مات آخر الشعراء النجوم

عبدالمنعم رمضان

فإن سقطتُ وكفّي رافعٌ علمي/ سيكتب الناس فوق القبر: لم يمتِ

منذ بدأ محمود درويش أغنيته الطويلة التي امتدت بطول عمره، منذ "أوراق الزيتون"، و"عاشق من فلسطين"، و"آخر الليل"، الى أن بلغ قمته "في حضرة الغياب" و"أثر الفراشة"، منذ توهجت حنجرته في قريته البروة وحتى تخشبت في المستشفى الأميركي محبوساً بين وجع القلب ووجع الشقاق الفلسطيني، حيث الطرفان وقد أصبح يخشى كليهما، وخصوصاً الطرف الذي يزعم أنه طرف الرب، منذ إقامته في وطنه، إقامته في قهوة أمه، منذ ريتا، منذ رحيله وانتقاله الى القاهرة، منذ احتفال القاهرة به، ثم احتفال بيروت، ثم بقية العواصم، بلوغاً الى احتفال حيفا التي قابلته وقالت له: "أنت منذ الآن أنت"، منذ كل هذه المدة، كل هذه الأوقات، منذ كل هذا الحب، ومحمود درويش يتجهز لأن يكون آخر الشعراء النجوم. سبقه نزار قباني وشغل هذا الكرسي، ولما مات شغله محمود باقتدار. لم تكن جائزة نوبل ستضيف اليه الكثير، فهو يملك كل المؤهلات اللازمة لأن يكون آخر الشعراء النجوم. كان يملك وسامته واعتزازه بنفسه، وذكاءه، وغرام جمهوره به، وعدم ترخصه، يملك قلوب النساء وعدالتهن في محبته، من دون منافسة، من دون غيرة. كان يملك القدرة على ضبط المسافة بينه وبين كل الآخرين، بشراً عاديين وبشراً في السلطة، شعراء وغير شعراء. كان يملك فوق ذلك كله قضيته، التي ظلت قضيتنا منذ ولدنا، الأصح قبل أن نولد، وستظل قضيتنا الى أن نموت، الأصح وبعد أن نموت.

كان الوحيد الذي يملك أن يكون عندنا مثلما هو نيرودا وناظم حكمت عند غيرنا. كان يملك شهوة أبي الطيب، وقدرته على مصاحبة سيف الدولة الجديد، على مصاحبة زعيمه، وعلى الإيمان به، وقدرته على بكائه يوم وفاته. كان محمود يمتلك الصوت وملكاته غير المختلف عليها، ملكاته في معاشرة اللغة، وملاطفتها واصطياد اجمل مخلوقاتها، ملكاته في معاشرة الموسيقى وملاطفتها والتغرير بها إذا أمكن. استطاع محمود أن يصبح شاعراً ورمزاً، شاعراً كبيراً ومعنى، شارعاً وطابع بريد، بيتاً وحديقة، وطناً مفقوداً ووطناً نحلم باستعادته. كما رفع رجاء النقاش النقاب عن وجه محمود وعن شعره، كان يفعل ما يفعله العراق لشاعر رأى أنه سيكون آخر النجوم. في أكثر من عشرين ديواناً وأربعة كتب نثر، كشف محمود درويش عمق اتصاله الدائم والدؤوب بما سبق، بما يحدث حوله، الذي هنا والذي هناك، بما يكتبه الشبان الموهوبون، وبما سيكتبه الشبان الأغوات، بتجاربهم كلها على رغم الاختلاف. لم يحاربهم كشعراء قصيدة نثر، ولكنه صحح لنا ولهم خطأ ما يشاع بيننا عن أن الانسان يركب الحياة بشبابه. دلّنا على أن الحياة هي التي تركبه في شبابه، وتركض به من غير أن يكون له رأي أو إرادة، ولا يركب الحياة بالرأي والإرادة إلا صاحب تجربة، أو صاحب معارف.

في آخرة أيامه أدرك أن القصيدة التي تحكي عن النضال هي أضعف قصائد النضال. أن القصيدة تناضل فقط بإنسانيتها، بفضائها المفتوح، ببساطتها وطزاجتها، بالجديد فيها. ان القصيدة بخفتها تناضل أكثر. في آخرة أيامه كتب "أثر الفراشة" فانتصر على نصوص كثيرة في عصر الرجال الجوف، نصوص كانت تدعي عليه وتطعن فيه وتزعم أنها تناهضه.  مات محمود درويش. المؤسف أنه مات في أميركا. كنت أتمنى أن يموت في مكان آخر. مات وبودي أن يمتد به الأجل الى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الموت المعادي، هذا الموت المؤكد. في كل الفنون يوجد الفنان الخالص وإن بقلة، ويوجد النجم الخالص الخالي من الفن وإن بكثرة، بينما الندرة تكون من نصيب الفنان النجم، ومحمود درويش في ميدان الشعر آخر هؤلاء. لذا تبدو خسارتنا فيه فادحة، لأنه كان الجسر العظيم بين الشعر والجمهور العام، وبعده إما أن نفقد هذا الجسر، ولن نفقده، وإما أن يقيمه نجوم بغير شعر ويساهمون في صناعة ذائقة ضحلة مريضة، نرى منذ الآن بعض ملامحها في الفنون كافة.

موت محمود درويش سوف تستثمره جماعات ومؤسسات وأنظمة الجدير بها أن تكرهه، لأنه خصمها في العمق. لكنه ما دام قد تصالح معها في الحياة أحياناً، ما دام قد قبل جوائزها في الحياة أحياناً، فإنها سوف تستثمر موته بوقاحة ومن دون شفقة.  مات محمود درويش، الدمعة الأولى التي سننزفها عليه، أظنها تمتلئ بأحلامه التي لم تتحقق. الدمعة الثانية أظنها تتسخ بأنفاس هؤلاء المتعصبين الدينيين الذين ظل محمود كرمز كبير يمنعهم من تمام الزعامة والقيادة وتحديد المساء.  مات محمود درويش كأنه شخص ضائع، كأنه المتنبي، كأنه الهواء القليل، كأنه بعض إله، وسنندبه مع الندّابة: راح يبغي نجوةً من هلاكٍ فهلك، والمنايا رصّدٌ للفتى حيث سلك، كل شيء قاتلٌ حين تلقى أجلك.