمثل هذا السؤال لا يَعْني شخصيةً قَلِقةً نَزِقَةً شَبِقَةً إلى الحرية. لكنه اقتحم المشهد الشعري العربي بقُوّة ثورٍ مُجَنّحٍ قادم من طين الحياة لا من أُسطورة، فأحدث زلزالاً إبداعياً ما زالت آثاره مستمرة. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية مشغولةً في البحث عن حداثتها بتَزْيِيينِ نصوصها بالأساطير، وبإعادة ترتيب السطر الشعريّ الجديد بما يوحي، بَصَريّاً، باختلافه عن التقليديّ، وبنَقْلِ القافية من مكان إلى آخر لإخفائها عن العين لا عن الأذن... كان محمد الماغوط يقلب المائدة بنصّ متحرِّر من التقاليد، ولا يبحث عن الجديد في تجديدٍ ما لدور الوزن والقافية. كان يتَشَظَّى خارج هذا السياق. وسرعان ما أَقنعنا بأن الشعر يأتي من مكان آخر، أو من لا مكان: من موهبة معجونة بالحرمان والحزن والتراب... من موهبة تستعصي على التعريف. منذ قصائده الأولى، المشعّة بالصور المدهشة والمفارقات والسخرية، وبالعطش إلى الحرية، وبصرخة الهامش المقموع التي تجعل لانفجارات اللغة معنى ما، لا فقاعات صابون... كان على سليقة محمد الماغوط الشعرية الذكية أن توقف الجدل الذي لا طائل من ورائه حول شرعيَّة قصيدة النثر الجمالية. إذا كان النثر يبدع مثل هذا الشعر، فأين هي المسألة؟. لقد أحْرَجَتْ شعرية الماغوط كل الذين ينظرون إلى الغد بعيون الماضي، وَمَنْ يَضَعُون شروطاً مسبقة على مغامرة الإبداع. لعلَّ الكثيرين ممَّنْ أَحبوا شعر الماغوط، الخارج عن مألوف الشعر العربي، لم يُحبُّوا الشعر الآخر. ولكن الذين أحبوا الشعر الآخر أَحبّوا شعر الماغوط أَيضاً. فكيف حَقِّق هذا الساحرُ الساخرُ كُلِّيُّ التمرُّد مثل هذه السابقة من اجماع الذائقة الشعرية المتباينة، في خضم نقاش ما زال مستمراً وعقيماً حول قصيدة النثر؟ موهبته الاستثنائية هي الجواب. نريد شعراً جديداً ومختلفاً مهما كان الشكل الذي يختاره الشاعر. بشاعريته العالية، غير المتعالية، وبعناق الشخصي مع العام، وباستخراج لآلئ الشعر من وحل الحياة... خرج محمد الماغوط من سياق الخلاف حول الخيارات الشعرية، فهو البرهان الساطع على أن ما يعنينا في الكتابة الشعرية هو جوهر الشعر... لا شكله ولا نظامه. لم يصدأ معدن شعره مع الزمن، كما حدث لكثيرين من مجايليه الذين وقعوا في تقليدية حديثة، فما زال هو المرجعية الأجمل لأجيال من الباحثين عن شعرية النثر. وما زلنا نقرأه بشغف، لأنه شاعر حيّ، لأن نصه حيّ... لأنه شاعر حقيقي ومختلف.
غريبٌ هو الشعر. غريب ومفاجئ. كأنه يُولَدُ في البداية عندما لا يعرف قائله أَنَّ ما يقوله شعر، بل هو تعبيرٌ عفويّ عن ذات تصرخ أًو تهمس بكلمات غير مألوفة، تتدفّق على رسلها... فتدهشنا ونقول: هذا شعر. ونعيد النظر في ما أَلِفْنا من تعريف سابق لمفهوم الشعر. وبقدر ما يتعرَّض هذا المفهوم للتعديل مع كل نص لا عهد لنا به، بقدر ما يتطوَّر الشعر ويتجدَّد.
محمد الماغوط، الذي فاجأنا غيابُهُ كما فاجأنا حضورُهُ، كان يقول دائماً إنه لم يعرف إن كان ما يكتبه من خواطر هو شعر أَم نثر، فمثل هذا السؤال لا يَعْني شخصيةً قَلِقةً نَزِقَةً شَبِقَةً إلى الحرية. لكنه اقتحم المشهد الشعري العربي بقُوّة ثورٍ مُجَنّحٍ قادم من طين الحياة لا من أُسطورة، فأحدث زلزالاً إبداعياً ما زالت آثاره مستمرة.
فعندما كانت الريادة الشعرية العربية مشغولةً في البحث عن حداثتها بتَزْيِيينِ نصوصها بالأساطير، وبإعادة ترتيب السطر الشعريّ الجديد بما يوحي، بَصَريّاً، باختلافه عن التقليديّ، وبنَقْلِ القافية من مكان إلى آخر لإخفائها عن العين لا عن الأذن... كان محمد الماغوط يقلب المائدة بنصّ متحرِّر من التقاليد، ولا يبحث عن الجديد في تجديدٍ ما لدور الوزن والقافية. كان يتَشَظَّى خارج هذا السياق. وسرعان ما أَقنعنا بأن الشعر يأتي من مكان آخر، أو من لا مكان:
من موهبة معجونة بالحرمان والحزن والتراب... من موهبة تستعصي على التعريف.
منذ قصائده الأولى، المشعّة بالصور المدهشة والمفارقات والسخرية، وبالعطش إلى الحرية، وبصرخة الهامش المقموع التي تجعل لانفجارات اللغة معنى ما، لا فقاعات صابون... كان على سليقة محمد الماغوط الشعرية الذكية أن توقف الجدل الذي لا طائل من ورائه حول شرعيَّة قصيدة النثر الجمالية. إذا كان النثر يبدع مثل هذا الشعر، فأين هي المسألة؟. لقد أحْرَجَتْ شعرية الماغوط كل الذين ينظرون إلى الغد بعيون الماضي، وَمَنْ يَضَعُون شروطاً مسبقة على مغامرة الإبداع.
لعلَّ الكثيرين ممَّنْ أَحبوا شعر الماغوط، الخارج عن مألوف الشعر العربي، لم يُحبُّوا الشعر الآخر. ولكن الذين أحبوا الشعر الآخر أَحبّوا شعر الماغوط أَيضاً. فكيف حَقِّق هذا الساحرُ الساخرُ كُلِّيُّ التمرُّد مثل هذه السابقة من اجماع الذائقة الشعرية المتباينة، في خضم نقاش ما زال مستمراً وعقيماً حول قصيدة النثر؟ موهبته الاستثنائية هي الجواب. نريد شعراً جديداً ومختلفاً مهما كان الشكل الذي يختاره الشاعر. بشاعريته العالية، غير المتعالية، وبعناق الشخصي مع العام، وباستخراج لآلئ الشعر من وحل الحياة... خرج محمد الماغوط من سياق الخلاف حول الخيارات الشعرية، فهو البرهان الساطع على أن ما يعنينا في الكتابة الشعرية هو جوهر الشعر... لا شكله ولا نظامه.
لم يصدأ معدن شعره مع الزمن، كما حدث لكثيرين من مجايليه الذين وقعوا في تقليدية حديثة، فما زال هو المرجعية الأجمل لأجيال من الباحثين عن شعرية النثر. وما زلنا نقرأه بشغف، لأنه شاعر حيّ، لأن نصه حيّ... لأنه شاعر حقيقي ومختلف.