دعانى صديقي إلى أن أزور قريته معه لنقضي يوم الجمعة في أحضان الريف وليقضي بعض مصالحه، فذهبنا، وثم لقينا نضرة وسرورا. ولكن تلك النظرة التي تفتن ابن المدينة في لانهائية الريف، وذلك السرور الذي يغمر كيانه ووجدانه حين يرى الطبيعة تتهلل له أيان ولى وجهه، كانا مشوبين عندي بالرثاء للفلاحين أنصاف العرايا, وهم مكبون على الأرض يعملون فيها الفلوس أو المناجل,مكدودين يتصببون عرقا في أوار القيظ، وللفلاحات القابعات في ذلة لدى الأكواخ المتحذة من الطين والبوص، وكنا إذا سرنا في الطرقات الضيقة الملتوية فأشرفنا عليهن، تداخلن بعضهن في بعض، وتحجبن عنا بخرق بوال، حملت من تراب الأرض بقدر ما تحمل الأرض، والأولاد الصغار أنصاف عرايا كآبائهم، قذرون كأمهاتهم، يرتعون مع الماعز والفراخ في تلك العراجين، وفوق أكوام التراب، أو حول البركة الآسنة المحاورة.
جعلت أبث ألمي لصديقي فإذا به لا يشعر شعوري، بل شرع يبرهن لي على أن هذه أليق معيشة بأولئك القوم، وإنهم أنفسهم لايرون فيها ضنكاً، يدلل بتجايبه على أن مظهرهم الفطري يستر غدر الذئاب، ومكر الثعالب, ثم أنثني يتهكم بشاعريتي وطفولة إحساسي.
فلما أقبل المساء وأفاض الشفق على المزارع جلاله الحزين الرزين غلبتني شاعريتي ـ على حد قول صديقي ـ وتحرج صدري، وكنا ندرج في ممر مترب بين شجيرات الذرة، والظلمة تتكاثف، والسكون يشملنا ويشمل المحيط، لا ينفث فيه الحياة بين الآن والآن إلا وقع حوافر الثيران العائدة بطيئة متراخية، وإلا تحيات الفلاحين يبتدروننا بها صوت المبتسم, وهم يجرون أجسامهم جرا، وكنا صامتين، وكنت أفكر في أولئك الذين يمرون بنا.
ـ أي حديث سار يستقبلون به زوجاتهم أو تستقبلهم زوجاتهم به؟ وهل حقا إنهم لا يرون ما في حالهم من ضنك؟ وإذن فمن أين تصدر سعادتهم ومن أين يتلمسون العزاء؟
ولم أستطع أن أجد هداي، ولم أشأ أن أستهدى صديقي, وكان طريقنا إلى المصلى, فبلغناها وقد اختفى الشفق وساد الظلام, والمصلى فسحة من جسر الترعة فيها حصير مفروش, ولها إطار من الطوب يرتفع إلى نصف أظهر الجالسين, يجتمع فيه من يشاء من أهل القرية, يصلون ويقضون شطر ليلهم في سمر, فقاموا لتحيتنا, ولم يجلسوا حتى أشرنا لهم بذلك, وبعد أن ألقى صديقي على شخص بعينه بعض أوامر وأسئلة خاصة بعمله ساد الوجوم. لا يقطعه غير عبارات الترحيب بنا, فهمست إلى صديقي بأننا قد نكون قطعنا عليهم حديثهم, فأجاب بالإنجليزية (وماذا عساهم يقولون؟). ثم اقترح أحدهم أن يرسل في طلب (الشيخ محسن). وخف رسول بذلك, ثم علمنا أن المرسل في طلبه هو مأذون القرية, وخير من يستطيع أن يحادث أمثالنا, ثم صمت الجميع, حتى جاء المنتظر, يتقدمه الرسول وفى يده فانوس, الفانوس فيه مصباح, والمصباح فيه بصيص من النور تتنين به أن الشيخ قد قص الشارب وعفا عن اللحية, وعمامته حمراء, وجبته... كانت حمراء.
والشيخ قد علم ولا شك بما استدعى من أجله, فما استقر به المكان وتم التعارف, حتى أندفع في كلام طويل عريض, بدأه بأنه كان مع حضرة العمدة وسعادة مندوب الحكومة, ينير لهم طريق التحقيق في قضية (عبد السميع)، وتوسطه بأنه حضر على أئمة الأزهر أعواما، وختمه بأن محمد على باشا أنشأ مصنعا للبفتة. ثم اهتز في مكانه وزها. وأرسل إلينا السمعون نظرة تقول بفصاحة (هل تستطيعون أن تقولوا مثل هذا الكلام؟).
وكان الهلال قطع مرحلته من السماء, فهو يرسل أشعة باهتة يستقبلها الماء الهادئ, كما تفتح الصدر أم رءوم لطفل مريض. وشرع عازف عند نار بعيدة يرسل من نايه أنات موجعة. فأخذني سحر المحيط, فغفلت عمن حولي مليا, ونبهني صديقي فإذا الشيخ مسترسل في تفسير آيات من القرآن. وإذا به يعصرها عصرا فيريق روحانيتها, ويتخذ من شرح الألفاظ بلسما كان ينزل على قلوب سامعيه سلاما. فعز علي ذلك, ورأي صديقي القلق من حركاتي, فهمس لي بأن لا فائدة من التدخل فلم أنتصح, وتلطفت في اعتراض بطل الحلقة, فناضلني بعناد, وتذرع بخرافات ضحك لها صديقي بين أنامله ولكنه التزم الحياد ..
عند ذلك انطلقت نفسي، وعمدت أدحض ترهاته وأهشم أباطيله. وآنست في الكلام منعرجا, نفذت منه إلي حال الفلاحين, فصارحتهم بحقارة شأنهم. وشظف عيشهم. وذكرت لهم أولادهم ونساءهم وأكواخهم. ورسمت لهم طريق الإصلاح إذا أرادوا. ثم أسهبت في الموضوع الإرادة والعمل، وكيف أنهم يستطيعون أن يأتوا بالعجب العجاب إذا شعروا بوجودهم، وصمموا علي أن يبرروا ذلك الوجود. وكنت أتكلم بحرارة وتهدج ـ وأحسب وأنا ألمس الجانب الحساس منهم ـ أن كلماتي ستجد طريقا إلي قلوبهم بلا عناء. غير أنني كنت كلما تريثت لأري تأثرهم، ألفيتهم فاغري أفواهم في دهشة بلهاء. ينظرون إلي حينا، وإلي فقيههم حينا، وبودهم لو يستفسرون عما أصنع. وأبصرت وأنا في عصفي واحتدامي اثنين تماست رءوسهما، وقد أخذا يتهامسان دون أن يعيراني اهتماما. فكان من ذلك أنني انقسمت علي نفسي, وأهاب بي صوت مني (أيها الأحمق؛ أنت تتعب رئتيك للهواء, ولن يفهموك لأنك دخيل ونشاز!).
فاستخذيت، واقتضبت خطابي. فلما انتهيت, قال أحد المتهامسين علي الفور: إلا يا مولانا .. العمدة شهد مع عبد السميع ولا ضده؟ ثم لغط الجميع بملاحظات في هذا الصدد. وتلاشى وجودي مع كلامي. وألفيت صديقي بادي الخجل لي. ولم تلتق نظراتنا إلي حين, ولبث الشيخ صامتاً حتى عاد السكون. عند ذلك قال:
ـ استغفر الله همسا, وقال في جلال:
ـ تنزل بنا المصائب فلا نبكي. وعدم البكاء من جمود العين. وجمود العين من قسوة القلب. وقسوة القلب من كثرة الذنوب. وكثرة الذنوب من بسطة الأمل. وبسطة الأمل من حب الدنيا. وحب الدنيا مصدره الإرادة. أى أن إرادة المخلوق كل شئ، وإرادة الخالق جل وعلا. لا شئ .. وأجال بصره في سامعيه فطأطئوا رءوسهم، ومصوا أشداقهم حسرة وألما. فرنا إلي صديقي وقال بصوت منخفض:
ـ هذا رجلهم .. لقد دهمت عقولهم فلم يفهموك. أما هو فيخاطب قلوبهم. وها هم أولاء كما تري..
وكان الهلال قد انحدر حتى قارب النار المشبوبة، واستحال لونه إلي حمرتها، كأنما كان يلتهب، وكان منظرا فذا شد إليه بصري. ولكن سمعي كان مع الخطيب، وقد شرع يفند ما قلت:
ـ الأفندي يا جماعة هدانا إلي فكرة طيبة، اسمها الإرادة. بمعني أن الواحد إذا أراد شيئا فما عليه إلا أن يقول له: (كن) فيكون ..
فاقشعر بدني لهذا التهكم المر، وذلك التضليل الأحمق. وعضضت شفتي لأتمالك مشاعري. ولأ حبس عبارات بذيئة كدت أقذف بها تلك اللحية الخاطئة. وإذ ذاك ضغط صديقي علي فخدي، وهمس قائلاً:
ـ أري أننا حيال مشهد قد لا يسمح لك الدهر بمثله فاهدأ واستمع .. فاستمعت وإذا الشيخ يصيح فيمن حوله:
ـ من منكم لا يريد أن يكون عمدة؟
فاعترض فلاح ضئيل مزرور العينين فطرد الناموس عن وجهه وقال:
ـ حتى ولو .. باشا ..
فضحك كل من فهم الخطأ المضحك في هذا الاعتراض، إلا الشيخ محسن فإنه تدارك الموقف فقال:
ـ لا .. لا .. أخطأنا .. الأفندي يشترط العمل مع الإدارة. نقول في الحال إن عبد السميع عمل ذلك .. ويا شوم ما عمل.
أصوات : الله يلطف به .. ربنا يساعده .. أما الرجل المزرور العينين فاعتدل في جلسته, ورفع يديه إلي السماء يبتهل إلي الله قائلا:
ـ اللهم اكفنا شر أنفسنا وشر الشيطان .. يارب ..
وفي الحقيقة إنه كان بهذا الابتهال يبعد عن ذهنه طيف مكر سيء كان يدبره ضد صاحب الغيظ المجاور لغيطه. وابتدأ الشيخ يروي لنا بنوع خاص قصة (عبد السميع), وفي
الوقت نفسه شرعت الضفادع ـ في ناحية بعيدة ـ تلف حكايته بنوع من (الأوركسترا).
ـ عبد السميع هذا كان ـ ولا مؤاخذة ـ إسكافي. وكان يعيش على قفا من يرقع لهم. (وضحك لنكتته فانهمرت الضحكات من كل صوب). ولكنه لم يرض بما قسم الله له، وأراد (وهنا صفق تصفيقة ذات مقطع واحد تأكيدا للكلمة) أن يرفع نفسه إلى درجة لم تكتب له في الأزل. صوت:
ـ الناس الأقدمين قالوا: الطمع يذل من جمع.
ـ استدرجه الله، والله خير الماكرين. فبعث له بمعاون الإدارة، وهو شاب ممن باعوا الآخرة بالدنيا، فعين عبدالسميع في وظيفة حاجب خصوصي له (بالمركز)، وفتح له بابه، وأغدق عليه النعمة. فاصبح عبدالسميع من سكان البندر، يلبس الجاكتة والطربوش، ويمشي في الأرض مرحا. مع أن الله قال: ولاتمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الحبال طولا.
فاشتبكت الأصوات في قول: جل من هذا كلامه. وتتابعت الزفرات، والتفتت بعض الوجوه إلينا براقة الأعين إعجابا بفصاحة الخطيب، وانثنى بعضهم في جلستهم حتى كادت وجوههم تلمس الأرض. وراح الباقون يتبادلون النظرات ويطردون الناموس عن أنوفهم.
وعند ذلك لم الشيخ أطراف جبته. وحرك عمامته. وأنشب أصابعه في لحيته، بكيفية تشعر بالتأهب للانتقال إلي نقطة من الحكاية ذات خطر, وساد الصمت هنيهة, وترقرقت فيها أنغام الناي البعيد حزينة متتابعة .
ـ الوظيفة والنعمة لم يقصد بها عبد السميع ـ وإني أستغفر الله مما سأقول ـ المقصود بالذات هي امرأة عبد السميع, وهي رغم فقرها غاية في الجمال كما تعلمون. وكان معاون الإدارة كثيراً ما يراها بجانب زوجها عبد السميع، الذي كان يجلس عنده ليرقع النعال، فزين للزوج أن يجئ بها معه لتكون تحت عينيه، ولتقوم بشئون المنزل. لأن المعاون كان أعزب, وتم للسيد مراده.
ـ يا لطيف .. يا لطيف!
ـ وركبه الهم ..
ـ يا حفيظ .. يا حفيظ!
ـ وأصبح لا يهنأ له حال ولا يهدأ له بال.
ثم ترك سامعيه يبدون تأثرهم بمختلف العبارات، ومد يده إلي جرة كروية من الفخار فيها ماء، وأخذ يرشف منها ويحدث أعلي شوشرة تتيحها هذه العملية، وأسرع أقربهم إليه فأعاد الجرة مكانها. بينما كان الشيخ محسن يسحب من جيبه منديلا كبيراً، ربعه يصلح لأن يكون منديلا كبيرا.، وبعد أن تجشأ واستغفر الله، مسح فمه وهو يتمتم بحمد الله, وبعد أن أعاد المنديل إلى مأواه, وبعد أن داعب لحيته ما شاء, استطرد فقال:
ـ وكيف يهدأ البال وقد وجدت في الأمور أمور .. أخشي أن أكون قد أطلت الكلام يا حضرات (هذه العبارة وجهت إلينا ورددنا عليها بأحسن ما يكون) .. امرأة الإسكافي المسكينة التي كانت تغني في المولد وتتصدقون عليها .. يا سلام .. يا سلام .. أصبحت الآن سيدة تأمر وتنهي. ولا تجد من تظهر عليه سيطرتها غير زوجها .. ( أصوات حسرة .. ودهشة وغضب ) فإذا ما نهرها يوما أسرعت إلي سيدها باكية مولولة. ويسرع هذا فينهر الزوج ويرميه بأنه فلاح، وأنه لا يعرف قيمة المرأة.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ..
وكان المسكين كثيراً ما يشكو إلي حاله فأنصحه بأن يترك ما ليس له إلي ما خلق له. ولكنه كان كالغريق .. وهكذا إلي أن أصبحت الحال واضحة لا شك فيها, وصار يذوق من الغيرة ناراً ذات لهب. مشرد الفكر دائم الحزن, لا تهنأ له يقظة ولا نوم. ومع ذلك لم يكن يستطيع أن يخرج نفسه من هذا الجحيم.
أولاً: كان يعز عليه أن يترك النعمة التي تهيأت له.
ثانياً: كان الشيطان يلعب بعقله, فكلما حزم الأمر وسوس له الوسواس بأنه فلاح حقيقة, وأن عيشة التمدن هي كما يري, فتتخدر أعصابه ويستكين.
أصوات: الله يعلن التمدن ويوم ما سمعنا علي أسمه.
ـ أستمر الحال علي هذا المنوال حتى كانت الليلة الفظيعة .. في تلك الليلة أمر حضرة المعاون عبد السميع بأن يجئ إلي حضرة العمدة .. هنا .. برسالة وأن يعود إليه بالرد .. لا في الحال، بل في الصباح. وهنا قال أحد السامعين علي حين فجأة:
ـ (عجايب),
وكان لوقعها ما يشبه المجون فضحك الباقون ضحكات قصيرة. ثم خفض الشيخ صوته فصار عميقا رائعاً, وأنهي إلي الآذان المرهفة بأن هذه معلومات سرية أطلعه عليها المحققون؛ لما له عندهم من المكانة, ولما لهم فيه من الثقة, وطلب إليهم أن تكون سراً فيما بينهم, فاهتزت الرءوس إيجاباً وإعجابا. وفي تلك اللحظة أراد أحدهم أن يصلح من ضوء المصباح ـ وكان موضوعا في بهرة الحلقة وكتائب الناموس تحوم حوله, وتهاجم جوانبه في مناورات جنونية ـ فزجره الباقون علي عدم مراعاته اللياقة والأستاذ يتكلم.
ـ أخد عبد السميع طريقه علي جسر السكة الحدي،د وكان يفكر في حاله والشك قد ملأ قلبه. وكان القمر يضئ له الطريق. وفي أثناء سيره أبصر بين القضبان قطعة من الحديد بطول الذراع ـ رايتها بعيني ـ فأخذها وما كاد يتبين ثقلها حتى تملكته الرغبة في أن يعود. ويؤكد المسكين أنه حاول أن يتغلب علي هذه الرغبة فلم يستطيع. كأن قوة خفية من الله تعالي كانت تجره إلي الوراء .. وأخيراً عاد إلي البيت فوجده مظلماً .. ففتح الأبواب باحتراس حتى وصل إلي غرفة سيده فرأى .. والعياذ بالله .. رأى سيده في .. في مكان الزوج من امرأته .. فضج الجميع بالتأفف والاشمئزاز. ولجئوا إلي الله بطلبات لا تحصي, وانتهز الشيخ محسن فرصة هذه الجلبة لإعادة الترحيب بنا, وبوده لو يقول (ألست خطيبا مصقعا؟), فلما عادت السكينة قال:
ـ وكان عند دخوله نائمين, فلم يتمالك أن أهوى على رأسيهما بقطعة الحديد, فماتا في الحال.
أصوات تحبيذ واستحسان.
ـ علي أنه لم يكتف بذلك, بل أن الانتقام ثار به, فاستمر يضربهما حتى فتت رأسيهما, لدرجة أن حضرات المحققين وجدوا أجزاء من المخ .. من المخ والعياذ بالله ... لاصقة بالحائط.
أصوات استحسان واشمئزاز في وقت واحد.
وسادت فترة صمت خلا الجو فيها لأصوات الضفادع لأن صوت الناي كان قد سكت. والعجيب الغريب أنه بعد أن شفى غليله، جاء بعدة الشاي، وبات طول الليل إلي جانب الجثتين يشرب ويدخن.
قال صديقي محملقا فاغرا فاه:
- أي هول هذا؟
وكان من دهشتي أن قلت:
- أتمني لو كنت معهم هذه الليلة.
ودوي الفلاحون بعبارات الفزع ..
ـ وفي الفجر أخذ عبد السميع قطعة الحديد وذهب إلي (المركز), وهناك باح بكل ما جري ..
ثم تناول الشيخ الجرة فرشف منها على نحو ما تقدم ثم قال:
ـ فيا أولادي .. الدنيا عبادة لا إرادة, والخير فيما اختاره الله.
وتأهب للقيام بدعوى أن حضرة العمدة، وكثيراً من الأعيان، في انتظاره. فأقبل عليه الفلاحون بنفوس مطمئنة راضية يقبلون يده, ويحمدون الله على ( نعمة الستر).
وآثرنا البقاء - صديقي وأنا - فتركوا لنا المصباح, وقنعوا بأن يتبعوا فقيههم في الظلام.
القاهرة (1929)
دعانى صديقي إلى أن أزور قريته معه لنقضي يوم الجمعة في أحضان الريف وليقضي بعض مصالحه، فذهبنا، وثم لقينا نضرة وسرورا. ولكن تلك النظرة التي تفتن ابن المدينة في لانهائية الريف، وذلك السرور الذي يغمر كيانه ووجدانه حين يرى الطبيعة تتهلل له أيان ولى وجهه، كانا مشوبين عندي بالرثاء للفلاحين أنصاف العرايا, وهم مكبون على الأرض يعملون فيها الفلوس أو المناجل,مكدودين يتصببون عرقا في أوار القيظ، وللفلاحات القابعات في ذلة لدى الأكواخ المتحذة من الطين والبوص، وكنا إذا سرنا في الطرقات الضيقة الملتوية فأشرفنا عليهن، تداخلن بعضهن في بعض، وتحجبن عنا بخرق بوال، حملت من تراب الأرض بقدر ما تحمل الأرض، والأولاد الصغار أنصاف عرايا كآبائهم، قذرون كأمهاتهم، يرتعون مع الماعز والفراخ في تلك العراجين، وفوق أكوام التراب، أو حول البركة الآسنة المحاورة.
جعلت أبث ألمي لصديقي فإذا به لا يشعر شعوري، بل شرع يبرهن لي على أن هذه أليق معيشة بأولئك القوم، وإنهم أنفسهم لايرون فيها ضنكاً، يدلل بتجايبه على أن مظهرهم الفطري يستر غدر الذئاب، ومكر الثعالب, ثم أنثني يتهكم بشاعريتي وطفولة إحساسي.
فلما أقبل المساء وأفاض الشفق على المزارع جلاله الحزين الرزين غلبتني شاعريتي ـ على حد قول صديقي ـ وتحرج صدري، وكنا ندرج في ممر مترب بين شجيرات الذرة، والظلمة تتكاثف، والسكون يشملنا ويشمل المحيط، لا ينفث فيه الحياة بين الآن والآن إلا وقع حوافر الثيران العائدة بطيئة متراخية، وإلا تحيات الفلاحين يبتدروننا بها صوت المبتسم, وهم يجرون أجسامهم جرا، وكنا صامتين، وكنت أفكر في أولئك الذين يمرون بنا.
ـ أي حديث سار يستقبلون به زوجاتهم أو تستقبلهم زوجاتهم به؟ وهل حقا إنهم لا يرون ما في حالهم من ضنك؟ وإذن فمن أين تصدر سعادتهم ومن أين يتلمسون العزاء؟
ولم أستطع أن أجد هداي، ولم أشأ أن أستهدى صديقي, وكان طريقنا إلى المصلى, فبلغناها وقد اختفى الشفق وساد الظلام, والمصلى فسحة من جسر الترعة فيها حصير مفروش, ولها إطار من الطوب يرتفع إلى نصف أظهر الجالسين, يجتمع فيه من يشاء من أهل القرية, يصلون ويقضون شطر ليلهم في سمر, فقاموا لتحيتنا, ولم يجلسوا حتى أشرنا لهم بذلك, وبعد أن ألقى صديقي على شخص بعينه بعض أوامر وأسئلة خاصة بعمله ساد الوجوم. لا يقطعه غير عبارات الترحيب بنا, فهمست إلى صديقي بأننا قد نكون قطعنا عليهم حديثهم, فأجاب بالإنجليزية (وماذا عساهم يقولون؟). ثم اقترح أحدهم أن يرسل في طلب (الشيخ محسن). وخف رسول بذلك, ثم علمنا أن المرسل في طلبه هو مأذون القرية, وخير من يستطيع أن يحادث أمثالنا, ثم صمت الجميع, حتى جاء المنتظر, يتقدمه الرسول وفى يده فانوس, الفانوس فيه مصباح, والمصباح فيه بصيص من النور تتنين به أن الشيخ قد قص الشارب وعفا عن اللحية, وعمامته حمراء, وجبته... كانت حمراء.
والشيخ قد علم ولا شك بما استدعى من أجله, فما استقر به المكان وتم التعارف, حتى أندفع في كلام طويل عريض, بدأه بأنه كان مع حضرة العمدة وسعادة مندوب الحكومة, ينير لهم طريق التحقيق في قضية (عبد السميع)، وتوسطه بأنه حضر على أئمة الأزهر أعواما، وختمه بأن محمد على باشا أنشأ مصنعا للبفتة. ثم اهتز في مكانه وزها. وأرسل إلينا السمعون نظرة تقول بفصاحة (هل تستطيعون أن تقولوا مثل هذا الكلام؟).
وكان الهلال قطع مرحلته من السماء, فهو يرسل أشعة باهتة يستقبلها الماء الهادئ, كما تفتح الصدر أم رءوم لطفل مريض. وشرع عازف عند نار بعيدة يرسل من نايه أنات موجعة. فأخذني سحر المحيط, فغفلت عمن حولي مليا, ونبهني صديقي فإذا الشيخ مسترسل في تفسير آيات من القرآن. وإذا به يعصرها عصرا فيريق روحانيتها, ويتخذ من شرح الألفاظ بلسما كان ينزل على قلوب سامعيه سلاما. فعز علي ذلك, ورأي صديقي القلق من حركاتي, فهمس لي بأن لا فائدة من التدخل فلم أنتصح, وتلطفت في اعتراض بطل الحلقة, فناضلني بعناد, وتذرع بخرافات ضحك لها صديقي بين أنامله ولكنه التزم الحياد ..
عند ذلك انطلقت نفسي، وعمدت أدحض ترهاته وأهشم أباطيله. وآنست في الكلام منعرجا, نفذت منه إلي حال الفلاحين, فصارحتهم بحقارة شأنهم. وشظف عيشهم. وذكرت لهم أولادهم ونساءهم وأكواخهم. ورسمت لهم طريق الإصلاح إذا أرادوا. ثم أسهبت في الموضوع الإرادة والعمل، وكيف أنهم يستطيعون أن يأتوا بالعجب العجاب إذا شعروا بوجودهم، وصمموا علي أن يبرروا ذلك الوجود. وكنت أتكلم بحرارة وتهدج ـ وأحسب وأنا ألمس الجانب الحساس منهم ـ أن كلماتي ستجد طريقا إلي قلوبهم بلا عناء. غير أنني كنت كلما تريثت لأري تأثرهم، ألفيتهم فاغري أفواهم في دهشة بلهاء. ينظرون إلي حينا، وإلي فقيههم حينا، وبودهم لو يستفسرون عما أصنع. وأبصرت وأنا في عصفي واحتدامي اثنين تماست رءوسهما، وقد أخذا يتهامسان دون أن يعيراني اهتماما. فكان من ذلك أنني انقسمت علي نفسي, وأهاب بي صوت مني (أيها الأحمق؛ أنت تتعب رئتيك للهواء, ولن يفهموك لأنك دخيل ونشاز!).
فاستخذيت، واقتضبت خطابي. فلما انتهيت, قال أحد المتهامسين علي الفور: إلا يا مولانا .. العمدة شهد مع عبد السميع ولا ضده؟ ثم لغط الجميع بملاحظات في هذا الصدد. وتلاشى وجودي مع كلامي. وألفيت صديقي بادي الخجل لي. ولم تلتق نظراتنا إلي حين, ولبث الشيخ صامتاً حتى عاد السكون. عند ذلك قال:
ـ استغفر الله همسا, وقال في جلال:
ـ تنزل بنا المصائب فلا نبكي. وعدم البكاء من جمود العين. وجمود العين من قسوة القلب. وقسوة القلب من كثرة الذنوب. وكثرة الذنوب من بسطة الأمل. وبسطة الأمل من حب الدنيا. وحب الدنيا مصدره الإرادة. أى أن إرادة المخلوق كل شئ، وإرادة الخالق جل وعلا. لا شئ .. وأجال بصره في سامعيه فطأطئوا رءوسهم، ومصوا أشداقهم حسرة وألما. فرنا إلي صديقي وقال بصوت منخفض:
ـ هذا رجلهم .. لقد دهمت عقولهم فلم يفهموك. أما هو فيخاطب قلوبهم. وها هم أولاء كما تري..
وكان الهلال قد انحدر حتى قارب النار المشبوبة، واستحال لونه إلي حمرتها، كأنما كان يلتهب، وكان منظرا فذا شد إليه بصري. ولكن سمعي كان مع الخطيب، وقد شرع يفند ما قلت:
ـ الأفندي يا جماعة هدانا إلي فكرة طيبة، اسمها الإرادة. بمعني أن الواحد إذا أراد شيئا فما عليه إلا أن يقول له: (كن) فيكون ..
فاقشعر بدني لهذا التهكم المر، وذلك التضليل الأحمق. وعضضت شفتي لأتمالك مشاعري. ولأ حبس عبارات بذيئة كدت أقذف بها تلك اللحية الخاطئة. وإذ ذاك ضغط صديقي علي فخدي، وهمس قائلاً:
ـ أري أننا حيال مشهد قد لا يسمح لك الدهر بمثله فاهدأ واستمع .. فاستمعت وإذا الشيخ يصيح فيمن حوله:
ـ من منكم لا يريد أن يكون عمدة؟
فاعترض فلاح ضئيل مزرور العينين فطرد الناموس عن وجهه وقال:
ـ حتى ولو .. باشا ..
فضحك كل من فهم الخطأ المضحك في هذا الاعتراض، إلا الشيخ محسن فإنه تدارك الموقف فقال:
ـ لا .. لا .. أخطأنا .. الأفندي يشترط العمل مع الإدارة. نقول في الحال إن عبد السميع عمل ذلك .. ويا شوم ما عمل.
أصوات : الله يلطف به .. ربنا يساعده .. أما الرجل المزرور العينين فاعتدل في جلسته, ورفع يديه إلي السماء يبتهل إلي الله قائلا:
ـ اللهم اكفنا شر أنفسنا وشر الشيطان .. يارب ..
وفي الحقيقة إنه كان بهذا الابتهال يبعد عن ذهنه طيف مكر سيء كان يدبره ضد صاحب الغيظ المجاور لغيطه. وابتدأ الشيخ يروي لنا بنوع خاص قصة (عبد السميع), وفي
الوقت نفسه شرعت الضفادع ـ في ناحية بعيدة ـ تلف حكايته بنوع من (الأوركسترا).
ـ عبد السميع هذا كان ـ ولا مؤاخذة ـ إسكافي. وكان يعيش على قفا من يرقع لهم. (وضحك لنكتته فانهمرت الضحكات من كل صوب). ولكنه لم يرض بما قسم الله له، وأراد (وهنا صفق تصفيقة ذات مقطع واحد تأكيدا للكلمة) أن يرفع نفسه إلى درجة لم تكتب له في الأزل. صوت:
ـ الناس الأقدمين قالوا: الطمع يذل من جمع.
ـ استدرجه الله، والله خير الماكرين. فبعث له بمعاون الإدارة، وهو شاب ممن باعوا الآخرة بالدنيا، فعين عبدالسميع في وظيفة حاجب خصوصي له (بالمركز)، وفتح له بابه، وأغدق عليه النعمة. فاصبح عبدالسميع من سكان البندر، يلبس الجاكتة والطربوش، ويمشي في الأرض مرحا. مع أن الله قال: ولاتمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الحبال طولا.
فاشتبكت الأصوات في قول: جل من هذا كلامه. وتتابعت الزفرات، والتفتت بعض الوجوه إلينا براقة الأعين إعجابا بفصاحة الخطيب، وانثنى بعضهم في جلستهم حتى كادت وجوههم تلمس الأرض. وراح الباقون يتبادلون النظرات ويطردون الناموس عن أنوفهم.
وعند ذلك لم الشيخ أطراف جبته. وحرك عمامته. وأنشب أصابعه في لحيته، بكيفية تشعر بالتأهب للانتقال إلي نقطة من الحكاية ذات خطر, وساد الصمت هنيهة, وترقرقت فيها أنغام الناي البعيد حزينة متتابعة .
ـ الوظيفة والنعمة لم يقصد بها عبد السميع ـ وإني أستغفر الله مما سأقول ـ المقصود بالذات هي امرأة عبد السميع, وهي رغم فقرها غاية في الجمال كما تعلمون. وكان معاون الإدارة كثيراً ما يراها بجانب زوجها عبد السميع، الذي كان يجلس عنده ليرقع النعال، فزين للزوج أن يجئ بها معه لتكون تحت عينيه، ولتقوم بشئون المنزل. لأن المعاون كان أعزب, وتم للسيد مراده.
ـ يا لطيف .. يا لطيف!
ـ وركبه الهم ..
ـ يا حفيظ .. يا حفيظ!
ـ وأصبح لا يهنأ له حال ولا يهدأ له بال.
ثم ترك سامعيه يبدون تأثرهم بمختلف العبارات، ومد يده إلي جرة كروية من الفخار فيها ماء، وأخذ يرشف منها ويحدث أعلي شوشرة تتيحها هذه العملية، وأسرع أقربهم إليه فأعاد الجرة مكانها. بينما كان الشيخ محسن يسحب من جيبه منديلا كبيراً، ربعه يصلح لأن يكون منديلا كبيرا.، وبعد أن تجشأ واستغفر الله، مسح فمه وهو يتمتم بحمد الله, وبعد أن أعاد المنديل إلى مأواه, وبعد أن داعب لحيته ما شاء, استطرد فقال:
ـ وكيف يهدأ البال وقد وجدت في الأمور أمور .. أخشي أن أكون قد أطلت الكلام يا حضرات (هذه العبارة وجهت إلينا ورددنا عليها بأحسن ما يكون) .. امرأة الإسكافي المسكينة التي كانت تغني في المولد وتتصدقون عليها .. يا سلام .. يا سلام .. أصبحت الآن سيدة تأمر وتنهي. ولا تجد من تظهر عليه سيطرتها غير زوجها .. ( أصوات حسرة .. ودهشة وغضب ) فإذا ما نهرها يوما أسرعت إلي سيدها باكية مولولة. ويسرع هذا فينهر الزوج ويرميه بأنه فلاح، وأنه لا يعرف قيمة المرأة.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ..
وكان المسكين كثيراً ما يشكو إلي حاله فأنصحه بأن يترك ما ليس له إلي ما خلق له. ولكنه كان كالغريق .. وهكذا إلي أن أصبحت الحال واضحة لا شك فيها, وصار يذوق من الغيرة ناراً ذات لهب. مشرد الفكر دائم الحزن, لا تهنأ له يقظة ولا نوم. ومع ذلك لم يكن يستطيع أن يخرج نفسه من هذا الجحيم.
أولاً: كان يعز عليه أن يترك النعمة التي تهيأت له.
ثانياً: كان الشيطان يلعب بعقله, فكلما حزم الأمر وسوس له الوسواس بأنه فلاح حقيقة, وأن عيشة التمدن هي كما يري, فتتخدر أعصابه ويستكين.
أصوات: الله يعلن التمدن ويوم ما سمعنا علي أسمه.
ـ أستمر الحال علي هذا المنوال حتى كانت الليلة الفظيعة .. في تلك الليلة أمر حضرة المعاون عبد السميع بأن يجئ إلي حضرة العمدة .. هنا .. برسالة وأن يعود إليه بالرد .. لا في الحال، بل في الصباح. وهنا قال أحد السامعين علي حين فجأة:
ـ (عجايب),
وكان لوقعها ما يشبه المجون فضحك الباقون ضحكات قصيرة. ثم خفض الشيخ صوته فصار عميقا رائعاً, وأنهي إلي الآذان المرهفة بأن هذه معلومات سرية أطلعه عليها المحققون؛ لما له عندهم من المكانة, ولما لهم فيه من الثقة, وطلب إليهم أن تكون سراً فيما بينهم, فاهتزت الرءوس إيجاباً وإعجابا. وفي تلك اللحظة أراد أحدهم أن يصلح من ضوء المصباح ـ وكان موضوعا في بهرة الحلقة وكتائب الناموس تحوم حوله, وتهاجم جوانبه في مناورات جنونية ـ فزجره الباقون علي عدم مراعاته اللياقة والأستاذ يتكلم.
ـ أخد عبد السميع طريقه علي جسر السكة الحدي،د وكان يفكر في حاله والشك قد ملأ قلبه. وكان القمر يضئ له الطريق. وفي أثناء سيره أبصر بين القضبان قطعة من الحديد بطول الذراع ـ رايتها بعيني ـ فأخذها وما كاد يتبين ثقلها حتى تملكته الرغبة في أن يعود. ويؤكد المسكين أنه حاول أن يتغلب علي هذه الرغبة فلم يستطيع. كأن قوة خفية من الله تعالي كانت تجره إلي الوراء .. وأخيراً عاد إلي البيت فوجده مظلماً .. ففتح الأبواب باحتراس حتى وصل إلي غرفة سيده فرأى .. والعياذ بالله .. رأى سيده في .. في مكان الزوج من امرأته .. فضج الجميع بالتأفف والاشمئزاز. ولجئوا إلي الله بطلبات لا تحصي, وانتهز الشيخ محسن فرصة هذه الجلبة لإعادة الترحيب بنا, وبوده لو يقول (ألست خطيبا مصقعا؟), فلما عادت السكينة قال:
ـ وكان عند دخوله نائمين, فلم يتمالك أن أهوى على رأسيهما بقطعة الحديد, فماتا في الحال.
أصوات تحبيذ واستحسان.
ـ علي أنه لم يكتف بذلك, بل أن الانتقام ثار به, فاستمر يضربهما حتى فتت رأسيهما, لدرجة أن حضرات المحققين وجدوا أجزاء من المخ .. من المخ والعياذ بالله ... لاصقة بالحائط.
أصوات استحسان واشمئزاز في وقت واحد.
وسادت فترة صمت خلا الجو فيها لأصوات الضفادع لأن صوت الناي كان قد سكت. والعجيب الغريب أنه بعد أن شفى غليله، جاء بعدة الشاي، وبات طول الليل إلي جانب الجثتين يشرب ويدخن.
قال صديقي محملقا فاغرا فاه:
- أي هول هذا؟
وكان من دهشتي أن قلت:
- أتمني لو كنت معهم هذه الليلة.
ودوي الفلاحون بعبارات الفزع ..
ـ وفي الفجر أخذ عبد السميع قطعة الحديد وذهب إلي (المركز), وهناك باح بكل ما جري ..
ثم تناول الشيخ الجرة فرشف منها على نحو ما تقدم ثم قال:
ـ فيا أولادي .. الدنيا عبادة لا إرادة, والخير فيما اختاره الله.
وتأهب للقيام بدعوى أن حضرة العمدة، وكثيراً من الأعيان، في انتظاره. فأقبل عليه الفلاحون بنفوس مطمئنة راضية يقبلون يده, ويحمدون الله على ( نعمة الستر).
وآثرنا البقاء - صديقي وأنا - فتركوا لنا المصباح, وقنعوا بأن يتبعوا فقيههم في الظلام.
القاهرة (1929)