محمود درويش الشاعر في مجهول معناه

عبداللّطيف الوراري

في تاريخنا الشّعري الحديث، يتّخذ الشّاعر محمود درويش، الذي عرّفت قصائده بالمأساة الفلسطينية في العالم كلّه، وتُرْجمت أشعاره إلى لغاتٍ عديدة، وجه الأسطورة الّتي تحيا بجراحها الجماعيّة والذاتيّة، وتجعل من أخلاقيّات عملها الجماليّ صورة القصيدة الّتي يكتبها، ويُكبّ عليها باستمرار. داخل غنائيّته الخاصّة والمحتمية بنُدوبها، يتآلف التّاريخ والحداثة والذّات، ولا يُخطئ العمل عليْها قوْل الحقيقة المرتجفة بين جوانحه، بلسان الشّعر من غير أن يُصادِر ذلك مجهول معناه.

فعلى متداد أزْمنة ثقافيّة خصبة وحادّة من استحقاق الشّعر والمعرفة به، أدمنت قصيدة محمود درويش على الوعي العميق والحيويّ بالكتابة الّتي لا تنفصل عن أخلاقيّاتها وشرطها الإنساني بشكْلٍ لا ينقطع عن تجديد فهمه للذّات والعالم، وعن طريقة استبصاره للمستقبل الّذي يسير إليه بمزامير من غناء. لكنّه منشغلٌ، بالقدر نفسه، بإواليّات عمل الكتابة وطرائق تنظيمها وتخييلها، أي بالشّعرية الّتي تأتي من تعاضد دوالّ القصيدة وعناصرها الّتي تتحوّل باستمرار، من ذاتٍ إلى ذات. قوّته في "أناه" الّتي تبتكر، من داخل غنائيّته الجديدة، الجوهريّ العابر بماء الشّعر وحده، وفي حاجة الأنا الشّديدة إلى الأسطورة الّتي تنتسج، في قلب العالم، خيْط الأغنية الرّفيع بين الواقعيّ والخياليّ.

داخل الأسطورة بوصفِها إمكاناً ذا أهميّة قصوى في البحث عن حركة المعنى، الحيويّة والمهدّدة أكثر، الّتي تعود بالقصيدة إلى بعدها الأوّل، بلاغتها الأولى، كانت تتحرّك شعريّة محمود درويش. لهذا، نجد في كلّ عمل شعريّ لمحمود درويش، بعد "ورد أقلّ" على الأقلّ، قاعاً أسطوريّاً يضيء استعاراتِ وحلولاً ممكنة لتجربة الغياب الّتي تصطرع في وعي الذّات الّتي سلبها الآخر تاريخها بالأساطير المخفورة بالنّار والحديد. كان يصنع الأسطورة الفلسطينيّة خارج الصّور النمطيّة الّتي تكوّنت عنها، وصارت عبْئاً عليها. بها يحرّر هواء فلسطين من ثاني أوكسيد صهيون، بعد أن كثّفها في روحه، وارتفع بجرحها الفاغر إلى مرتبة الإنساني، وأدمج حياة الفلسطيني في الفنّ واللّغة والتّاريخ، ووقف على النّقيض ممّن رهنوا مفهومهم للمسألة الفلسطينيّة بالشّعاري والسياسي الضيّق حتّى حوّلوا مفرداتِها إلى مادّة ضجر، تماماً. بالنّتيجة، جعل الشّاعر من المسألة أسطورتَه الشّخصية عندما لم يتردّد في أن يتناول فلسطين كموضوع في الحبّ والحياة والحرب والسلم والحكمة والخسارة عبر أنا الأغنية المتقشّفة، وعبر فعّالية الإصغاء الّذي به يجدّل الذّاتي الجمعيّ، ويُدرك أسماء شهوده الحقيقيّين، ويكتشف عبر عناصر سيرته البيوغرافيّة والتخييليّة شاهِد التّاريخ الّذي يحيا معناه، باستمرار.

ولا يشكّ واحدُ ممّن عكفوا على شعريّته، بوصفها واحدةً من أهمّ وأندر تحارب الشّعر العالميّ، بأنّ عناصرها التكوينيّة تقوم، أساساً، على الذّات وفعّاليّة المعنى إلى جانب الإيقاع الدالّ المائز والأخطر في تصوّر الشّاعر للكتابة، وهو الّذي ما فتئ يُلحّ عليه كأنّه يقضي حياته في البحث عن إيقاعه، أي البحث عن ذاته. الإيقاع الّذي يأتي من الصّوت وغير الصّوت. لا نفهم الإيقاع، هنا، بمعناه العروضيّ فحسب، ومعنى ماهيته أي ما هو الإيقاع؟، بل ما يصنع الإيقاع؟، بمعنى أن يكون متحوّلاً في نسق الخطاب حيث يأخذ أشكالاً من البناء، وينظّم الذّات في معنى خطابها ممّا يحفظ العمق من الأسطورة، ويجعلها في حياةِ دائمة. وإذا كانت القصيدة شيئاً غير الذّكرى الّتي تنتزع الحياة من النّسيان فإنّ الإيقاع بمثابة تحْيينٍ للذّات وزمنيّتها.

لعناصر الإيقاع والذّات وفعّالية المعنى بوصفها متحوّلةً في القصيدة أثرُها وقيمتُها في تجربة مابعد "أورد أقلّ" الّتي صاحبتْها تحوّلات نصيّة ومعرفيّة تبدّلت داخلها وضعيّة الدالّ الشّعري وممكناته في المتخيّل والكتابة:

أ ـ الاشتغال على البناء بشكْلٍ أكثر وعياً وملموسيّة، بحيث انتقل إلى هاجس معرفيّ من عمارة القصيدة إلى عمارة الدّيوان/ الكتاب.

ب ـ ولوج المعنى الشّعري في عمليّة خلْقٍ جديدة ومدهشة من الاحتمالات تجعل المعنى لانهائيّاً.

ج ـ صعود الأنا، من أنا الأغنية إلى أنا الفرد الّتي تُعيد التّأْريخ لأشجار نسبها الرّمزي، الشّخصي والجمعيّ عبر سيرته الذّاتية الّتي يُهوّيها شعراً. وبالنّتيجة، تعيد النّظر إلى الآخر في صوره وهجراته داخل الواقعي والأسطوري.

د ـ تقديم مُقْترح جماليّ ثالث في سياق الشعر العربّي المعاصر يُصالح بين خيار الوزن وخيار النّثر، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النّثر الّذيْن أنتجا سائديْهما.

هـ ـ تدشين وعيٍ إنتقاليٍّ ومتطوّر في اللّغة يتمرّد على القيمة الاستعماليّة لها، من خلال الانتقال من مفردات المنافي والاغتراب والحنين إلى أخرى ناتجة عن حكمة الخسارة تُطلق أجنحتها في أفق ملحميّ يتنفّس في الأسطوري والتّاريخي والدّيني والرّمزي حيث الذّات تصوغ هويّاتها في اليوتوبيا.

و ـ تطوّر الغنائيّة من الموضوع المركّب إلى الموضوع البسيط، الّذي يركّر على ما هو كونيّ وإنسانيّ وهامشيّ في تجْربة قلقة تُريد امتلاك التّسمية من جديد، خارج الموتيفات المكرورة.

لكنّ كثيراً من الدّراسات لا تزال تُصرّ على تمثيل شعر محمود درويش في يافطاتٍ ومسمّيات ذابت في الماضي كأن ليس لها ما تقوله، وليس هناك ما يبرّر، اليوم، مراجع مفاهيمها الاختزاليّة والدوغمائيّة الّتي تعجز عن أن تُصغي إلى واحدةٍ من أهمّ وأغنى التّجارب الشّعر العالمي، في ما تطرحه مقترحاتها الجماليّة وقضاياها العسيرة، باستمرار. وصار محمود درويش ينتبه بجدّية إلى المسألة، لأنّها تُصادر حريّته وموهبته وعمله في المجهول، ويشكّ في نوايا القراءة المغرضة الّتي تُقارِب قصيدته، وتُفرط في استعمال التأويل السياسي. تلك وصيّة الشّاعر الأخيرة.

بشريعة القلق والبحث، كتب محمود درويش قصيدته، وتُواصل سياساتها الآن معنى ذلك في أنْ تكون، وأن تنتمي إلى زمنها الّذي يتحوّل.

والسؤال الآن: ماذا أراد درويش أن يقول لنا، وهو الماشي بيننا من نصف قرْنٍ؟ وماذا يُريد لنا ممّا قاله؟.

هذا السؤال لا يُطْرح إلّا إذا أدركنا أنّنا في قلب الإشكاليّة الّتي كان محمود درويش يجترحها، ويعنينا بها، حيث تصير التّغريبة الفلسطينيّة تغريبتنا في الحياة والكتابة.


شاعر من المغرب