يكشف لنا الناقد المغربي عبدالحق ميفراني كيف استطاع للباحث المغربي نورالدين الزاهي تشغيل الجسد في كتابه (المقدس الإسلامي) في الكشف عن الرمزي بوصفه المجال الذي يحيا فيه المقدس حركيته، بين أنماط القول والسلوك والتخيل في محاولة لإماطة اللثام عن الصلة بين القدسي والسياسي.

المقدس الإسلامي والصلة بين القدسي والسياسي

عبدالحق ميفراني

يطمح كتاب "المقدس الإسلامي" للباحث المغربي نورالدين الزاهي عبر تشغيل لكل الجسد في الكشف عن الرمزي بوصفه المجال الذي يحيا فيه المقدس حركيته، بين أنماط القول والسلوك والتخيل، وفي الكشف أيضا عن الطقوسي بوصفه المجال الذي يتحول فيه المقدس إلى معيش، ويقصد الباحث من تشغيل الجسد إعلان الاستفادة والتقارب مع الإنجازات النظرية للسوسيولوجيا الفينومينولوجية التي ترتكز بشكل أساسي على سوسيولوجيا المشاهدة لا التدخل. وتعني المشاهدة الحضور بالجسد، بما هو وعي وتجربة. وذلك قصد الفهم والتأويل، فهم الكيفيات التي يمنح بها الكائن الإنساني المعنى لذاته والعالم المحيط، تأويل هذا المعنى بناء على معايشة داخلية له، وبعين نيتشه الثالثة. ويتجلى المقدس في الطقس على شاكلة معيش مرئي، وبفضل الأضحية أو القربان يتحقق الإنجاز العملي لهذا الطقس عبر تحوله إلى فضاء معلن، ونظام مادي ورمزي، في الطقس يظهر القربان-الأضحية بوصفه جسدا، ويتعرض النص القرآني لقصة مسار ظهور القربان في هيئة جسد. لقد تشكلت ملامح الجسد الإسماعيلي في الرؤيا، بجعل ظهور القربان من الحلم رؤيا مؤجلة، ومن جسد اسماعيل قربانا مؤجلا ومن القربان جسدا اسماعيليا.

يحرك الجسد الطقوسي تاريخه في جميع الاتجاهات، ليشخص مسار وفعل التحولات المتبادلة بين الأضحية/القربان والجسد، وبين الطقوسي والسياسي، أو في مسار تحول القربان جسدا اسماعيليا، ينبش مؤلف البحث: نورالدين الزاهي "المقدس الإسلامي" قصد إثارة ثقل الرمزي، ليس فقط فيما يعرف تحث اسم الثقافة الشعبية ولكن، أيضا في المجال السياسي المغربي بصفة خاصة ثقل تعكسه الصلات القوية بين إرادة شؤون الطقس وإرادة شؤون الأمة. لقد جعل الإسلام الكلام الإلاهي ـ القدسي وساطة المؤمن نحو العالم في كليته فكل صلة بالأشياء، أو الجسد أو الخلق تمر بالضرورة عبر الكتاب، وإذا كان الجسد الإسماعيلي ينفتح على مركزية الجسد في تأسيس الطقس كما يرفع بفتحه هذه الفواصل/القطائع التي يرسمها "الجسد المصلي" بين الإسلام وما قبله. بين الجسد وتاريخه، ينبني "الجسد المصلي" على قانون الحمد لي الذي يجعل الكلام القدسي فاتحة الشعائر والفرائض ومنتهاها. بين "الجسد المصلي" و "الجسد الاسماعيلي" فرق هو ذاته الفرق الذي تستهدفه دراسات هذا الكتاب: الفرق الاستراتيجي بين اختيار الحديث على لسان الأب المضحي أو الحديث بلسان الأضحية.

تتوزع الكتاب ثلاثة مباحث أساسية: المقدس والدنيوي، الطقوسي والرمزي، التضحية والعنف. فمن تحديد مفاهيم المقدس إلى اشتغالاته وتمظهراته انتهاء بتأويله، ويتميز المقدس بسمتين متعارضتين، فهو مخيف يستدعي الحذر، وهو مرغوب فيه، لذلك يستدعي الجسارة، ولأنه كذلك ينتشر على الدنيوي محاولا تهديمه، بينما للدنيوي يعمل على إضعاف المقدس وإنهائه. إن محاولة تعريف المقدس هو جزء من إبطال قدسيته، ويعتبر ماكاريوس المسألة شكل من أشكال انتهاك المحرم، أما دوركايم فيجعله متماثل مع اللإلاهي، والإلاهي ابتكار جمعي، لذلك فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد. ويعتبر الباحث نورالدين الزاهي هذه التعريفات وغيرها محملة بإسقاطات لمرجعيات ثقافية مغايرة، وكثافة التعارضات في رصد العلاقة بين المقدس والديني تكشف عن عدم اهتمام بالإختلافات الحاصلة بين الديانات، إضافة إلى التمايز بين المقدس والقداسة<كانط>. إن المقدس عنف وهو متمايز عن الدين، حيث يفرغ هذا الأخير العنف الواقعي من طبيعته ليتحول إلى عنف رمزي، هو أساسا عنف أضحوي.

ويتشكل فضاء المقدس الإسلامي من ثلاثة حدود، فإذا كان الدنيوي لا يناقض ولا يوازي المقدس، فإن المدنس يحمل نوعا من التعارض مع المقدس. على اعتبار أن المدنس هو ما يقابل الخبيث في عمومه.. وباستحضار العلاقة المتميزة للمقدس بالدنيوي، يبدو تحديد موقع الحلال والحرام واضحا، إنهما ما ينظم هذه العلاقة وما يعمل على الحفاظ على توازناتها. ومع الحلال والحرام تبرز الحركة العمومية والأفقية للمقدس الإسلامي والخاضعة لآلية التراتب والتواصل.

إن ميزة المقدس الإسلامي تكمن في ديناميته وحركيته وكذا تراتبيته العمودية والأفقية، الميزة الثانية أن المقدس يشمل حقل القداسة، فهو أشمل منها لأنه لا يقتصر بفضل غناه الدلالي على الذوات بل يحيل إلى الزمان والمكان أيضا. مما يفضي إلى ميزته الثالثة والمتمثلة في تداخله الكبير مع الديني. وفي التصاقه بالإلاهي <الطاهر> والذي لا يجعله متماهيا معه.

المقدس اسم للإلاهي لكنه ليس رديفا له، لدا لا يمكن تعريفه، إن الطقوسي هو الأفق الذي تتبين داخله بشكل غني ودقيق كل أنماط ظهور المقدس سواء في أشكالها الرمزية التخييلية واللغوية والجسدية والأضحوية أو في أشكالها المادية- الاقتصادية والسياسية. حيثما وجد المجال، يكون علامة على حضور المقدس والدار المجالية لا تصبح دار قدسية إلا إذا كانت دار للإسلام، وتتطابق مع المقدس بشكل كامل فالهندسة الرمزية لدار الإسلام <العقيدة> تصبح في ذاتها أساسا للهندسة المجالية للدار الإسلامية <المجال>. إن ولوج المجال دائرة القداسة هو الذي يسمح للدار بأن تتطابق من حيث هندستها المجالية/الرمزية مع الهندسة الرمزية للعقيدة. إن انتماء المجال لدائرة المقدس تبتدئ مباشرة بعد حلول المقدس فيه، منتقلا من عالم الفوضى إلى عالم النظام، وترتبط ميلاد المدن الإسلامية بحكايات عديدة تؤرخ لهذا الميلاد ومنحه طابعا قدسيا، إن لكل مجال قدسي تاريخ، والمجال المقدس له تاريخ بالمعنى الذي يفترض فيه وجود مؤسس، أي نقطة بداية في الزمان تسمى لحظة التأسيس، ويظهر حضور المقدس في المجال من خلال الأضرحة والزوايا على اعتبار أن المؤسس <شيخ زاوية ـ ولي ـ صالح...> يمنح لفعل التأسيس طابعا قدسيا، ويحمل الإنسان في الحقل الثقافي الإسلامي، وعيا دينيا بوصفه كائنا حاملا للمجال. أما قضية العين والأذن، بما يرتبط بها من سمع وكلام، هي لا وعي القضايا البارزة في الثقافة العربية الإسلامية، إنها قضية مضمرة داخل قضايا التنزيه والتشبيه والتعطيل والتجسيم، السمع والعقل والمشاهدة، المقدس وتجلياته، بل إن هذه القضايا ليست سوى تجليات لحروب العين والأذن غير المعلنة والتي تتخذ من المتخيل مجالا لتجليها واختفائها أو احتجاجها.

في باب البعد الرمزي للنص الطقوسي، يقدم الباحث تأملات في مواسم مغربية ثلاث، الموسم كفضاء طقوسي مركب من موضوع يشكل محور الاحتفال الطقوسي وإطار اجتماعي محدد. فهو ممارسة رمزية تحيينية للعنف الأصلي بوصفه عنفا رمزيا، كما أنه لحظة تجديدية لعلاقة الإنسان بحقل القداسة، ورسم لمعالم وحدود، وهو ما يجعله ليس فقط تجميعا للناس، ولكن، أيضا لأشكال متعددة للعنف الرمزي، ومجموع هذه العناصر المؤطرة تساعد على استكشاف العالم الرمزي للجسد داخل فضائه الطقوسي، ويحضر الجسد كنص رمزي، جسد طقوسي داخل الموسم، بوصفة لحظة تحيينية للحظة قدسية، ويتخذ التحيين شكلا محاكاتيا اختلافيا. إن الجسد الطقوسي جسد محاكي، يجسد عنف الرمزي-الاستبدالي، كجسد استعاري أو استبدالي لجسد مغاير، إن العنف المتولد عن فعل المحاكاة، يتأسس كفعل قدسي بما أن موطن حصوله كجسد رمزي، وهو جسد حاكي أو سارد، ومن خلال المحاكاة يحكي عن المسافة بين لحظة الأصل القدسية ولحظة التحيين التي يعيشها، وتختلف تلاوين الحكي، باختلاف تلاوين حضرة الجسد داخل الفضاء الطقوسي<الحضرة>، لكنه حضور رمزي لذلك يتخذ شكلا بينيا بين الحضور والغياب المرئي واللامرئي الواقعي والمتخيل، إضافة لحضور الجسد كنص رمزي، يحضر كنص مجازي من خلال جسد طقوسي يتأسس على مجموعة من الاستبدالات المؤسسة للجسد القرباني، إنه وجهه الأصلي الذي تحول إلى وجه مجازي له.

إن الجسد الطقوسي جسد السر بامتياز، مما يجعله موضوع يساءل كل مجالات البحث، فعلى مستوى الفلسفي يطرح مشكلة أما مفهوم الحقيقة، على المستوى النفسي يساءل المستدخل اللاشعوري، على المستوى اللساني يساءل مفاهيم الأصلي والمجازي..على المستوى السوسيولوجي سؤال مفتوح على أشكال الإكراه والتنظيم الاجتماعي والمؤسساتي بكل ما يرافقهما من أشكال التبادل الرمزي.

ينتقل الباحث إلى رمزية الطقس العيساوي، رمزية النفخ، المتخيل الرمزي/من خلال ليلة كناوية. ليبني دراسته على مصدرين معرفين، هما المعاينة الميدانية ثم المصادر النظرية السوسيولوجية والأنتروبولوجية، كما يفرد الباحث مبحثا للتضحية والعنف في الفصل الثالث، وفيه يتطرق للعنف الأضحوي، لكن أفق التأويل يتجه للتساؤل حول هل يشكل العنف السياسي استمرارية للعنف القدسي أم انفصال عنه؟؟ من خلال استدعاء الأبعاد السوسيولوجية والأنتروبولوجية والتاريخية المغيبة قسرا، وهو ما يحفز على تأطير الموضوع بالمتخيل الديني دون إغفال الأسس التي أرستها التجربة السياسية الإسلامية، لذلك تمحور تحليل البحث على أربعة عناصر أولاها العنف المقدس، بما هو عنف رمزي في جوهره، مع ضرورة التمييز بين النص والتاريخ <الدين النصي والدين التاريخي كما تجسد في التاريخ الإسلامي>، ثانيا المتخيل الديني والعنف الأضحوي بتحديد مجال العنف بوصفه مجالا شعائريا مشروعا هو العنف الأضحوي القرباني، ثالثا من العنف القدسي إلى السياسي، وفيه يتم الانتقال من الإجماع الأضحوي القرباني إلى الإجماع السياسي وخلاله يتحول القتل المؤسس لاستبدالي-رمزي "لا بد من أضحية أدمية لشرعنة الأضحية القربانية"، رابعا التضحية والتأويل باعتبار التضحية تأويلا لمسألة العنف إنها تأويل مطروح داخل السياق الكتابي للديانات التوحيدية الثلاث لإيقاف القتل.