فقه الفراق
هكذا جري الأمر في يسر، في هدوء، في خطي حثيثة غير هيٌابة قطع خلالها ما تبقٌي إلي الأبدية، إلي المطلق، حرت كثيرا، من أين أبدأ، تتعدد الشعاب إليه، غير أنني أتعلم من بساطته وثقابة رؤيته فأحكي ما جري منذ أن أخبرني صديقنا المشترك نبيل درويش الإعلامي المعروف مراسل الإذاعة الفرنسية في القاهرة، كان ذلك منذ ثلاثة أسابيع بالضبط تحتسب إلي الوراء من تاريخ هذا العدد، قال لي نبيل إن محمود يمر بمرحلة دقيقة، وقد يضطر إلي إجراء عملية خطيرة، بادرت إلي الاتصال الهاتفي بمحمود في عمان، اعتدت ذلك علي فترات متباعدة، سألته أولا عن رحلته إلي فرنسا. حدثني عن الأمسية الشعرية التي أقامها في مدينة "آرل" جنوب فرنسا، كانت الأمسية جزءا من احتفالية دار اكتوسود بمرور ثلاثين عاما علي تأسيسها، والدار تنشر أعمال محمود المترجمة إلي الفرنسية منذ سنوات، قال لي إن تودروف المفكر بلغاري الأصل. الشهير، كان حاضرا، كذلك الروائية كندية الأصل نانسي هيوستون زوجته، وتربطهما بمحمود صلة قوية. تجاوز عدد الجمهور الألف مستمع جاءوا من المدن المجاورة ليدفع كل منهم ثمانية عشر يورو ليصغي إلي أشعار محمود التي يقرأها بالعربية ويقوم ممثل محترف بالقاء الترجمة إلي الفرنسية. عرفت ذلك من قبل مع محمود، ليس في فرنسا فقط، إنما في بلدان أوروبية أخري، وفي بلدان عربية بالطبع. غير أن الحالتين مختلفتان، وفي فرنسا بالتحديد كان له وضع خاص، منذ عامين رافقته في تولوز، وكان عدد المستمعين بالآلاف، ومنذ خمس سنوات صحبته في بوردو، وكان الاحتفاء به مدهشا، محمود دخل ضمير الإنسانية كشاعر متفرد، عظيم، وما أقل الشعراء الكبار في عالمنا المعاصر، يعدون علي أصابع اليد الواحدة، لو أن محمود لم يكن فلسطينيا لحصل علي جائزة نوبل منذ سنوات طويلة، لكنه مثل الأدب العربي جزء من الصراع والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، ومحمود في مركز هذا الصراع، إنه ذاكرة فلسطين الروحية، فلأ كف عن الاستطراد، فلألزم الوقائع، استعيد صوت محمود الهاديء الآن، بعد أن تحدثنا عن جمهور الشعر في الغرب، واستعدنا بعض ذكريات مشتركة من لقاءاتنا في الخارج، سألته ـ وكأني أنطق عرضا ـ عن صحته، أجابني بهدوء إنه مقبل علي جراحة خطيرة، ضحك قائلا: تصوٌر أنه من المطلوب تغيير ستة وعشرين سنتيمترا من الشريان الأورطي. طلبت منه أن يشرح أكثر، كنت أتبادل معه الخبرات منذ سنوات، خاصة بعد الأزمة الخطيرة التي مرٌ بها في أحد فنادق النمسا، وبعد العملية التي كانت تصنف بأنها خطيرة عام ستة وتسعين، والتي أجريتها في كليفلاند بالولايات المتحدة، هذه العملية خط أحمر في حياتي. سواء فيما يتعلق بحضوري المادي أو النفسي والروحي، وقد فصلت أمرها في يوميات عنوانها "الخطوط الفاصلة"، واستوحيت منها نصوصا قصصية عنوانها "مقاربة الأبد"، فيما تلي صدورها قرأت (جدارية) محمود درويش وذهلت لتطابق الحال، لتشابه التجربة، بل إن ما أفلت مني لعجز النثر عبٌر عنه هو بقدرة الشعر علي اقتناص ظلال الظلال، ومالم يفسره، هو في استخلاصه الرحيق، فصلته نثرا في التدوينين. منذ إجرائي الجراحة أهتم بكل ما يتصل بالقلب وشئونه، وأساليب تطور الجراحة والتقدم الذي حدث فيها، بل انني مازلت علي اتصال بأطبائي في أمريكا، ومنهم من أصبح صاحبا حميما. الدكتور فوزي اسطفانوس المصري، ابن نجع الشجرة في طما الذي أصبح خبيرا عالميا في التخدير، أما الدكتور جلال السعيد فلا أملك إلا الدعاء له بالصحة وطول العمر فهو من يرعاني بعد الله في مصر، هكذا أصغيت إلي محمود وأدركت أن حالته خطيرة بالفعل، لكنني حرت، فالأطباء الفرنسيون رأوا ألا يجري الجراحة لأنها مصنفة في الخطرة جدا، أما انتفاخ الأورطي وتمدده فيخضع للاحتمالات، يمكن أن ينفجر بعد خمس دقائق ويمكن أن تمر عشر سنوات بدون أن يحدث شيء، قلت لمحمود أنني عرفت حالات كانت أخطر في كليفلاند ولكن معظمها اجتاز الخطر، لماذا لم يذهب إلي كليفلاند، قال إنه ليس هو الذي يقرر، علي كل حال فقد قرر السفر، سألته عمن سيرافقه، ذكر لي اسمين، سألته عن رقم الهاتف الجوال الذي سيكون معه، أخبرني به: 9725992626 قلت له أنني سأكون معه خلال الرحلة، سوف أتصل به بعد نجاح الجراحة، قال بصوت مبتسم: ياجمال! لم يكمل، لكن ثمة كلمات يتمم معناها أسلوب النطق، كأنه يقول: ياعالِم.. تمنيت له الجميل وانتهت مكالمتنا، كتبت خبرا نشر في الصفحة الأخيرة من (أخبار الأدب) ولعله أول إشارة إلي الوضع الصحي القلق الذي يمر به محمود، في يوم صدور أخبار الأدب اتصل به الأبنودي من معزله في الإسماعيلية، مريض يطمئن علي مريض، وأعرف ما يربطهما من صلة حميمة، عميقة يندر أن تكون بين قامتين شعريتين كبيرتين، صلة مصدرها الاحترام العميق، وتقدير شاعرية كل منهما للآخر، كان بيت الأبنودي أحد البيوت القليلة التي يأنس إليها محمود في القاهرة، وكان الأبنودي يستعد بالطبق المفضل لصديقه الحميم. الملوخية الخضراء علي الطريقة الصعيدية. تابعت سفر محمود إلي الولايات المتحدة، كان مصدري صديقنا نبيل درويش الذي كان مطلعا علي أدق التفاصيل عبر الأصدقاء المشتركين، عندما يتعرض صديق عزيز لأخطار صحية أو حادث داهم يستنفر ما يخصه عندنا، ما لم يكن له حضور قبل بدء ذلك الترقب الموجع، القلق، الممض، أحاول أن أتفحص ما مضي، متي رأيته لأول مرة؟ متي تعرفت إليه شخصيا؟ لايمكنني التحديد، يختلط عندي ما سمعته بما عاينته بما قرأته. المؤكد أنني لم أتعرف إليه عند حضوره إلي القاهرة وبدء إقامته التي لم تمتد كثيرا. خلال عمله مع المرحوم أحمد بهاء الدين في مجلة المصور، ثم عند انتقاله إلي الأهرام وقرار الأستاذ محمد حسنين هيكل بضمه إلي صفوة الأدباء الكبار في الأهرام، أصبح من قاطني الطابق السادس، وكان هذا الطابق يضم الخلاصة، في غرفة واحدة، كانت مكاتب نجيب محفوظ، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتورة بنت الشاطيء، وانضم إليهم محمود درويش، عندما زار القاهرة عام خمسة وتسعين جاء إلي السفينة النهرية الراسية (فرح بوت)، استقبله نجيب محفوظ مرحبا، مناديا: أهلا بزميلي في المكتب، فيما تلا ذلك لم يأت محمود إلي القاهرة إلا وزار نجيب محفوظ، الآن هما معا، ونحن نتأهب! في القاهرة، في باريس. في عمان، في بغداد في موسكو، تتوالي عليٌ صور شتي للقاءاتنا، لحواراتنا السريعة، كذلك عبر الهاتف، كنت ألح عليه دائما بخصوص ضرورة إصدار بيان شعري من شعراء العربية الكبار (وعددهم لايزيد عن أصابع اليد الواحدة)، ربما يكون علامة في مواجهة هذا الاستسهال الذي جري باسم الحداثة، وقصيدة النثر، أذكر تعليقه متعجبا "إن النثر في أرقي حالاته يطمح أن يكون شعرا، فكيف نقول قصيدة النثر". غير أنه كان يؤثر تجنب الدخول في معارك صاخبة خاصة مع ميلشيات قصيدة النثر المنتشرين في مواقع حصينة بمنابر الإعلام العربية، ومواقع الإنترنت التي دخلت الخدمة كسلاح فعال، كان محمود حريصا علي التركيز الشديد في إبداعه، أن يبتعد عن الضجيج وعن مشاكل الحياة الثقافية العربية، لذلك نجده بعيدا قصيا في العواصم التي أمضي فيها وقتا. من القاهرة إلي باريس إلي عمان، كانت همومه الكبري تشغله تماما وأولها الشعر وما يتصل به من قضايا، وبالطبع قضية وطنه وشعبه الذي خص بظروف مأساوية تاريخية لم يعرفها شعب آخر، كان صوتا لهذا الوطن ولهذا الشعب، وواعيا بالظروف الصعبة المتدهورة، أذكر ترديده مرات عندما تحدثنا في أوضاعنا بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يردد بلهجته السريعة وكلماته المتلاحقة: وضعنا سييء، وضعنا صعب جدا غير أن ما جري في غزة ربما فاق أسوأ توقعاته. فالقضية الوطنية الكبري لشعبه يجري تصفيتها بأيدي فريق من أبناء هذا الشعب نفسه، ولكم كان بليغا دقيقا عندما وصف المشهد المأساوي الذي جري في غزة قائلا: لقد جري استبدال العلم الفلسطيني متعدد الألوان بعلم ذي لون واحد، أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في نفس الوقت الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا، ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الإلكترونية التي تصف محمود درويش بالإلحاد والكفر، فكأنهم يسعون إلي تشويه أقوي صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفسطيني إلي ضمير الإنسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان. في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا إليه جورباتشوف، وفيه التقي بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما علي نشاطي الصحفي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب (يري أنه مهم وكبير) علي ذلك؟ وكنت أقول له إنها مهنتي يامحمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة. وأنني مطالب بإنفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحفي، كان يري في ذلك اهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة أنني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلي فترات وصف ذلك بأنه انتحار. قال لي إنه ينام ثماني ساعات. وقد خصص في نصه البديع "في حضرة الغياب". فصلا كاملا عن النوم،. هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس إلا انشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، إنه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس إلي اللا محسوس، ما يمكن تحديده إلي مالا يمكن تحديده أو تعيينه، في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفيتة علي خباياه التي لم يدركها أحد، حتي إبداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة. أنه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي. لسان العرب لابن منظور، يفتح علي أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث. وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع، وسوف نستعيده في أخبار الأدب شعرا ونثرا مادمت مسئولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب، أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة، فقد ارتقي إلي حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبٌر عنها بعمق ورقة ورفعة وهذا ما لم يتفق إلا لقلة في تاريخ الابداع الإنساني. أسس مجلة (الكرمل) التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي حديدي، وأثناء تخطيطه لإصدارها اتصل بي (لا أذكر من أي بلد؟)، طلب نصا، قلت له أنني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي، أعني (كتاب التجليات) طلب مني أن أرسل جزءا أختاره، وبالفعل أرسلت إليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفيما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي، كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة. غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها. وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأه (نثار المحو) الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس (الرن)، وقد خجلت في آخر اتصال أن استفسر عما اذا كان وصله بالبريد أم لا؟ تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقي منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الوجود المحدود فيمضي، غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت إليه جيدا، ولاحظته بدقة، أذكر إننا عندما سافرنا من بوردو إلي باريس لاحظت أنه لايحمل إلا حقيبة يد مما يصعد به الراكب إلي الطائرة، فقط ليس غير، ورغم وسامته وأناقته، إلا أنني لم أره إلا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض إنه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة. هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم رغم ما أشيع عن خشونته. طوال الأسبوع قبل الماضي عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟ من مقال الصديق صبحي حديدي المنشور في هذا العدد عرفت أنه سافر عن طريق باريس. أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عمان إلي باريس إلي ولاية تكساس حيث المستشفي، من نبيل درويش علمت الاحد أنه أجري الجراحة يوم الأربعاء، وأن الوضع حرج، يوم السبت اتصلت بنبيل لشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي إن محمود في حالة موت سريري منذ الأمس، وأن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلي اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج لأقاربه، أعد لكل شيء عدته، إذ أوصي ألا يوضع علي أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان عدما من حيث المضمون. موجودا من حيث الشكل. هكذا رحل في بساطة، أقول في بساطة لأن الأمر جري هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة علي الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة "الجدارية" ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبو حيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية "في حضرة الغياب". هل تكتسب النصوص قيمة إضافية في حالة اكتمال أصحابها وخروجهم إلي النهار؟ بالتأكيد، يصبح للنص حياة قائمة بذاته، منفصل عن صاحبه، أقرأ بدهشة وإعجاب، وأسي، أما الدهشة فلأنني لم أنتبه كفاية إلي أن محمود يحتضر منذ زمن ليس بالهين، عاش موته قبل موته، أما الإعجاب فمصدره رفعة النصوص، أما الأسي، فمصدره الفراق، وقد توقفت طويلا أمام الفصل الذي خصصه للحنين في "حضرة الغياب"، لقد أسس به لفقه الفراق الإنساني، فكل منا مفارق، مفارق.
هكذا جري الأمر في يسر، في هدوء، في خطي حثيثة غير هيٌابة قطع خلالها ما تبقٌي إلي الأبدية، إلي المطلق، حرت كثيرا، من أين أبدأ، تتعدد الشعاب إليه، غير أنني أتعلم من بساطته وثقابة رؤيته فأحكي ما جري منذ أن أخبرني صديقنا المشترك نبيل درويش الإعلامي المعروف مراسل الإذاعة الفرنسية في القاهرة، كان ذلك منذ ثلاثة أسابيع بالضبط تحتسب إلي الوراء من تاريخ هذا العدد، قال لي نبيل إن محمود يمر بمرحلة دقيقة، وقد يضطر إلي إجراء عملية خطيرة، بادرت إلي الاتصال الهاتفي بمحمود في عمان، اعتدت ذلك علي فترات متباعدة، سألته أولا عن رحلته إلي فرنسا. حدثني عن الأمسية الشعرية التي أقامها في مدينة "آرل" جنوب فرنسا، كانت الأمسية جزءا من احتفالية دار اكتوسود بمرور ثلاثين عاما علي تأسيسها، والدار تنشر أعمال محمود المترجمة إلي الفرنسية منذ سنوات، قال لي إن تودروف المفكر بلغاري الأصل. الشهير، كان حاضرا، كذلك الروائية كندية الأصل نانسي هيوستون زوجته، وتربطهما بمحمود صلة قوية. تجاوز عدد الجمهور الألف مستمع جاءوا من المدن المجاورة ليدفع كل منهم ثمانية عشر يورو ليصغي إلي أشعار محمود التي يقرأها بالعربية ويقوم ممثل محترف بالقاء الترجمة إلي الفرنسية.
عرفت ذلك من قبل مع محمود، ليس في فرنسا فقط، إنما في بلدان أوروبية أخري، وفي بلدان عربية بالطبع. غير أن الحالتين مختلفتان، وفي فرنسا بالتحديد كان له وضع خاص، منذ عامين رافقته في تولوز، وكان عدد المستمعين بالآلاف، ومنذ خمس سنوات صحبته في بوردو، وكان الاحتفاء به مدهشا، محمود دخل ضمير الإنسانية كشاعر متفرد، عظيم، وما أقل الشعراء الكبار في عالمنا المعاصر، يعدون علي أصابع اليد الواحدة، لو أن محمود لم يكن فلسطينيا لحصل علي جائزة نوبل منذ سنوات طويلة، لكنه مثل الأدب العربي جزء من الصراع والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، ومحمود في مركز هذا الصراع، إنه ذاكرة فلسطين الروحية، فلأ كف عن الاستطراد، فلألزم الوقائع، استعيد صوت محمود الهاديء الآن، بعد أن تحدثنا عن جمهور الشعر في الغرب، واستعدنا بعض ذكريات مشتركة من لقاءاتنا في الخارج، سألته ـ وكأني أنطق عرضا ـ عن صحته، أجابني بهدوء إنه مقبل علي جراحة خطيرة، ضحك قائلا: تصوٌر أنه من المطلوب تغيير ستة وعشرين سنتيمترا من الشريان الأورطي.
طلبت منه أن يشرح أكثر، كنت أتبادل معه الخبرات منذ سنوات، خاصة بعد الأزمة الخطيرة التي مرٌ بها في أحد فنادق النمسا، وبعد العملية التي كانت تصنف بأنها خطيرة عام ستة وتسعين، والتي أجريتها في كليفلاند بالولايات المتحدة، هذه العملية خط أحمر في حياتي. سواء فيما يتعلق بحضوري المادي أو النفسي والروحي، وقد فصلت أمرها في يوميات عنوانها "الخطوط الفاصلة"، واستوحيت منها نصوصا قصصية عنوانها "مقاربة الأبد"، فيما تلي صدورها قرأت (جدارية) محمود درويش وذهلت لتطابق الحال، لتشابه التجربة، بل إن ما أفلت مني لعجز النثر عبٌر عنه هو بقدرة الشعر علي اقتناص ظلال الظلال، ومالم يفسره، هو في استخلاصه الرحيق، فصلته نثرا في التدوينين. منذ إجرائي الجراحة أهتم بكل ما يتصل بالقلب وشئونه، وأساليب تطور الجراحة والتقدم الذي حدث فيها، بل انني مازلت علي اتصال بأطبائي في أمريكا، ومنهم من أصبح صاحبا حميما.
الدكتور فوزي اسطفانوس المصري، ابن نجع الشجرة في طما الذي أصبح خبيرا عالميا في التخدير، أما الدكتور جلال السعيد فلا أملك إلا الدعاء له بالصحة وطول العمر فهو من يرعاني بعد الله في مصر، هكذا أصغيت إلي محمود وأدركت أن حالته خطيرة بالفعل، لكنني حرت، فالأطباء الفرنسيون رأوا ألا يجري الجراحة لأنها مصنفة في الخطرة جدا، أما انتفاخ الأورطي وتمدده فيخضع للاحتمالات، يمكن أن ينفجر بعد خمس دقائق ويمكن أن تمر عشر سنوات بدون أن يحدث شيء، قلت لمحمود أنني عرفت حالات كانت أخطر في كليفلاند ولكن معظمها اجتاز الخطر، لماذا لم يذهب إلي كليفلاند، قال إنه ليس هو الذي يقرر، علي كل حال فقد قرر السفر، سألته عمن سيرافقه، ذكر لي اسمين، سألته عن رقم الهاتف الجوال الذي سيكون معه، أخبرني به: 9725992626 قلت له أنني سأكون معه خلال الرحلة، سوف أتصل به بعد نجاح الجراحة، قال بصوت مبتسم: ياجمال!
لم يكمل، لكن ثمة كلمات يتمم معناها أسلوب النطق، كأنه يقول: ياعالِم.. تمنيت له الجميل وانتهت مكالمتنا، كتبت خبرا نشر في الصفحة الأخيرة من (أخبار الأدب) ولعله أول إشارة إلي الوضع الصحي القلق الذي يمر به محمود، في يوم صدور أخبار الأدب اتصل به الأبنودي من معزله في الإسماعيلية، مريض يطمئن علي مريض، وأعرف ما يربطهما من صلة حميمة، عميقة يندر أن تكون بين قامتين شعريتين كبيرتين، صلة مصدرها الاحترام العميق، وتقدير شاعرية كل منهما للآخر، كان بيت الأبنودي أحد البيوت القليلة التي يأنس إليها محمود في القاهرة، وكان الأبنودي يستعد بالطبق المفضل لصديقه الحميم. الملوخية الخضراء علي الطريقة الصعيدية.
تابعت سفر محمود إلي الولايات المتحدة، كان مصدري صديقنا نبيل درويش الذي كان مطلعا علي أدق التفاصيل عبر الأصدقاء المشتركين، عندما يتعرض صديق عزيز لأخطار صحية أو حادث داهم يستنفر ما يخصه عندنا، ما لم يكن له حضور قبل بدء ذلك الترقب الموجع، القلق، الممض، أحاول أن أتفحص ما مضي، متي رأيته لأول مرة؟ متي تعرفت إليه شخصيا؟ لايمكنني التحديد، يختلط عندي ما سمعته بما عاينته بما قرأته. المؤكد أنني لم أتعرف إليه عند حضوره إلي القاهرة وبدء إقامته التي لم تمتد كثيرا. خلال عمله مع المرحوم أحمد بهاء الدين في مجلة المصور، ثم عند انتقاله إلي الأهرام وقرار الأستاذ محمد حسنين هيكل بضمه إلي صفوة الأدباء الكبار في الأهرام، أصبح من قاطني الطابق السادس، وكان هذا الطابق يضم الخلاصة، في غرفة واحدة، كانت مكاتب نجيب محفوظ، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتورة بنت الشاطيء، وانضم إليهم محمود درويش، عندما زار القاهرة عام خمسة وتسعين جاء إلي السفينة النهرية الراسية (فرح بوت)، استقبله نجيب محفوظ مرحبا، مناديا: أهلا بزميلي في المكتب، فيما تلا ذلك لم يأت محمود إلي القاهرة إلا وزار نجيب محفوظ، الآن هما معا، ونحن نتأهب!
في القاهرة، في باريس. في عمان، في بغداد في موسكو، تتوالي عليٌ صور شتي للقاءاتنا، لحواراتنا السريعة، كذلك عبر الهاتف، كنت ألح عليه دائما بخصوص ضرورة إصدار بيان شعري من شعراء العربية الكبار (وعددهم لايزيد عن أصابع اليد الواحدة)، ربما يكون علامة في مواجهة هذا الاستسهال الذي جري باسم الحداثة، وقصيدة النثر، أذكر تعليقه متعجبا "إن النثر في أرقي حالاته يطمح أن يكون شعرا، فكيف نقول قصيدة النثر". غير أنه كان يؤثر تجنب الدخول في معارك صاخبة خاصة مع ميلشيات قصيدة النثر المنتشرين في مواقع حصينة بمنابر الإعلام العربية، ومواقع الإنترنت التي دخلت الخدمة كسلاح فعال، كان محمود حريصا علي التركيز الشديد في إبداعه، أن يبتعد عن الضجيج وعن مشاكل الحياة الثقافية العربية، لذلك نجده بعيدا قصيا في العواصم التي أمضي فيها وقتا. من القاهرة إلي باريس إلي عمان، كانت همومه الكبري تشغله تماما وأولها الشعر وما يتصل به من قضايا، وبالطبع قضية وطنه وشعبه الذي خص بظروف مأساوية تاريخية لم يعرفها شعب آخر، كان صوتا لهذا الوطن ولهذا الشعب، وواعيا بالظروف الصعبة المتدهورة، أذكر ترديده مرات عندما تحدثنا في أوضاعنا بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يردد بلهجته السريعة وكلماته المتلاحقة:
وضعنا سييء، وضعنا صعب جدا
غير أن ما جري في غزة ربما فاق أسوأ توقعاته. فالقضية الوطنية الكبري لشعبه يجري تصفيتها بأيدي فريق من أبناء هذا الشعب نفسه، ولكم كان بليغا دقيقا عندما وصف المشهد المأساوي الذي جري في غزة قائلا: لقد جري استبدال العلم الفلسطيني متعدد الألوان بعلم ذي لون واحد، أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في نفس الوقت الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا، ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الإلكترونية التي تصف محمود درويش بالإلحاد والكفر، فكأنهم يسعون إلي تشويه أقوي صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفسطيني إلي ضمير الإنسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان.
في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا إليه جورباتشوف، وفيه التقي بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما علي نشاطي الصحفي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب (يري أنه مهم وكبير) علي ذلك؟ وكنت أقول له إنها مهنتي يامحمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة. وأنني مطالب بإنفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحفي، كان يري في ذلك اهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة أنني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلي فترات وصف ذلك بأنه انتحار. قال لي إنه ينام ثماني ساعات. وقد خصص في نصه البديع "في حضرة الغياب". فصلا كاملا عن النوم،.
هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس إلا انشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، إنه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس إلي اللا محسوس، ما يمكن تحديده إلي مالا يمكن تحديده أو تعيينه، في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفيتة علي خباياه التي لم يدركها أحد، حتي إبداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة. أنه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي. لسان العرب لابن منظور، يفتح علي أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث. وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع، وسوف نستعيده في أخبار الأدب شعرا ونثرا مادمت مسئولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب، أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة، فقد ارتقي إلي حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبٌر عنها بعمق ورقة ورفعة وهذا ما لم يتفق إلا لقلة في تاريخ الابداع الإنساني.
أسس مجلة (الكرمل) التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي حديدي، وأثناء تخطيطه لإصدارها اتصل بي (لا أذكر من أي بلد؟)، طلب نصا، قلت له أنني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي، أعني (كتاب التجليات) طلب مني أن أرسل جزءا أختاره، وبالفعل أرسلت إليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفيما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي، كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة. غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها. وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأه (نثار المحو) الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس (الرن)، وقد خجلت في آخر اتصال أن استفسر عما اذا كان وصله بالبريد أم لا؟ تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقي منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الوجود المحدود فيمضي، غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت إليه جيدا، ولاحظته بدقة، أذكر إننا عندما سافرنا من بوردو إلي باريس لاحظت أنه لايحمل إلا حقيبة يد مما يصعد به الراكب إلي الطائرة، فقط ليس غير، ورغم وسامته وأناقته، إلا أنني لم أره إلا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض إنه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة. هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم رغم ما أشيع عن خشونته.
طوال الأسبوع قبل الماضي عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟ من مقال الصديق صبحي حديدي المنشور في هذا العدد عرفت أنه سافر عن طريق باريس. أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عمان إلي باريس إلي ولاية تكساس حيث المستشفي، من نبيل درويش علمت الاحد أنه أجري الجراحة يوم الأربعاء، وأن الوضع حرج، يوم السبت اتصلت بنبيل لشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي إن محمود في حالة موت سريري منذ الأمس، وأن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلي اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج لأقاربه، أعد لكل شيء عدته، إذ أوصي ألا يوضع علي أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان عدما من حيث المضمون. موجودا من حيث الشكل.
هكذا رحل في بساطة، أقول في بساطة لأن الأمر جري هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة علي الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة "الجدارية" ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبو حيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية "في حضرة الغياب". هل تكتسب النصوص قيمة إضافية في حالة اكتمال أصحابها وخروجهم إلي النهار؟ بالتأكيد، يصبح للنص حياة قائمة بذاته، منفصل عن صاحبه، أقرأ بدهشة وإعجاب، وأسي، أما الدهشة فلأنني لم أنتبه كفاية إلي أن محمود يحتضر منذ زمن ليس بالهين، عاش موته قبل موته، أما الإعجاب فمصدره رفعة النصوص، أما الأسي، فمصدره الفراق، وقد توقفت طويلا أمام الفصل الذي خصصه للحنين في "حضرة الغياب"، لقد أسس به لفقه الفراق الإنساني، فكل منا مفارق، مفارق.