لا تنثروا فوق قبري الياسمين

عبد الحفيظ بن جلولي

حنين:
إذ يقول، يرتعش الحقل، يسامر غصنا ويمضي على مشارف الطفولة..
إذ يحب، يزف أرضا، يشتعل عَوْدا وينتشي على أسوار القصيدة..
إذ يرتاح إلى الموت، يقطر الشعر من هدب الزيتون، ويجتاز فحلا إلى حبور القلب..

الليل يضرب بأستاره السوداء،
ونظّارتي لمّا تزل على عيني،
تغطيهما كي لا تنكشف شراسة الحزن الباسمة..
في الشارع المحاذي للضجيج،
سرت أمعن الاستماع إلى الصوت الرخيم..
مارسيل،
أول المعزِّين وآخر الباكين..
"احن إلى قهوة أمي"..
تميمة الوطن المعشّقة بتباهيج المد الاستيعادي..
كنا نحوم حول النص،
ونحلم أن يكون سبيلا إلى استعادة الأرض..
النص صار يتيما،
وعينيك لم تقعدا للوتر مقعده الرّصين،
لكنّ يديك،
لوّحتا لمارسيل من خلف أنامله الصديقة للنغم،
وراحتا يقرءان رام الله كما لم يتعوّدا،
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"..
ترفع سبابتك في غير تكلف،
تدفع نظارتك إلى أعلى،
وتغرز عيناك في التراب وفي النص أيضا..
على يديك أيها المزارع في حقول الوجع،
صار النص رديفا للأرض،
وصرنا في افتراض حقيق،
نلمّ الخطو خلف رؤاك،
ونغنّى قبل الشمس..
"حاصر حصارك لا مفر.."
كلما أيقنت أن الفارس ترجّل وارتمى على ضفاف الهدوء،
انسربت إلى سيول المحبة والأرض العشيقة،
استمع إلى نشيجه في غيابات الشفاف،
استعيد حيفا ورام الله والقدس وغزة ويافا،
وأُلامس شيئا من عيون القصيد
لعلّ الكلمات،
تُبعث من أغاني الرعاة،
أهدابا للذاكرة
والمواقيت الموسومة بالتراب..
الأرض في أحلامي تلبّست شكل الأغنيات،
والطيف البدوي لم يحن أوانه،
ترك الحصان وحيدا، ولم يلتفت إلي،
لوّح بيده، وقرأ سطور قصيدته
وربّما نسي أن يحمل متونه الباقية،
فالدرب ما زال طويلا،
والموت.. الموت.. هو لم يمت،
لان "الجدارية" بمقهانا تلوّن حواشي الفناجين
وتملأ البن عطرا
وتهتف في روعة مستحيلة..
"يطير الحمام يحط الحمام.."
نعيش ونحب ونكره ونتعذب ونقف قبالة ذواتنا،
نحمل رؤانا الحالمة وعشقنا المفقود،
وكل الآهات اللازمة لكتابة قصيدة، عنوانها أمي..
الحاجة "حورية"..
ميلاد الأرض والكلمات التي لا تموت،
وأيضا ميلاد الشاعر ملحمة المنفى،
فضاءات "حضرة الغياب"،
والعصافير التي تغرّد بعنف لشغف العودة..
الحاجة حورية..
ترنيمة الزمن الذي ينكتب على مهل،
ريثما تحضّر قهوة يحن إليها محمود..
الحاجة حورية..
يدان مبتلتان بالتعب والرحيل،
مغبرّتان بدقيق الحنين،
الذي ينبني على المسافات شوقا لخبز أمي.. 
تجتاز رام الله عثرة الانسداد،
تتكلم خلف الحزن الدفين،
تتعالى فوق الجرح وفوق الأنين،
وترسم عشا أنيقا لحضرة الفارس،
تتوالد فيه الكلمات كاهتزاز مُمَوْسَقٍ لرشاقة الفراشات..
اليوم يا رام الله اكتبي حزنك بدموع المشيِّعين،
واردمي هوة الشتات إلى الأبد،
واحملي المنصة شعلة على أكتاف الشعراء،
ولا تمسحي اثار الخطو من الشوارع،
علّها ترسم للذكرى موعدا جنونيا،
يهتف فيه النعش رعشا،
ويرفرف فوق سماءه كفن بلون الحياة..
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة.."
نستمع، نلتمع، ننشد ونردد..
"حاصر حصارك لا مفر.."
على المنصة يلتفت السّحر إلى دهشتنا،
يكلمنا، يصدمنا، نتعلق بسطوة الغياب،
وهو يرسم حضور حضرة الغياب،
ويشير إلى غيابنا..
عنوان القصيدة..
"الجميلات"..
هو يعبر إلى القلب والتخوم العابرة..
يرقد فوق فوهة المحبة
ويُعشِّق الأرض بنبات البدايات..
مذ سرمد الغيمة
كان اللون الرمادي يمسح متاه الظهيرة،
ولما انفلت بصيص الضّوء من آخر النفق،
كان يكتب وصايا العبور إلى الأبد..
لا تنثروا فوق قبري الياسمين، لان فيه رائحة الموت..