اقتراباً من جغرافيا درويش
مرعبة اللحظات التي ستأتي، أفتقده فيها وأتذكر عينيه... صوته... تعليقاته الساخرة... حنانه، وامتلاكه لسلطة البداهة، لقد كان غريباً في مدينة غريبة، يحتفظ بتذمره داخله من سذاجة مستضيفه إلا أن الضيق لا يلامس ملامحه. قوي، يلتزم بتعليمات طبيب القلب، كل الحياة في صوته وضحكته وجسده الطويل الرشيق، الذي لا أتخيل الآن أي كفن ذاك الذي يلفه. درويش العذب الذي كان يناديني بـ "يا بنت"، وتارة: "يا عمو" وحين اعترضت ضحك قائلاً: بماذا أناديك إذن يا غزاوية؟... فأرد مدافعة أنا لست غزاوية أنا لاجئة من صرفند العمار. درويش وصف مدينة سيؤول بالجيدة، لكنه مصر أن لا مدينة تنافس في جمالها باريس، سألني أين تقع مدينة جونجو الريفية في شمال أم جنوب سيؤول؟، فأجبت دون تردد في الشمال، وبصوت منخفض أضعف تبعتها بـ "أظن"، ثم سألني عن اسم النهر الذي يمر تحتنا؟ فأجبت لست جيدة بالجغرافيا، فقال بغضب طفيف: كيف تقولين إذن أنك دليلٌ سياحيٌ؟!. صراحة الأمر أني كنت فاشلة سياحياً كما أني لم أتقن سوى أربع عبارات بالكورية إلا أنه كان يجب أن أقول أني أعرف كل شيء حتى أبقى مع درويش الذي انفصل عن فريق بقية الأدباء بسبب فوضى وتعب برنامجهم، وتوجه إلى سيؤول بصحبة الناقدين الفلسطينيين فخري صالح وفيصل دراج. لقد كان التحايل على المنظمين بأنني لا يجب أن أتركهم وحدهم بحجة أني أكثر خبرة منهم بكوريا الجنوبية، هو الحل الذي سيجعلني بقرب درويش، الحلم الذي لم أستطع تحقيقه على أرض المتاح من الوطن. غريبة أصبحتْ دليلاً لغريب على أرض غريبة، قلت لنفسي سأخبره لاحقاً عن رغبتي بإجراء حوار معه، وبدأت شهيتي الصحافية تغريني، ولكني همست لذاتي: سيعطينني ساعة أو ساعتين، وربما يجيب عن عشرين سؤالاً، لكن هل هذا ما أريده حقاً؟، لا. أردت أكثر من ذلك أردت أن أكون بقربه، ما يكفي لواحدة مثلي تمتلك محبة أكثر مما تمتلك من مهارات دليل سياحي... أردت أن أكون دليلاً من نوع آخر كي أصل إلى خرائطه الإنسانية... فأي خريطة ودليل يجعلني أقترب من جغرافيا درويش؟!. وكانت هذه مهمة أعمق وأصعب فقد كنت أرصد وأحفظ وأتعامل مع الإنسان قبل الشاعر، وأردت أن أرصده كانسان ولكنه ليس إنساناً عادياً بل هو الشاعر والإنسان، أنات كثيرة متداخلة، وحين أراقبه كانسان أعرف أني لن أراقبه لو لم يكن الشاعر. انه خليط من الشاعر محمود درويش، المهيب، الشاعر الجماهيري، الشاعر الذي لا يوجد مثله شاعر في العالم يملأ آلاف الكراسي والبقية يفترشون الأرض، القاسي والحذر الذي قد لا يتذكر اسمك ويفكر جيداً قبل أن يجيبك. وهناك درويش الإنسان الذي لا تدخل إلى عاديته قبل أن تنال ثقته، انه الرجل الذي يكره أن يرتدي ربطات العنق، ويحب التأنق بالأسود والكحلي، كما أنه يفضل أكل الستيك، ويستغرب من المدلكة الكورية العجوز العمياء كيف عرفت رقم الغرفة الصحيح دون أن يوجهها أحد. ويحب أن يعرف أسماء المناطق، ويكره المسافات الطويلة بالسيارة، وفكاهي لاذع من محبيه، ويعترف أنه يتابع الدراما العربية، متسائلاً :عن آخر حلقة من مسلسل الملك فاروق؟، كما يكره أن يجادل البائع على ثمن البضاعة، ويستعجلني حين أحاول تخفيض سعر الهدايا، ويسخر مني: شاطرة. محمود الذي يحب المشي، والمناطق الجديدة، وتجربة المطاعم الأنيقة، ولا يهمه أن بتابع أخبار العالم إلكترونياً، محمود الذي رأيت شفقة العالم في عينيه على ارتباكي حين قدمت له مفرشاً مطرزاً بالرسومات الكورية، قائلة: سمعت أن عندك طقم كنب يناسب هذا اللون. سألني كثيراً عن غزة التي سماها في أحد كتبه أرض البأس والبؤس، وحدثنا عن أول مرة زارها فيها، وظل يستمع إلى ثرثرتي وانفعالي بما آلت إليه غزة، واقترح أن أكتب ما أقوله، فرددت: أني فعلت في مجموعتي الأولى. وأهديته بعض قصصي التي انتقيتها له. أي موت هذا الذي أخذ درويش، وهو شاعر الحياة وموت الموت، أي موت هذا الذي أماته درويش مراراً، ووضعه في قفصه وأشار إليه عورتك هنا يا موت وذلك في كل قدر لقلبه مع العدد ثمانية للعامين 1984 و 1998 التي أجرى خلالهما عمليتي قلب مفتوح. وجاء شهر ثمانية في 2008 وأعلن الموت عناده وميعاده الذي عرفه درويش جيداً، وهذا لم يكن يخشاه إن ما يخشاه كما قال في حضرة الغياب: "فقد تموت ولا ينفتح الباب، فتبقى أنت والموت وحيدين في الداخل. يا لها من خاطرة خبيثة: تريد أن تتزوج من امرأة لا وظيفة لها إلا إعلان موتك! يا لها من أنانية! يا له من حب يزف النعي للنعي". درويش أجاب فخري صالح: لكنها لم تطلب مني ذلك، حين قال له الأخير أن أسماء تريد أن تجري معك حواراً، فقلت له: أني أجبن من أن أطلب منك ذلك، لكن هل ستعطينني حواراً؟، فرد: نعم في الوقت المناسب. وجاء الوقت المناسب ولم أكتب، لا أدري... لكني حفظت كلامه في قلبي... لقد قال الأشياء بحزن أقل وبساطة أكبر. من بعض ما قاله لي ولأستاذ دراج في ليلة طويلة فضل فخري صالح فيها أن ينام مبكراً: "أشتاق لمنزلي وحين أضع المفتاح في الباب أتذكر ألا أحد ينتظرني... لكني أفتقد عادات وحدتي... لم أعرف حباً كبيراً مزلزلاً لكني عرفت الشغف الذي بنفس السرعة التي يظهر فيها، يختفي. جاء قراري بأن أكون شاعراً متأخراً... ربما في فترة من الفترات كان المتنبي حاضراً في ذهني لكن لم يكن هناك أحد أريد أن أكونه بالتحديد. الشعر هو فن الحذف... أحب أن أعطي النص لعدد كبير من الناس: "الصديق العادي، والناقد، والشاعر". وأستمع لرأيهم بجدية قبل أن أنشره، وأخشى ما أخشاه أن يشعر أحدهم أن النص يشبه نصوصي، وحين أكتب شيئاً يشبه ما كتبته سابقاً أو يشبهني أمزقه. لا أتعامل مع نفسي أني ذاك الشاعر الكبير وحين أضع رأسي على المخدة أنام، جهازي العصبي لا يحتمل شريكاً في حياتي... والحقيقة أني لم أبادر في حياتي نحو امرأة، بل هن المبادرات، لا أصدق تصفيق الناس، أحب أن أطبخ وأن أصنع القهوة وأن ألعب الطاولة مع جاري في البناية". من منا لم يقع في غرام درويش؟ من منا لم يرد أن يناديه درويش بأي شيء: يا عمو، يا ولد، يا بنت... كأنه يبحث فيه وفينا عن دهشات الطفولة... وخريطة الفرح لإماتة الموت. صحافية من فلسطين
مرعبة اللحظات التي ستأتي، أفتقده فيها وأتذكر عينيه... صوته... تعليقاته الساخرة... حنانه، وامتلاكه لسلطة البداهة، لقد كان غريباً في مدينة غريبة، يحتفظ بتذمره داخله من سذاجة مستضيفه إلا أن الضيق لا يلامس ملامحه. قوي، يلتزم بتعليمات طبيب القلب، كل الحياة في صوته وضحكته وجسده الطويل الرشيق، الذي لا أتخيل الآن أي كفن ذاك الذي يلفه. درويش العذب الذي كان يناديني بـ "يا بنت"، وتارة: "يا عمو" وحين اعترضت ضحك قائلاً: بماذا أناديك إذن يا غزاوية؟... فأرد مدافعة أنا لست غزاوية أنا لاجئة من صرفند العمار. درويش وصف مدينة سيؤول بالجيدة، لكنه مصر أن لا مدينة تنافس في جمالها باريس، سألني أين تقع مدينة جونجو الريفية في شمال أم جنوب سيؤول؟، فأجبت دون تردد في الشمال، وبصوت منخفض أضعف تبعتها بـ "أظن"، ثم سألني عن اسم النهر الذي يمر تحتنا؟ فأجبت لست جيدة بالجغرافيا، فقال بغضب طفيف: كيف تقولين إذن أنك دليلٌ سياحيٌ؟!.
صراحة الأمر أني كنت فاشلة سياحياً كما أني لم أتقن سوى أربع عبارات بالكورية إلا أنه كان يجب أن أقول أني أعرف كل شيء حتى أبقى مع درويش الذي انفصل عن فريق بقية الأدباء بسبب فوضى وتعب برنامجهم، وتوجه إلى سيؤول بصحبة الناقدين الفلسطينيين فخري صالح وفيصل دراج. لقد كان التحايل على المنظمين بأنني لا يجب أن أتركهم وحدهم بحجة أني أكثر خبرة منهم بكوريا الجنوبية، هو الحل الذي سيجعلني بقرب درويش، الحلم الذي لم أستطع تحقيقه على أرض المتاح من الوطن. غريبة أصبحتْ دليلاً لغريب على أرض غريبة، قلت لنفسي سأخبره لاحقاً عن رغبتي بإجراء حوار معه، وبدأت شهيتي الصحافية تغريني، ولكني همست لذاتي: سيعطينني ساعة أو ساعتين، وربما يجيب عن عشرين سؤالاً، لكن هل هذا ما أريده حقاً؟، لا.
أردت أكثر من ذلك أردت أن أكون بقربه، ما يكفي لواحدة مثلي تمتلك محبة أكثر مما تمتلك من مهارات دليل سياحي... أردت أن أكون دليلاً من نوع آخر كي أصل إلى خرائطه الإنسانية... فأي خريطة ودليل يجعلني أقترب من جغرافيا درويش؟!. وكانت هذه مهمة أعمق وأصعب فقد كنت أرصد وأحفظ وأتعامل مع الإنسان قبل الشاعر، وأردت أن أرصده كانسان ولكنه ليس إنساناً عادياً بل هو الشاعر والإنسان، أنات كثيرة متداخلة، وحين أراقبه كانسان أعرف أني لن أراقبه لو لم يكن الشاعر. انه خليط من الشاعر محمود درويش، المهيب، الشاعر الجماهيري، الشاعر الذي لا يوجد مثله شاعر في العالم يملأ آلاف الكراسي والبقية يفترشون الأرض، القاسي والحذر الذي قد لا يتذكر اسمك ويفكر جيداً قبل أن يجيبك. وهناك درويش الإنسان الذي لا تدخل إلى عاديته قبل أن تنال ثقته، انه الرجل الذي يكره أن يرتدي ربطات العنق، ويحب التأنق بالأسود والكحلي، كما أنه يفضل أكل الستيك، ويستغرب من المدلكة الكورية العجوز العمياء كيف عرفت رقم الغرفة الصحيح دون أن يوجهها أحد.
ويحب أن يعرف أسماء المناطق، ويكره المسافات الطويلة بالسيارة، وفكاهي لاذع من محبيه، ويعترف أنه يتابع الدراما العربية، متسائلاً :عن آخر حلقة من مسلسل الملك فاروق؟، كما يكره أن يجادل البائع على ثمن البضاعة، ويستعجلني حين أحاول تخفيض سعر الهدايا، ويسخر مني: شاطرة. محمود الذي يحب المشي، والمناطق الجديدة، وتجربة المطاعم الأنيقة، ولا يهمه أن بتابع أخبار العالم إلكترونياً، محمود الذي رأيت شفقة العالم في عينيه على ارتباكي حين قدمت له مفرشاً مطرزاً بالرسومات الكورية، قائلة: سمعت أن عندك طقم كنب يناسب هذا اللون. سألني كثيراً عن غزة التي سماها في أحد كتبه أرض البأس والبؤس، وحدثنا عن أول مرة زارها فيها، وظل يستمع إلى ثرثرتي وانفعالي بما آلت إليه غزة، واقترح أن أكتب ما أقوله، فرددت: أني فعلت في مجموعتي الأولى. وأهديته بعض قصصي التي انتقيتها له. أي موت هذا الذي أخذ درويش، وهو شاعر الحياة وموت الموت، أي موت هذا الذي أماته درويش مراراً، ووضعه في قفصه وأشار إليه عورتك هنا يا موت وذلك في كل قدر لقلبه مع العدد ثمانية للعامين 1984 و 1998 التي أجرى خلالهما عمليتي قلب مفتوح.
وجاء شهر ثمانية في 2008 وأعلن الموت عناده وميعاده الذي عرفه درويش جيداً، وهذا لم يكن يخشاه إن ما يخشاه كما قال في حضرة الغياب: "فقد تموت ولا ينفتح الباب، فتبقى أنت والموت وحيدين في الداخل. يا لها من خاطرة خبيثة: تريد أن تتزوج من امرأة لا وظيفة لها إلا إعلان موتك! يا لها من أنانية! يا له من حب يزف النعي للنعي".
درويش أجاب فخري صالح: لكنها لم تطلب مني ذلك، حين قال له الأخير أن أسماء تريد أن تجري معك حواراً، فقلت له: أني أجبن من أن أطلب منك ذلك، لكن هل ستعطينني حواراً؟، فرد: نعم في الوقت المناسب. وجاء الوقت المناسب ولم أكتب، لا أدري... لكني حفظت كلامه في قلبي... لقد قال الأشياء بحزن أقل وبساطة أكبر. من بعض ما قاله لي ولأستاذ دراج في ليلة طويلة فضل فخري صالح فيها أن ينام مبكراً: "أشتاق لمنزلي وحين أضع المفتاح في الباب أتذكر ألا أحد ينتظرني... لكني أفتقد عادات وحدتي... لم أعرف حباً كبيراً مزلزلاً لكني عرفت الشغف الذي بنفس السرعة التي يظهر فيها، يختفي. جاء قراري بأن أكون شاعراً متأخراً... ربما في فترة من الفترات كان المتنبي حاضراً في ذهني لكن لم يكن هناك أحد أريد أن أكونه بالتحديد. الشعر هو فن الحذف... أحب أن أعطي النص لعدد كبير من الناس: "الصديق العادي، والناقد، والشاعر". وأستمع لرأيهم بجدية قبل أن أنشره، وأخشى ما أخشاه أن يشعر أحدهم أن النص يشبه نصوصي، وحين أكتب شيئاً يشبه ما كتبته سابقاً أو يشبهني أمزقه. لا أتعامل مع نفسي أني ذاك الشاعر الكبير وحين أضع رأسي على المخدة أنام، جهازي العصبي لا يحتمل شريكاً في حياتي... والحقيقة أني لم أبادر في حياتي نحو امرأة، بل هن المبادرات، لا أصدق تصفيق الناس، أحب أن أطبخ وأن أصنع القهوة وأن ألعب الطاولة مع جاري في البناية".
من منا لم يقع في غرام درويش؟ من منا لم يرد أن يناديه درويش بأي شيء: يا عمو، يا ولد، يا بنت... كأنه يبحث فيه وفينا عن دهشات الطفولة... وخريطة الفرح لإماتة الموت.
صحافية من فلسطين