بيان الكائنات العضوية

في مديح الجمادات وهجاء الـ DNA

كريم رضي

سيقولون: "الشعراء خالدون فلا يعذبكم رحيلهم الفاجع. خالدون بخلود أشعارهم". مجرد عبارات لا يصدقها حتى قائلها. لا. لم يبق أحد. لم يبق شيء. لا بشر. لا أشجار و لا حيوان. لا صوت ولا حياة. الشاعر ذهب ولم يعد. فقط الصمت الرهيب. العراء. البرد. ها نحن الهومريون المخدوعون بوهم لا بشريتنا. نكتشف أننا أكثر البشر ضعفا وفناء. من قال إن الشعراء باقون ببقاء أشعارهم. أية مقايضة سخيفة أن نبادل الحياة بالكلام. أية خسارة أن نفرح بالموت لأن الشعر سيحيا. أن نضحي بالجسد ولذائذه ليبقى المجد للحبر والورق. أن نقايض الليالي المتوهجة في فتنة أجسادنا بمعان مجردة. ثمة خداع على الأرجح اعتدناه لأننا لا نملك سواه نحن الكائنات العضوية. كائنات الـ DNA بشرا وحيوانا ونباتا. اصحُ أيها الشاعر من وهم خلودك. ها نحن نمشي في صقيع الفراغ الأبيض. الممتد بلا حدود.

الجبال السوداء تنحني لفرط ارتفاعها كوحوش سحيقة في القدم. لا أحد. لا شيء. الحبال كالصلبان في أعناقنا المتقرحة وصدورنا الدامية. نجر برقابنا العربات الحاملة جثث قتلانا الشعراء. الشعراء ليس فقط يموتون. بل يتعفنون أيضا. نمشي بلا هوادة إلى النهايات. آثار أقدامنا المترنحة تحفر الجليد. ذاهبين تماما إلى نقطة محددة لن نصلها أبدا. لا نسمع سوى بقايا الأنين الأخير لجرحى الحروب الخاسرة. قهقهة الموت العظيم. هازمنا الذي لا يخسر أبدا. صدى صرخات من عصور ما قبل الميلاد. خدعنا أنفسنا وقراءنا بالقول أن الشعراء أقوى من الموت. أن لديهم ما ليس لدى البشر من الخلود. نحن بشريون تماما. نمرض، نشيخ، ونموت أيضا. يا إلهي كم ذلك مفاجئ ومرعب. السرطان يجعلنا نحفاء. هياكل مسحوبة الدم. خدودا تشف عن أضراسها. عيونا عميقة لفرط الهلع. مسمرة في سقف المصير المحتوم. قلوبنا تتعب أيضا. تخذلنا في العمليات المفتوحة. ليس لدينا قوى خارقة كما يظن قراءنا أو كما أوهمناهم بطلاسمنا. حتى محمود درويش يموت.

حتى نزار قباني يهرم. كنا إذن نلعب بالكلمات فحسب. نحتال على الموت. نغري الموت بالكلام. نتفنن في الموت بالقصيدة قبل رحيلنا الحقيقي. كأن ذلك سيعوض عزرائيل عن إنجاز مهمته اليومية المملة. نقول: "إن الموت لن يصيب معنانا بسوء. فقط سيدمر أجسادنا فيما تبقى أرواحنا مشعة إلى الأبد". هه. مسكينة كائنات الـ DNA من قال أصلا إن الموت مهتم بكتاباتكم. أي نصر هذا الذي تزعمونه على عدو لم يرد أصلا غير ما ناله فعلا من أعضائكم الحية. كم منافقون نحن وكذابون أمام بساطة الموت. فقبل قليل من الوقت كنا لا نرى في الجسد غير الجسد. كنا نتمرغ في الرغبات مؤمنين بجسد لا نهائي. جسد لا مكان فيه للروح. كنا نقول نص اللذة.

الآن صرنا نقول لذة النص. نردد ببلاهة المرتدين: "الشعراء خالدون في سماء لا حدود لها". نحن الذين قبل قليل لم نؤمن أصلا بغير الأرض. الحق أقول لكم أيها الأصدقاء. ستموتون أنتم أيضا فلا يفاجئكم ذلك. ستصاب قلوبكم بالسكتة. أو تفتح ربما بأيدي الجراحين المهرة والملفقين. ستصابون في حوادث الطرق. سيدمر خلاياكم السرطان. ويا للغرابة ستموتون أيضا. تماما كما يموت الآخرون. دون ضجة أو أبهة تقلق الموت وهو ذاهب في عمله الروتيني الدقيق. غير ما تسلون به أنفسكم من مزاعم خلود الشعراء. ذلك أنكم عضويون تماما. تتغضن خدودكم. تصبحون جماجم صلعاء يذيبها التراب المالح. هشة أجسادنا أمامك أيها الموت. ليست لنا قوة البلاستيك وخلوده. من يمنحنا شباب المانيكانات الدائم وصحتها التي لا يدركها السقم أبدا. صلابة التماثيل الحجرية وعنفوانها. من يمنحنا خلود الجمادات الرائعة. لا تخدعوا أنفسكم بعد اليوم. ذلك أن محمود درويش قد مات في عملية قلب مفتوح. مات وظلت جماداته حية ورائعة. كل جماد للخلود وكل عضوي للفناء. من يأخذ كل نصوصنا ويعطينا الشباب الدائم والخلود. المجد للجماد قاهر العصور وليتواضع العضويون. إيه أيها الـ DNA البائس.

مات الشعراء وبقي الحبر والورق. مات الفنانون وبقيت الصور. مات المخرجون وخلدت الأفلام. مات المهندسون وبقيت الجدران. ماتت الطيور وبقيت الأسلاك. مات دافنشي والموناليزا خالدة. مات فيرساشي وعاشت الأزياء والعطور. مات الفلاحون والأشجار وبقي التراب. ماتت الأسُودُ وبقيت الكهوف. مات حافظ الشيرازي وبقيت تماثيله. مات درويش ليبقى حبره وورقه مئات، آلاف من السنين كما وصلنا حبر هوميروس عبر القرون. كفوا عن القول أننا خالدون بأشعارنا. ما يبقى هو المكتوب الذي كان دائما شيئا آخر غيرنا. ما نكتب أقوى منا. ليس في حاجة لحياتنا. له حياته ككائن خرافي بعيدا عن خالقه. حياة سيعبر بها جلسات النقد والجامعات والمطابع والحدائق والشاشات. ستتناقله أيدي الفتيات الجميلات فيما نحن نذوي عظاما عفنة في ظلمة التراب. كان الورق يمتص رحيقنا دما دما ليعيش هو فيما نموت نحن بلا رحمة ولا أسف. الشاشات المضيئة. الصفحات الناصعة البياض. الأغلفة الملونة. الكتب المصفوفة في الرفوف الحديثة الدهان. الطابعات السريعة التي تعمل بالليزر. خزانات حبرها. الأقلام الرخيصة والثمينة. أقوى منا وجودا وأكثر خلودا. لا. لا فائدة ولا عزاء لنا.

وحين نقرأك يوما يا محمود درويش لن يعني ذلك بالضرورة أنك خالد. بل أن القصيدة كائن رائع. أن الناشر أتقن طباعة مجموعتك. أن خطا بحجم 18 وبشكل Arial هو أفضل الخطوط قراءة. أن الغلاف مثير. أرأيت كم حية ورائعة هي الجمادات فيما أنت تموت بعلة بسيطة مثل تضخم الرئة واحتشاء القلب والتهاب البنكرياس وتآكل لحاء الدماغ والشيخوخة. وحين نسمعك أو نراك يوما ما. لن يعني ذلك أنك بيننا. لكن أن تقنية الصوت متطورة. أن التسجيل عالي الجودة. أن الجماد دائما أقوى من حياتك وحياتنا. أما أنت أيها الكائن العضوي فميت. بارد لا حياة فيك. لا تضيء كمصابيح القراءة الجيدة الإنارة. ليست لك رائحة الورق الجديد. لا تصدر صريرا كآلات التصوير عالية الكفاءة. لا تلمع كالأغلفة المصقولة. أنت تحتاج لآثارك ليكون لموتك معنى أو شبه معنى. على الأقل لكي لا تنْسى. أما آثارك فلا تحتاج إليك أيها الشاعر.

حرر نفسك من غرور الشعور بحاجة العالم إلى خلودك. لست مركزا للكون. مت غير ضروري لأية مهمة مقدسة. مت فأنت من فصيلة الـ DNA التي يسخر الجماد من أحلامها. لك حلم الخلود وللجماد حقيقته. أنت ببساطة ميت.

لا شيء.
لا شيء.
لا شيء...


شاعر من البحرين