في المقاومة المتعددة
ذلك ما شاءت لنا الطبيعة. أن ترحل بعيداً عنا، بعيداً إلى حيث أصدقاء ومعلّمون رحلوا. لهم الأزمنة القديمة والحديثة، من امريء القيس إلى سركون بولص، ومن سقراط إلى إدوارد سعيد. كوكبة بها كان للحياة معنى ويكون لغيرنا ولنا، على هذه الأرض. ها أنت معهم، في الطريق التي لا يدركها إلا الخبيرون بأهوال السفر. عشقت الحرية فأصبحت واحداً من أهلها، وانتسبت للقلق فعرفت قبيلته،وكان لك المنفى والمنفى، غريباً على الحدود. لا أصدق النبأ، ولكن ليس لي سوى أن أصدق. ذات مرة سألتك بنوع من المداعبة: "كيف أنت مع تعب القلب؟". "قصة وقعت، وانتهت". أجبتني. مرحُك لم يترك لي شكّاً في اجتيازك محنة تعب القلب، وتجربة الموت الأولى. أتذكر الساعات المتلاحقة أثناء العملية وبعدها. وأتذكر زيارتك للمغرب وأنت تستعيد حيويتك وحرارة لون بشرتك. ثم البارحة مساء، وصلنى النبأ. لم أستطع الرد على مكلٍّمي. لساني صار أخرس وأعضائي مشلولة. لا الحزن ولا البكاء. أحسست بجبهتي تنشق وتخيلتُ أني أرى جمجمتي فارغة. مشاهد متقطعة من حياتك أخذت تمطر في صمتي. بدون ترتيب كانت المشاهد تذهب وتجيء. غرفة العمليات لم تبيّن حجمها. أضواء كاشفة تنطفيء. مقاطع من قصائدك تلمع. أنا وقفتك وأنت تقرأ أمام جمهورك، الذي لا يشبه جمهور أي شاعر آخر، عبر جهات الأرض ومن لغات يصعب عدُّها، مقاطع مما تحب أن يظل حاضراً في جسد جمهورك أو أن يعود إليه في القراءة. أحاديث بدورها أصبحت تتردد في سمعي "مناجاة" كنت أحياناً تسميها، ممتزجة بابتسامة تخترق بها جبال الألم. مطر لا يتوقف. ونفسي خارج نفسي. من حقك على كل واحد منا أن يقف، اليوم، صامتاً. هو وقوف لأجل أن يتعهد بتكريم الشاعر فيك، ويتأمل مقاومتك المتعددة، إنه حق الذين وهبوا حياتهم للسهر على المعنى: معنى الشعر.. الثقافة، الحرية، الإنسان. معنى الشاعر، المبدع، المقاوم، كلمات هي رحم رؤية للحياة والموت، أساسها الإنسان والإنسان من حق هؤلاء جميعاً، عبر أزمنة وأمكنة، تستمد حقك بها من كل واحد منّا.. وقوف تجسدته الكلمة ذاتها. وهل هناك ما هو اوكد من كلمة تقف ضد زمن يمنع عنا معنى الكلمات؟ بلى إن الشاعر فيك مبتدأ مقاومة لا نهاية لها. الشاعر الفلسطيني، الذي قاوم من أجل أن يكون الشعر لغة فلسطينية حديثة ومن أجل أن تبقى فلسطين لغة انسانية مشتركة. في معنى "الشاعر الفلسطيني الحديث" يرتسم البعد الكوني لمغامرتك الشعرية وحياتك الشخصية في آن. وذلك أيضاً ما كنت أنت حريصاً عليه. ببصيرة وفراسة ومعرفة. تقف الكلمة كلمتي وكلمة اصدقائك ومحبيك في فلسطين وعبر العالم لتكون لك الوفاء والعهد. على أنني أشعر بشيء يتلاشى في كلمتي. أقصد القدرة على أن تختصر ما لا يقبل الاختصار. كذلك كان شأني معك دائماً، في لقاءات وأفعال وحوارات لم تتوقف بيننا منذ أواسط السبعينيات، عندما التقينا أول مرة في الرباط. كنت دائما أقوى من كلمتي لأن معنى المقاومة لديك يخفي أكثر مما يظهر. وهو ما يحمي سرّها من الانكشاف الكلي. ما قرأته لك، وما عشته، قريباً أو بعيداً عنك، وما عرفت منك ومن غيرك، كلّه يؤدي بي إلى قول أن لمقاومتك أسراراً لن ندركها دفعة واحدة. مثقفون عرب نادرون في زمننا الحديث بلغوا هذه المكانة، وأقربهم إلى نفسك إدوارد سعيد. من هذا الركن يمكننا إعادة قراءة الثقافة العربية الحديثة لندرك معنى الثقافة في تاريخ الإنسانية ومعناها في مشروع التحديث لدى العرب، منذ القرن التاسع عشر. أستعمل هنا كلمة "المقاومة" وأنا أعلم أنها تعرضت للتشوه في خطابات، تعتبر نفسها ما بعد حديثة، مثلما هي تتعرض للتسفيه. تلك مشكلة ثقافة عربية (وغير عربية) تتخلّى عن مكانها، وليست مشكلة معنى كلمة "المقاومة". أستعمل الكلمة واصر على استعمالها، بل أراها الكلمة التي هي مفتاح شعرك وحياتك. بل أستعملها بما هي متعددة. ولا بد لمن يغتبط بالسعي إلى معرفة أسرار مقاومتك المتعددة أن يتأنى، لأن حياتك الثانية على هذه الأرض ستبدأ الآن فقط. والقادمون سيقتربون منك أكثر مما نحاول نحن المعاصرين لك، وسيعرفون أكثر حياتك الثانية حياة أعمالك. والرحلة الكبرى، رحلتها. ثمة التباسات يحسن استبعادها. كانت الصفة التي اختارها لك النقاد، حينما تعرفوا سنة 1968 على شعرك، هي "شاعر المقاومة". بهذه الصفة كان الاستقبال والاحتفاء. استقبالك جنباً إلى جنب مع إخوان فلسطينيين من الشعراء المقيمين داخل فلسطين والاحتفاء الذي أنسى الناس معنى الشعر في تاريخه العربي أو في تاريخه الإنساني. ولكن قلق الشاعر فيك كان، مرّة بعد مرّة، يعلمك كيف تنصت إلى أسئلة القصيدة في تجاوبها مع أسئلة ما يرجّ العالم ويقلب جغرافيات السياسة كما في المجتمع والأدب والثقافة. بقلق الشاعر ثرت، منذ البدء، على "الحب القاسي" وتبعت صوت القصيد في زمنك، صوتاً ينتقل من الخارج إلى الداخل، ومن الضجيج إلى الإنصات. قلقُ القصيدة مضاء للبداهة.. وفلسطين، بؤرة قصيدتك الأولى، عبرت من البداهة إلى السؤال. ذلك أن قلق القصيدة متأت من الصلة لديك بين الشعر والحياة. مع تلك اللحظات اللانهائية للعبور كنت تفاجئ قارئك (وجمهورك) بقصيدة أسبقُ ما يعنيها ملاحقة الممكن الذي يحافظ للقصيدة على المعنى المتعدد وللقارئ على المجهود الشخصي في توليد تعدد المعنى. ولم تخدع نفسك (ولا قارئك) بالنفور من جمالية العروض والقافية، رغم انك غامرت بلغة تأنس بلغة الحياة اليومية وحكايتها. نفسك ترتاح لانسياب وزني ينفتح فيه الغنائي على الملحمي بفنية تتقن اللعب بالتركيب كما بالتشبيه والاستعارة. اصبحت القصيدة تدل قارئها على قيمة الشعر فيها، لانها غادرت البداهة والارتجال والتحقت بالبحث الصبور، الصارم، عن صدمة اللغة ودهشتها. هي صدمة ودهشة الارتفاع بالحالة الفردية الى علق التجربة الملحمية. ابتداء من "ورد اقل" اخذت قصيدتك يا محمود تنتصر على ما يفرضه عليها قارؤها، ثم مع "جدارية" كان اختراق الحجاب نحو كتابة يتبادل فيها الظاهر والمحجوب الضوء. اعرف ان ذلك كان مركز قلق كتابتك في الشعر والنثر معا. اعمال نثرية تتكامل مع الاعمال الشعرية كانت، حينا بعد حين تبني رؤية شعرية جديدة لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. رؤية تخلت عن البداهة بقدر ما تخلت عنها القصيدة. فلسطين في تاريخ يخطف البصر، وفلسطين يواجه احتلالا يدعي امتلاك حقيقة الارض والتاريخ، وشاعر يحفر الطبقات السفلى للتاريخ والاسطورة والملاحم، دائم التعلم، من اللغة الى الفلسفة ومن الاتجاهات الشعرية الحديثة الى الاديان والفنون. وكانت "الكرمل" الوجه الآخر لهذا البحث او هذه المعرفة التي اصبحت ضرورية لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. وعي كامل بالثقافة والفنون لبناء فلسطين حديثة، حرة، ديمقراطية، هي المسكن الرمزي للأحرار في العالم. كل ذلك لانك تحب للكلمة في قراءة العلامات الدالة على زمنك، الفلسطيني والانساني. ومن يقترب من مركز قلق كتابتك يدرك عنايتك بالشخصي والجسدي. انك الشاعر الفلسطيني الذي جعل الشخصي والجسدي ينفلتان من خط الأحوال النفسية الرومانسية او الخطابية، وينحلان في ماء الحسية والمادية. هي ذي، باعتقادي، ثورتك الشعرية في قصيدة اعادت صياغة المأساة الفلسطينية من خلال تجربة فردية، شخصية وجسدية. جرأة هي جرأة المعرفة نفسها بالشعري في زمننا الحديث. ولكنها ادت، في تجربتك بالذات، الى كتابة قصيدة تراهن على تحديث لاسطورة الفلسطينية التي هو احدى اقدم اساطير الشرق الاوسط. شعب متنوع لأعراق وأديان سماوية وغزاة وأناشيد ومنفيون وشهداء ومقاومون. تاريخ تهب رياحه على المتخيل البشري واسطورة حفظتها عن ظهر قلب كل شعوب البحر الابيض المتوسط ومنها الى العالم. ثورة شعرية تحتاج الى قراءة تنسى قليلا قضايا جزئية شغلت القصيدة العربية الحديثة ونقادها في العقدين الاخيرين. اي ان ثورتك الشعرية، التي تحققت بحسية دقيقة ستأخذ في الظهور، من جديد، لنا وللاحقين علينا بمجرد ان نبدّل مكان القراءة. فتحديث الاسطورة الفلسطينية ابعد من جمالية ابيات او قصيدة اعمق من فكر سياسي وأوسع من تأويل قانوني لانها اصرت على ان فلسطينك اما ان تكون حديثة او لا تكون، اما ان تكون حرة او لا تكون. صراعك مع الذات لم يكن اقل من صراعك مع المحتل الاسرائيلي. وتحديث الاسطورة الفلسطينية هو عمل الشاعر الذي ينصت بجرأة ويقرأ العلامات. انك وانت تكتب الاسطورة الفلسطينية وضعت للفلسطينيين ولأهل الارض جميعا، كتابك المشرق بالأمل في السلام والحرية. قلقك، اذن، يسهر على حدود القصيدة، داخلها وخارجها في آن. قلق المقاوم لكل ما يلغي القصيدة والشاعر، ثم قلق المقاوم للاحتلال الذي يريد ان يطرد فلسطين وشعبها من المتخيل البشري، الآن وبعد الآن، باسم الحق الديني للشعب المختار.لا. قلقك نداء للمستحيل، في القصيدة والحياة والجسد، على ارضك، فلسطين، وعلى ارض الناس جميعا. اسطورة فلسطين الحديثة التي كتبتها بدمك، بمنافيك وعذاباتك، اغنية تحتمل خلق عالم جديد، هو المستحيل ذاته. وهو لذلك لم يعثر على فضاء غير المقاومة المتعددة في القصيدة والحياة او في القصيدة والجسد. وهاانت قريب دائما منا بأسرارك الكبرى سيدي وحبيبي محمود. شاعر من المغرب
ذلك ما شاءت لنا الطبيعة. أن ترحل بعيداً عنا، بعيداً إلى حيث أصدقاء ومعلّمون رحلوا. لهم الأزمنة القديمة والحديثة، من امريء القيس إلى سركون بولص، ومن سقراط إلى إدوارد سعيد. كوكبة بها كان للحياة معنى ويكون لغيرنا ولنا، على هذه الأرض. ها أنت معهم، في الطريق التي لا يدركها إلا الخبيرون بأهوال السفر. عشقت الحرية فأصبحت واحداً من أهلها، وانتسبت للقلق فعرفت قبيلته،وكان لك المنفى والمنفى، غريباً على الحدود. لا أصدق النبأ، ولكن ليس لي سوى أن أصدق. ذات مرة سألتك بنوع من المداعبة: "كيف أنت مع تعب القلب؟". "قصة وقعت، وانتهت". أجبتني. مرحُك لم يترك لي شكّاً في اجتيازك محنة تعب القلب، وتجربة الموت الأولى. أتذكر الساعات المتلاحقة أثناء العملية وبعدها. وأتذكر زيارتك للمغرب وأنت تستعيد حيويتك وحرارة لون بشرتك. ثم البارحة مساء، وصلنى النبأ. لم أستطع الرد على مكلٍّمي. لساني صار أخرس وأعضائي مشلولة. لا الحزن ولا البكاء. أحسست بجبهتي تنشق وتخيلتُ أني أرى جمجمتي فارغة.
مشاهد متقطعة من حياتك أخذت تمطر في صمتي. بدون ترتيب كانت المشاهد تذهب وتجيء. غرفة العمليات لم تبيّن حجمها. أضواء كاشفة تنطفيء. مقاطع من قصائدك تلمع. أنا وقفتك وأنت تقرأ أمام جمهورك، الذي لا يشبه جمهور أي شاعر آخر، عبر جهات الأرض ومن لغات يصعب عدُّها، مقاطع مما تحب أن يظل حاضراً في جسد جمهورك أو أن يعود إليه في القراءة. أحاديث بدورها أصبحت تتردد في سمعي "مناجاة" كنت أحياناً تسميها، ممتزجة بابتسامة تخترق بها جبال الألم. مطر لا يتوقف. ونفسي خارج نفسي.
من حقك على كل واحد منا أن يقف، اليوم، صامتاً. هو وقوف لأجل أن يتعهد بتكريم الشاعر فيك، ويتأمل مقاومتك المتعددة، إنه حق الذين وهبوا حياتهم للسهر على المعنى: معنى الشعر.. الثقافة، الحرية، الإنسان. معنى الشاعر، المبدع، المقاوم، كلمات هي رحم رؤية للحياة والموت، أساسها الإنسان والإنسان من حق هؤلاء جميعاً، عبر أزمنة وأمكنة، تستمد حقك بها من كل واحد منّا.. وقوف تجسدته الكلمة ذاتها. وهل هناك ما هو اوكد من كلمة تقف ضد زمن يمنع عنا معنى الكلمات؟ بلى إن الشاعر فيك مبتدأ مقاومة لا نهاية لها. الشاعر الفلسطيني، الذي قاوم من أجل أن يكون الشعر لغة فلسطينية حديثة ومن أجل أن تبقى فلسطين لغة انسانية مشتركة. في معنى "الشاعر الفلسطيني الحديث" يرتسم البعد الكوني لمغامرتك الشعرية وحياتك الشخصية في آن. وذلك أيضاً ما كنت أنت حريصاً عليه. ببصيرة وفراسة ومعرفة.
تقف الكلمة كلمتي وكلمة اصدقائك ومحبيك في فلسطين وعبر العالم لتكون لك الوفاء والعهد. على أنني أشعر بشيء يتلاشى في كلمتي. أقصد القدرة على أن تختصر ما لا يقبل الاختصار. كذلك كان شأني معك دائماً، في لقاءات وأفعال وحوارات لم تتوقف بيننا منذ أواسط السبعينيات، عندما التقينا أول مرة في الرباط. كنت دائما أقوى من كلمتي لأن معنى المقاومة لديك يخفي أكثر مما يظهر. وهو ما يحمي سرّها من الانكشاف الكلي. ما قرأته لك، وما عشته، قريباً أو بعيداً عنك، وما عرفت منك ومن غيرك، كلّه يؤدي بي إلى قول أن لمقاومتك أسراراً لن ندركها دفعة واحدة. مثقفون عرب نادرون في زمننا الحديث بلغوا هذه المكانة، وأقربهم إلى نفسك إدوارد سعيد. من هذا الركن يمكننا إعادة قراءة الثقافة العربية الحديثة لندرك معنى الثقافة في تاريخ الإنسانية ومعناها في مشروع التحديث لدى العرب، منذ القرن التاسع عشر.
أستعمل هنا كلمة "المقاومة" وأنا أعلم أنها تعرضت للتشوه في خطابات، تعتبر نفسها ما بعد حديثة، مثلما هي تتعرض للتسفيه. تلك مشكلة ثقافة عربية (وغير عربية) تتخلّى عن مكانها، وليست مشكلة معنى كلمة "المقاومة". أستعمل الكلمة واصر على استعمالها، بل أراها الكلمة التي هي مفتاح شعرك وحياتك. بل أستعملها بما هي متعددة. ولا بد لمن يغتبط بالسعي إلى معرفة أسرار مقاومتك المتعددة أن يتأنى، لأن حياتك الثانية على هذه الأرض ستبدأ الآن فقط. والقادمون سيقتربون منك أكثر مما نحاول نحن المعاصرين لك، وسيعرفون أكثر حياتك الثانية حياة أعمالك. والرحلة الكبرى، رحلتها. ثمة التباسات يحسن استبعادها. كانت الصفة التي اختارها لك النقاد، حينما تعرفوا سنة 1968 على شعرك، هي "شاعر المقاومة". بهذه الصفة كان الاستقبال والاحتفاء. استقبالك جنباً إلى جنب مع إخوان فلسطينيين من الشعراء المقيمين داخل فلسطين والاحتفاء الذي أنسى الناس معنى الشعر في تاريخه العربي أو في تاريخه الإنساني.
ولكن قلق الشاعر فيك كان، مرّة بعد مرّة، يعلمك كيف تنصت إلى أسئلة القصيدة في تجاوبها مع أسئلة ما يرجّ العالم ويقلب جغرافيات السياسة كما في المجتمع والأدب والثقافة. بقلق الشاعر ثرت، منذ البدء، على "الحب القاسي" وتبعت صوت القصيد في زمنك، صوتاً ينتقل من الخارج إلى الداخل، ومن الضجيج إلى الإنصات. قلقُ القصيدة مضاء للبداهة.. وفلسطين، بؤرة قصيدتك الأولى، عبرت من البداهة إلى السؤال. ذلك أن قلق القصيدة متأت من الصلة لديك بين الشعر والحياة. مع تلك اللحظات اللانهائية للعبور كنت تفاجئ قارئك (وجمهورك) بقصيدة أسبقُ ما يعنيها ملاحقة الممكن الذي يحافظ للقصيدة على المعنى المتعدد وللقارئ على المجهود الشخصي في توليد تعدد المعنى. ولم تخدع نفسك (ولا قارئك) بالنفور من جمالية العروض والقافية، رغم انك غامرت بلغة تأنس بلغة الحياة اليومية وحكايتها. نفسك ترتاح لانسياب وزني ينفتح فيه الغنائي على الملحمي بفنية تتقن اللعب بالتركيب كما بالتشبيه والاستعارة. اصبحت القصيدة تدل قارئها على قيمة الشعر فيها، لانها غادرت البداهة والارتجال والتحقت بالبحث الصبور، الصارم، عن صدمة اللغة ودهشتها. هي صدمة ودهشة الارتفاع بالحالة الفردية الى علق التجربة الملحمية. ابتداء من "ورد اقل" اخذت قصيدتك يا محمود تنتصر على ما يفرضه عليها قارؤها، ثم مع "جدارية" كان اختراق الحجاب نحو كتابة يتبادل فيها الظاهر والمحجوب الضوء.
اعرف ان ذلك كان مركز قلق كتابتك في الشعر والنثر معا. اعمال نثرية تتكامل مع الاعمال الشعرية كانت، حينا بعد حين تبني رؤية شعرية جديدة لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. رؤية تخلت عن البداهة بقدر ما تخلت عنها القصيدة. فلسطين في تاريخ يخطف البصر، وفلسطين يواجه احتلالا يدعي امتلاك حقيقة الارض والتاريخ، وشاعر يحفر الطبقات السفلى للتاريخ والاسطورة والملاحم، دائم التعلم، من اللغة الى الفلسفة ومن الاتجاهات الشعرية الحديثة الى الاديان والفنون. وكانت "الكرمل" الوجه الآخر لهذا البحث او هذه المعرفة التي اصبحت ضرورية لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. وعي كامل بالثقافة والفنون لبناء فلسطين حديثة، حرة، ديمقراطية، هي المسكن الرمزي للأحرار في العالم. كل ذلك لانك تحب للكلمة في قراءة العلامات الدالة على زمنك، الفلسطيني والانساني.
ومن يقترب من مركز قلق كتابتك يدرك عنايتك بالشخصي والجسدي. انك الشاعر الفلسطيني الذي جعل الشخصي والجسدي ينفلتان من خط الأحوال النفسية الرومانسية او الخطابية، وينحلان في ماء الحسية والمادية. هي ذي، باعتقادي، ثورتك الشعرية في قصيدة اعادت صياغة المأساة الفلسطينية من خلال تجربة فردية، شخصية وجسدية. جرأة هي جرأة المعرفة نفسها بالشعري في زمننا الحديث.
ولكنها ادت، في تجربتك بالذات، الى كتابة قصيدة تراهن على تحديث لاسطورة الفلسطينية التي هو احدى اقدم اساطير الشرق الاوسط. شعب متنوع لأعراق وأديان سماوية وغزاة وأناشيد ومنفيون وشهداء ومقاومون. تاريخ تهب رياحه على المتخيل البشري واسطورة حفظتها عن ظهر قلب كل شعوب البحر الابيض المتوسط ومنها الى العالم. ثورة شعرية تحتاج الى قراءة تنسى قليلا قضايا جزئية شغلت القصيدة العربية الحديثة ونقادها في العقدين الاخيرين. اي ان ثورتك الشعرية، التي تحققت بحسية دقيقة ستأخذ في الظهور، من جديد، لنا وللاحقين علينا بمجرد ان نبدّل مكان القراءة. فتحديث الاسطورة الفلسطينية ابعد من جمالية ابيات او قصيدة اعمق من فكر سياسي وأوسع من تأويل قانوني لانها اصرت على ان فلسطينك اما ان تكون حديثة او لا تكون، اما ان تكون حرة او لا تكون. صراعك مع الذات لم يكن اقل من صراعك مع المحتل الاسرائيلي. وتحديث الاسطورة الفلسطينية هو عمل الشاعر الذي ينصت بجرأة ويقرأ العلامات. انك وانت تكتب الاسطورة الفلسطينية وضعت للفلسطينيين ولأهل الارض جميعا، كتابك المشرق بالأمل في السلام والحرية.
قلقك، اذن، يسهر على حدود القصيدة، داخلها وخارجها في آن. قلق المقاوم لكل ما يلغي القصيدة والشاعر، ثم قلق المقاوم للاحتلال الذي يريد ان يطرد فلسطين وشعبها من المتخيل البشري، الآن وبعد الآن، باسم الحق الديني للشعب المختار.لا. قلقك نداء للمستحيل، في القصيدة والحياة والجسد، على ارضك، فلسطين، وعلى ارض الناس جميعا. اسطورة فلسطين الحديثة التي كتبتها بدمك، بمنافيك وعذاباتك، اغنية تحتمل خلق عالم جديد، هو المستحيل ذاته. وهو لذلك لم يعثر على فضاء غير المقاومة المتعددة في القصيدة والحياة او في القصيدة والجسد. وهاانت قريب دائما منا بأسرارك الكبرى سيدي وحبيبي محمود.
شاعر من المغرب