مأساة أن تكون محمود درويش
ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثٌل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا: لكن كلمة شاعر في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها بقدر ما تصيب من يحدق فيها بالعمي، شاعر بالمعني الجيد للكلمة: تعني إلها يخلق لغة أو يدمرها، تعني نبيا يحمل رسالة يعيش ويموت من أجلها، تعني صوتا يمثل أمة لا صوت لها أو متصوفا يعلٌم القساة الحب، تعني الرائي والفيلسوف والمبشر والنذير (يمكن للقاريء أن يجد أوصاف كلمة شاعرالسابقة هذه في مقالات كثيرة عن محمود درويش وأدونيس تحديدا). شاعر كلمة مفردة ولكنها ـ كي تتحقق كما يجب ـ قد تدل علي جمع، تماما مثل كلمة أمة وكلمة جيش. درويش يمثل أحد أهم الشعراء الكبار في ثقافتنا الحديثة إذن، ويضاف إلي ذلك أنه شاعر تاريخي أيضا، ليس فقط لأنه يمثل صوت مأساة تاريخية من أبشع مآسي القرن العشرين (وهو أخلص لذلك وكان كلما حاول الخروج أحضرته الجماهير واستمرارية المأساة)، وليس لأنه تمرد أحيانا علي ما يجب أن يمثله من مأساة (وهو ما أنتج أجمل قصائده)، وليس لأن قصائده دخلت تاريخ ثقافته وذاكرتها ومستقبلها (وهي قد دخلت قبل أن يموت بسنين)، ولكن لأنه ابن لحظة تاريخية ـ مأساة، أصبح عبر الزمن شاهدا عليها وممثلا لها بقدر ما كانت قصيدته نفسها تمثيلا لأحلامها ولخيباتها معا، شاء هو أم أبي (أحيانا قبل أن يجحب لارتباطه بالقضية وأحيانا اشتكي من الحب القاسي)، وشئنا نحن قراؤه أم أبينا (بعضنا يحبه كشاعر المقاومة وبعضنا لا يحب إلا قصائده البعيدة عن ما يسمي المقاومة). تاريخية درويش لم تمنحها له واقعية المأساة التي مثلها، بل بحثه المتوتر عن جماليات خاصة بها، جماليات تحرر صوته من وطأتها، بالطبع ليس كل شاعر كبير تقف خلفه مأساة وليس كل من خلفه مأساة يستطيع أن يجد جماليات لها). ولهذا ليس مبالغة أن أقول أن درويش ظل يطور قصيدته جماليا بأقصي قدر يمكن لشاعر مسجون في وضعيته التاريخية أن يقوم به. أي وضع تاريخي هذا أن يكون الواحد محمود درويش؟. أن يكون الواحد شاعرا، أن تكون خلفه مأساة وأن يستقبل ويجحب لأنه صوتها؟. أية مأساة تلك أن يكون الشاعر صوت مأساة لأكثر من أربعين عاما، مأساة لا تتحرك في أي اتجاه إلا لتزداد مأساوية؟. أي مأزق أن يكون الشاعر موهوبا وذكيا ووسيما وذا كاريزما وإنسانيا وفرديا وصعلوكا ومحبا للحياة ومع كل ذلك يمثل شعبا وتاريخا ومنافي وهوية وأحيانا سلطة بلا أرض تتسلط عليها؟ أي عبث أن يكون الشاعر ضحية مأساة وأن يكون جزءا من مجده أنه صوت الضحية وأن تكون جماهيره هي نفسها ضحايا؟ بالطبع أنا لا أرثي محمود درويش، أنا فقط أفكر فيه مجددا لأنه ببساطة مات، أفكر فيه لا كأب بل كحبيب قديم. ولقد فكرت فيه من قبل مرات: كمراهقة تحفظ شعره وتعلق صورته في غرفتها كما تعلق أخريات صور المغنين، وكشاعرة صغيرة تنجرف بعيدا عن عالمه وتصدق أنه يجب أن يكون هناك مخرج من قصيدته الجميلة بحق حتي وإن كان لا يوجد مخرج من المأساة التي تقف خلفها. ربما لم أفكر فيه لسنوات وربما تعاطفت معه عندما هاجم قصيدة النثر فكان ذلك دليلا علي أن الزمن قاسي. ولكني بدأت أفكر فيه مجددا منذ سنتين لأنه أربكني: عندما درست قصائده المترجمة للانجليزية لطلبة لا يعرفون موقعه في الثقافة العربية ولا يعرفون إلا القليل عن المأساة، طلبة ـ أستخدم هنا كلمة كريهة ـ أجانب، ورأيت بعضهم يدمع وبعضهم يسأل أسئلة لا أعرف كيف أرد عليها وبعضهم يريد أن يقرأ قصائده الأخري وبعضهم يبحث عن معلومات أكثر عن المأساة. أربكني درويش لأني رأيت صوته يصل إلي غرباء عنه، غرباء لا يعرفون موسيقاه ولا تموج صوته ولا وقفته علي المسرح ولا يعرفون كيف يمكن أن تكون ثقافة ما ـ بكامل شعرائها ـ مسجونة في لحظة تاريخية ـ مأساة. ورأيت نفسي تائهة في الفصل لا أعرف كيف أتحدث عن قصيدته، لا أعرف كيف أفسرها أو حتي أنقدها، واقفة أسأل نفسي إذا كان حقا محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من حبيب قديم؟. كون محمود درويش ابن مأساة لحظته التاريخية لا يجعله محظوظا: ما يجب أن نحزن لأجله أنه لم يكتب الكثير من القصائد العظيمة الممكنة لموهبة عظيمة مثله لأنه ابن هذه اللحظة بالذات، ابن المأساة. أي عبث في أن يتخيل الواحد نفسه في وضع درويش التاريخي؟ أي كابوس؟ ربما لو كنت طفلا طرد من قريته وعندما عاد لم يجدها لظللت أبحث عن الغياب، ربما لو كان هناك من يشكون في وجودي وفي وجود أهلي لكتبت شيئا من قبيل سجل أنا عربيٌ، ربما لو كنت شابا وذكيا ومثقفا وأكتب الشعر واسأل عن العدل لكان أفضل ما يمكنني أن أنتمي إليه هو الحزب الشيوعي، ربما لو كنت كل ذلك وفقدت الأمل في العدل لتركت الحزب الشيوعي، ربما لو كنت منفيا من بلد إلي بلد لحلمت أن أخلد الحنين. ربما لو كنت هناك في نهاية الستينيات لانضممت إلي منظمة التحرير الفلسطينية، ربما لو كان لديٌ الموهبة الجبارة والمأساة و جمهور عريض يريد أن يبكي ويطرب ويتذكر طفولته المسروقة وأرضه الضائعة وأن يغضب ويثور وينتصر ويتحرر في مساء واحد. لكنت غنيت لمن هم مثلي يبنون وطنا من الكلمات ولما كنت تنازلت عن موقعي كشاعر قضية من أجل ما لم أكتبه بعد. ربما لو كنت لا أعرف كم أنا موهوب ومحبوب وعندي ما يستحق من الانسانية أن تنصت إليه لكنت قبلت كل هذه الجوائز من كل هذه الحكومات. ربما لو كنت هربت واختفيت عن عيون من أمثلهم أينما كانوا لكنت لحظتها فقط كتبت ما لم أكتبه. ربما لو كنت كتبت ما لم أكتبه ما كنت احتجت لآذانكم علي الإطلاق ولقلت لكم اقرأوني لأن ما لم أكتبه ليس مناسبا للجماهير. ربما لو كان ألمي أقل ومحبتي لألمي أكبر ما كنت دمرت قلبي هكذا. ربما بعد أن عشت كل هذه السنوات أتحدث باسمكم جميعا ثم رأيتكم تتقاتلون في غزة وفي غيرها لكنت قررت أن أموت.
ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثٌل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا: لكن كلمة شاعر في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها بقدر ما تصيب من يحدق فيها بالعمي، شاعر بالمعني الجيد للكلمة: تعني إلها يخلق لغة أو يدمرها، تعني نبيا يحمل رسالة يعيش ويموت من أجلها، تعني صوتا يمثل أمة لا صوت لها أو متصوفا يعلٌم القساة الحب، تعني الرائي والفيلسوف والمبشر والنذير (يمكن للقاريء أن يجد أوصاف كلمة شاعرالسابقة هذه في مقالات كثيرة عن محمود درويش وأدونيس تحديدا). شاعر كلمة مفردة ولكنها ـ كي تتحقق كما يجب ـ قد تدل علي جمع، تماما مثل كلمة أمة وكلمة جيش.
درويش يمثل أحد أهم الشعراء الكبار في ثقافتنا الحديثة إذن، ويضاف إلي ذلك أنه شاعر تاريخي أيضا، ليس فقط لأنه يمثل صوت مأساة تاريخية من أبشع مآسي القرن العشرين (وهو أخلص لذلك وكان كلما حاول الخروج أحضرته الجماهير واستمرارية المأساة)، وليس لأنه تمرد أحيانا علي ما يجب أن يمثله من مأساة (وهو ما أنتج أجمل قصائده)، وليس لأن قصائده دخلت تاريخ ثقافته وذاكرتها ومستقبلها (وهي قد دخلت قبل أن يموت بسنين)، ولكن لأنه ابن لحظة تاريخية ـ مأساة، أصبح عبر الزمن شاهدا عليها وممثلا لها بقدر ما كانت قصيدته نفسها تمثيلا لأحلامها ولخيباتها معا، شاء هو أم أبي (أحيانا قبل أن يجحب لارتباطه بالقضية وأحيانا اشتكي من الحب القاسي)، وشئنا نحن قراؤه أم أبينا (بعضنا يحبه كشاعر المقاومة وبعضنا لا يحب إلا قصائده البعيدة عن ما يسمي المقاومة). تاريخية درويش لم تمنحها له واقعية المأساة التي مثلها، بل بحثه المتوتر عن جماليات خاصة بها، جماليات تحرر صوته من وطأتها، بالطبع ليس كل شاعر كبير تقف خلفه مأساة وليس كل من خلفه مأساة يستطيع أن يجد جماليات لها). ولهذا ليس مبالغة أن أقول أن درويش ظل يطور قصيدته جماليا بأقصي قدر يمكن لشاعر مسجون في وضعيته التاريخية أن يقوم به.
أي وضع تاريخي هذا أن يكون الواحد محمود درويش؟. أن يكون الواحد شاعرا، أن تكون خلفه مأساة وأن يستقبل ويجحب لأنه صوتها؟. أية مأساة تلك أن يكون الشاعر صوت مأساة لأكثر من أربعين عاما، مأساة لا تتحرك في أي اتجاه إلا لتزداد مأساوية؟. أي مأزق أن يكون الشاعر موهوبا وذكيا ووسيما وذا كاريزما وإنسانيا وفرديا وصعلوكا ومحبا للحياة ومع كل ذلك يمثل شعبا وتاريخا ومنافي وهوية وأحيانا سلطة بلا أرض تتسلط عليها؟ أي عبث أن يكون الشاعر ضحية مأساة وأن يكون جزءا من مجده أنه صوت الضحية وأن تكون جماهيره هي نفسها ضحايا؟
بالطبع أنا لا أرثي محمود درويش، أنا فقط أفكر فيه مجددا لأنه ببساطة مات، أفكر فيه لا كأب بل كحبيب قديم. ولقد فكرت فيه من قبل مرات: كمراهقة تحفظ شعره وتعلق صورته في غرفتها كما تعلق أخريات صور المغنين، وكشاعرة صغيرة تنجرف بعيدا عن عالمه وتصدق أنه يجب أن يكون هناك مخرج من قصيدته الجميلة بحق حتي وإن كان لا يوجد مخرج من المأساة التي تقف خلفها. ربما لم أفكر فيه لسنوات وربما تعاطفت معه عندما هاجم قصيدة النثر فكان ذلك دليلا علي أن الزمن قاسي. ولكني بدأت أفكر فيه مجددا منذ سنتين لأنه أربكني: عندما درست قصائده المترجمة للانجليزية لطلبة لا يعرفون موقعه في الثقافة العربية ولا يعرفون إلا القليل عن المأساة، طلبة ـ أستخدم هنا كلمة كريهة ـ أجانب، ورأيت بعضهم يدمع وبعضهم يسأل أسئلة لا أعرف كيف أرد عليها وبعضهم يريد أن يقرأ قصائده الأخري وبعضهم يبحث عن معلومات أكثر عن المأساة. أربكني درويش لأني رأيت صوته يصل إلي غرباء عنه، غرباء لا يعرفون موسيقاه ولا تموج صوته ولا وقفته علي المسرح ولا يعرفون كيف يمكن أن تكون ثقافة ما ـ بكامل شعرائها ـ مسجونة في لحظة تاريخية ـ مأساة. ورأيت نفسي تائهة في الفصل لا أعرف كيف أتحدث عن قصيدته، لا أعرف كيف أفسرها أو حتي أنقدها، واقفة أسأل نفسي إذا كان حقا محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من حبيب قديم؟.
كون محمود درويش ابن مأساة لحظته التاريخية لا يجعله محظوظا: ما يجب أن نحزن لأجله أنه لم يكتب الكثير من القصائد العظيمة الممكنة لموهبة عظيمة مثله لأنه ابن هذه اللحظة بالذات، ابن المأساة. أي عبث في أن يتخيل الواحد نفسه في وضع درويش التاريخي؟ أي كابوس؟ ربما لو كنت طفلا طرد من قريته وعندما عاد لم يجدها لظللت أبحث عن الغياب، ربما لو كان هناك من يشكون في وجودي وفي وجود أهلي لكتبت شيئا من قبيل سجل أنا عربيٌ، ربما لو كنت شابا وذكيا ومثقفا وأكتب الشعر واسأل عن العدل لكان أفضل ما يمكنني أن أنتمي إليه هو الحزب الشيوعي، ربما لو كنت كل ذلك وفقدت الأمل في العدل لتركت الحزب الشيوعي، ربما لو كنت منفيا من بلد إلي بلد لحلمت أن أخلد الحنين. ربما لو كنت هناك في نهاية الستينيات لانضممت إلي منظمة التحرير الفلسطينية، ربما لو كان لديٌ الموهبة الجبارة والمأساة و جمهور عريض يريد أن يبكي ويطرب ويتذكر طفولته المسروقة وأرضه الضائعة وأن يغضب ويثور وينتصر ويتحرر في مساء واحد. لكنت غنيت لمن هم مثلي يبنون وطنا من الكلمات ولما كنت تنازلت عن موقعي كشاعر قضية من أجل ما لم أكتبه بعد. ربما لو كنت لا أعرف كم أنا موهوب ومحبوب وعندي ما يستحق من الانسانية أن تنصت إليه لكنت قبلت كل هذه الجوائز من كل هذه الحكومات. ربما لو كنت هربت واختفيت عن عيون من أمثلهم أينما كانوا لكنت لحظتها فقط كتبت ما لم أكتبه. ربما لو كنت كتبت ما لم أكتبه ما كنت احتجت لآذانكم علي الإطلاق ولقلت لكم اقرأوني لأن ما لم أكتبه ليس مناسبا للجماهير. ربما لو كان ألمي أقل ومحبتي لألمي أكبر ما كنت دمرت قلبي هكذا. ربما بعد أن عشت كل هذه السنوات أتحدث باسمكم جميعا ثم رأيتكم تتقاتلون في غزة وفي غيرها لكنت قررت أن أموت.