هو الذي رأى رأى الشعر مستحيلا في القضية. والقضية مستحيلة في الشعر. رأى جسدا يستأذنه في بناء وطن بنبضه. ورأى روحا تكتب على عجل قصيدتها الأخيرة. رأى فجرا يجئ، وليلا يجئ، في لحظة واحدة. هو الذي رأى رأى أحمد العربي واقفا في حاجز، ينتظر العبور من عين الإبرة. ورأى نفسه جبلا يعبر من نفس العين. حياة جرب كل آلامها ولذائذها، ومفاجآتها وعذاباتها الصغيرة والكبيرة وحقائقها وأوهامها. كلما جنحت به الحياة وشرطه الفلسطيني هنا أو هناك، لم تزغ روحه، ولم يفقد الطريق الى خيمته. في ذهابه يرتفع الى مقام حلم تحقق. وليس إلى مقام أسطورة. ندرك وهو يغادرنا أنه أهدانا رغم كل الهشاشة واليأس المحيطين به صرحا إبداعيا غير مثلوم. ندرك وهو يغادرنا أن قلبه كان يرفض عن حق أي شيء "زائد" عن هذه التجربة الرائعة. ندرك أنه مضى في "الوقت الذي يلائمه"، ليس من حق أحد أن يبتكر له وقتا آخر. ولا حياة أخرى. كنا محظوظين جدا، لأننا قرأنا قصائده فور انبثاقها من أحشائه. كنا محظوظين لأننا انتظرنا قصائده، فوصلتنا، وأصبحنا بعد قراءتها أشخاصا آخرين. بهذا الاكتمال النازف، مضى محمود الى الخيمة التي حضّر فيها منذ أمد بعيد، طفولته الخالدة.
محمود في خيمته الأخيرة!