التجربة الشعرية المتأججة باللغة المغايرة

علي الشرقاوي

لاأعرف من أين ابدأ الحديث عن الشاعر الجميل محمود درويش. هل أتحدّث عن تجربته الشعرية المتأججة باللغة المغايرة؟ أو أتحدّث عن تجربته الحياتية؟ أو عن علاقتي الشعرية بالتجربتين معا؟ ولاني لست بالناقد المتخصّص المهتم بأحدث المدارس النقدية الجديدة في الشعر ولا املك إمكانيات المؤرخ المهتم بحياة الشعراء وتأثيرها على تجاربهم الشعرية وعلى تجارب الشعراء الآخرين أجدني اقرب إلى نفسي بالحديث مباشرة عن علاقة تجربتي الشعرية الخاصة بتجربة درويش.

في عام 1966 وأنا أتصفّح أحد المجلات التي لم اعد أتذكر اسمها ألان، وجدت في أحد أعمدتها قصيدة (عاشق من فلسطين) للشاعر محمود درويش قمت بقراءتها عدة مرات بنهم الذي اكتشف شعرا جديدا مغايرا لما هو مطروح في الساحة الشعرية من قصائد:

فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهم
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
فلسطينية الكلمات والصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد والموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حلمتك زاد أسفاري
وباسمك صحت في الوديان:
خيول الروم... أعرفها
وأن يتبدّل الميدان

هذه هي المرة الأولى التي اشعر فيها بتلك العلاقة الرائعة بين الأرض والمرأة. والمرة الأولى التي أرى فيها جمال التكرار في كلمة فلسطين التي تؤكد على الانتماء للتربة والإنسان العربي فيها، ولان اسم محمود درويش قريب جدا من الأسماء البحرينية المألوفة عندنا أو من الأسماء التي نقشت في ذاكرتنا الطفلة وألانه غير بحريني فقد تصوّرت في البداية انه ربما يكون أخا أتحد المدرّسين الفلسطينيين الذين قاموا بتدريسي في الصف الثاني إعدادي وهو الأستاذ عبد العزيز درويش مدرّس اللغة الإنجليزية الذي كنا نكنّ له احتراما كبيرا وذلك لطبيعة العلاقة الحميمية التي كانت تربطنا به والتي تجعلنا نزوره في سكن المدرّسين للتحاور معه في الكثير من الهموم المشتركة بيننا.

وبعد أن تعبت من سؤال بعض الأصدقاء المتابعين للشعر عن هذا الشاعر المختلف الذين قالوا انهم لم يسمعوا به عدت إلى الأصدقاء للانشغال مرة أخرى بتجارب الشعراء الأكثر قربا إلى أفكارنا أحلامنا وطموحاتنا السياسية غير المحدودة بالزمان والمكان من خلال بدر شاكر الثياب وعبد الوهاب البيات وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي إضافة إلى نزار قباني.

ونحن في الصف الأخير من المدرسة الثانوية نواصل طرح الأسئلة التي تحرج المدرسين الذين لا يملكون الإجابة الشافية مثل ما هو مفهوم الديمقراطية وما معنى الاشتراكية والرأسمالية والبورجوازية وغيرها من الأسئلة التي كانت تقلقنا كمراهقين نحمل شيئا من بذور التمرّد على كل ما حولنا من قيم وعادات وتقاليد وأنظمة جامدة لا ترغب بالتغيير.

في هذا الجو المكتظ الحالم بالأجمل والأفضل داهمتنا النكسة فخرجنا في مظاهرات صاخبة مطالبين فيها بالتطوع للذهاب إلى فلسطين لمحاربة العدو الإسرائيلي النكسة التي دمّرت الكثير من المثقفين الحالمين المثاليين كانت بالنسبة للمولودين. في عام النكبة بداية للبحث عن طريق آخر وفكر أخر اكثر إضاءة يستطيع أن يقرا الواقع في هذه الفترة بالذات بدأت بيروت بإيصال شعر المقاومة الفلسطينية إلى القارئ العربي المتعطّش للتعرف على تجارب الشعراء داخل الأرض المسلوبة منا وإذا لم تخن الذاكرة فان كتاب (شعراء الأرض المحتلة) للشاعر يوسف الخطيب كان المعجم الجميل الذي من خلاله تعرفنا على محمود درويش، وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين. وبدأنا نقرأ أشعارهم ونتابع نضالهم اليومي ونتداول تحركهم في جلسات كنا نعقدها لذلك وكنا نحسد صديق لنا استطاع إن يكبّر صورة لمحمود درويش وأخرى لسميح القاسم ويضعهما إلى جانب صورة جيفارا الذي كان رمزا للمثقف الثوري في العالم الثالث ولكن للحقيقة والتاريخ أصبنا بخيبة بعد أن عرفنا آن يوسف الخطيب قد أزاح بعض الكلمات من بعض القصائد مثل:

أنا من قرية عزلاء
منسيّه
وكل رجالها في الحقل والمحجر
يحبّون...

ولكن رغم ذلك يبقى أهم ما أنجزه يوسف الخطيب في تصوّري هو إلقاء الضوء الأول على التجارب الشعرية التي ظلّت طويلا بعيدة عن القارئ العربي.

في أواخر عام 1968 ذهبت للدراسة في بغداد، وهناك واصلت متابعة شعر المقاومة الفلسطينية وبالأخص شعر محمود درويش وهناك أيضا بدأت في كتابة أول قصائدي التي تحمل شيئا من النضج الفني وأرسلتها إلى البحرين ونشرت في صفحتين متقابلتين وكان عنوانها (عاشق الفجر) ولا أنكر ألان بعد مضي ما يقارب ثلاثة عقود على كتابتها ونشرها إنها كانت متأثرة بقصيدة عاشق من فلسطين سواء من حيث العنوان أو التفعيلة.

واذكر إني وقفت ضد بعض الأصوات التي وجهت اللوم لسميح القاسم ومحمود درويش لذهابهما إلى أحد المؤتمرات الشعرية بجوازات سفر إسرائيلية وقد قلت لحظتها إن من يريد إيصال قضيته إلى العالم من المكن أن يستفيد من كل السبل المتاحة.

بعد خروج درويش من الأرض المحتلة إلى مصر وقفت نفس الأصوات مطالبة ببقائه للنضال من الداخل وإلا سوف يفقد قدرته على قول الشعر المقاوم وقلت حينها لبعض تلك الأصوات المتوفرة لدينا بكثرة إن الشاعر الحقيقي لا يفقد صوته في اعتي الذر وف وكان درويش عند وعده لنا كشعراء حيث أتحف القارئ العربي بواحدة من اجمل قصائد تلك المرحلة واعني بها قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا) هذه القصيدة في تصوّري.

لم تدفع شعرية درويش خطوات للأمام فقط إنما أيضا دفعت الشعر العربي بصورة عامه إلى البحث عن مناطق غير مطروقة من قبل والبحث عن لغة جديدة طرية طازجة.

درويش علّمني بصورة غير مباشرة كيفية عشق الأرض/ المرأة/ الأرض/ ألام الأرض/ الرغبة بالتغيير وقد دفعني عبر تجربته الشعرية للتوغل عميقا في النثر الصوفي بحثا عن المزيد من الالتصاق بالأرض والحلول فيها والفناء بها من اجل رفعها إلى أعلى منطقة في هذا الكون.

ودرويش أضاء أمامي الطريق إلى عشق العالم الحالم بالخبز والحرية والسلام العالمي حيث لا يستغل الإنسان آنسانا آخر ودرويش أعطاني القوة عبر تجاربه الشعرية في مواصلة الكتابة الجادة القادرة على إزالة القبح وزراعة الجمال. لذلك تبقى تجربة درويش أحد الروافد الهامة التي ساهمت مساهمة كبيرة في إثراء وإغناء تجربتي الحياتية والشعرية ولا اخجل إن قلت انه أحد المعلمين الذين علّموني كيفيّة التعبير عن عشق الأرض والإنسان.


شاعر من البحرين