علمنا محمود درويش

علي خشان

تكلم عن الثبات والثوابت، ولم يتكتم عن الجرائم ولم يهادن في الدم. حمل هاجس الدفاع عن الوطن والإنسان والثقافة الوطنية والتاريخ والواقع المر والمستقبل المجهول المرع،ب ودافع عن الأحرار والأسرى والمعتقلين، ونبذ التخوين والتكفير وكان سنداً للمبدعين من الكتاب والصحفيين وهو يعيش تحت نير الإحتلال. قدم للشعر والأدب الكثير واجه وتحدى وأبكى وهز المشاعر واستلهم الإبداع واستنهض الشعب وقدم وقدم وقدم. لم يسعَ لفتات المناصب، ولم يعمل طمعا في الرواتب. لقد صبر وصابر وعمل ورابط في أحلك الظروف والمواقف. ولم يتنازل ولم يضعف رغم ضنك العيش وسوء الحال. عمل في مهنة المخاطر والمصاعب، وكانت له قضية يدافع عنها. لم يتحدث بإسم حزب، ولم ينطق بكفر في أي عهد من العهود، وعاش من اجل حلم من أجل وطن حر.

لقد ٌحفرت أعماله بأحرف من ذهب في الذاكرة الفلسطينية، وأضحت مقالاته كنوزا للأحرار في الوطن العربي والعالم. لقد كرمته الشعوب والمؤسسات، وحصد الجوائز والميداليات، ولم تفلح كل الخطط المزعومة بفصله عن شعبه أو في منعه من الوصول لهدفه. فقد نظم وكتب وأبدع وبنى للعلم صرحا في فلسطين، وجمع قلوب الفلسطينيين حوله بكل تياراتهم وأحزابهم ومشاربهم، وجعل من الأدب والشعر والفكر والمنطق دستوراً للحياة! مع محمود درويش لم تعد طريقنا تلك الشعارات التي اختزلت أحلام أمتنا المفعمة بالآمال المتجذرة في أعماق الكيان الممتدة إلى كل الآفاق! مع محمود درويش كان بناء الإنسان القائم على الاعتراف بالآخر والإيمان به وقبوله شريكا الأمل المرتجى الذي خارت دونه العزائم وضلت عن سبيله الخطط والمناهج! كان بناء الإنسان هو الحقيقة التي قضى دونها شاعرنا الراحل وكان هذا البناء هو ألفباء الدخول إلى خضم الإشكالية البنيوية التي تسمرت أمام اقتحام أسوارها عزائم الرجال، وأحجم عن ولوجها أصحاب الشعارات وفرسان الكلام وقوالو الخطب الرنانة وأصحاب اليافطات المصنوعة من قوس قزح!

أجاب درويش على العديد من التساؤلات، وحل الكثير من الطلاسم والإشكاليات، ومعه وله ٌشرعت جميع الأبواب لمداد القلم وحرية الفكر والثقافات. كان يعرف تماماً كيف يزاوج بين إشكالية السلفية مع المعاصرة، ولا يتيه بين المنعطفات. كان يسعى دوماً لبناء الانسان الذي يتقبل أخيه الإنسان الآخر السياسي، والآخر الديني، والآخرالحضاري، ولا تتحكم فيه شهوة الانتقام والقتل. علمنا محمود درويش كيف نبني الإنسان في أعماق الإنسان قبل أن نملأ عقله بما تيسر من الكتب دون فهم أو فائده، وكيف نفرغ عقله وفكره من مصطلحات التكفير والتخوين والإتهام والتجريم، وكيف نبتعد عن القيل والقال وقذف المحصنات من المؤمنين والمؤمنات. علمنا كيف نصنع الإنسان داخل الإنسان وندافع عن العدالة وسيادة القانون وكيف يطبق الحاكم الحد من دون سيف أو سكين ويساوي بين الأغنياء والمساكين. علمنا كيف نكون الأوائل وكيف نكون صناع القرار ولا ننتظر من غيرنا أن يقرر لنا حق تقرير المصير.

لقد عرف كيف يجمع حوله أصحاب الرأي والاجتهاد والاختصاص، كيف يجمع بين العلماني والمتدين من كل الأجيال والأعمار من الرجال والنساء. علمنا كيف نقيم مجامع للحوار بين الأديان والمذاهب فنرتقي بها وكان يحاور الجميع ويدعو الى حوار الكلمة وحوار المنطق وحوار الوطن الواحد حواراً مشرعاً لا تحكمه عقد الخوف أو الرفض  وكان يكره الفرز والإقصاء والالغاء والتكفير. لقد أوجد بذوقه وأدبه وشعره ثورة في أنظمة وسلوكيات الشعوب وأعاد صياغة وتعديل كل القوانين التي لم تعد قادرة على الإحاطة بمفاعيل الحياة البشرية وسلوكياتها وردود أفعالها. وأدخل في قوانيننا صيغاً جديدة للمحاسبة لا يطالها القانون كالتسلق والغرور والتنطح والإدعاء والنفاق والكذب واعتبرها ًجرائم ضد المجتمع!

علمنا الراحل العظيم كيف نحدث ثورة في المفاهيم فنعيد إنتاج ثقافتنا الوطنية فنغرسها في النفوس ونعلمها في المناهج المدرسية وفي علاقة الحاكم بالمحكوم  وعلاقة الرئيس بالمرؤوس وكيف نعتمد صيغا ًفي مواجهة الفساد فلا نتيح لموظف أن يبتز مواطناً تحت شعار تطبيق القانون ولانعاقب الصغير ونترك الكبير ولا نجامل جاهلاً لانتفاخ بطنه أو حجم ثروته. كان يحارب دوما تجار الأديان وتجار الشعارات وتجار الأوطان وتجار البضائع الفاسدة. وكان ضد بيع المبادئ ولم يدخل يوما في مساومة على القيم ولم يتبنى ثقافة التزوير والتضليل والخداع ان جاز تسمية ذلك بالثقافة. كان يدعو الى الحكمة والى المسؤولية ويحذرنا من التيه بين ما يجب تغييره دوماً وما يجب الحفاظ عليه ابدا! ذلك هو الثابت و المتحول وهو السياسي والإجتماعي لدى شاعرنا العظيم. علمنا كيف نسقط حزم الضوء والأشعة على كل الظلمات والحقد المدفون في القلوب ونعرض كل شيئ لنور العقل. علمنا فقيدنا كيف نبدع قانوناً يعدل النفوس قبل النصوص.

وداعاً يا شاعر المنافي والقوافي والوطن..


وزير العدل الفلسطيني