معطف محمود درويش

جمال الموساوي

عندما استمعت لأول مرة مباشرة لمحمود درويش في مسرح محمد الخامس، في أواسط التسعينيات، استشعرت ضآلة أمام إلقائه الذي لم يترك لنا الفرصة حتى للتنفس. كان كل شيء فيه يشد الحاضرين. ليس شعره فحسب، بل حركة يده وهو يسيج «هذا الرحيلا»، وانفجار نبرته وهو يؤكد أن ثمة فوق الأرض ما يستحق الحياة، أو حتى وهو يتعلم كل الكلام ويفككه كي يركب تلك المفردة الواحدة الأثيرة إلى قلبه: الوطن. الوطن الذي كان قلب الشاعر وطنه. وهذا أمر عجب، أن يصبح الوطن مواطنا، بمعنى من المعاني، من مواطني ذلك القلب الهش، على عكس ما هو مألوف.

لم تبدأ العلاقة بمحمود درويش هنا بطبيعة الحال. أذكر أنه في أواخر الثمانينيات بينما كنت قد شرعت في إنضاج الكلمات على نار هادئة، ويسمح لي بعض أساتذتي بفسحات من الوقت لقراءة بعض ما كان يتبعثر من حروف، أحسبها وحيا، قال لي أحدهم إن في ما قرأته شاعرين كبيرين، وكان يقصد صدى قصائدهما. الشاعر الأول هو نزار قباني، والثاني لم يكن سوى محمود درويش. يستقي المراهق فيّ ما كان يقرأه لنزار، ويلوذ الشاب المتحمس بالظلال الوارفة لدرويش، زاده في ذلك تلك الأسطوانات التي كانت تباع في سوق "باب النوادر» في تطوان، وبشكل خاص «مديح الظل العالي» و»بيروت» و»خطابات الديكتاتور العربي».

كان الإلقاء باذخا بحيث حفر تلك القصائد في الجمجمة، وأوجد لها مكانا في القلب اعتبارا لما كانت تعنيه تلك الأشعار من تمثل لقضية فلسطين، ولواقع عربي بدأ الشاب يدرك أنه مر، وأن عليه أن يعيشه، وأن يحاصره إن اقتضى الحال « بالجنون وبالجنون».

والواقع أنني لم أدرك أن محمود درويش يسكن تلك الخواطر الأولى التي كنت أقرأها على زملاء القسم (مزهوا) إلا بعد أن نبهني ذلك الأستاذ الكريم. لقد كانت قوة اللغة أكبر من أن تقاوَم، وسحر الصور أقوى من كل سحر آخر، فكان طبيعيا أن يعثر عليه داخلي.

ولعلي هنا لا أقول شيئا مختلفا عما يمكن أن يقوله أي شاعر لا يزال يتلعثم في الطريق إلى قصيدته، قصيدته الخاصة، بمعنى أن الشعراء العرب من الأجيال التي تنتمي إلى الثلاثين سنة الأخيرة، ارتدوا جميعا معطف محمود درويش اللغوي الساحر، والصّوري المذهل، ومن هؤلاء من أسعفته الحيلة فانطلق خارجا من المعطف، ومنهم من قضى نحبه هناك، ومنهم أيضا من ينتظر.

وبهذا يكون درويش واحدا من الآباء الأساسيين للقصيدة العربية المعاصرة التي تكتب الآن، ومن لم يقرأ لهذا الشاعر، لا شك أنه فوت على نفسه الاستفادة من الجزء الأهم من الشعر العربي الحديث منذ الرواد الأوائل.

الشاعر محمود درويش ليس هو الشاعر الوحيد الذي شكل لاوعينا الشعري، وهذه مسلمة من المسلمات، ونصه ليس النص الغائب الوحيد في نصوصنا، لكنه مع ذلك كان الأقرب إلى الوجدان، فهو شاعر للوطن، وشاعر للحياة، وشاعر للحب، وشاعر لي لأنه يمنحني تلك المتعة التي لا تمنحها الكلمات إلا في بناء لغوي غاية في الأناقة، أفيء إليه إذا شدني الحنين إلى اعتناق الجمال الذي لا يبلى، وهو بالمناسبة حنين لا يبلى أيضا.

وهنا لا بد من وقفة مع الحنين في هذا الدرب، ذلك أن أكثر ما يمكن العثور عليه بسرعة في أشعار درويش، ليس القضية الفلسطينية، ولا الوطن، ولا المرأة، ولا الحب، بل ذلك الحنين المتواتر من قصيدة لقصيدة، المستمر منذ ما لا أدري من شعره. حنين ليس إلى شيء محدد، بالرغم من أنه محدد وواضح، حنين ليس إلى ما هو كائن أو إلى ما كان، وإنما إلى ما سيكون. وتساءلت غير ما مرة هل هو حنين إلى الحياة التي أفقدنا إياها النزول من الجنة؟ ربما كان يرى نفسه ميتا، فاشتد في قصائده الحنين إلى الحياة، كما لو أنه في حياة أخرى، يحن إلى أمه وخبزها، إلى الوطن وأهله، ويحن إلى المستقبل وغموضه... ويحن إليه قراؤه حنينهم إلى أي شيء جميل مر بهم.

وفي آخر قراءاته في مسرح محمد الخامس بالرباط، كان الموت أشدُّ وطأة في تلك القصائد التي ألقاها، تماما كما في كل قصائده الأخيرة. دخل في حوارية مع الموت، وخالجني شعور، من المؤكد أنه لم يخطئ الطريق إلى قلوب الذين يقرأونه ويتابعون جديده. هذا الشعور كان قاسيا، إلا أنه اتضح أنه صادق... كان الشاعر الكبير يعزي نفسه في وفاة نفسه، ويحاول الإجهاز على موته قبل أن يصبح فريسة سهلة بين يديه، وقد كان يدرك أن قلبه سيخذله يوما ما. يوما كنا نحن المحبين- نراه بعيدا، وكان يراه، وهو الرائي، قريبا.

ومما لا شك فيه أن فكرة الموت في حد ذاتها حين تتحول إلى مطرقة تضرب في القلب، ويشعر به الإنسان يحوم حول عزيز، يصبح هذا العزيز محط خوف من أن ينزلق إلى العدم ولما يشبع محبوه منه. وقد كان درويش هذا العزيز. ولا أحتفظ منه الآن سوى بصدى إلقائه الذي يشبك القلب بجموح المتخيل وسطوة الكلام، وسوى بما وصلتُ إليه في مرتفعات الشعر من قصائده، وسوى توقيع من يديه في ديوانه "ورد أقل".

كانت أناقته مغرية. أناقته الشعرية، وصفاء معجمه طبعا. ولأجل ذلك لم يكن لي إلا أن أكتب له نصا ضمنته مجموعتي الثانية "مدين للصدفة" الصادرة أواخر العام الماضي، وكان عنوانه "ذاكرة الشاعر الأنيق"، وآخر كلماته":

"يحلم
بجحيم وافر.
باللعنة.
وبكلمات يقول إنها متمردة
على الشكل
وأيضا على الجوهر المسيج بالغبار،
يحلم بريح من الشك تزحف إليه
ويتساءل مع الغيمة التي تغسل دمه
كل فجر
عن سره
عن مكمن السهو الذي لا يبرحه.
وأحيانا ينسج مع الموت وشيجة قربى
كي ينسى جحيمه
ويسرح في العالم مليئا بالعزلة".

انتبهت، ولست وحدي على أي حال، إلى أنه يقترب من حديقته السرية، وأنه يوشك أن يشتبك مع حتفه باسما، وهو الذي لم يشتبك إلا مع العالم المبعثر يحاول إعادة صياغته، ويحاول استعادته من التيه الذي انخرط فيه، والآن أستعيده من داخلي قبل عشرين سنة، عندما اكتشف ذلك الأستاذ أن ثمة في هذا ال"داخلي" يسكن شاعر كبير اسمه محمود درويش. وربما كان وجوده هناك بمثابة تلك النار التي أمدتني بما نثرته على حافة الحياة من نصوص وقصائد. ولا أدري ما إذا كان يمكنني الحديث عن نوع من النموذج الأمثل، أو نوع من المثل الأعلى، أو عن واحد من الآباء الحقيقيين، فهو ليس صنما ولا أحسبه أراد أن يكون له أتباع هنا وهناك أوفياء له كما لو كان شيخ طريقة، ولو أنه أراد ذلك لما حرص على الانفلات في كل مرة من قبضة قارئه باحثا عن آفاق أخرى غير مطروقة، وبالتالى فهو لم يترك فرصة لنفسه من أجل أن يكرس طريقة ما، نمطية في الكتابة الشعرية، فأحرى أن يعطي هذه الفرصة لأتباع محتملين.

ولكنه مع ذلك قاد الكثيرين إلى إدراك أن للكلمة سحرا، وللشعر نصيبا من المجد لا يدركه إلا الراسخون في الاجتهاد من أهله، فقد كان درويش، وفق ما قاله غير ما مرة، يرى أن الشعر يحتاج إلى اشتغال يومي، وبدون ذلك لن يتحقق للشعر ولا للشاعر ذلك السمو المرتجى.

الآن لم يعد أحد ينتظر قصيدة جديدة من درويش. فقد رأيناهم يدفنونه على مشارف القدس، لكنني لن أزيد عما قاله هو، إنه يصر على أنه لن يموت:

وها أنذا أستطيع الذهاب إلى آخر العمر في اثنين: وحدي، ووحدي
ولا أستطيع التواطؤ إلا مع الكلمات التي لم أقلها، لأفدي
مكوثي على حافة الأرض، بين حصار الفضاء وبين جحيم التردي
سأحيا كما تشتهي لغتي أن أكون... سأحيا بقوة هذا التحدي".

جمال الموساوي
شاعر وصحفي مغربي