أثر الفراشة لا يُرى ولا يزول
على شرفة من ضباب، أو من غيم أبيض كما تشتهيه، كنت ترقبهم من حضن غياب حاضر كعنوة الورد.. أعلم أنك الآن أكثرنا حزناً وخجلاً فالدرب توضأت بدموع حورية ـ أمك ـ وها طزاجة خبزها تتهافت في مهب الرحيل، وتخفت موسيقا الهال في فنجان قهوة سكبته لك أنت.. لقد رق حتى ترقرق جدول طفولة، وشفّ حتى استشفّ ما وراء قطن الغيم يلفع حرفه، فكان نبي الشعر، ولأني أقصر من شباكه العالي أستمطر ههنا غيومه الحبلى على ورقي: لأن للنص مقتضيات، وعدت بألا تكون في غرفتك ولا في حديقتك إذ لا بد من غائب للتخفيف من حمولة المكان. فلماذا كنت أنت؟! وكيف لقلبك ألا يكون لك ولا لأحد فاستقل عنك لكنه لم يصبح حجراً! فهل سألوك ثانية: ستموت اليوم فماذا تفعل. قلت: لن أحتاج الى مهلة للرد، فإذا غلبني الوسن نمت! أنت نائم إذاً؟ أم النهر أصيب بسكتة ماء ومات على مهله عطشاً، لعلك لا تتذكر وتحسب أنك مريض مصاب بمرض من نوع آخر، مرض الحنين الى النسيان؟ هل كنت ترنو الى أعلى فتبصر نجمة ترنو اليك؟ أم ترنو الى الوادي فتبصر قبراً يرنو اليك؟ أم ترنو الى مرآتك فترى غريباً مثلك يرنو اليك؟! هل أغريت الموت فاستدرجته اليك وأنت تعلن قبل إجراء العمل الجراحي: لن أعود مشلولاً؟! أم لعله كعادته اتخذ ما قلته ذريعة وعجّل المسير فلماذا أطلعته على الزمان والمكان وقلت: صدّقت أني متّ يوم السبت، قلت: عليّ أن أوصي بشيء ما، فلم أعثر على شيء! وقلت: عليّ أن أدعو صديقاً ما لأخبره بأني مت، لكن لم أجد أحداً! وقلت: عليّ أن أمضي الى قبري لأملأه، فلم أجد الطريق، وظل قبري خالياً مني.. لكن الموت هذه المرة ترصد نبض قلبك، ولم يعثر على وثيقة تثبت أنك وقفت تحت المطر بلا سبب، كلما فكرت بالأمل اتسعت المسافة بين جسد لم يعد خفيفاً وقلب أصيب بالحكمة ولذا كان لا بد أن تمشي وتمشي وتمشي الى أن تذوب تماماً ويشربك الظل عند نهاية هذا السفر: كم البعيد بعيد! وكم هي السبل.. نمشي ونمشي الى المعنى ولا نصل! وكنت تغار من الحصان، فإذا انكسرت ساقه وأحس بإهانة العجز عن الكر والفر في الريح عالجوه برصاصة الرحمة وقلت: وأنا إذا انكسر شيء فيّ ـ جسدي أو معنوي ـ أوصي بالبحث عن قاتل ماهر! فلعلك أنقدت الموت مبلغاً كبيراً وأوصيت ألا يسعفوا النبض إن توقف فساد الصمت.. وهل الصمت إلا صوتاً تبخر واختبأ في الريح! لو أرهفنا السمع الى صوت الصمت لصار كلامنا أقل.. وصرت وحيداً، أن تكون وحيداً هو تربية ذاتية، والعزلة هي انتقاء نوع الألم والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة. ألهذا أردت أن تكون بمفردك تعمل على تصريف أفعال القلب وتشتغل على اشتقاقات الروح؟ فإذا أنت فينا كأثر الفراشة: أثر الفراشة لا يُرى، أثرالفراشة لا يزول، هو جاذبية غامض يستدرج المعنى ويرحل حين يتضح السبيل، فهل تظن أن السبيل أصبح واضحاً؟! أم أن الفرح قادك الى طاولة الكتابة وفي بالك سطر واحد: أنا حيّ على الرغم من أنني لا أشعر بالألم.. أنا هنا وما عدا ذلك شائعة ونميمة.. ولم تمض دون وصية تتركها لأهل فلسطين تعاتبهم: هل كان علينا أن نسقط من علو شاهق ونرى دمنا على أيدينا لندرك أننا لسنا ملائكة كما كنا نظن؟! هل كان علينا أن نكشف عوراتنا أمام الملأ كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ وبعض المعجبين بتفوق التطور على الأخلاق يقول: العدل هو ما يفيض من كرم القوة، وكان على القتيل أن يعتذر عما سبب للقاتل من صدمة.. سنصير شعباً حين لا نتلوا صلاة الشكر للوطن المقدس كلما وجد الفقير عشاءه! وتسأل: من يدخل الجنة أولاً: من مات برصاص العدو أم من مات برصاص الأخ؟! بعض الفقهاء يقول: ربّ عدو لك ولدته أمك. وهكذا يصبح الفارق بين النرجس وعباد الشمس هوالفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر الى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا! والثاني ينظر الى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد! وفي الليل يضيق الفارق ويتسع التأويل.. ثم تترك لنا نصيحة: تعلمت الحياة بما استطعت من الشقاء وعلمتني كيف أنساها لأحياها! أما الشعر.. فلولا حاجتي الغامضة الى الشعر لما كنت في حاجة الى شيء.. الشعر ما هو! هو الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرؤه هذا شعر ولا نحتاج الى برهان.. فما حاجتنا للشعر إذا قال الشاعر: إن السماء صافية وإن الحديقة خضراء! كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط تشع كماسة أو يراعة في ليل الأجناس هي ما يجعل النثر شعراً، وجملة نثرية لا وزن فيها ولا إيقاع إذا أحسن الشاعر استضافتها في سياق الملائم ساعدته على ضبط الايقاع وأضاءت له طريق المعنى في غبش الكلمات. وكلمة عادية يقولها لا مبال للا مبالٍ آخر على مفترق طرق أو في السوق هي ما يجعل القصيدة ممكنة.. كل شعر جميل مقاومة والتراث الحي هو ما نكتب اليوم وغداً.. والهوية هي ما نوّرث لا ما نرث، ما نخترع، لا ما نتذكر، الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة. رياح الخريف تكنس الشارع وتعلمني مهارة الحذف.. الحذف كتابة.. ثم يغتالني النقاد أحياناً وأنجو من قراءتهم وأشكرهم على سوء التفاهم ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة. وكأنك لم تذهب بعيداً.. كأنك عدت من زيارة قصيرة لوداع صديق مسافر لتجد نفسك جالسة في انتظارك على مقعد حجري تحت شجرة تفاح. والزمن والتاريخ يتحالفان حيناً ويتخاصمان حيناً، على الحدود بينهما الصفصافة العالية لاتأبه ولا تكترث فهي واقفة على قارعة الطريق.. وحيفا ما زالت تقول لك: أنت منذ الآن أنت.. أيها الماضي! لا تغيرنا كلما ابتعدنا عنك! أيها المستقبل: لا تسألنا: من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف. أيها الحاضر! تحملنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل. يتلفت المنفي نحو جهاته وتفر منه المفردات - الذكريات ليس الأمام أمامه ليس الوراء وراءه وعلى اليمين إشارة ضوئية وعلى اليسار إشارة أخرى فيسأل نفسه: من أين تبتدىء الحياة؟ ابد لي من نرجس لأكون صاحب صورتي! ويقول: إن الحرّ من يختار منفاه لأمر ما.. أنا حر إذن أمشي.. فتتضح الجهات. الثورة ـ سوريا التاريخ: 18-8-2008
على شرفة من ضباب، أو من غيم أبيض كما تشتهيه، كنت ترقبهم من حضن غياب حاضر كعنوة الورد.. أعلم أنك الآن أكثرنا حزناً وخجلاً فالدرب توضأت بدموع حورية ـ أمك ـ وها طزاجة خبزها تتهافت في مهب الرحيل، وتخفت موسيقا الهال في فنجان قهوة سكبته لك أنت.. لقد رق حتى ترقرق جدول طفولة، وشفّ حتى استشفّ ما وراء قطن الغيم يلفع حرفه، فكان نبي الشعر، ولأني أقصر من شباكه العالي أستمطر ههنا غيومه الحبلى على ورقي: لأن للنص مقتضيات، وعدت بألا تكون في غرفتك ولا في حديقتك إذ لا بد من غائب للتخفيف من حمولة المكان.
فلماذا كنت أنت؟! وكيف لقلبك ألا يكون لك ولا لأحد فاستقل عنك لكنه لم يصبح حجراً! فهل سألوك ثانية: ستموت اليوم فماذا تفعل. قلت: لن أحتاج الى مهلة للرد، فإذا غلبني الوسن نمت! أنت نائم إذاً؟ أم النهر أصيب بسكتة ماء ومات على مهله عطشاً، لعلك لا تتذكر وتحسب أنك مريض مصاب بمرض من نوع آخر، مرض الحنين الى النسيان؟ هل كنت ترنو الى أعلى فتبصر نجمة ترنو اليك؟ أم ترنو الى الوادي فتبصر قبراً يرنو اليك؟ أم ترنو الى مرآتك فترى غريباً مثلك يرنو اليك؟! هل أغريت الموت فاستدرجته اليك وأنت تعلن قبل إجراء العمل الجراحي: لن أعود مشلولاً؟! أم لعله كعادته اتخذ ما قلته ذريعة وعجّل المسير فلماذا أطلعته على الزمان والمكان وقلت:
صدّقت أني متّ يوم السبت، قلت: عليّ أن أوصي بشيء ما، فلم أعثر على شيء! وقلت: عليّ أن أدعو صديقاً ما لأخبره بأني مت، لكن لم أجد أحداً! وقلت: عليّ أن أمضي الى قبري لأملأه، فلم أجد الطريق، وظل قبري خالياً مني..
لكن الموت هذه المرة ترصد نبض قلبك، ولم يعثر على وثيقة تثبت أنك وقفت تحت المطر بلا سبب، كلما فكرت بالأمل اتسعت المسافة بين جسد لم يعد خفيفاً وقلب أصيب بالحكمة ولذا كان لا بد أن تمشي وتمشي وتمشي الى أن تذوب تماماً ويشربك الظل عند نهاية هذا السفر: كم البعيد بعيد! وكم هي السبل.. نمشي ونمشي الى المعنى ولا نصل! وكنت تغار من الحصان، فإذا انكسرت ساقه وأحس بإهانة العجز عن الكر والفر في الريح عالجوه برصاصة الرحمة وقلت: وأنا إذا انكسر شيء فيّ ـ جسدي أو معنوي ـ أوصي بالبحث عن قاتل ماهر! فلعلك أنقدت الموت مبلغاً كبيراً وأوصيت ألا يسعفوا النبض إن توقف فساد الصمت.. وهل الصمت إلا صوتاً تبخر واختبأ في الريح! لو أرهفنا السمع الى صوت الصمت لصار كلامنا أقل.. وصرت وحيداً، أن تكون وحيداً هو تربية ذاتية، والعزلة هي انتقاء نوع الألم والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة. ألهذا أردت أن تكون بمفردك تعمل على تصريف أفعال القلب وتشتغل على اشتقاقات الروح؟ فإذا أنت فينا كأثر الفراشة: أثر الفراشة لا يُرى، أثرالفراشة لا يزول، هو جاذبية غامض يستدرج المعنى ويرحل حين يتضح السبيل، فهل تظن أن السبيل أصبح واضحاً؟! أم أن الفرح قادك الى طاولة الكتابة وفي بالك سطر واحد: أنا حيّ على الرغم من أنني لا أشعر بالألم.. أنا هنا وما عدا ذلك شائعة ونميمة..
ولم تمض دون وصية تتركها لأهل فلسطين تعاتبهم: هل كان علينا أن نسقط من علو شاهق ونرى دمنا على أيدينا لندرك أننا لسنا ملائكة كما كنا نظن؟! هل كان علينا أن نكشف عوراتنا أمام الملأ كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ وبعض المعجبين بتفوق التطور على الأخلاق يقول: العدل هو ما يفيض من كرم القوة، وكان على القتيل أن يعتذر عما سبب للقاتل من صدمة.. سنصير شعباً حين لا نتلوا صلاة الشكر للوطن المقدس كلما وجد الفقير عشاءه! وتسأل: من يدخل الجنة أولاً: من مات برصاص العدو أم من مات برصاص الأخ؟! بعض الفقهاء يقول: ربّ عدو لك ولدته أمك.
وهكذا يصبح الفارق بين النرجس وعباد الشمس هوالفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر الى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا! والثاني ينظر الى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد! وفي الليل يضيق الفارق ويتسع التأويل.. ثم تترك لنا نصيحة: تعلمت الحياة بما استطعت من الشقاء وعلمتني كيف أنساها لأحياها! أما الشعر.. فلولا حاجتي الغامضة الى الشعر لما كنت في حاجة الى شيء.. الشعر ما هو! هو الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرؤه هذا شعر ولا نحتاج الى برهان.. فما حاجتنا للشعر إذا قال الشاعر: إن السماء صافية وإن الحديقة خضراء! كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط تشع كماسة أو يراعة في ليل الأجناس هي ما يجعل النثر شعراً، وجملة نثرية لا وزن فيها ولا إيقاع إذا أحسن الشاعر استضافتها في سياق الملائم ساعدته على ضبط الايقاع وأضاءت له طريق المعنى في غبش الكلمات. وكلمة عادية يقولها لا مبال للا مبالٍ آخر على مفترق طرق أو في السوق هي ما يجعل القصيدة ممكنة.. كل شعر جميل مقاومة والتراث الحي هو ما نكتب اليوم وغداً.. والهوية هي ما نوّرث لا ما نرث، ما نخترع، لا ما نتذكر، الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة. رياح الخريف تكنس الشارع وتعلمني مهارة الحذف.. الحذف كتابة.. ثم يغتالني النقاد أحياناً وأنجو من قراءتهم وأشكرهم على سوء التفاهم ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة.
وكأنك لم تذهب بعيداً.. كأنك عدت من زيارة قصيرة لوداع صديق مسافر لتجد نفسك جالسة في انتظارك على مقعد حجري تحت شجرة تفاح. والزمن والتاريخ يتحالفان حيناً ويتخاصمان حيناً، على الحدود بينهما الصفصافة العالية لاتأبه ولا تكترث فهي واقفة على قارعة الطريق.. وحيفا ما زالت تقول لك: أنت منذ الآن أنت.. أيها الماضي! لا تغيرنا كلما ابتعدنا عنك! أيها المستقبل: لا تسألنا: من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف. أيها الحاضر! تحملنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل.
يتلفت المنفي نحو جهاته وتفر منه المفردات - الذكريات ليس الأمام أمامه ليس الوراء وراءه وعلى اليمين إشارة ضوئية وعلى اليسار إشارة أخرى فيسأل نفسه: من أين تبتدىء الحياة؟ ابد لي من نرجس لأكون صاحب صورتي! ويقول: إن الحرّ من يختار منفاه لأمر ما.. أنا حر إذن أمشي.. فتتضح الجهات.
الثورة ـ سوريا التاريخ: 18-8-2008