سيمضي وقت طويل

أحمد إبراهيم الفقيه

 

أقول من خلال ما قراته من مراثي الكتاب الاجانب لمحمود درويش، ان هناك اعترافا عالميا بالموقع الاستثنائي لهذا الشاعر على خريطة الادب العالمي، الى حد القول انه لم يكن في العالم قبل وفاته شاعر يعادله مكانته، ولم يبق غيره من عصر اولئك الشعراء الذين يستقطبون من جماهير الشعر ما يملأ ملعبا رياضيا عند الاعلان عن تقديم قراءات لشعرهم، هو ما يزيد من حجم الاسى والاسف على رحيله. لانه بجوار العطاء الشعري الذي كان سيضيفه الى ديوان الشعر العربي والانساني، حرم الادب العربي من جائزة نوبل ثانية، كانت في طريقها اليه قريبا، لو لم يأخذه مرض القلب من بين أيدينا في هذا العمر المبكر، لان هؤلاء النقاد الكبار من انحاء العالم الذين تكلموا عن مكانته المتفردة على خريطة الشعر المعاصر، يعرفون انهم يقولونه في حضور شعراء نالوا جائزة نوبل مازالوا على قيد الحياة، مثل شيموس هيني الارلندي وشيمبوريشكا البولندية ويلكوت الجامايكي وغيرهم.

يبدو سؤالا وجيها ان نتساءل عن حال الوجدان الانساني في العالم بعد رحيل محمود درويش، حيث ينبيء انقراض الشعراء من امثاله ممن لهم قوة حضوره وعمق اتصاله بالجمهور الذي يفرح بتلقي شعره مسموعا بعد ان تلقاه عن طريق القراءة، بنضوب شيء ما في الوجدان الانساني. لابد من وقفة تأمل وتقييم واعادة نظر ازاءه وربما يأتي بعد ذلك جهد عالمي مشترك لاعادة او تعويض هذا النضوب، واذا صح لنا ان نتكلم عن الفراغ الذي يتركه غياب درويش على المستوى الانساني العالمي، فماذا نقول على مستوى الوطن العربي ومستوى اللغة العربية والثقافة العربية، والوجدان العربي، ثم ماذا نقول عن تاثير غيابه في شعبه الفلسطيني، ومصير بلاده الجريحة وقضية الوطن السليب التي كان هو صوتها المعبر اعظم تعبير عنها والنبراس الذي يشحن الوجدان الفلسطيني بالنور وقوة الامل ويبقي النوافذ مفتوحة على الغد الافضل والاكثر اشراقا لشعبه. وتعميق الولاء لهذا المستقبل، باعتباره الحارس الذي يحمل شعره سلاحا ضد الوقوع في اليأس والعبث. كلها اسئلة يستحق شاعر استثنائي معاصر، من عظماء الشعراء الانسانيين الذين انجبتهم الحضارة البشرية على مدى التاريخ، ان نطرح اسئلة من هذا النوع يوم غيابه. كان حضوره كبيرا طاغيا، وهو نوع من الطغيان الجميل الذي ينبثق من الحب، ولا يأتي نتيجة القمع كما هو نوع الطغيان الذي يقطن الجسد العربي دائما، اقول ان هذا الحضور كان لابد ان ينتج عنه اثناء الرحيل، غياب له نفس القوة، ولذا وجب ان نستنفر كل الاجهزة في حياتنا لتعويض هذا الغياب، خوفا على الشعر والثقافة والوجدان، غيابه معناه غياب هذا الحارس لمشروع الامل، وهذا القلم المنافح والمناضل ضد اليأس والعبث، وهذا المبدع الذي انجز مشروع التحديث والتطوير للذائقة العربية الشعرية، ولمدونة الشعر العربي نفسها وحقق ولادة جديدة لشعر يستطيع ان يبقى شعرا قويا ينتمى لأرقى انواع الشعر، ويحفظ له شروطه ثم لا يعجز عن التعبير عن القضايا الساخنة لابناء شعبه.

نعم توفرت لمحمود درويش خصائص لم تتوفر لغيره على امتلاء الوطن العربي بالشعراء ممن يتمتعون بمواهب كبيرة في قول الشعر. ولكنه تميز باشياء جعلت له فرادة وخصوصية في المشهد الشعري عربيا وعالميا، فهو بداية جعلت منه ظروف تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية، شاعر القضية، وهو لقب ينطبق على شعراء كثيرين مثله، ولكنه استطاع دونهم جميعا، ان يبقى شاعر القضية دون تفريط في ذرة واحدة من ضرورات الشعر وشروطه، يقتضيها احيانا ما تطلبه السليقة الشعبية والذائقة العامة ومستوى الجمهور في شعوب مازالت تعاني الامية والحرمان من التعليم من تنازل عن المشارف العالية للشعر، هبوطا الى مستواها، لكنه استطاع على مدى حياته الشعرية، ان يقول الشعر في اعلى مستوياته التي تتطلب تركيبا صعبا وتعاملا مع الايحاءات والرموز واللغة الشفافة ذات الصفاء والنقاء والرقي، البعيدة عن المباشرة والصراحة والفصاحة التي تشبه فصاحات الخطابات السياسية، ولغة الاستعمال العام التي يقولها الخطباء في مهرجانات الخطابة ويلقونها من فوق منابر المساجد، والتي يقتضيها الفهم العام والذوق والعام، وبرغم ذلك يصل الي وجدانات الناس وعقولهم وقلوبهم. ويحقق ذلك التواصل العميق مع ابناء شعبيه وينجح في التعبير عن قضيتهم والارتفاع بها الى سمت انساني يجعلها قضية الانسان المظلوم المكلوم في كل زمان ومكان.

من بين شعراء الحداثة، يحتل محمود درويش موقعا في المقدمة، دون تطرف في التعامل مع هذه الحداثة، لم يذهب في التجريب الى حدوده القصوى التي تنتهي الى بحر الظلمات حيت تغيب الرؤية ويصبح الغموض الجميل الذي يحل على القصيدة كرداء من ضباب شفيف، سجفا من ظلام سميك يحجب الرؤية، ويقود الى العمى والتوهان الذي يجلب الكوارث لمن يسير في متاهته، دون ان يبقى في ذات الوقت مقيدا الى القوالب القديمة والانماط الجاهزة والاساليب الشعرية التي تجاوزها العصر. لقد كان شاعرا مسكونا بهاجس التجديد والتطوير قادرا على اجتراح لغة جديدة واساليب عصرية وكتابة قصائد يتجاوز فيها نفسه ويقوم بتطوير ذاته وتعميق رؤاه باساليب تزيده قربا من جمهوره وتؤسس له مكانة خاصة في وجدانهم وتصنع له مكانا متقدما في المشهد الادبي على مستوى العالم. وبقى برغم وجود شعراء من اباء الشعر العربي الحديث، كان معايشا لهم، ومعترفا بفضلهم، وتلقيه اصول الشعر على ايديهم، شاعرا خارج المنافسة لما اسبغه الله عليه من موهبة استثنائية، عززها بخبراته وتجاربه وتكريس حياته تكريسا كاملا شاملا لقضية شعره المرتبط ارتباطا عميقا بارضه واهله.

وما رفضه الدائم لعروض التوزير، والمناصب القيادية، الا دليلا على هذا الحرص على اخلاصه لقضية الشعر وجعل هذا الشعر محور حياته. لم يستطع معه، حتى وهو يستجيب لنداء الحب في علاقاته النسائية رافضا ان يجعل هذه العلاقات تستحوذ على شيء من عشقه للقصيدة التي خصها بالولاء فمات دون ان ينشىء اسرة من زوجة واولاد، خاصة به، مما اكسبه هذه القدرة على الاحتفاظ بشعره متدفقا كنهر لا تنضب منابعه ولا يتوقف جريانه مهما قست الطبيعة واحتجب المطر واشتدت حرارة الجو، وامحلت الموارد التي تغذي الانهيار والجداول والبحيرات، فبقي حين يصيب الجفاف مواطن الشعر، واديا يحمل الماء النمير لا يصيبه امحال ولا جفاف. الاخلاص للشعر استوجب ايضا الابقاء على عشقه للوطن ثابتا، صافيا، نقيا، لا مراء فيه، ولا يشوبه شيء مما يشوب هذا النوع من العلاقات، من تحولات وتقلبات ومراجعة للمواقف، لانه ليس موقفا تكتيكيا كما يحدث مع القادة السياسيين، او استجابات لاحداث وتطورات عارضة طارئة، او حسب ما تقتضي لحظات التوتر والانفراج وما يحدث حولها من ضغوط، تحضر فينتج عن حضورها موقف، وتغيب فيحدث موقف جديد.

فالقضية بالنسبة لشاعر ربط شعره بقضية بلاده، لا سبيل لوجود هذه المناورات والتكتيكات والكر والفر في حياته، وانما موقف استراتيجي من القضية وثوابتها التي لا تحتمل هذا التذبدب، رؤية عميقة لها ثبات القناعات الوطنية المتجذرة في عمق الروح والوجدان، حافظ عليها واخلص لها وجعل شعره معبرا عنها، فكان بالتالي شاعرا متسقا مع نفسه، لا يرتدي لكل حالة لبوسها، ولا يعنيه الا الجوهري من الامور، دون ان يجعل العاجل والطارئ والتكتيكي يلهيه او يحيده او يشغله عن عمق تلك الرؤية وذلك الموقف الذي بدأ ت به حياته وانتهت به. رغم هذا الهم الوطني القاسي الذي يحمله، والتفاعل الشخصي والعام، المادي والمعنوي، مع محنة شعبه، فان هذا الهم وهذه المحنة لم يعميانه عن رؤية الافاق الانسانية في امتدادها الرحيب، ليضم هذه الافاق الى ارض اهتمامه بدل ان يبقى ضيق الافق سجين محنته. فاكتسب شعره بفضل هذه النظرة هذا البعد الانساني الذي يخترق كل قصائده، كما لم يقتصر الانتماء لارض فلسطين التي ابتلاها الله بنوع من الاستعمار شديد التطرف والطغيان والانغماس في ظلام الاساطير الرافضة للانفتاح والتطور على قيم العصر، لم يقتصرانتماء الشاعر على فلسطين التي انجبته، وانما شمل ايضا رحابة الامة العربية بكل شعوبها وأقطارها ودائرتها الحضارية التي تشكل فلسطين حجرا ثمينا من احجار لوحة الفسيفساء التي تشغل مساحات كبرى من قارتي اسيا وافريقيا، بما لها من امتدادات في التاريخ بالاضافة الى هذه الامتدادات الجغرافية وما تضمه من زخم في الفكر والثقافة والعلم والسياسة والاجتماع المتداخل مع بعضه البعض ليصنع لمحمود درويش ارضا يتحرك عليها حضاريا وثقافيا اكثر من قطره الصغير.

كان لهذا التماس المبكر بين الشاعر وبين جماهير الامة العربية التي احتفت به منذ بداية ظهوره على خريطة الشعر العربي، وهذه الاحضان التي مدتها اليه على مساحة الوطن العربي كله، تريد حمايته وتوفير الامن لشاعريته، لكي لا تحطمها عنجهية المستعمرين، وهو لا زال غضا في صباه، كان لهذا التماس تأثيره على الوجدان الشعري للشاعر الصغير، التي رأته الجماهير كبيرا، فكان لابد ان يكبر حقا، ليحصل التوازن بين الصورة والحقيقة، خاصة في ذهن الشاعر الذي قرر ان يواصل نموه وخطط لنفسه ان يكبر ويكبر ويكبر، ليكون جديرا بهذا الاحتفاء الشعبي به، وصار حب التطور والنمو في طبيعته وجزءا من تكوينه، فواصله حتى اخر يوم في حياته، لا يرضى بانجاز حققه حتى يأتي بما يتفوق به عليه وعلى نفسه.

ونتيجة حرصي على حضور المؤتمرات التي يعقدها الادباء، بسبب انني اعتبرتهم دائما، وسط مجتمعاتنا التي تحتفي بالانتماء القبلي والعشائري، هم قبيلتي التي لا اعترف بقبيلة سواها، فقد التقيت وتعرفت على كل من له صيت من الشعراء العرب مشرقا ومغربا، كبارهم في السن وصغارهم، وكان لابد ان التقي بالشاعرمحمود درويش منذ اول خروجه من فلسطين، في أول مؤتمر للادباء العرب يحضره الشاعر عقد في تونس في مطلع السبعينيات، وكما نعلم فقد ولد درويش نجما منذ شبابه، وكان اثناء هذا المؤتمر محاطا بالمعجبين والصحفيين اينما تحرك، فتجنبت الاقتراب منه بسبب هذا الزحام، وبسبب اشاعة ظهرت عنه انه رجل متكبر، ممتلئ بنفسه. وقد تبين ان هذا التكبر اشاعة اكثر منه حقيقة، وندمت لانني صدقت الاشاعة وتجنبت الاقتراب منه، رغم التصاقي بشعره وعميق حبي له واعجابي به ناثرا ايضا، ارى انه احد اجمل من يكتبون النثر في ادبنا العربي المعاصر. اكتفي بتبادل التحية معه، وانطلق في سبيلي تاركا اياه يستمتع بحلقات المعجبين والمعجبات. وقد سمعت من اصدقاء مشتركين مدى ما لديه من عذوبة وما يستمتع به من ملاحة في الطبع وما يملكه من روح الدعابة، مما جعلني نادما على الفرص التي ضاعت للاقتراب منه على المستوى الشخصي. وار ان الفرص القادمة كثيرة، التي ستعوض هذا التقصير من جانبي في السعي لمعرفته، وعقد صداقة جميلة معه، كتلك الصداقات التي عقدتها مع رواد الشعراء واحتلت في ذاكرتي موقعا زاهيا مبهجا الوذ بالفرار اليه والاقامة فيه كلما حاصرتني حلقات البؤس في الواقع الذي حولي.

إلا ان القدر شاء ان يحرمني من تحقيق هذه الامنية فهنيئا للاصدقاء والزملاء الذين عرفوه وواصلوا التقائهم به، واحتفظوا بذكريات عنه ستكون زادا يبهجهم ويمتعهم مدى العمر. سيمضى زمن طويل قبل ان يظهر شاعر في قامة وقوة وغزارة الموهبة التي يملكها هذا الشاعر العبقري، في وطننا العربي، ولكن العزاء الذي يخفف عنا بلوى غيابه، هي ان شعره الذي يسيل جمالا وعذوبة ويمتلئ بقيم الحداثة والمعاصرة بما يجعله شعرا مواكبا لاحداث زماننا، سوف يبقى معنا، نجد فيه انفسنا ونلتقي فيه بالتعبير العميق عن معاني حياتنا، ونتلمس فيه نوعا من جماليات الشعر التي قد لا نجدها الا لديه. رحم الله محمود دريش، واجزل له العطاء بقدر ما اعطى للبشرية جمعاء.


روائي من ليبيا