الدرويش الذي أبدع هويته

سيد ضيف الله

إن الذي بين إدوارد سعيد ومحمود درويش أكبر من أن يتم تجاهله، إن المشترك بينهما يتجاوز كونهما فلسطينيين، ويتعدّى كونهما يشتغلان بالكلمات، إن المشترك بينهما أنهما سلبا الهوية فلم يترددا لحظة في أن يخترعا هوية لا تشوبها شائبة، ووقفا على باب هويتهما يرحبان بكل مسلوبي الهوية وبكل من يشعر بالخذي من هويته التي شابتها الشوائب.

هناك التقيت بإدوارد قبل ثلاثين عاما
وكان الزمان أقلَّ جموحا من الآن
قال كلانا:
إذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معنىً ورؤيا
لنذهب إلى غدنا واثقين بصدق الخيال.
(من قصيدة طباق ـ المهداة لإدوارد سعيد، وكذلك المقتبسات التالية).

كلاهما جعل الغد معنى ورؤيا، إنهما المعنى والرؤيا اللذان يتباهى بهما الغد على الماضي والحاضر وكأن الأخيرين افتقدا شروط امتلاك المعنى والرؤيا عندما كفرا بصدق الخيال. الثقة بصدق الخيال كفرٌ بالحصان (العربي) والحداثة (الغربية)، ومن كفر بهما نجا من مصير الهنود القدامى، ونجا من بلاهة الضحية التي تسأل جلادها عن المشترك الإنساني.

ولكنْ سمعت هنودا قدامى ينادونني
لا تثق بالحصان ولا بالحداثة
لا ضحية تسأل جلادها: هل أنا أنت
َ

حين يكون الأمس عقيمًا لم ينجب غدًا، وحين نكون في النقطة الفاصلة بين عقم الأمس والرغبة المشتعلة في جسد الأرض في أن تحمل من أي قاذف نكون نحن، حيث يكون التقدم جسر الرجوع إلى البربرية.

لا غدَ في الأمس
فلتتقدمْ إذا
قد يكون التقدم جسر الرجوع
إلى البربرية

و حيث لا مكان يحتمل وجودنا، رغم كل صلات التبعية بين الـ"هنا" والـ"هناك"، نكون نحن، هذا ما يقوله الدرويش على لسان الفلسطيني الأمريكي السعيد

يقول:
أنا من هناك
أنا من هنا
ولست هناك ولست هنا

من الرفض المتبادل للهنا والهناك تتشكل هوية لا تنتمي لأي منهما، هوية المرفوضين الذين لا يرفضون رافضيهم، وإنما يدعونهم لغدٍ فيه من المعنى والرؤيا ما يُشفي الأعمى والأصم والأبكم. إنها هوية المرفوضين الذين لم يرثوا هويتهم كما يرث غيرهم عقاراتهم وثرواتهم وحتى أمراضهم دون إرادة ودون عناء تشكيل ما يرثون. المرفضون رافضو الإرث لا يورّثون هويتهم لأبنائهم وبناتهم، فالأنبياء لا يورّثون، وإنما يأخذ عنهم العهد المبدعون بإحسان، فالهوية إبداع صاحبها

والهوية قلت
قال دفاع عن الذات
إن الهوية بنت الولادة
لكنها في النهاية إبداع صاحبها
لا وراثة ماض

حوار الشاعر والمفكّر خالٍ من رائحة المفاوضات بين الفصائل وتوابعها، حوارٌ خالٍ من دسائس الساسة التابعين بإحسان، الساسة الذين يمسكون الحاضر من خصيتيه ليصيّروه عقيمًا لا ينجب غدًا مثلما فعل أسلافهم بالأمس. فالحوار هنا حول الحنين، أيكون الحنين إلى الأمس أم إلى الغد؟ أيكون الحنين عاطفة أم وعيًا بأسباب الخصي الذي ألمّ بالحاضر؟

والحنينُ إلى أمس عاطفة لا تخص المفكرَ
إلا ليفهم شوق الغريب
إلى أدوات الغياب
وأما أنا فحنيني صراع على حاضر
يمسك الغد من خصيتيه

لقد غدا الحنين صراعًا على الحاضر، وهو صراع يخوضه المفكّر دفاعًا عن حق الشعراء في الغد والذكريات معًا

سأصنع نفسي بنفسي
وأختار منفاي موسوعة لفضاء الهوية
منفاي خلفية المشهد الملحمي
أدافع عن حاجة الشعراء
إلى الغد والذكريات معا
ً

إن حاجة المفكّر ابن الإرادة المتشائم عقلاً المتفائل إرادة، إلى الشاعر ابن الحلم مخترع الأمل ومبتكر الدرب حتى لو كان سرابًا هي حاجة لشاعر جعل من الجمالي حرية

واصرخ لتسمع نفسك
واصرخ لكي تعلم
أن الحياة على هذه الأرض ممكنة
فاخترع أملا للكلام
ابتكر جهة أو سرابا
يطيل الرجاء
وغنّ
فإن الجمالي حرية

الوصية لمن يصونها، هكذا يوصي إدوارد سعيد قبل رحيله درويش ببلوغ المستحيل،

وقال: إذا متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل
سألت:
هل المستحيل بعيدٌ؟
فقال: على بعد جيل

لقد بلغ درويش المستحيل حيث أبدع هوية واخترع أملاً للكلام فكان للشعر في زمن الكارثة يدٌ تخط للجميع خلاصًا من القنّاصة الساكنين في حبة القمح وعلبة الملح، فإذا ما مات الدرويش جاعل الجمالي حرية فالعزاء فيه كما أوصى المفكرلا يكون لكائن من كان إلا جبال الجليل، وليكتب الكاتبون بعد موته أن ليس الجمالي إلا بلوغ الملائم

سألت:
فإن متّ قبلك
قال: أعزّي جبال الجليل
وأكتب: ليس الجمالي إلا بلوغ الملائم
والآن، لا تنس
إن متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل

إن المستحيل ليس معنى منفلتًا من شاعره، ولا صورة مستعصية على خياله، إن المستحيل هو إبداع الهوية ، وهو نفسه ما يوصي به الدرويش في آخر كلماته

الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة

(من قصيدة أنت منذ الآن غيرك،وكذلك المقتبسات التالية)

لقد أمست الهوية ميراثًا يتقاتل الوارثون على امتلاكها باعتبارها إرثًا مقدسًا يضمن لمالكه دخول الجنة، وتتحدد منزلته بمقدار ما أهدر من دماء بقية الورثة، هذا ما يفتي به فقهاء الأمس العقيم ومبتوري الحلم بغدٍ له معنى ورؤيا

من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟ بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك

رحل درويش متبرئًا من تلك الهوية المتوارثة والملطخة بدماء الضحايا وضحايا الضحايا، دون أن يدّعي أنه أبدع هويته على النحو الذي يريده لأنه اختار الرحيل وهويته قيد التأليف، إيمانًا بأنه إذا كانت بعض الكلمات تمنح مؤلفها الخلود، فإن البعض الآخر من الكلمات يمنح قراءها أيضًا الخلود.

لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون.

أنت، منذ الآن، غيرك.