ماذا يريد الصهاينة من شعر درويش..؟!
هل احترام عالميّة الأدب وتقدير الإبداع ما حدا بوزير التعليم الصهيوني يوسي ساريد ـ رئيس كتلة ميرتس ـ لاتخاذه قرار إدراج بعض قصائد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، في منهاج دراسة الأدب في المدارس الصهيونية..؟! ثم لماذا جاءت هذه الخطوة في هذا الوقت بالذات، ولم اختير محمود درويش حصراً وليس غيره، وهو معروف جيداً كأحد أبرز شعراء المقاومة الفلسطينية، وهل حقاً أن القصائد التي وقع عليها الاختيار بما تنطوي عليه من بعد إنساني، يكفيها هذا البعد كتبرير لاختيارها، فاعتبرت صالحة للتدريس في المدارس الصهيونية..؟!. لقد أثار قرار وزير التعليم ساريد ردود فعل متنوعة ومتناقضة، تراوحت بين المعارضة الشرسة والمحايدة والمؤيدة الخجولة على مستوى الكيان الصهيوني. وهذا التفاوت في ردود الفعل، والتناقض مابينها يكشف بشكل صارخ مدى حساسيّة وخطورة مثل هكذا قرار، وخطوة القرار الذي اتخذه وزير التعليم تبدو واضحةً تماماً على الصعيد العربي أولاً، وتكشف إلى حد بعيد وعميق هوية وتركيبة الكيان الصهيوني النفسيّة وساريد لم يقدم اقتراحاته من الفراغ بل جاءت بعد تمحيص ودراسة لجنة خبراء وباحثين، ولا يساور أحداً الشك بأن أولئك الخبراء والباحثين، خانوا الفكر الصهيوني أو خرجوا على أبجديات الولاء المطلق لنزعاتهم الشريرة، وأنهم لايدركون ماذا يعني درويش بالنسبة للشعر العربي، وماهي مكانته بالضبط في مساحة الشعر المقاوم، ولربما كانت كل تلك الأسباب مجتمعة هي وراء تبني أولئك الخبراء لذلك القرار. ويعلم المتبصر بقليل من إعمال الفكر أن هؤلاء الخبراء والباحثين يدركون سلفاً بأن عاصفة من المعارضة الليكوديّة الحرونة ستهب عليهم. وتبرز تواجه وتقاوم قراراً خبيثاً كهذا من أرضيّة رفضية بحتة، ومن منطلقها الخاص المعادي بشكل بدائي لكل ماهو فلسطيني، فمن ذا يتوهم أن أصحاب الاقتراح لايدركون ذلك..؟! إن من الغنيّ عن البرهان أنهم يعون جيداً ردود الفعل السلبية على المستوى الصهيوني، ولكنهم يعون أيضاً مدى الفوائد التي يعود بها ذلك الاقتراح في حال إقراره رغم صرخات المعارضة الحمقاء التي خرجت تسفّه القرار وأصحابه، وترميهم بأقذع وأبشع التهم، وتدعي أنّ ذلك اليوم الذي تستبدل فيه دراسة التوراة، بدراسة القرآن في المدارس الصهيونية ليس ببعيد، حسب زعم تلك الفئة، معززةً ادعاءها بتبنّي بعض قصائد درويش، وتصويرها أن تدريس تلك القصائد سيمسّ فكر وتربية الناشئة ويؤثر على منحى تفكيرها، ومحمود درويش يردّ على ذلك الادعاء قائلاً، "نحن تعلمنا في المدارس الإسرائيلية، لكننا لم نتحول إلى صهاينة، فكيف يمكن تدفع قصيدة "أمي" بالطلبة اليهود إلى اعتناق القومية العربية"، وهكذا فإن تصوير المسألة وكأنها انقلاب جذري في طريقة التفكير الصهيونية وأنها اعتراف بثقافة "الآخر" وبذا تقديم الدليل على ديمقراطية مدعاة إن هذا ضرب من الوهم والخيال، وممارسة الكذب على الذات وعلى الآخرين. ففي بساطة يمكن القول أن طريقة دراسة ذلك الأدب، بالمقدور أن تأخذ أكثر من منحى يصب في نهايته في خدمة غايات وأغراض أصحاب القرار، ووفق أهواء وميول ومعتقدات المدرس الذي سيكون في هذه الحالة متحفزاً، مثار العدوانية إلى أبعد الحدود. والصهيونية كما هو معروف لدى الجميع أنها ذات موهبة عالية وقدرات كبيرة على قلب الحقائق وتزييفها، فأين الخطورة التي يدعيها الرافضون...؟ إن القضية التي يمكن الاحتجاج عليها أن إدراج القصائد موضوع الحديث ينفي عن الفلسطيني الصورة البشعة التي صورته عليها أجهزة إعلام الصهاينة، حتى هذه القضية فهي مطعون بها، حيث أن القصائد ـ قيد الدرس ـ هي لشاعر معروف، عاش ردحاً من الزمن داخل فلسطين 1948، ودرس في مدارس العدو، لم يحمل في حياته بندقية، ومع ذلك فقد سجن، وعوقب بالنفي خارج وطنه، ثم بالنفي داخل وطنه، حيث لم يسمح له بالعودة إلى قريته "البروة"، وإذا افترضنا غاية أصحاب القرار هي تلطيف وتحسين صورة الآخر كحلقة من حلقات التطبيع والتساوق مع مايسمى ثقافة السلام، فمن الوهم تصور أن مجموعة من القصائد أياً كانت قيمتها الأدبية، وأيّاً كان مبدعها، سيكون لها الأثر السحريّ الذي يقلب معادلة الدم والمجازر، ويحيل كل تلك الذكريات المريرة إلى واحة تفاهم وجسور محبة. ومن المفيد أن نقرأ نتفاً من ردود الفعل الشرسة التي صدرت عن الجانب الصهيوني، تجاه ذلك القرار لنرى مدى الحقد الصهيوني والكراهية المطلقة لكل ماهو فلسطيني وعربي وإسلامي، ولنلمس مدى الرعب وانعدام الثقة بالذات والآخرين، الذي تأسس عليها الوجود الصهيوني بأسره حيث يقول ناحوم بارنيع في صحيفة "يديعوت أحرونوت": إن دولة يقرر فيها الوزراء القصائد التي ينبغي تعليمها في المدارس هي دولة بلشفيّة، فالوزراء والأشعار أمران مختلفان". أما رحبعام زئيفي فيقول في تعقيبه على قرار ساريد في صحيفة "معاريف" الصهيونية؛ "نحن لانريد لأطفالنا أن يتعلموا البذاءة الصادرة عن هذا الكاره. وهو يعدنا ويقسم أنه أبداً لن ينسى ولن يغفر لليهود"، وهذا غيض من فيض الأحقاد التي أثارها قرار وزير التعليم، وردود الفعل تلك، تعبير صارخ عن هوية الكيان الحاقدة، وهي بالمحصلة نتيجة طبيعية ومنطقية لتركيبة ونمطية التفكير الصهيوني، وأما قول الدعاة المتحمسين للفكرة من الجانب العربي بأن هذه الخطوة جاءت اعترافاً وإقراراً بثقافة "الآخر" وإنسانيته، فهذا لايضيف إلى حقيقة الحال شيئاً، والحضارة والثقافة العربية ليست بحاجة إلى حسن سلوك من العدو، ولا إلى براءة اختراع يأتي بها دهاقنة التطبيع وماهي الإضافة التي يشكلها تدريس بعض قصائد درويش في المناهج الصهيونية لحقائق قائمة منذ الأزل، والصهيونية والقوى الغربية المساندة لها، لاتستطيع إنكار تلك الحقيقة، فالدور العربي والثقافة العربية وأهميتها في بناء الحضارة الإنسانية، لا تحتاج إلى دليل، والمكتبات الغربية تعج بالمترجمات لأمهات الكتب الأدبية والعلمية العربية. وفي اعتقادنا أن تلك المحاولة الخبيثة من وزير التعليم، لم تكن الغاية منها فتح معركة داخلية، قدر ما أريد منها أن تشكل اختراقاً نوعياً للحصار الثقافي لعملية التطبيع من الجانب العربي، التي لم تفلح كل المحاولات في كسرها حتى الآن، عدا استثناءات طفيفة شاذة لأفراد مطعون في نزاهتهم ومواهبهم. إن حصن الثقافة هو أحد أهمّ وأقوى الحصون الباقية في مواجهة الانهيار والتطبيع مع العدو، وإن المساس برمز كبير كمحمود درويش يشكل محاولة خطيرة في اختراق هذا الحصن ومثلما يقول درويش نفسه واصفاً المجتمع الصهيوني بأنه "مجتمع لا يحركه إلا الخوف"، وأنهم أي الصهاينة "يحاولون تجريدي من بعدي الإنساني والتشويش على مكانتي الشعرية... وبعض الذين يعترفون بقيمتي الشعرية، يشبهونني بـ أزرا باوند أوفاغنر، والاثنان عرفا بارتباطهما بالنازية". والحملة التي استهدفت درويش إثر قصيدته "عابرون في كلام عابر" 1988 لم تزل ماثلة في الأذهان، حيث نوقشت القصيدة في إحدى جلسات الكنيست، ولجأ شامير رئيس وزراء العدو الأسبق لتزييف بعض مقاطع القصيدة آنذاك، كذريعة لشراسة الهجمة التي أطلقت على درويش في تلك الآونة. وإذا كان ثمّة كلمة أخيرة ينبغي أن تقال، فإنه يجب التذكير بأن في هذا الاقتراح تكمن مزالق كثيرة، غاية في الخطورة والمكر، فهي تفتح الباب على مصراعيه. لبعض ضعاف النفوس، ممن يمكن وصفهم بأنهم لايتحملون غمزةً كما يقال، ولن يتورع هؤلاء النفر بالتذرع بأنه إذا كان محمود درويش رضي أن تدرس قصائده ضمن حسن السلوك الذي يعطيه الصهاينة، فما ضرّ لو أنهم بدورهم أيضاً أخذوا مواقعهم في مستنقع الذل والاستسلام للعدو..؟! وقد سبق لنفرٍ من هؤلاء المهزوزين ـ ولمّا يحتاجون إلى دعوة ـ أن خلعوا أرديتهم وعروبتهم. فمطرب الراي الجزائري خالد صاحب أغنية "عبد القادر يابو علام" غنّى مع المطربة اليهودية "لاتسونتنر"، كما شاركته أغنية "تخيّل" في ألبومه الأخير الذي يحمل اسم ابنته "كنزه"، والأغنية في أساسها لمغني البيتلز جون ليتون، وحين سئل خالد عن موقفه ذاك، قال أنه يغني للسلام، هكذا وبكل بساطة..! وماينبغي التنبه إليه في هذه المرحلة الخطيرة من صراعنا الوجودي مع الصهاينة أن تلك الحركة بالإضافة لكل أساليبها البشعة التي لجأت إليها في الماضي، تلجأ الآن إلى أسلوب العصا والجزرة في محاولاتها الماكرة لتهديم ما تبقى من حصون وقلاع في المنطقة، تأطرت في الساحة الثقافية. فمحاولتها مع درويش تندرج في إطار إثارة الشبهات، إضافة لما ذكرناه وهذه ليست المحاور الأولى، وقد سبق أن أثيرت شائعة أخرى بأن المطرب كاظم الساهر سيغني داخل الأراضي المحتلة وأنه قد حصل على تأشيرة دخول إسرائيلية على جواز سفره العراقي، للمشاركة بمهرجان رام الله، وقد سارع الساهر لنفي تلك الشائعة على لسان ابن اخته بدر في القاهرة الذي قال إن كاظم الساهر لن يزور فلسطين إلا وهي محررة كاملة من الاحتلال الإسرائيلي، كذلك البرنامج الصهيوني "صراحة في صراحة" ادعت فيه نيللي أيهود أنها عملت في السينما المصرية وأن الفنانات مريم فخر الدين، هند رستم، برلنتي عبد الحميد، وناديا لطفي ـ وهن من الفنانات المشهورات على مدى الوطن العربي ـ كنّ يتعاطفن مع أهداف الصهيونية وأنهن عملن مع الموساد، جهاز الأمن الصهيوني، في حملة تشويه مغرضة غايتها النيل من كل الأسماء على مبدأ "العيار الذي لايقتل، يطرش"، فعلى الأقل يعرف عن الفنانة ناديا لطفي بأنها شاركت المقاومة الفلسطينية واللبنانية الحصار في بيروت 1982، كذلك الممثلة مريم فخر الدين التي أعلنت توبتها حتى عن الفن كلّه. إن هذه المحاولات الصهيونية التي تعمل بدأت لنهش وتشويه الكبار وطحن وسحق الصغار أو جرهم إلى مستنقع الخنوع، تأتي ضمن إطار الحرب الصهيونية المفتوحة لهدم وزعزعة ما تبقى من الحصون. وهذا ماينبغي التنبه إليه، والتعامل معه بحذر قبل المسارعة بإبداء الرأي والقراءة السطحية لظواهر الأمور، ومن السذاجة بمكان، كل تلك التعليقات المستبشرة التي صدرت في هذه العاصمة أو تلك حول قرار ساريد، وهذا يملي على كل المفكرين والأدباء والصحفيين توخّي الحذر أكثر فأكثر، وعدم الوقوع في المطبات والمنزلقات التي تخلقها الحركة الصهيونية بين فينةٍ وأخرى، قبل أن نعضّ على أصابعنا ندماً، حيث لاينفع الندم..! الأسبوع الأدبي ـ العدد 719 تاريخ 29/ 7/ 2000م
هل احترام عالميّة الأدب وتقدير الإبداع ما حدا بوزير التعليم الصهيوني يوسي ساريد ـ رئيس كتلة ميرتس ـ لاتخاذه قرار إدراج بعض قصائد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، في منهاج دراسة الأدب في المدارس الصهيونية..؟! ثم لماذا جاءت هذه الخطوة في هذا الوقت بالذات، ولم اختير محمود درويش حصراً وليس غيره، وهو معروف جيداً كأحد أبرز شعراء المقاومة الفلسطينية، وهل حقاً أن القصائد التي وقع عليها الاختيار بما تنطوي عليه من بعد إنساني، يكفيها هذا البعد كتبرير لاختيارها، فاعتبرت صالحة للتدريس في المدارس الصهيونية..؟!.
لقد أثار قرار وزير التعليم ساريد ردود فعل متنوعة ومتناقضة، تراوحت بين المعارضة الشرسة والمحايدة والمؤيدة الخجولة على مستوى الكيان الصهيوني. وهذا التفاوت في ردود الفعل، والتناقض مابينها يكشف بشكل صارخ مدى حساسيّة وخطورة مثل هكذا قرار، وخطوة القرار الذي اتخذه وزير التعليم تبدو واضحةً تماماً على الصعيد العربي أولاً، وتكشف إلى حد بعيد وعميق هوية وتركيبة الكيان الصهيوني النفسيّة وساريد لم يقدم اقتراحاته من الفراغ بل جاءت بعد تمحيص ودراسة لجنة خبراء وباحثين، ولا يساور أحداً الشك بأن أولئك الخبراء والباحثين، خانوا الفكر الصهيوني أو خرجوا على أبجديات الولاء المطلق لنزعاتهم الشريرة، وأنهم لايدركون ماذا يعني درويش بالنسبة للشعر العربي، وماهي مكانته بالضبط في مساحة الشعر المقاوم، ولربما كانت كل تلك الأسباب مجتمعة هي وراء تبني أولئك الخبراء لذلك القرار. ويعلم المتبصر بقليل من إعمال الفكر أن هؤلاء الخبراء والباحثين يدركون سلفاً بأن عاصفة من المعارضة الليكوديّة الحرونة ستهب عليهم. وتبرز تواجه وتقاوم قراراً خبيثاً كهذا من أرضيّة رفضية بحتة، ومن منطلقها الخاص المعادي بشكل بدائي لكل ماهو فلسطيني، فمن ذا يتوهم أن أصحاب الاقتراح لايدركون ذلك..؟! إن من الغنيّ عن البرهان أنهم يعون جيداً ردود الفعل السلبية على المستوى الصهيوني، ولكنهم يعون أيضاً مدى الفوائد التي يعود بها ذلك الاقتراح في حال إقراره رغم صرخات المعارضة الحمقاء التي خرجت تسفّه القرار وأصحابه، وترميهم بأقذع وأبشع التهم، وتدعي أنّ ذلك اليوم الذي تستبدل فيه دراسة التوراة، بدراسة القرآن في المدارس الصهيونية ليس ببعيد، حسب زعم تلك الفئة، معززةً ادعاءها بتبنّي بعض قصائد درويش، وتصويرها أن تدريس تلك القصائد سيمسّ فكر وتربية الناشئة ويؤثر على منحى تفكيرها، ومحمود درويش يردّ على ذلك الادعاء قائلاً، "نحن تعلمنا في المدارس الإسرائيلية، لكننا لم نتحول إلى صهاينة، فكيف يمكن تدفع قصيدة "أمي" بالطلبة اليهود إلى اعتناق القومية العربية"، وهكذا فإن تصوير المسألة وكأنها انقلاب جذري في طريقة التفكير الصهيونية وأنها اعتراف بثقافة "الآخر" وبذا تقديم الدليل على ديمقراطية مدعاة إن هذا ضرب من الوهم والخيال، وممارسة الكذب على الذات وعلى الآخرين. ففي بساطة يمكن القول أن طريقة دراسة ذلك الأدب، بالمقدور أن تأخذ أكثر من منحى يصب في نهايته في خدمة غايات وأغراض أصحاب القرار، ووفق أهواء وميول ومعتقدات المدرس الذي سيكون في هذه الحالة متحفزاً، مثار العدوانية إلى أبعد الحدود. والصهيونية كما هو معروف لدى الجميع أنها ذات موهبة عالية وقدرات كبيرة على قلب الحقائق وتزييفها، فأين الخطورة التي يدعيها الرافضون...؟
إن القضية التي يمكن الاحتجاج عليها أن إدراج القصائد موضوع الحديث ينفي عن الفلسطيني الصورة البشعة التي صورته عليها أجهزة إعلام الصهاينة، حتى هذه القضية فهي مطعون بها، حيث أن القصائد ـ قيد الدرس ـ هي لشاعر معروف، عاش ردحاً من الزمن داخل فلسطين 1948، ودرس في مدارس العدو، لم يحمل في حياته بندقية، ومع ذلك فقد سجن، وعوقب بالنفي خارج وطنه، ثم بالنفي داخل وطنه، حيث لم يسمح له بالعودة إلى قريته "البروة"، وإذا افترضنا غاية أصحاب القرار هي تلطيف وتحسين صورة الآخر كحلقة من حلقات التطبيع والتساوق مع مايسمى ثقافة السلام، فمن الوهم تصور أن مجموعة من القصائد أياً كانت قيمتها الأدبية، وأيّاً كان مبدعها، سيكون لها الأثر السحريّ الذي يقلب معادلة الدم والمجازر، ويحيل كل تلك الذكريات المريرة إلى واحة تفاهم وجسور محبة.
ومن المفيد أن نقرأ نتفاً من ردود الفعل الشرسة التي صدرت عن الجانب الصهيوني، تجاه ذلك القرار لنرى مدى الحقد الصهيوني والكراهية المطلقة لكل ماهو فلسطيني وعربي وإسلامي، ولنلمس مدى الرعب وانعدام الثقة بالذات والآخرين، الذي تأسس عليها الوجود الصهيوني بأسره حيث يقول ناحوم بارنيع في صحيفة "يديعوت أحرونوت": إن دولة يقرر فيها الوزراء القصائد التي ينبغي تعليمها في المدارس هي دولة بلشفيّة، فالوزراء والأشعار أمران مختلفان". أما رحبعام زئيفي فيقول في تعقيبه على قرار ساريد في صحيفة "معاريف" الصهيونية؛ "نحن لانريد لأطفالنا أن يتعلموا البذاءة الصادرة عن هذا الكاره. وهو يعدنا ويقسم أنه أبداً لن ينسى ولن يغفر لليهود"، وهذا غيض من فيض الأحقاد التي أثارها قرار وزير التعليم، وردود الفعل تلك، تعبير صارخ عن هوية الكيان الحاقدة، وهي بالمحصلة نتيجة طبيعية ومنطقية لتركيبة ونمطية التفكير الصهيوني، وأما قول الدعاة المتحمسين للفكرة من الجانب العربي بأن هذه الخطوة جاءت اعترافاً وإقراراً بثقافة "الآخر" وإنسانيته، فهذا لايضيف إلى حقيقة الحال شيئاً، والحضارة والثقافة العربية ليست بحاجة إلى حسن سلوك من العدو، ولا إلى براءة اختراع يأتي بها دهاقنة التطبيع وماهي الإضافة التي يشكلها تدريس بعض قصائد درويش في المناهج الصهيونية لحقائق قائمة منذ الأزل، والصهيونية والقوى الغربية المساندة لها، لاتستطيع إنكار تلك الحقيقة، فالدور العربي والثقافة العربية وأهميتها في بناء الحضارة الإنسانية، لا تحتاج إلى دليل، والمكتبات الغربية تعج بالمترجمات لأمهات الكتب الأدبية والعلمية العربية.
وفي اعتقادنا أن تلك المحاولة الخبيثة من وزير التعليم، لم تكن الغاية منها فتح معركة داخلية، قدر ما أريد منها أن تشكل اختراقاً نوعياً للحصار الثقافي لعملية التطبيع من الجانب العربي، التي لم تفلح كل المحاولات في كسرها حتى الآن، عدا استثناءات طفيفة شاذة لأفراد مطعون في نزاهتهم ومواهبهم.
إن حصن الثقافة هو أحد أهمّ وأقوى الحصون الباقية في مواجهة الانهيار والتطبيع مع العدو، وإن المساس برمز كبير كمحمود درويش يشكل محاولة خطيرة في اختراق هذا الحصن ومثلما يقول درويش نفسه واصفاً المجتمع الصهيوني بأنه "مجتمع لا يحركه إلا الخوف"، وأنهم أي الصهاينة "يحاولون تجريدي من بعدي الإنساني والتشويش على مكانتي الشعرية... وبعض الذين يعترفون بقيمتي الشعرية، يشبهونني بـ أزرا باوند أوفاغنر، والاثنان عرفا بارتباطهما بالنازية". والحملة التي استهدفت درويش إثر قصيدته "عابرون في كلام عابر" 1988 لم تزل ماثلة في الأذهان، حيث نوقشت القصيدة في إحدى جلسات الكنيست، ولجأ شامير رئيس وزراء العدو الأسبق لتزييف بعض مقاطع القصيدة آنذاك، كذريعة لشراسة الهجمة التي أطلقت على درويش في تلك الآونة.
وإذا كان ثمّة كلمة أخيرة ينبغي أن تقال، فإنه يجب التذكير بأن في هذا الاقتراح تكمن مزالق كثيرة، غاية في الخطورة والمكر، فهي تفتح الباب على مصراعيه. لبعض ضعاف النفوس، ممن يمكن وصفهم بأنهم لايتحملون غمزةً كما يقال، ولن يتورع هؤلاء النفر بالتذرع بأنه إذا كان محمود درويش رضي أن تدرس قصائده ضمن حسن السلوك الذي يعطيه الصهاينة، فما ضرّ لو أنهم بدورهم أيضاً أخذوا مواقعهم في مستنقع الذل والاستسلام للعدو..؟!
وقد سبق لنفرٍ من هؤلاء المهزوزين ـ ولمّا يحتاجون إلى دعوة ـ أن خلعوا أرديتهم وعروبتهم. فمطرب الراي الجزائري خالد صاحب أغنية "عبد القادر يابو علام" غنّى مع المطربة اليهودية "لاتسونتنر"، كما شاركته أغنية "تخيّل" في ألبومه الأخير الذي يحمل اسم ابنته "كنزه"، والأغنية في أساسها لمغني البيتلز جون ليتون، وحين سئل خالد عن موقفه ذاك، قال أنه يغني للسلام، هكذا وبكل بساطة..!
وماينبغي التنبه إليه في هذه المرحلة الخطيرة من صراعنا الوجودي مع الصهاينة أن تلك الحركة بالإضافة لكل أساليبها البشعة التي لجأت إليها في الماضي، تلجأ الآن إلى أسلوب العصا والجزرة في محاولاتها الماكرة لتهديم ما تبقى من حصون وقلاع في المنطقة، تأطرت في الساحة الثقافية. فمحاولتها مع درويش تندرج في إطار إثارة الشبهات، إضافة لما ذكرناه وهذه ليست المحاور الأولى، وقد سبق أن أثيرت شائعة أخرى بأن المطرب كاظم الساهر سيغني داخل الأراضي المحتلة وأنه قد حصل على تأشيرة دخول إسرائيلية على جواز سفره العراقي، للمشاركة بمهرجان رام الله، وقد سارع الساهر لنفي تلك الشائعة على لسان ابن اخته بدر في القاهرة الذي قال إن كاظم الساهر لن يزور فلسطين إلا وهي محررة كاملة من الاحتلال الإسرائيلي، كذلك البرنامج الصهيوني "صراحة في صراحة" ادعت فيه نيللي أيهود أنها عملت في السينما المصرية وأن الفنانات مريم فخر الدين، هند رستم، برلنتي عبد الحميد، وناديا لطفي ـ وهن من الفنانات المشهورات على مدى الوطن العربي ـ كنّ يتعاطفن مع أهداف الصهيونية وأنهن عملن مع الموساد، جهاز الأمن الصهيوني، في حملة تشويه مغرضة غايتها النيل من كل الأسماء على مبدأ "العيار الذي لايقتل، يطرش"، فعلى الأقل يعرف عن الفنانة ناديا لطفي بأنها شاركت المقاومة الفلسطينية واللبنانية الحصار في بيروت 1982، كذلك الممثلة مريم فخر الدين التي أعلنت توبتها حتى عن الفن كلّه.
إن هذه المحاولات الصهيونية التي تعمل بدأت لنهش وتشويه الكبار وطحن وسحق الصغار أو جرهم إلى مستنقع الخنوع، تأتي ضمن إطار الحرب الصهيونية المفتوحة لهدم وزعزعة ما تبقى من الحصون.
وهذا ماينبغي التنبه إليه، والتعامل معه بحذر قبل المسارعة بإبداء الرأي والقراءة السطحية لظواهر الأمور، ومن السذاجة بمكان، كل تلك التعليقات المستبشرة التي صدرت في هذه العاصمة أو تلك حول قرار ساريد، وهذا يملي على كل المفكرين والأدباء والصحفيين توخّي الحذر أكثر فأكثر، وعدم الوقوع في المطبات والمنزلقات التي تخلقها الحركة الصهيونية بين فينةٍ وأخرى، قبل أن نعضّ على أصابعنا ندماً، حيث لاينفع الندم..!
الأسبوع الأدبي ـ العدد 719 تاريخ 29/ 7/ 2000م