ألق البدايات: شاعر شاب من الأرض المحتلة

اعداد أثير محمد علي

جميع المواد المختارة في باب علامات لهذا العدد، تعود لعام 1968، ولفترات كان فيها الشاعر الشاب محمود درويش معتقلاً في سجون الاحتلال.

تروم الأبحاث التي تعيد "الكلمة" نشرها، وهي لرجاء النقاش ولغسان كنفاني، أن تلقي الضوء على محمود درويش، شعرياً وإنسانياً ووطنياً، من خلال المرحلة الممتدة من نهاية الخمسينات إلى ما بعد نكسة حزيران بقليل. ونتعرف من خلالها على فرادة الشاعر الفنية، وعلاقته بأدب الأرض المحتلة داخل أرضي 1948 حينذٍ.

أما القصائد المختارة، فتبدو كما لو كانت تنجز حواراً فنياً ووجدانياًً فيما بينها. وفيها يهدي كل من نزار قباني وفدوى طوقان قصيدته لشعراء "المقاومة في الأرض المحتلة". أما قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" لمحمود درويش فهي مهداة على جناح المباشرة للشاعر فدوى طوقان. علامات هذا العدد تحاول القول أن الشاعر الجميل في غروبه الحزين، يقفل راجعاً إلى بيت القصيد... وأن لهذا السرو الغيبي اخضرار في السواد..

المواد المختارة:
الأبحاث:
محمود درويش: "عاشق من فلسطين". بقلم رجاء النقاش.
أبعاد ومواقف في أدب المقاومة الفلسطيني. بقلم غسان كنفاني.

القصائد:
قصيدة "إلى شعراء الأرض المحتلة" لنزار قباني
قصيدة "لن أبكي" لفدوى طوقان وهي مهداة إلى شعراء الأرض المحتلة بعد زيارتها لحيفا.
قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" لمحمود درويش وهي مهداة للشاعرة فدوى طوقان.
قصيدة "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر" لمحمود درويش. وقد أرفقت القصيدة بتعليق نقدي لرجاء النقاش.


محمُود دَرْويش: "عاشِق من فلسطين"..

رجاء النقاش (القاهرة)

 

محمود درويش شاعر عربي شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو واحد من بين حوالي ربع مليون عربي ظلوا مقيمين داخل الأرض المحتلة بعد سنة 1948، عندما تحولت المأساة الفلسطينية إلى إعلان رسمي بقيام دولة إسرائيل. وقد ولد محمود درويش في قرية "البروه"، وهي قرية فلسطينية هدمها اليهود من بين ما هدموا من المدن والقرى العربية ليقيموا مكانها مستعمرات يهودية. والمعلومات التي بين أيدينا عن حياة هذا الشاعر الشاب معلومات قليلة ومحدودة، ومعظمها مستمد من المرجع الأول والأكبر عن الأدب العربي داخل إسرائيل وهو كتاب "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" للناقد والفنان الفلسطيني اللامع غسان كنفاني. وآخر ديوان أصدره محمود درويش هو ديوان "عاشق من فلسطين" الذي صدر في مايو سنة 1966 وتسربت منه نسخ قليلة إلى خارج إسرائيل... وها هي "دار الآداب" تقدمه إلى القراء العرب اليوم، وهي إنما تقدم بهذا الديوان وثيقة فنية وقومية على غاية من القيمة والخطورة.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال هو: كيف تسمح السلطات الإسرائيلية بنشر هذا الشعر الذي يحمل في كل سطر منه تعبيراً ثورياً عنيفاً ضد إسرائيل وصانعي إسرائيل؟...

الحقيقة أن الشاعر محمود درويش، ورفاقه من شعراء المقاومة العربية في إسرائيل كانوا يستفيدون من كل ثغرة في النظام الإسرائيلي أو في القانون الإسرائيلي للتعبير عن أنفسهم، فهناك قانون يسمح لكل مواطن بإصدار نشرة واحدة في العام دون رقابة، ومن خلال هذا القانون وأمثاله من القوانين التي تهدف إلى إعطاء واجهة ديمقراطية زائفة لإسرائيل يتحرك العرب في الأرض المحتلة، ولا يتركون فرصة واحدة ممكنة تفلت منهم على الإطلاق. وهكذا تصدر دواوين محمود درويش وغيره من الشعراء، ولا تكاد هذه الدواوين تصدر حتى تصادرها السلطات الإسرائيلية وتعتقل أصحابها. وقد أثارت الحركة الشعرية الجديدة بالذات، والتي يقف في طليعتها محمود درويش، أعصاب السلطات الإسرائيلية، فصدرت أوامر بمنع نشر الشعر العربي القومي في الصحف العربية، ثم صدرت بعد ذلك أوامر بإغلاق الصحف العربية نفسها، وعندما لجأ العرب إلى إقامة أمسيات شعرية، يلتقي فيها الجمهور مع الشعراء، صدرت الأوامر بمنع هذه الأمسيات ومعاملتها على أنها مظاهرات أو تنظيمات سياسية معادية لإسرائيل.

ولك أن تتصور أي دولة تلك التي تفزع من قصائد الشعراء، وأمسيات الشعر بهذه الصورة!

والحقيقة أن الشعر العربي في الأرض المحتلة إنما يجسد روح المقاومة العربية ويغذيها، ويشعلها كلما هبت عليها بعض رياح اليأس من النصر القريب، أو رياح الاستسلام لواقع المأساة... لقد أصبح شعر المقاومة عاملاً من أقوى العوامل التي تحول بين امتزاج البقية الباقية من العرب في الأرض المحتلة بالواقع الذي خلقته المأساة، أو اعتراف هؤلاء العرب بهذا الواقع على أنه واقع نهائي لا يمكن أن يتغير.. ما دام هناك شعراء يعبرون بهذه القوة الفنية والنفسية والفكرية عن المأساة الفلسطينية... وأين؟ في الأرض المحتلة نفسها، فإن هذا معناه بكل بساطة: أن القضية الفلسطينية لا تندثر مع مرور الأيام بل تزداد اشتعالاً.

وينقل إلينا شعر المقاومة العربية الذي يكتبه الجيل داخل أسوار إسرائيل روحاً ثورية عالية، تكاد تقول لنا أنه لو لم يبق سوى مواطن عربي واحد داخل إسرائيل، فسيظل هذا المواطن يدعو إلى القضية العادلة، قضية فلسطين. ولعل هذا الشعر بما فيه من نبض حار صادق يقول لنا أكثر من ذلك: أنه لو لم يبق ولا مواطن عربي واحد داخل أسوار إسرائيل... فلسوف تصرخ الأحجار والأشجار والعصافير وأمواج الشواطئ في حيفا ويافا... بأن الأرض هي أرض العرب، وأن تزوير التاريخ بهذه الصورة الرهيبة لا يمكن أن يدوم.

والاتجاه الغالب ـ من الناحية الفنية ـ على شعر المقاومة بين أبناء الجيل العربي الجديد في الأرض المحتلة، هو اتجاه "الشعر الجديد"، الشعر الذي يعتمد على وحدة "التفعيلة" بدلاً من وحدة البيت. وبدون أن ندخل في مشاكل فنية حول هذه المدرسة الشعرية الجديدة، وهي مشاكل لا مجال لها في هذه الدراسة، ينبغي أن نلاحظ شيئاً له أهميته يدلنا عليه هذا الاتجاه الفني عند شعراء المقاومة هو: أن الجيل العربي الجديد من شعراء الأرض المحتلة ليس معزولاً عن الحركات الفكرية والفنية في الوطن العربي خارج الأسوار الحديدية التي خلقتها إسرائيل، لتحول بين العرب في الأرض المحتلة وبين أي تأثير قد يأتيهم من الخارج. ومع ذلك فقد التقى شعراء الجيل الجديد في فلسطين بهذا التيار الشعري، الذي كاد أن يسود وينتصر في الوطن العربي كله... وأقصد به تيار الشعر الجديد. ولكن كيف تأثر هؤلاء الشعراء السجناء بهذا التيار الوافد إليهم من خارج الأسوار؟

كيف اتصلت حياتهم الوجدانية والعقلية بالتطورات التي تحدث في الأدب العربي والفكر العربي؟ ذلك ما لا نعرفه بدقة، ولكن الذي حدث على أي حال هو أن هؤلاء الشعراء الذين ظهروا داخل أسوار إسرائيل في السنوات الأخيرة هم جزء من حركة التجديد الفني في الشعر العربي المعاصر، إلى جانب أنهم يمثلون تياراً رائعاً من تيارات "أدب المقاومة"... حيث يقف هؤلاء الشعراء في قلب المحنة، لا يتفرجون عليها، ولا يكتبون عنها من الذاكرة... بل يعيشون في النار... ويقاومون ويكتبون شعرهم عن دمهم الذي ينزف، وعن ألمهم وأملهم معاً.

ومحمود درويش يقف في المقدمة بين شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة. وهو الآن مسجون، في محاولة جديدة من جانب إسرائيل لتحطيم كل ألوان المقاومة العربية، وفي مقدمتها حركة المقاومة الأدبية والفكرية، التي يمثلها هذا الشاعر العربي الشاب وغيره من شعراء الأرض المحتلة.

وهناك في العادة شعراء ترتفع قيمتهم في تاريخ بلادهم بفضل مواقفهم النضالية، حتى لو كان مستواهم الفني رديئاً ومحدود القيمة. ولكن محمود درويش ليس من هؤلاء، فهو شاعر يمتاز بالأصالة الفنية إلى جانب ولائه المطلق لقضية فلسطين: وطنه ومأساته وجرحه الكبير. إنه شاعر ترفعه قضيته وفنه معاً.

وشاعرية محمود درويش شاعرية ضخمة، ذات مذاق إنساني خصب، وشعره "نسيج فني" صالح تماماً لأن يكون "نسيجاً عالمياً"، ومن هنا كان محمود درويش من أصلح الشعراء الذين يمكننا أن نترجمهم إلى أي لغة عالمية، ونضمن استجابة حقيقية لشعرهم في أي بيئة إنسانية غير عربية... وسوف تكون قصائد درويش تعبيراً عالمياً نابضاً بالحياة عن واقع المأساة الفلسطينية.

ولست بمثل هذه الكلمات أهون من قضية العالمية في الأدب، بحيث يمكن أن يصل إليها أي فنان شاب مثل محمود درويش، ما زال ـ آخر الأمر ـ في بداية حياته الفنية، كما أنني، من ناحية أخرى لا أطلق الحديث عن عالمية شعر محمود درويش من باب العاطفة القومية.. فالحقيقة أن ما أعنيه بالعالمية هو أن يكون الفن تعبيراً صادقاً مخلصاً عن قضية يمكن أن يحسها الإنسان في أي مكان فوق الأرض... وهذا هو ما يتجسد في شعر محمود درويش: صدق وإخلاص لقضية كبيرة يعبر عنها في بساطة وعمق معاً. إن المستوى العالمي في الفن، ليس لغزاً من الألغاز، فالطريق إلى العالمية هو طريق البساطة والإيمان والتعبير عن تجربة إنسانية عاشها الفنان بأمانة ووجدان متيقظ. وهذا كله هو ما نحسه ونحن نقرأ محمود درويش، ومن أجل ذلك فإن من الواجب علينا أن نقدم هذا الشعر إلى العالم... ففي هذا الشعر تعبير صادق وجميل عن مأساة الشاعر، ومأساة وطنه وأهله... وهو تعبير يمس القلوب... حتى قلوب هؤلاء الذين لم يسمعوا شيئاً عن القضية نفسها، ولم يعرفوا صفحاتها الدموية الحزينة.

وقصائد محمود درويش تشبه إنساناً تحس بأنه يجذبك إليه بقوة منذ أول لقاء معه، فهو حار متفجر ذو حيوية هائلة، ليس فيه ذرة من الغفلة أو رائحة من روائح الفتور إنه "ينتفض" ويمتلئ بالرغبة في الحياة والتحرر من المأساة، سواء كانت هذه المأساة في داخل نفسه، أم كانت في واقع مجتمعه. ومذاق شعر محمود درويش يذكرني بالمذاق الإنساني اللاذع: الحلو والمر معاً، للشاعر الأمريكي "والت ويتمان"، ذلك الفنان الذي جعل الشعر عاصفة من الحب والتمرد.. من الغضب والإيمان الذي يشبه إيمان الأنبياء، لأنه إيمان لا يتردد ولا يهاب ولا يعرف اليأس.. لقد كان والت ويتمان شاعراً صاحب قوة روحية هادرة ساحرة تملأ شعره، ولعلنا نحس بهذه القوة عندما نقرأ أبياته التي يقول فيها:

"أنا آتي مع الموسيقى قوياً... مع مزاميري وطبولي. أنا لا أعزف أناشيدي للظافرين فقط، بل أعزف أيضاً للقتلى والمقهورين. إننا نخسر المعارك بنفس الروح التي نكسب بها المعارك. فألف مرحى للذين فشلوا... للذين غرقت مراكبهم في البحر... للذين غرقوا هم أنفسهم في البحر"

ووالت ويتمان هو الذي يقول أيضاً:

"أنا رفيق الشعب وصديقه... كلهم خالدون مثلي. إنهم لا يعرفون كم هم خالدون. ولكن أنا أعرف فكل إنسان يحب نفسه وممتلكاته. أما أنا... فأحب هؤلاء الذين كانوا فتياناً والذين يعشقون النساء... أحب الرجل الأبي الذي يشعر كم يؤلم الإنسان أن يهان... أحب الحبيبة الحلوة... والعانس... أحب الأمهات... وأمهات الأمهات... أحب الشفاه التي ابتسمت والعيون التي ذرفت الدمع... أحب الأطفال والذين يلدون الأطفال..."

هذه القوة الروحية الإنسانية الشاملة الهادرة هي التي تملأ قلب والت ويتمان وشعره... وشاعرنا العربي الفلسطيني الجريح محمود درويش يحمل شرارة من هذه القوة الروحية في قلبه وشعره معاً... إنه حار، ملتهب العواطف نحو الناس والحياة... وهو لا يعرف التأملات الباردة الخالية من الروح، لأنه فارس معركة إنسانية يشهر سلاحه، ويعرض صدره للخطر، ويدخل مثل هذه المعارك بكل ما يملك من حنان وحب وإيمان بالراية التي يحارب وهو يرفعها.

هذا هو ما نحس به منذ اللقاء الأول مع شعر محمود درويش، قبل أن نتأمل هذا الشعر أو نحاول دراسته ومعرفة أسراره الفنية. ومثل هذه العاطفة الحارة الساخنة قد تعرض الفنان إلى سقطة من سقطات الفن الشعري هي: الخطابة والضوضاء الفنية الجوفاء، ولكن أصالة محمود درويش كفنان، وأصالة إيمانه بقضيته تحميانه تماماً من تلك السقطة الفنية الخطيرة. فهو لا يقترب من هاوية الخطابة ولا يقف حتى على حافتها، بل يظل مسيطراً على فنه سيطرة كاملة، ويظل من أجل ذلك مسيطراً على قلوبنا بأصالته وصدقه معاً. فهو مثلاً عندما يرد على تلك النغمة السائدة في الأدب الإسرائيلي والدعاية الإسرائيلية والتي تحاول أن تقول للعالم: أن العربي همجي، والعرب عموماً هم بشر من الدرجة الثانية... عندما يرد محمود درويش على تلك "النغمة الدعائية الظالمة" فإنه ينتفض من أعماقه وأعماق تجربته العربية الإنسانية:

"نعم! عرب
ولا نخجل
ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل
وكيف يقاوم الأعزل
ونعرف كيف نبني المصنع العصري
والمنزل
ومستشفى
ومدرسة
وقنبلة
وصاروخاً
وموسيقى
ونكتب أجمل الأشعار
ثم يقول في قصيدة أخرى:
سنصنع من مشانقنا
ومن صلبان حاضرنا وماضينا
سلالم للغد الموعود
ثم نصيح: يا رضوان
افتح بابك المقصود"

بهذه العاطفة المليئة بالتفاؤل والثقة والاستعداد للنضال والصبر على الجراح الكثيرة التي يتعرض لها العربي... بمثل هذه العاطفة القوية الحارة، يواجه محمود درويش وقائع المأساة التي يعيشها مع بقية العرب داخل إسرائيل، حيث تريد الصهيونية للإنسان العربي أن يكفر أولاً وقبل كل شيء بنفسه وتراثه وقدرته على المشاركة في الحضارة.

... ولنترك هذا اللقاء العابر مع الشاعر، حيث تخطفنا قصائده إلى دوامة من السحر والحرارة والاعتزاز بالجرح والإصرار على تجاوز اليأس والهزيمة... لنترك هذا اللقاء حتى نتعرف بصورة أدق على شاعرية محمود درويش من خلال ديوانه "عاشق من فلسطين".

إن أجمل وأعذب ما في عالم هذا الشاعر هو "رؤيته الإنسانية" الخاصة التي تنعكس على بناء قصائده. إن محمود درويش يرى الناس والأشياء بطريقة تختلط فيها كل العناصر. ففي قصيدة واحدة يتحدث عن حبيبته، وفي مقطع آخر من القصيدة نفسها نجد هذه الحبيبة قد تحولت إلى معنى مختلف هو الوطن، ثم تنقلب الحبيبة إلى أخت وأم... وهكذا فالحب والوطن والحرية والطبيعة كلها معان تختلط ببعضها تمام الاختلاط، إنها ذات ملامح متشابهة، فالشاعر يرى وطنه من خلال عاطفة الحب الشفافة، ويرى أرضه من خلال عاطفة الأمومة..

الحدود بين الأشياء لم تعد موجودة... هناك في شعره نوع من "وحدة الوجود"... نوع من الامتزاج والذوبان في ظل ما كان يسميه المصريون القدماء: "الكل في واحد"، وهذا الامتزاج الكامل بين الصور والمعاني في رؤية محمود درويش للعالم والذي يتحقق على أجمل صورة في شعره... يحدث بدون ترتيب أو نظام دقيق، وإن كان يتم بصورة شفافة رقيقة، لا يضيع الإنسان وهو يعيش في عالم القصيدة، فليست قصيدة محمود درويش عالماً معتماً، بل هي عالم رقيق مشرق رغم اختلاف عناصره ورؤاه، وبسبب من هذه الرؤية الإنسانية المتميزة التي تمزج بين الأشياء مزجاً كاملاً تبدو قصيدة محمود درويش "حلماً" تغيب فيه الوقائع والحواس، ليصبح الإنسان طليقاً بلا حدود. على أننا يجب أن نفرق هنا تفرقة كاملة بين نوعين من الحلم...

النوع الأول هو "الحلم" المبني على الهروب من الواقع الحي، حيث يكون الحلم تنفيساً عما يختزله الإنسان في حياته اليومية من مشاكل ومشاعر مخنوقة... والحلم هنا هو نوع من الهروب، وهو في النهاية ضعف وعجز عن مواجهة الواقع... إن الإنسان الهارب على هذه الصورة هو الإنسان الهش الرومانسي العاجز عن مواجهة أعباء الحياة وتجاربها الصعبة، وفي العادة يكون هذا النوع من الأحلام قاتماً معتماً، ويكون الفن الذي يعبر عن مثل هذه الأحلام قاتماً معتماً كذلك.

أما النوع الثاني من الأحلام فهو الحلم الذي يقوم على فيض من المشاعر الحية الكبيرة التي تملأ يقظة الإنسان، وتسيطر عليه سيطرة كاملة... إن هذه المشاعر تفيض ـ لشدة غناها وحيويتها ـ عن يقظة الإنسان فتملأ أحلامه... وهذا النوع من الأحلام، هو إلهام وحيوية وقوة، وهو تعبير عن اندماج كبير في الواقع، ودليل على الامتزاج بين وعي الإنسان وعقله الباطن معاً.

وهذا الحلم المبني على فيض الشعور الهائل، هو حلم محمود درويش وهو قصيدته في نفس الوقت... هذا النوع من الحلم يفسر لنا عند محمود درويش "انكسار المنطق" العادي في قصائده، لأن المنطق العادي يصلح للوقائع الباردة ذات المقدمات والنتائج، ولكنه لا يصلح للتجارب الروحية الكبيرة الغامرة التي تملأ مشاعر الفنان وتسيطر على يقظته وأحلامه وحواسه جميعاً. وإن دلت هذه "الرؤية الإنسانية" الخاصة عنده على شيء فإنما تدل على امتلائه بقضية وطنه: عقلياً وعاطفياً، في الواقع والخيال معاً... إنه يرى هذا الوطن بجرحه الكبير في كل شيء... في الحبيبة والأم والطبيعة... في كل ما تقع عليه العين، بل هو يرى هذا الوطن في جميع أحواله النفسية الخاصة... في العذاب وفي السعادة على السواء.

في قصيدته "عاشق من فلسطين" تواجهنا هذه "الرؤية الخاصة": فالشاعر يتحدث عن حبيبته، ولكننا سرعان ما نشعر أنه ينتقل من الحبيبة إلى الوطن، ثم يوحد بينهما، فلا نحس أن الحبيبة شيء والوطن شيء آخر... إنه يقول في أول القصيدة مخاطباً حبيبته:

"عيونك شوكة في القلب
توجعني... وأعبدها
وأحميها من الريح
وأغمدها وراء الليل والأوجاع... أغمدها
فيشعل جرحها ضوء المصابيح
ويجعل حاضري غدها
أعز علي من روحي
وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين
بأنا مرة كنا، وراء الباب، اثنين"

هذا حديث عن الحب... وهو حب محزون ومجروح، شأن كل حب في أي وطن محزون ومجروح، فالعيون ـ في مثل هذا الحب الحزين ـ تتحول إلى "شوكة في القلب... توجعني... وأعبدها"، وهي صورة رائعة، ولكنها لا يمكن أن تخطر على بال عاشق رومانسي خالي البال يحلم أحلاماً وردية ويعيش في ظل سلامة نفسية وسلامة اجتماعية... إنه عاشق يرى في عيون حبيبته ما يذكره بحرمانه، وبهمه الكبير، ومسؤوليته العظيمة... إنه عاشق غير عادي... عاشق من فلسطين. ولكن هذا العاشق بظروفه الخاصة وأحزانه الخاصة لا ينسى أنه في نهاية الأمر عاشق، يفهم الهوى، ويتذوقه، ويصبح الحبيبان ـ مثل كل عاشقين صادقين ـ شيئاً واحداً... كأنهما لم يكونا في يوم ما: اثنين... هو وهي.
ولكن هذا الحديث العاطفي عن الحبيبة سرعان ما يختفي لنحس أن وراءه شيئاً آخر، فهذه الحبيبة ليست فتاة عادية، وإنما هي فلسطين نفسها... أو قد تكون في الأصل فتاة عادية ثم تتحول في عينيه الممتلئتين برؤيا بلاده إلى فلسطين نفسها... وهنا يقول محمود بعد مقدمته العاطفية الحزينة:

"رأيتك عند باب الكهف، عند الغار
معلقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك
رأيتك في المواقد... في الشوارع
في الزرائب... في دم الشمس
رأيتك في أغاني اليتم والبؤس
رأيتك ملء ملح البحر والرمل!
وكنت جميلة كالأرض.. كالأطفال.. كالفل
وأقسم:
من رموش العين سوف أخيط منديلاً
وأنقش فوقه شعراً لعينيك
واسماً حين أسقيه فؤاداً ذاب ترتيلا
يمد عرائس الأيك
سأكتب جملة أغلى من الشهداء والفل:
فلسطينية كانت... ولم تزل"

وقبل أن نناقش ما في هذا المقطع من رؤى وأفكار، نستطيع أن نلتفت إلى تلك الصور الجزئية التي ينسج منها الشاعر قصيدته... حبل الغسيل، ثياب الأيتام، المواقد، الزرائب... هذه الصور التي تبني لنا "ديكوراً شعرياً" بديعاً لبيئة شعبية أصيلة، وقد أعطى الشاعر هذه الصورة حياة ونبضاً كاملين... فتحركت الصور من جمودها لتعطينا لوحة إنسانية ملآنة بالإيحاء الشعري الجميل.

لكننا نتساءل: هذا الحديث الجميل بصوره الشعرية الحية النابضة بالحياة... لمن يتوجه به الفنان؟ إنه ولا شك ليس حديث عاشق فلسطيني عادي، بل هو حديث عاشق من فلسطين، وعاشق لفلسطين نفسها، فليس في هذه الصورة القوية كلها ما يناسب عاطفة عادية، أو حبيبة عادية... ولعلنا نلاحظ ذلك "الطرب" الحلو العميق الذي يعبر عنه الشاعر وهو يطرز برموش عينيه تلك الجملة الغالية عليه "فلسطينية كانت... ولم تزل"... بل نكاد نحس أن طربه كله يتركز حول عبارة "لم تزل"... فالاستمرار في صفة "الفلسطينية" هو ما يبهجه ويطربه ويشجيه، لأن هذه الصفة بالذات هي المطلوب لها أن تختفي وتزول... ولذلك فالشاعر يجد في بقائها واستمرارها ما يثيره ويسعده ويفتح في وجدانه باباً لآماله كلها.

هذا المزيج بين الوطن والحبيبة عند محمود درويش يعطي نفساً عاطفياً حلواً وخصباً لتجاربه الفنية، ويخلق هذا الحلم المضيء المشحون بالرؤى الحية، والذي تتحول إليه قصيدة محمود درويش فيمتزج الحب بالوطنية، وتمتزج صورة الفتاة بصورة الوطن، ولا يعود باستطاعة أحد أن يفرق بين عاطفة الحب نحو فتاة، وعاطفة الحب نحو أرض ووطن. ولعلنا نجد نفس النغم الحلو الخصب الذي تختلط فيه العاطفة بالوطنية في قول محمود درويش من قصيدته "أغاني الأسير":

"معلقة يا عيون الحبيبة
على حبل نور
تكسر من مقلتين
ألا تعلمين بأني
أسير اثنين:
جناحاي أنت وحريتي
تنامان خلف الضفاف الغربية
أحبكما، هكذا توأمين"

إنه امتزاج وذوبان كامل بين الحب والحرية، بين العاطفة والوطنية، فالحرية هنا حب والحب حرية... ونحن نلتقي بنفس الرؤية الإنسانية عندما يحدثنا الشاعر عن أمه... إننا لا نكاد نقترب من صورة الأم حتى تقفز أمامنا صورة الوطن... في قصيدته "في انتظار العائدين" يقول:

"أصوات أحبابي تشق الريح، تقتحم الغصون
يا أمنا انتظري أمام الباب... إنا عائدون
هذا زمان لا كما يتخيلون
بمشيئة الملاح تجري الريح
والتيار يغلبه السفين!
ماذا طبخت لنا؟ فإنا عائدون
نهبوا خوابي الزيت، يا أمي، وأكياس الطحين
هاتي بقول الحقل! هاتي العشب!
إنا جائعون"

مرة أخرى تشدنا تلك الصورة الشعبية الحميمة التي تنشر ظلالها في نفوسنا، وتكاد توهمنا أن الذي يقول هذا الشعر ليس بشاعر، بل هو مواطن فلسطيني شعبي ملهم يحكي لنا بقلبه ووجدانه كل رؤاه وتجاربه... فخوابي الزيت, وأكياس الطحين، وبقول الحقل، والعشب، هي الصور التي يعيش معها وبها إبن الشعب العادي، وها هو محمود درويش يتناول هذه الصور بيده السحرية فيحيلها إلى شعر جميل رائع.

ولقد كانت هذه الصور الشعبية في نظر البلاغة التقليدية القديمة، بل وفي نظر بعض أنصار البلاغة الجديدة، صوراً غير قابلة لأن يخرج منها أي قطرة من الشعر... ولكن ها هو محمود درويش يكتشفها من جديد ويعتصرها فناً حياً مليئاً بالسحر والشعر والعذوبة.

ونتساءل هنا أيضاً: هل تكون الأم في هذه الأبيات هي الأم العادية... أم أن هذه الأم هي الوطن؟ إنهما معاً، ممتزجان ذائبان في كأس واحدة... بل إن الصورة هنا أقرب إلى صورة الوطن منها إلى صورة الأم الحقيقية... وهكذا، فالوطن والأم والحبيبة يخضعون جميعاً لقانون تخلقه المحنة وتؤكده، إنه قانون: "الكل في واحد"... فكل شيء معرض لنفس التجربة المرة، ولنفس الحرمان والخطر... ولا فرق في ظل هذه الظروف بين أي حبيبة، وأي أم، وأي جزء من أرض الوطن. وما ينطبق على الحبيبة والأم، ينطبق على الأخت. إن محمود درويش عندما يحدثنا عن أخته، فإنه سرعان ما ينسى الأخت الحقيقية، ويتصور وطنه مجسداً في شخصية هذه الأخت وفي وجهها... في قصيدة له بعنوان: "أهديها غزالاً" يقول، والحديث هنا عن أخته:

"أبي من أجلها صلى وصام
وجاب أرض الهند والإغريق
إلها راكعاً لغبار رجليها
وجاع لأجلها في البيد... أجيالاً يشد النوق
وأقسم تحت عينيها
يمين قناعة الخالق بالمخلوق
تنام، فتحلم اليقظة في عيني مع السهر
فدائي الربيع أنا وعبد نعاس عينيها
وصوفي الحصى والرمل، والحجر
سأعبدهم، لتلعب كالملاك، وظل رجليها
على الدنيا، صلاة الأرض للمطر"

هنا أيضاً تمتزج صورة الأخت امتزاجاً كاملاً بالوطن.. فالأخت التي تحتاج كل هذا الحب، وكل هذه الحماية، وكل هذا الحنان.. والتي من أجلها يتصوف الشاعر في الرمل والحصى والحجر.. هذه الأخت، هي أخت محمود درويش ووطنه في نفس الوقت.

وفي شعر محمود درويش، إلى جانب هذا التوحيد والامتزاج والذوبان بين المعاني المختلفة، ظاهرة أخرى ترتبط بالظاهرة الأولى أشد الارتباط... هذه الظاهرة الجديدة هي الإحساس "بالأسرة" إحساساً عاطفياً متيقظاً، متحفزاً على الدوام لمواجهة الخطر الذي يتوقعه الشاعر في كل لحظة.. إن تجربة "الأسرة" في شعر محمود درويش هي تجربة روحية فذة، وهي ـ كما تظهر في شعره ـ تبدو من أعمق وأبرز التجارب الروحية التي عبر عنها شعرنا العربي الجديد. إنها تجربة دائمة الحضور في وجدان الشاعر. فهو يتحدث كثيراً عن أمه وأبيه وجده وأخته، وكل ما يتصل بهذه العناصر البشرية التي تتكون منها الأسرة مادياً وعاطفياً.

ولكن ما هو معنى الأسرة عند محمود درويش؟.. هل تقتصر على ذلك المعنى الضيق المحدود؟ هل تدور في حدود الصور العائلية البسيطة المألوفة؟ إن أول ما يؤديه معنى "الأسرة" في شعر محمود درويش، هو أنه يغذي شعور الفنان بالانتماء، وهو شعور يحتاج إلى تغذية مستمرة دائمة عنده، وعند أي عربي يعيش في ظل الإرهاب الإسرائيلي الذي يريد أن يقطع كل ما للعرب في داخل إسرائيل من جذور.. فالمقطوع من جذوره يمكن أن ينتهي ويذوب في المجتمع الجديد بلا ندم ولا مقاومة، ومن هنا فإن محمود درويش يستحضر في شعره على الدوام كل ما يذكره ويؤكد له أنه ينتمي إلى جذور أصيلة، وأنه ليس شبحاً هائماً، ولا نباتاً مقطوعاً وملقى به في رمال الصحراء.

والأسرة عند محمود درويش هي أسرة ممزقة تحاول أن تلتئم، وهي أشبه بجثة أوزوريس التي تحدثنا الأساطير المصرية القديمة أنها تمزقت بيد إله الشر "ست".. ولكن إيزيس الوفية ظلت تبكي وهي تناضل حتى استطاعت أن تعيد الأجزاء المبعثرة من الجثة، وأن تعيد الروح إلى الجسد الممزق، جسد أوزوريس العزيز، والأسرة كما يحدثنا عنها محمود درويش، هي هذا الجسد الممزق، الذي يبدو شعره دموعاً حوله وبكاء عليه ونضالاً من أجل أن تدب فيه الحياة وتعود إليه الروح. وفكرة الأسرة التي تمزقت هي "معادل فني" حلو وعميق لمأساة فلسطين.. فتشعب فلسطين في الرؤية الوجدانية للشاعر هو أسرة تمزقت، ومحاولة الالتئام بين أفراد الأسرة هي محاولة العودة والرجوع والتوحد بين أفراد شعب فلسطين. والأسرة كما يصورها محمود درويش تبدو أسرة عاطفية، مليئة بالمشاعر الكبيرة النبيلة.. إنها تعيش في ظل حب جارف يسيطر على أفرادها سيطرة كاملة، ويكفي أن نقرأ هذه الأبيات التي تصور حب الشاعر لأمه:

"أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر فيّ الطفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متّ
أخجل من دمع أمي"

هذا حب جارف عميق، بل نوع من التصوف والعبادة، ومن يستطيع أن ينكر على المشاعر مثل هذه العبادة العاطفية؟.. من يستطيع أن ينكر عليه كراهية الموت "لأنه يخجل من دمع أمه"؟.. إن هذا النوع من الحب الجارف الذي يصوره محمود درويش، في عواطفه الخاصة أو في عواطف العائلة الفلسطينية، هو وحده الطريق إلى الالتئام والعودة ودواء الجرح... فحبه الجارف الكبير لأمه، حب إيزيس لاوزوريس، هو نوع من الحب لابد منه ليكون غذاء للنضال، وغذاء لقضية مثل قضية شعب أصابه ما أصاب شعب فلسطين. إن هذا الحب الجارف العنيف هو تعويض ورد على الكراهية الجارفة ضد فلسطين وشعب فلسطين... هذه الكراهية التي يجسدها كيان إسرائيل.

على أننا نكاد نجد معاني عاطفية محددة تدور حول الأم والأب والأخت في شعر محمود درويش، بالإضافة إلى ما يؤكده الشاعر دائماً من امتزاجهم لمعنى الأرض والوطن، وبالإضافة إلى ما يوحي به في شعره من أن ذكر الأم والأب والأخت وحتى الجد إنما هو نوع من التركيز والتجميع العاطفي الذي يؤكد للشاعر معنى الانتماء، في بيئة تريد أن تجرده من هذا الانتماء وتحرمه منه... بالإضافة إلى هذا كله فإننا نجد معاني محددة أو شبه محددة للعناصر البشرية التي يشير إليها محمود درويش في شعره... فالأم في قصائده صامتة مثل الأرض، إن تكلمت فبالدموع والنظرات، ولكنها تملك سيطرة عاطفية لا حدود لها على الآخرين: عن طريق صمتها وحزنها وضعفها. والأخت هي التي تثير عاطفة خاصة، عاطفة الحنان والرغبة الحارة في حمايتها من أي مكروه، ووقايتها من أي جرح. ففي قصيدة له يقول عن أخته التي تستثير في نفسه كل عواطف الحماية والحنان ورد الأذى عن وجهها ونفسها ويديها:

"حرير شوك أيامي، على دربي إلى غدها
حرير شوك أيامي
وأشهى من عصير المجد ما ألقى لأسعدها
وأنسى في طفولتها عذاب طفولتي الدامي
وأشرب كالعصافير الرضا والحب من يدها"

وإذا تركنا أخته وأمه، وبحثنا عن معنى الأب في شعره، وجدنا الأب عنده صورة ناطقة حية تمثل الحكمة والماضي والتراث، وهي التي تشد الشاعر إلى أرضه وأهله وتفرض عليه ألا يبتعد أو يهرب من ذلك العذاب الذي يعانيه فوق هذه الأرض... إن الأب هو صوت الأجيال الراحلة، تلك التي عاشت على الأرض الفلسطينية جيلاً بعد جيل. والأب هنا يتكلم ـ من وراء قصائد محمود درويش الشفافة ـ وهو يملك المعرفة الكاملة بحقيقة المأساة، فقد عاشها ولم يروها له أحد... وهو أيضاً يملك ثقة كاملة، تكاد نكون ثقة دينية فوق كل مناقشة عقلية أو رؤى واقعية، ثقة دينية بأن الأرض: لابد.. لابد أن تعود.

ربما كان جيل محمود درويش صغيراً جداً عندما وقعت الكارثة فأحس بضجيج ما حدق ولكنه لم يدرك معناه، أما أبوه فقد رأى كل شيء وعرف كل شيء.

ويظهر دور الأب في شعر محمود درويش أيضاً كرد أصيل على عدد من الحالات النفسية التي تنتاب الشاعر وتسيطر عليه، ومن أهم هذه الحالات: حالة الضيق واللهفة على الهجرة بطريقة ما.. فعندما يصل الشاعر إلى حافة اليأس أحياناً، يتراءى له أنه لا يستطيع البقاء هو وأمثاله في هذه الأرض التي تعذبه وتضنيه... لابد أن يتركها ويبحث لنفسه عن مكان آخر وجذور أخرى، إنه يبحث عن الخلاص الفردي، بعد أن تسرب إليه شك في انتصار قضيته، وكان الشاعر من قبل يظن أن خلاصه الفردي في خلاص الوطن كله... هنا يظهر صوت الأب: عميقاً واثقاً. إن الأب هو شعاع ضوء أو شمعة في ظلام الشك واليأس. والأب ينادي فتاه: لا ترحل، تمسك بالأرض والتراب، أحمل صليبك على كتفيك، فلقد تحمل أيوب عذاباً ما بعده عذاب ثم انتصر على عدوه عندما انتصر على نفسه وعلى يأسه. إن الأب هو الذي يعيد الفتى الحزين الراغب في الرحلة والهجرة إلى جذوره الثابتة.

في قصيدة "أبي" يكشف محمود درويش عن هذا الدور الذي يقوم به الأب بالنسبة لجيله من الشباب الذي تفتحت عيناه على الحياة بعد مأساة 1948:

"غض طرفاً عن القمر
وانحنى يحفر التراب
وصلى لسماء بلا مطر
ونهاني عن السفر
ويقول في القصيدة نفسها:
وأبي قال مرة
حين صلى على حجر:
غض طرفاً عن القمر
واحذر البحر... والسفر
ثم يقول في ختام القصيدة:
وأبي قال مرة:
الذي ماله وطن
ماله في الثرى ضريح
... ونهاني عن السفر"

ومن خلال هذا الصوت العميق الأصيل، صوت الأب، زرع الفتى جذوره من جديد في أرض المأساة، أملاً في أن يثمر الزرع الجديد نصراً وحرية ووطناً غير حزين وأسرة ملتئمة غير مجروحة ولا ممزقة.

ويجد الشاعر تحت تأثير صوت أبيه شجاعة الاستمرار، ومواصلة البقاء في الأرض، والسير على الأشواك، ولذلك فإنه، بناء على إلحاح صوت الأب وقوة تأثيره، يرفض أي سفينة نجاة تريد أن ترحل به وتحمل إليه الخلاص الفردي من الطوفان... لقد أحس بفضل صوت أبيه أن النجاة من الطوفان هي في مواجهة الطوفان:

"يا نوح!
هبني غصن زيتون
ووالدتي... حمامة
إنا صنعنا جنة
كانت نهايتها صناديق القمامة
يا نوح!
لا ترحل بنا
إن الممات هنا سلامة
إنا جذور لا تعيش بغير أرض
ولتكن أرضي... قيامة"

فالموت إذن على الأرض، في مواجهة الطوفان، أهون من الرحيل والابتعاد والسفر والهروب.

هذه هي أسرة محمود درويش: إنها شعبه وأهله وسر نضاله وحرارة حبه وحماسه، وهي القوة الروحية التي تدعوه إلى أن يتمسك بأرضه كلما استبد به اليأس وأوشك أن يدفعه إلى أن يترك القضية والأرض والأمل جميعاً.

وفي شعر محمود درويش نلتقي بمجموعة كبيرة من الرموز أهمها وأكثرها تكراراً: رمز الصليب، فهذا الرمز يظهر في معظم قصائد محمود درويش، وللشاعر في ذلك مبررات فنية وفكرية كبيرة، أهمها ولاشك: أنه يعيش على أرض فلسطين. وفلسطين هي أرض المسيح. وقد اقترنت مأساة المسيح بالصليب الذي أراد اليهود أن يصلبوه عليه، فالصليب يقترن بفلسطين القديمة، وهو يقترن أيضاً بفلسطين المعاصرة، لأن اليهود يريدون أن يصلبوا فلسطين وكل شيء فيها ويقضوا عليها وعلى أهلها، ومن حق شاعر يعيش في هذه المأساة حياة يومية، حيث يتعرض هو وأهله ومواطنوه لمحاولات الصلب كل يوم بلا رحمة... من حقه أن يعبر عن مأساته برمز الصليب. ويكفي أن نشير في هذا الميدان إلى ما يقوم به اليهود من محاولة لعزل العرب في داخل المدن بطريقة غير كريمة، فهم يحيطون الأحياء العربية بالأسلاك الشائكة ويطبقون عليهم قوانين عسكرية خاصة، ويمنعونهم من مغادرة أحيائهم، وفي هذه الأحياء نفسها يكون للعرب مدارسهم الخاصة ومحلاتهم الخاصة وما إلى ذلك. والغريب أن هذا هو الأسلوب الذي كانت النازية الألمانية تلجأ إليه في معاملتها لليهود، وهكذا نقل اليهود أساليب التعذيب والإرهاب النازية ليطبقوها في معاملتهم للعرب، وهم بذلك تلاميذ حقيقيون للإرهاب النازي مهما ادعوا عكس ذلك وذرفوا الدموع على ما أصابهم من اضطهاد النازية واستنزفوا ملايين "الماركات" من جد الألمان تعويضاً عن هذا الاضطهاد.

ورمز الصليب على كل حال هو رمز عالمي، ولا يمكن أن نستنكر هذا الأمر، إلا في حالة واحدة هي: أن يكون رمزاً مصطنعاً مفتعلاً مبنياً على مجرد الترديد والتقليد... وهذا هو ما ظهر فعلاً عند بعض الشعراء العرب المعاصرين، حيث كانوا يصطنعون رمز الصليب بمناسبة وبدون مناسبة، وكان ذلك افتعالاً يثير السخط والضيق، أما محمود درويش فيستخدم رمز الصليب استخداماً فنياً صحيحاً وفي موضعه... إن رمز الصليب عند هذا الشاعر الشاب هو رمز تبرره مأساة الشاعر ومأساة الوطن، ويبرره أن هذا الوطن بالذات يستدعي وأكثر من أي تجربة وطنية أو إنسانية أخرى. إن الصليب الذي كان معداً للمسيح قد صلبت عليه فلسطين، والذين فعوا ذلك هم أيضاً أعداء المسيح: اليهود.

ومحمود درويش يعتبر أحد شعراء خمسة من الجيل العربي الجديد استخدموا رمز الصليب، فأحسنوا استخدامه وهم: بدر شاكر السياب، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي... وأخيراً محمود درويش. وفي اعتقادي أن محمود درويش هو أقرب هؤلاء جميعاً ـ بحكم تجربته ومأساته ـ إلى الإقناع الفني والوجداني عندما يستخدم رمز الصليب وما يتصل به من بقية الصورة المعروفة: تاج الشوك على الرأس، والمسامير في اليدين. وذلك لأن محمود درويش يعيش مأساة كبيرة حقاً، وهي مأساة معادلة لمأساة الصلب وتيجان الشوك والمسامير في اليدين. يقول محمود درويش في قصيدته "صدى من الغابة":

"من غابة الزيتون
جاء الصدى
وكنت مصلوباً على النار
أقول للغربان: لا تنهشي
فربما أرجع للدار
وربما تشتي السما ربما
تطفئ هذا الخشب الضاري
أنزل يوماً عن صليبي
ترى...
كيف أعود حافياً... عاري؟!"

وليست صورة الصليب في شعر محمود درويش قاصرة على هذه القصيدة، أو على عدد محدود من قصائده، ولكنها صورة تسيطر على وجدانه وتملأ معظم أشعاره. ولعل من اكتمال صورة هذا الشاعر أن تقول: أنه يتحرك بروح دينية مقاتلة... ليست روحاً صليبية تقوم على إشعال الخلاف بين الأديان، وخلق المعارك بين أهل هذه الأديان، حيث تكون الأديان في العادة تغطية لمصالح أخرى عملية ومادية كما حدث في الحروب الصليبية ضد العرب والمسلمين، فلقد كانت جيوش الصليبيين في الواقع جيوشاً استعمارية تريد المكاسب والغنائم، ولم تكن ترفع راية الدين إلا للتغطية والتمويه... ليست الروح الدينية عند محمود درويش روحاً صليبية متعصبة لدين ضد دين، ولكن روحه الدينية هي روح إنسانية شفافة، ولذلك نجد في شعره محاولة لتفسير الدين تفسيراً نضالياً، فهو يقول على لسان المسيح بعد أن عرض الشاعر على المسيح شكواه:

أقول لكم... أماماً أيها البشر!
فالمسيحية في وجدانه هي دعوة إلى التقدم ودعوة إلى النضال والوقوف في وجه الآلام الكبيرة و... "ما جئت أحمل سلاماً لهذه الأرض وإنما جئت أحمل سيفي على الظلم". وهذا التفسير المناضل نفسه يقدمه الشاعر للإسلام، فهو يقول على لسان محمد مستوحياً رسالته وتاريخه المليء بالنضال والمقاومة:

"تحدَّ السجن والسجان
فإن حلاوة الإيمان
تذيب مرارة الحنظل"

إن محمود درويش شاعر كبير يستحق وهو في محنته اليوم يعاني آلام الحياة في سجون إسرائيل أن نجعل منه قضية ذات دوي كبير. إنه مقاتل وفنان وصاحب رسالة عادلة، وهو مليء بالحيوية: أن قيدوا جسده فهو ثائر بروحه، وإن غاب عن الوعي فبالإلهام والأحلام يكون كفاحه. ومن النادر أن يعتريه اليأس لأنه جعل نفسه جزءاً من تراث النضال، والذي يفعل ذلك لا يخشى اليأس، فهو يشعر دائماً أنه واحد ن مناضلين آخرين يملأون الأرض في عالمنا المعاصر، أو مناضين سبقوه، فليس هو في نظر نفسه أول سجين، وليس أول من تعرض للتعذيب... وحتى لو هددوه بالقتل فإنه يقول لنفسه: لست أول شهيد... ومثل هذه الروح ترفع المناضل إلى مستوى الشهداء الحقيقيين وتؤكد له ولغيره عدالة قضيته وتفاؤله الكبير، وثقته في أنه لا نهاية للنضال العادل إلا أن ينطلق الشاعر ويتحرر من كل قيد... ويغني:

"مليون عصفور
على أغصان قلبي
يخلق اللحن المقاتل"

هذه هي بعض الخطوط العامة في ملامح محمود درويش: فناناً ومفكراً وشاعر مأساة... وسوف تزداد شخصية محمود درويش أمامنا وضوحاً كلما استطعنا أن نحصل على المزيد من شعره الذي يكشف لنا عن فكره ونفسيته وتطوره الفني.

ولكننا الآن بحاجة لأن نتساءل: إذا كان محمود درويش يعيش اليوم داخل سجن إسرائيلي... فلماذا لا نجعل منه قضية يحس بها العالم كله؟ لماذا لا نقوم بمحاولة عالمية لإنقاذ محمود درويش؟.. إن مثل هذه المحاولة لن تكون ضجة مفتعلة، فهي تتصل بقضية عادلة لأنها قضية شاعر كبير يتعرض لاضطهاد بسبب أدبه وفنه ورأيه، وهي قضية عادلة من ناحية أخرى لأنها تتصل بالقضية الأم... قضية فلسطين. وقد يقول قائل: هل تثور ونغضب من أجل شاعر واحد في أحد سجون إسرائيل... مهما كانت قيمة هذا الشاعر وأهميته، ونحن الآن أمام محاولة عدوانية لاعتقال ما يقرب من مليون ونصف مليون عربي داخل أسوار إسرائيل بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) سنة 1967؟ إن هذا الاعتراض يمكن أن يكون معقولاً لو أننا اعتبرنا قضية محمود درويش قضية فردية، ولكن الحقيقة أن إثارة قضيته عالمياً سوف تخدم القضية الكبرى، وسوف تساعد الجهود الأخرى المبذولة في كل مكان من أجل هذه القضية العادلة، ومن أجل النصر فيها... هناك جهود تبذل على المستوى السياسي، وجهود تبذل على مستوى الجماهير العادية في العالم كله... فلماذا لا تكون هناك محاولة أخرى لتجميع المثقفين من رجال الفكر والفنانين والكتاب حول هذه القضية؟... إن المثقفين يلعبون دوراً خطيراً إلى أبعد الحدود في التأثير على الضمير العالمي سواء كان ذلك التأثير متصلاً بالجانب السياسي للقضايا العالمية، أو متصلاً بموقف الرأي العام الدولي من هذه القضايا المختلفة... فالمثقفون هم في الحقيقة الذين يقودون الضمير العالمي ويؤثرون في أحكامه وفي رؤيته للأمور وحكمه عليها. وصوت برتراند راسل الآن على سبيل المثال، هو أقوى من أي صوت آخر في العالم كله... كل ذلك لأن هذا المفكر العظيم الذي تجاوز التسعين من عمره قد رصد نفسه نهائياً لخدمة السلام العالمي، وللدعوة من أجل نجاح هذه القضية العظيمة العادلة. وإذا كان أبناء فيتنام ما زالوا صامدين في وجه العدوان الأميركي، ومازالوا قادرين على التصدي الصابر الحاسم لهذا العدوان... فلا شك أن من بين عناصر صمودهم: عطف الرأي العام العالمي عليهم، وقد كسبوا هذا العطف بجهود متعددة من أهمها وأبرزها تلك المحاكمة التي أقامها برتراند راسل للرئيس الأميركي جونسون... وفضح فيها التدخل الأميركي في فيتنام. لقد كانت هذه المحاكمة فرصة واسعة وواضحة أمام الرأي العام العالمي ليعرف كل شيء عن هذا العدوان الأميركي... وليكره كل شيء فيه وينكره...

وهناك أمثلة عديدة أخرى تكشف عن أهمية تحويل مثل هذه القضايا إلى قضايا عالمية... هناك على سبيل المثال قضية الصحفي والمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه مؤلف كتاب "ثورة في الثورة". فكما يقول الأستاذ الياس سحاب في مقال له عن هذا الصحفي المفكر: "إن ريجيس دوبريه السجين في بوليفيا أصبحت قضيته قضية دولية بفضل ملاحقة نفر من أصدقائه لدرجة أن الحكومة البوليفية ألغت قرارها بمنع دوبريه من تسلم الرسائل التي تأتيه من الخارج، خوفاً من نقمة الرأي العام العالمي، ثم اضطرت لسجنه بدلاً من اغتياله، لأن الرأي العام العالمي عرف أنه حي، فأصبح قتله بعد ذلك مدعاة لإثارة ضجة عالمية لا يتحمل آثارها النظام المهلهل في بوليفيا".

ولاشك أن موت شاعر كبير مثل "فردريكو جارسيا لوركا" في الحرب الأهلية الإسبانية، كان بقعة دم التصقت بأنصار الاستبداد وأعداء الشعب الإسباني الذين استعانوا بكل الوسائل الإرهابية للقضاء على حرية الإسبان وثورتهم... لقد كان دم "لوركا" تهمة زلزلت سمعة فرانكو وأنصاره خلال الحرب الأهلية الإسبانية... ولا يزال هذا الدم ـ وسيظل ـ عالقاً بتاريخ الذين أسالوه.

وموقف ألمانيا النازية من الثقافة والمثقفين كان من بين الأسباب التي حطمت سمعة النازية وفضحتها أمام العالم كله... لقد كانوا يحرقون كتب كبار الفنانين والمفكرين، وكان أحد المسؤولين النازيين يعلن بجرأة وصفاقة تلك العبارة المشهورة: "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي"، ولم يكن النازيون يشعرون بالخجل من مثل هذه الكلمات والمواقف أيام قوتهم وسيطرتهم وتصورهم الجنوني: إن صفحات التاريخ تمر تحت أقدامهم، وإنهم يستطيعون أن يفعلوا ما شاءوا لأنهم سوف يكتبون تاريخ البشرية كلها من جديد على هواهم.

ولكن النازية انهارت وسقطت بأخطائها في حق الإنسان والحضارة، وعلى رأس هذه الأخطاء بل والجرائم: موقف النازية من الثقافة والفن والفكر.

وقد أصبح من الضروري الآن، بعد أن قطعنا هذه المرحلة من نضالنا الطويل، ألا نرفض التعلم من أعدائنا ما دام هناك ما يجب أن نتعلمه.

ففي الحركة الصهيونية ظاهرة لها مغزاها ـ وهذا ما ينبغي أن نتعلمه ـ وهي أن هذه الحركة قد اعتمدت اعتماداً جوهرياً على الدعوة الأدبية والدعوة الثقافية عموماً. فقد أبرز الصهيونيون إبرازاً لا حد له: موقف النازية من الكتاب اليهود والفنانين اليهود... لقد أبرزوا على سبيل المثال ما فعلته بمؤلفات "كافكا" حيث أحرقها النازيون ومنعوا قراءتها وتداولها وأصبحت من المحرمات بالنسبة للألمان، كما أبرزت الحركة الصهيونية موقف النازية من كتابات توماس مان وستيفان زفايج وغيرهما من الكتاب اليهود، وكان لهذه المواقف التي اتخذتها النازية دورها المزدوج، فهي من ناحية قد أثارت السخط على موقف النازية من اليهود، ومن ناحية أخرى أثارت نوعاً من العطف على اليهود بطريقة دفعت الصهيونية إلى استغلال هذا العطف ومحاولة استثماره في الميادين السياسية والاقتصادية.

إلى جانب ذلك كله فقد تعود الصهيونيون الاهتمام الواسع بالأدب الذي كتب عنهم وعن قضيتهم، مثلما فعلوا مع قصة "أكسودس" والتي كتبها "ليون أوريس"... فقد تحولت هذه القصة إلى فيلم تكلف الكثير وأثيرت حوله ضجة دعائية ضخمة، كما طبعت من هذه القصة طبعات عديدة، وساعد الصهيونيون على انتشار ملايين النسخ منها بصورة هائلة في العالم كله. وفعل اليهود ذلك أيضاً في رواية "دافيد الروي" التي كتبها السياسي الإنكليزي دزرائيلي، والذي كان واحداً من أبرز رؤساء الوزارات الإنكليزية في القرن الماضي... لقد روج الصهيونيون لهذه النماذج الأدبية وغيرها ترويجاً مادياً ومعنوياً لاحد له.

هذا هو ما يقوم به الصهيونيون نحو قضيتهم... إنهم يستغلون كل ما يمكن أن يؤثر في الضمير العالمي وذلك لخدمة أهدافهم، وليس هناك أي افتعال أو بعد عن حقائق التاريخ عندما نقول: إن الحركة الصهيونية من الناحية السياسية قد سبقتها بوقت طويل حركة أدبية واسعة تدعو إليها وتمهد الطريق أمامها وتنشر القيم التي تؤمن بها.. وقد صاحبت هذه الحركة الأدبية قيام إسرائيل واستمت معها، وما زالت الحركة الصهيونية تحاول التأثير على مراكز القوة الثقافية في العالم كله، وكان آخر هذه المحاولات ذلك النصر الذي حققته عندما تقرر منح جائزة نوبل عام 1967 لأديب إسرائيلي، ليس معدوداً على الإطلاق من كبار أدباء العصر، وقد حصل هذا الأديب واسمه "يوسف عجنون" على الجائزة تحت ضغط صهيوني على لجنة جائزة نوبل التي أثبتت مراراً أنها قابلة للتأثير، وأنها خاضعة للنفوذ السياسي الغربي، وليست لجنة حرة تعتمد على مبادئ أمينة وصادقة في مواقفها المختلفة.

هذا هو ما تفعله الحركة الصهيونية بقضيتها التي لا تقوم على العدل ولا على الحق... فماذا ينبغي علينا أن نفعله، نحن أصحاب القضية العادلة الحقيقية البعيدة عن التزييف أو التزوير التاريخي، إن من واجبنا ألا نترك فرصة سليمة دون استغلالها لكسب العالم معنا.

وهذه فرصة لنا ولقضيتنا ولاشك، وليست فرصة لأعدائنا... أن تضطهد إسرائيل شاعراً موهوباً أصيلاً مثل محمود درويش وأن تصادر حركة أدبية كاملة هي حركة شعراء المقاومة في الأرض المحتلة، هذه الحركة التي تسللت إلينا بعض نماذجها الشعرية من وراء الأسوار، وبرزت فيها أسماء أخرى إلى جانب محمود درويش مثل: سميح القاسم، وتوفيق زياد، وحبيب قهوجي.

إن باستطاعتنا بل ومن واجبنا أن نجعل اعتقال محمود درويش وتعذيبه في إسرائيل قضية مشتعلة في أوساط المثقفين في شتى أنحاء العالم. وذلك بالطبع يقتضي منا أن نبذل جهداً في ترجمة قصائد هذا الشاعر الموهوب، ومن الواضح ـ كما قلت في البداية ـ أنها قصائد ذات مذاق إنساني يمكن أن يحس بها الناس في أي مكان وأي بيئة. وهذه المهمة يجب أن تتبناها مؤسساتنا الثقافية المختلفة، فمن طريق اتحاد كتاب فلسطين، واتحاد الأدباء العرب، والمجلس الأعلى للآداب والفنن بالقاهرة، والمكتب الدائم لكتاب آسيا وأفريقيا... عن طريق هذه المؤسسات الثقافية كلها يجب أن نترجم قصائد محمود درويش وننشرها في أنحاء العالم، خاصة وأن هذه المؤسسات الثقافية العربية كلها ذات اتصالات عالمية واسعة يمكن عن طريقها أن تتحول قضية محمود درويش إلى قضية تهز ضمير المثقفين في كل أنحاء العالم.

ومن الممكن بالطبع أن تساهم منظمة تحرير فلسطين في تبني قضية هذا الشاعر والمساعدة على توضيحها وشرحها بين المثقفين عن طريق مكاتب المنظمة في العالم كله. ومن خلال قضية محمود درويش يمكن أن يزداد المثقفون العالميون فهماً للقضية الفلسطينية وقدرة على كشف حقيقة إسرائيل. ولقد كان من الضروري أن يسبق ذلك كله محاولة لنشر أشعار محمود درويش بين المواطنين العرب، فمن البديهي أن ما نريد أن نقنع به الرأي العام العالمي يجب أن نكون نحن مقتنعين به أولاً، وهذه هي المحاولة التي تبدأها "دار الآداب" اليوم حيث تقدم النص الكامل لديوان "عاشق من فلسطين" إلى القراء العرب (وسيتضمن هذا النص كذلك جميع القصائد الجديدة التي نظمها الشاعر محمود درويش بعد نكسة 5 حزيران، وأرسلها من سجنه إلى الأستاذ غسان كنفاني في بيروت، وسيقدم ريع هذا الكتاب لأبناء الشهداء الفلسطينيين).

المهم أن نأخذ القضية بصورة جادة وأن نعتبرها قضية ساخنة لا تحتمل التأجيل والكسل، والمهم أيضاً ألا تكون هذه السطور عند الذين يقتنعون بها في مؤسساتنا الثقافية المختلفة مجرد كلام في الهواء.

لأن من أبأس عيوبنا أن نتحمس بسرعة ثم ينطفئ الحماس ويتحول إلى أمينات وذكريات، وكلمات لا معنى لها، ثم تضيع كل هذه القضايا البسيطة الواضحة التي يمكننا من خلالها ـ رغم بساطتها ـ أن نصل بصوتنا إلى ضمير الدنيا كلها، ونؤثر في هذا الضمير... كل ذلك نستطيع أن نحققه من خلال لوحة جميلة أو قطعة موسيقية أو قصيدة أو قضية شاعر سجين مثل محمود درويش.

والقضايا الكبرى لا تكسبها معارك الحرب فقط... وإنما تكسبها معارك السلام أيضاً... ربما قبل معارك الحرب. والذي يعرف كيف يكسب السلام هو وحده الذي يستطيع أن يكسب الحرب.

(الآداب، ع2، س16، شباط/ فبراير1968).


أَبعَاد وَمَواقِف فيْ أدَبُ المقاومة الفلسطيني

غسان كنفاني

 

سامي يقف وحده على خشبة المسرح في مسرحية ذات بطل واحد كتبها في الأرض المحتلة شاب اسمه توفيق فياض. إنه يتحدث عن كابوس يلم به، وفجأة يتوقف، ينظر ناحية الجمهور ويتفحص الجالسين بارتياب، ويقول مشيراً إلى الجمهور باستغراب:

"ماذا؟ أنتم؟ ألا تزالون هنا؟ ماذا تفعلون هنا بحق الشيطان؟ أوه! يا للغباء! ظننتم أنني سأترك هذا البيت لكم؟ بل يا للوقاحة! منتهى الوقاحة! كدت أنسى أنكم هنا، كدت أنسى تماماً. ما كان علي أن أفعل... يتحتم علي ألا أغفل عن ذلك مطلقاً، أنكم تحتلون بيتي، تسرقون حريتي، ودون مبرر، دون أن يردعكم قانون عن ذلك، لا. لا. لن أنسى مطلقاً. أعدكم بذلك، إنه لسوء حظكم، ولكنني سأبر بوعدي".

إن هذا الخروج المفاجئ من مجرى المسرحية العادي، المليء بثقل كابوس مشوش ومختلط، يشبه الصدمة الكهربائية، إنه نوع من الاكتشاف يشبه أن تشعل ضوءاً في غرفة مظلمة، فإذا الأمور التي كانت تبدو مشوشة ومختلطة تسقط إلى وضوح مباشر وصاعق.

مسرحية "بيت الجنون" لتوفيق فياض علامة بارزة في أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فهي شكلاً ومضموناً، أكثر من صرخة شجاعة إنها تفسير وموقف ونبوءة، فالبطل سامي وحده هو بطل المسرحية، وكلمة "وحده" ليست رفاهاً تكنيكياً في المسرحية، ولكنها إعلان عن الموقف بالشكل، والجمهور الذي يواجهه البطل طرف في صلب المسرحية. وحين يقف على مقدمة المسرح يواجه فجأة ظاهرة غريبة فيقول بارتياب:

"لماذا تنظرون إليَّ هكذا؟ لماذا تتخذون جميعكم نفس الهيئة حين أنظر إليكم؟ أو أحدثكم؟"

إن سامي، مدرس التاريخ والأدب، المطرود من عمله يعيش في غرفته الصغيرة كابوساً مروعاً، بينه وبين نفسه ثمرة اختلاط إلى الأمور يأخذ طابع الجنون، ولكنه حين يواجه "المتفرجين" تتضح الأمور أمامه كأنما بفعل السحر، ويأخذ حواره مع نفسه طابع الوضوح والمباشرة، والمباشرة هنا ليست ضعفاً في الأداء الفني ولكنها ضرورة لها عمقها الخاص، وفي النهاية حين يشعر أنه محاصر بالذين جاءوا ليقبضوا عليه بلا سبب، وبالريح الغريبة، وبالكابوس، يعلن موقفه كما يلي:

"هناك.. أنت.. هل تسمع؟ أنني لا أخافكم، لا أرهبكم، سأتحداكم جميعاً، سأنتصر عليكم جميعاً، وحدي".

ويخرج سامي من الباب، فيما نسمع صوته يدوي "وحدي".
ليس سامي إلا كلمة المقاومة، وليست مسرحية "بيت الجنون" إلا قصتها، فهو رجل معزول، محارب، ملاحق من الخارج ومن الداخل، وإلى حد بعيد مخدوع وممزق ومشوش وشبه يائس، ولكنه في نهاية المطاف يقاتل وحده، ولا يخاف، ويعد ألا ينسى، وحين يطوف رغماً عنه فوق مد الإنسان والظروف وجزرهما، يعود فجأة إلى الرؤيا الواضحة والمباشرة، ويدق نفسه إلى أرضه الحقيقية:

"إنكم على حق، طبيعي أن يضيق المجرم بآثار جريمة، وطبيعي أن يدفعه ذلك إلى ارتكاب جريمة غيرها... حتى يتمكن أخيراً من القضاء على كل ما يذكره بجريمته الأولى".

إنه يدرك ذلك، ويمضي مرة أخرى فيقول:

"ما كان علي إزعاجكم بمشكلة تخصني وحدي، لا أدري... ربما كانت تخصكم أيضاً، بل لا بد وأن تخصكم، إنني لم أدعكم إلى بيتي".

ويشير إلى إحدى الحاضرات بين الجمهور:

"هل تخصك هذه المشكلة؟ أعني، أعني أن تكوني مجرمة، وأن تقضي على كل أثر لجريمتك.. أوه.. لم أقصد، كنت أعني.. أن يكون جنينك من صنع حداد ثم، ثم يميته، طبيعي ألا توافقي!"

ولكن هذا الإنسان الوحيد الذي يواجه منفرداً تحديات داخلية وخارجية، ويعقد العزم على المضي بمعركته إلى نهايتها، لا يخضع على الإطلاق إلى رؤيا مجتزأة أو مصغرة، فسامي نفسه، بطل: بيت الجنون، يتوصل في نهاية المطاف إلى موقف مدرك لجميع أبعاد مسألته، وهو، وإن كان يعد المشاهدين بألا ينسى على الإطلاق أنهم اقتحموا بيته، ويعتبر أن هذا الاقتحام يلقي على أكتافه مهمة عاجلة، إلا أنه لا يخدع نفسه باجتزاء مشكلته على هذه الصورة، وهو بريء ـ بالرغم من تشوشه وثقل الكابوس المباشر الذي يجثم فوق رأسه ـ الأبعاد الأخرى لقضية الاقتحام هذه، ويشير إليها ببراعة متلمساً حدودها المحلية والعربية والعالمية والاجتماعية، أيضاً.

إن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة يتميز بهذه الرؤيا العميقة، ولذلك فهو يقاتل على أكثر من جبهة، وسيكون من المدهش حقاً أن يرى الدارس، في إنتاج أدباء الأرض المحتلة، إدراكاً مبكراً، عبر الشعر والقصة والمسرحية، لكثير من معطيات الموقف الذي اكتشفه الأدباء العرب أو على وشك في مختلف البلاد العربية، على العموم، في أعقاب 5 حزيران (يونيو).

سنرى فيما يلي أن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد ربط ربطاً محكماً بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، واعتبرهما طرفين من صيغة لا بد من تلاحمها، لتقوم بمهمة المقاومة، وقد مضى ذلك الأدب إلى أبعد من هذا، حين أدرك في وقت مبكر أيضاً الترابط العضوي بين قضية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبين قضايا التحرر في البلاد العربية، وفي العالم، وعلى هذه الجبهات جميعها، بكل تعقيداتها، خاض أدب المقاومة في فلسطين المحتلة معركة التزاماته.

لقد اخترنا مثال "بيت الجنون" كنموذج للبساطة الأصيلة التي تتم فيها عملية الربط المعقدة التي أشرنا إليها، فبطلها الوحيد، الذي تتنازعه تحديات متعددة يعود بين لحظة وأخرى ليثبت تلك التحديات جميعها حول محور واحد، هو المواجهة المباشرة مع التحدي الإسرائيلي الأثقل. وبالتالي تغدو كل التحديات المذكورة مربوطة إلى ذلك المحور بجاذبية لا فكاك منها، ولكنها جاذبية ليس من شأنها إلا توضيح أبعاد النزال.

إن هذا الواقع الذي تبلور من تلقائه، خلال تطورات متداخلة، قد أدى بدوره إلى ظاهرة هامة ينبغي ملاحظتها، فالغالبية الساحقة من أدباء المقاومة في فلسطين المحتلة يمدون التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، إنهم منتسبون فعلاً إلى الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى، ويناضلون من خلال تنظيماتها، ويذوقون، في سبيلها، نتائج سياسة القمع الإسرائيلية، لقد بات معروفاً ـ مثلاً ـ أن الشاعر محمود درويش قد أودع السجن مراراً، وأن الشاعر سميح القاسم قد ذاق بدوره مرارة الأحكام العسكرية، وما زال الشاعر حبيب قهوجي، أحد مؤسسي حركة "الأرض"، في المنفى الجبري وقد مارست الحكومة الإسرائيلية ضغطاً متواصلاً على شركة أهلية لتطرد من بين موظفيها الشاعر فوزي الأسمر بسبب شعره، ونضاله السياسي معاً، وتعرض الشاعر توفيق زياد إلى الطرد من وظيفته، وكذلك توفيق فياض، وغيرهم.

ولكن سياسة القمع هذه لم تؤد إلى أية نتيجة سلبية. وفي الواقع فإن شاعراً مثل محمود درويش قد جدد رؤياه وطور أداءه بصورة مذهلة خلال وجوده في السجن، وكذلك فعل سميح القاسم، وأدت سياسة القمع الإسرائيلية التي غالباً ما كانت تغطي نفسها بمحاولات لتفتيت المجتمع العربي في الأرض المحتلة، وتأليبه على بعضه، إلى إدراك متزايد للوجه الاجتماعي في حركة المقاومة. وقد انعكس هذا بصورة خاصة على القصص القصيرة التي تعاملت أولاً مع قضايا التقاليد الكابحة داخل المؤسسة الاجتماعية العربية، ورفضتها، في سبيل تجديد دماء المجتمع العربي، ليكون قادراً على مواصلة مسؤوليات المقاومة، والمضي فيها إلى مداها، وانعكست أيضاً وغالباً، في شعر الشعراء الشبان مع مطالع تجاربهم، وأي رصد لهذه التجارب سيؤدي إلى ملاحظة موحدة تقريباً، وهي أن الشباب يبدأ تجربته غالباً برفض القيود التي يفرضها المجتمع الريفي على علاقات الرجل بالمرأة، أو الأب بالابن، إلا أن هذا الرفض ما يلبث، وبصورة متسارعة، أن يأخذ أبعاده وأعماقه، ويتوصل إلى الارتباط بآفاق التحدي المختلفة التي تواجه المواطن العربي في الأرض المحتلة، ليخرج من ذلك كله بالصيغة النهائية الراهنة، وهي إعطاء أدب المقاومة بعده التقدمي، الاجتماعي، العربي، والعالمي.

وحين يتصفح الناقد شعر محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما، في أوائل عهد هؤلاء الشعراء بنظم الشعر، يلحظ ذلك بصورة واضحة، فشعر هؤلاء لا يتصف فقط برفض عصبي لظاهرة اجتماعية محددة، ولكنه يتصف أيضاً بضعف مثير للدهشة في بنائه الفني.

لسميح القاسم مثلاً، في أواسط الخمسينات، قصائد رومانتيكية عن المرأة، ذات أفق محدود وموقف جزئي وضعف فني ملحوظ، ولكنه بعد سنوات قليلة يسوي بناءه الفكري والفني بصورة فريدة، نلحظها في قصيدته "انتيغونا" ابنة أوديب الشهيرة:

"خطوة، ثنتان، ثلاث
أقدم أقدم
يا قربان الآلهة العمياء
يا كبش فداء
في مذبح شهوات العصر المظلم
خطوة، ثنتان، ثلاث
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث!
يا أبتاه!
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليل
بأشأم كارثة في تاريخ الإنسان
عبر الليل، لنخلق فجر حياة
يا أبتاه!
أن تسمل عينيك زبانية الأحزان
فأنا ملء يديك
مسرجة تشرب من زيت الإيمان
وغداً يا أبتاه أعيد إليك
قسماً يا أبتاه أعيد إليك
ما سلبتك خطايا القرصان
قسماً يا أبتاه!
باسم الله وباسم الإنسان..
خطوة، ثنتان، ثلاث
أقدم... أقدم"

ويعطينا محمود درويش مثالاً أوضح على هذا التطور النوعي، الذي ينمو من تلقائه من خلال الممارسة الفعلية للمقاومة. ففي أواخر الخمسينات يأخذ غضب محمود درويش، شكلاً ومضموناً، الوضع التالي حين يشكو من عسف التقاليد التي تلحق الأذى بالفتاة التي يحبها:

"وتنام أجفان الحياة
إلا بكاء من كئيب موجع
ينسل من أعماق بيت
من بيوت القرية
هي بنت شيخ القرية
تبكي وتصرخ باكتئاب
والسوط محمر الإهاب"

ولكن لنلحظ، بعد سنوات قليلة، تلك القدرة التي لا تصدق يقوم بها الشاعر ذاته:

"لقد تعود كفي
على جراح الأماني
هزي يدي بعنف
ينساب نهر الأغاني
يا أم مهري وسيفي..
يداك فوق جبيني
تاجان من كبرياء
إذا انحنيت انحنى
تل وضاعت سماء
ولا أعود جديراً
بقبلة أو دعاء
والباب يوصد دوني!
على يديك تصلي
طفولة المستقبل
وخلف جفنيك طفلي
يقول: يومي أجمل
وأنت شمسي وظلي"

إن هذه الظاهرة شائعة بصورة تشبه القاعدة، وراشد حسين يتطور على طريقته الخاصة ضمن هذه القاعدة، ففي قصيدة له في أواخر الخمسينات يغازل فتاته بالصورة التالية:

"ونمر في أطيانكم يوماً فيصدفنا أجير
قذر الثياب، فتبصقين على التراب
فأحس في عيني إعصاراً
وفي بدني سعير
وأقول: يا بنت الأمير!
أنا كل شعري للأجير"

وبعد سنوات قليلة سيقفز راشد حسين بدوره قفزة ملفتة للنظر في الشكل والمضمون على السواء، ففي قصيدته "الجياد" يأخذ غضبه ورفضه الصيغة التالية:

"في قرانا بين طيات الدخان يكبر الطفل لكي تكبر بالطفل التهاني
ليقولوا: أصبح المحروس حلماً للحسان
أو عريساً صار، في سن الزواج
ابن فلان
وإذا جيل من العرسان يجتاح بلادي
جيل أطفال كبار، كالجياد
ملأت أذهانهم أشباح تفكير رمادي"
ويمضي يقول، عن الناس:
"همهم أن تلد الزوجة مولوداً ذكر
ليقولوا: إنها بنت أصيل مفتخر
وضعت طفلاً ذكر
وجهه وجه القمر
ليقولوا: زوجها فحل عظيم
رجل..
بعد هذا، ليصيرا ابنهم راعي ذباب"

في الخمسينات سنقرأ شعراً كثيراً، في الأرض المحتلة، يركز تركيزاً متواصلاً على قطاع ضيق من الإشكال الاجتماعي، وفي هذا النطاق ترد أسماء القاسم، والدرويش وحسين، وكذلك فهد أبو خضرة (وهو شاعر موهوب وصاعد لم نعد نسمع عنه)، وأحمد حسين، وعصام عباس، وإبراهيم مؤيد، وغيرهم كثير.

ولكن بعد ذلك بعدة سنوات سيأخذ ذلك التنبه الجزئي أفاقه الأبعد وأبعاده الأعمق، ففي ذلك الوقت المبكر كانت الكارثة الفلسطينية ما تزال حارة، وكان الغضب المجرد، بصورة فاجعة ومذهولة، يطفو إلى السطح، شأنه في ذلك شأن ما حدث في أعقاب 5 حزيران (يونيو) في البلاد العربية حين مضى عدد من الكتاب والشعراء يصبون غضبهم على جبهة جزئية، إلا أن ذلك الغضب ما لبث أن تبلور في صيغة موقف، ومما لا شك فيه أن محمود درويش وسميح القاسم هما طليعة ملفتة للنظر في هذا الشأن.

بالنسبة لمحمود درويش فإن محور المقاومة، كمعركة مباشرة، هو من الوضوح والرسوخ بحيث يطوع موقفه الاجتماعي دون مساومة، وعلى صعيد فني، فإن العائلة، عند محمود درويش هي ذاتها الوطن، وكذلك الحب، والمسألة برمتها، في أبعادها المختلفة التي تكون جوهر حقيقتها، تنسكب في شعره بصورة موحدة راسخة البناء، وربما كان هذا المقطع يلخص الموقف:

"خبئي عن أذني هذي الخرافات الرتيبة
أنا أدري منك بالإنسان
بالأرض الخصيبة
لم أبع مهري
ولا رايات مأساتي الخصيبة"

ولكن محمود درويش يعرف أن هذا الموقف لا يزال جزئياً، ولا بد من استكماله، فيتابع بانسياب تلقائي، واضعاً للبعد الاجتماعي أساسه الأعمق:

"ولأني أحمل الصخر
وداء الحب
والشمس الغريبة
أنا أبكي!
أنا أمضي قبل ميعادي، مبكر
عمرنا أضيق منا
عمرنا أصغر أصغر..
أصحيح يثمر الموت حياة؟
هل سأثمر
في يد الجائع خبزاً
في فم الأطفال سكر؟"

إنه يدعو دعوته الواسعة:

"فاحموا سنابلكم من الإعصار
بالقدم المسمر
هاتوا السياج من الصدور
من الصدور
فكيف يكسر؟
أقبض على عنق السنابل
مثلما عانقت خنجر!
الأرض والفلاح والإصرار
قل لي: كيف تقهر؟
هذي الأقاليم الثلاثة
كيف تقهر؟"

وعلى طريقته الخاصة يقول سميح القاسم الشيء ذاته في قصيدته الطويلة "ارم":

"أبداً على هذا الطريق
راياتنا بصر الضرير، وصوتنا أمل الغريق
أبداً جحيم عدونا، أبداً، نعيم للصديق
بضلوع موتانا نثير الخصب في الأرض اليباب
بدمائنا نسقي جنيناً في التراب
ونرد حقلاً شاخ فيه الجذع، في شرخ الشباب
ونصب في نبض المصانع
للمربى، والحقائب، والثياب
نبض القلوب المؤمنات..
أبداً على هذا الطريق
نذوي فدى أشواق سنبلة على وعد العطاء
ونصيح من فرح غزير الدمع في عرس الفداء:
أبداً على هذا الطريق!
شرف السواقي أنها تفنى فدى النهر العميق!"

ولسميح القاسم، ومحمود درويش قصائد كثيرة هي إعلان صارخ عن انتساباتهم الاجتماعية التقدمية.

أما على صعيد القصة القصيرة، التي لا تزال من حيث مستوى الأداء الفني والانتشار والكم متخلفة عن الحركة الشعرية، فإنه يوجد تركيز أكثر على الوضع الاجتماعي، ويبدو ذلك واضحاً تماماً في قصة قصيرة لعطا الله منصور اسمها "رياض يعود إلى بيته"، وقصة أخرى لزكي سليم درويش اسمها "نقطة دم"، وفي عدد كثير من القصص المماثلة، التي تركز على نقد العلاقات الاجتماعية، في المؤسسة العائلية العربية الريفية ورفضها، أو على الوضع الاقتصادي المتردي الذي يعيشه العربي في فلسطين المحتلة.

إلا أنه من الملاحظ بوضوح أن هذه القصص، التي تشكو في الغالب من تصدع فني كبير, تشكو أيضاً من عجزها عن الوصول إلى المستوى الذي وصل إليه الشعر في فلسطين المحتلة، في نطاق الربط بين الجبهات التي تتصدى لها حركة المقاومة في صيغتها الثقافية.

وسبب ذلك لا يعود فقط إلى أن الشعر وسيلة فنية أكثر رسوخاً وأكثر قدرة على الانتشار وأكثر ملاءمة لهذا الغرض فنياً، ولكن أيضاً لأن وسائل النشر، في الظروف التي يعيشها عرب الأرض المحتلة، لا تسمح بتطور سريع في موضوع القصة بالذات.

  *   *   *

لقد حاولنا إلى الآن أن نقدم عرضاً موجزاً للبعد الاجتماعي في أدب المقاومة، ومن الواضح أن هذا الفصل بين الأبعاد المختلفة التي تكون في مجموعها المترابط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة لم نلجأ إليه، إلا بسبب محاولة استكشاف جوهر هذا الأدب وليس منطلقاته وبنيانه العقائدي، ولكن على صعيد عملي فإن هذا الفصل مستحيل، لأن أدب المقاومة، كما ذكرنا سابقاً، قد توصل من خلال تطور سريع وتلقائي إلى ما يمكن أن نسميه موقفاً واحداً، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤخذ جزئيات هذا الموقف منفصلة إلا لغرض دراسي محض.

وفي الأساس فإن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد حدد دوره بنفسه، وبالنسبة لشعراء المقاومة على وجه الخصوص فإن الشعر سلاح، ما في ذلك شك، ولم تكن كفاءته وجدارته بالنسبة لهم، إلا التزامه بدوره المقاوم الواعي.

بوسعنا إذن أن نقول أن الالتزام بالقضية الوطنية، الالتزام الواعي، هو الإطار الذي استطاع أن يقود خطوات أدب المقاومة في فلسطين المحتلة نحو مسؤولياته دون أن يفقد أي بعد من أبعاده، هذه الأبعاد التي نعود فنقول أنها على تعددها تدور في فلك واحد هو فلك المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ومن هذا المنطلق بالذات سنلاحظ أن شعر المقاومة، مثلاً، على عكس معظم الشعر العربي المعاصر، لا يبدأ بالاستخفاف بقيمة الكلمة في المعركة القاسية، بل يدرك دورها ويقدسه ويعتبره مسؤولية جوهرية لا غنى عنها.

لقد رأينا في هذا النطاق كيف قال محمود درويش في أعقاب هزيمة 5 حزيران:

"هزي يدي بعنف
ينساب نهر الأغاني
يا أم مهري وسيفي"

وهذا الإدراك العميق للعلاقة التي لا غنى عنها بين الأم والمهر والسيف والأغاني والأيدي متوفرة بصورة تثير التقدير في شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة:

فسميح القاسم يبلغ عدوه:

"هذي الحروف المدلهمة   يا سيدي أحزان أمة
وبها أروي غرسة   بلظى جحيمك مستحمه
لأصيد من وادي الأسى   والدمع للأطفال بسمة
لأرد للثكلى ابنها   لأعيد للمفجوع أمه
فأشحذ مداك على جراحي   إنني قربان كلمة!"


ويحدد سميح القاسم ذاته دور شعره ومنطلقاته بصورة أكثر مباشرة:

"من رؤى الأحلام في موسم خصب   ومن الخيبة في مأساة جدب
من دمى الأطفال، من ضحكاتهم   من دموع طهرتها روح رب
من زنود نسقت فردوسها   دعوة فضلى على أنقاض حرب
من جراحات يضري حقدها   ما ابتنى شعب على أنقاض شعب
من دمي، من ألمي، من ثورتي   من رؤاي الخضر من روعة حبي
من حياتي أنت، من أغوارها   يا أغاني! فرودي كل درب"


ويؤكد محمود درويش هذا التقديس لمسؤولية الكلمة، والتزامها بصورة فريدة:

"قصائدنا
بلا لون، بلا طعم، بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح
من بيت إلى بيت"

ويمضي خطوة أخرى في هذه القصيدة بالذات:

"لو كانت هذي الأشعار
إزميلاً في قبضة كادح
قنبلة في كفّ مكافح
لو كانت هذي الكلمات
محراثاً بين يدي فلاح
وقميصاً، أو باباً، أو مفتاحاً!
أحد الشعراء يقول:
لو سرت أشعاري خلاني
وأغاظت أعدائي
فأنا شاعر!
وأنا سأقول!"

ويقول في قصيدة أخرى عن لوركا:

"هكذا الشاعر، زلزال، وإعصار مياه
ورياح إن زأر
همس الشارع للشارع: قد مرت خطاه
فتطاير يا حجر"

وهو يعرف ثمن هذه المسؤولية:

"رموا أهلي إلى المنفى
وجاءوا يشترون النار من صوتي
لأخرج من ظلام السجن
ما أفعل؟
ـ تحد السجن والسجان
فإن حلاوة الإيمان
تذيب مرارة الحنظل"

ويعرف أكثر من ذلك:

"شدوا وثاقي
وامنعوا عني الدفاتر
والسجائر
وضعوا التراب على فمي
فالشعر دم القلب
ملح الخبز
ماء العين
يكتب بالأظافر
والمحاجر
سأقولها:
في غرفة التوقيف
في الحمام
في الإسطبل
تحت السوط!
تحت القيد
في عنف السلاسل:
مليون عصفور
على أغصان قلبي
يخلق اللحن المقاتل"

ولأنه يعرف قيمة الصوت فإنه يتمسك به تمسكه بالسلاح:

"لكن صوتي صاح يوماً:
لا أهاب!
فلتجلدوه إذا استطعتم
واركضوا خلف الصدى
ما دام يهتف: لا أهاب!"

وأدب المقاومة حافل بهذا الإعلان الواضح عن مهمة لا تحتمل المساومة ولا التمييع، ولفوزي الأسمر موقف مماثل في قصيدة له، اسمها: "المعبد القديم":

"في معبدي القديم لم أزل
أعلم الحروف
أذيبها في مرقد اللهب
أصوغها نغم
أنشودة من العزاء والأمل
ولحنها:
من لحن نارنا وحبنا الكبير
من نور قلبنا المنير
من جرحنا
من جرحنا الذي يلون العبير
من زند ذاك الأسمر الصلب الذي يفجر الصخور
من أرضنا الثكلى، ومن دمع الربيع على الزهور"

إننا نلاحظ مرة أخرى محتويات ذلك الإطار الذي أسميناه الالتزام، ونحن نرى الآن في الأمثلة الثلاثة التي اخترناها كيف يصر الشعراء على أبعاد موقفهم المقاومة الاجتماعية والسياسية في وقت واحد، إنه التزام نحو الوطن والمحرر، من خلال إدراك دور الكلمة لا الاستهانة بها واعتبارها مجرد رفاه.

إن شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة يمضون في ممارستهم للمسؤولية إلى حد أبعد، يلخصه لنا سميح القاسم في قصيدة له اسمها "بطاقة إلى نجيب محفوظ":

"فأغرق في أعماق البئر العذراء
واسق العامل والفران وأولاد الحارة
فالناس ظماء!
أكتب عن شحذ الهمة
وأكتب عن أحلام الأمة
طوبى للحرف الشامخ في الليل مناره
والعار لأبراج العاج المنهارة"

فقضية الالتزام ليست نظرية مجردة، وكذلك ليست قضية التحرير، والرؤيا الواضحة لأبعاد القضيتين كمبادئ وكوسائل لا تحتمل عند أدباء المقاومة في فلسطين المحتلة غموضاً أو تشويشاً أو مساومة، وهذا بالذات ما جعل أدب المقاومة الذي رأيناه في فلسطين المحتلة خلال السنوات العشر الماضية أدباً لا ينوح ولا يبكي، ولا يستسلم ولا ييأس، ولا يناقض نفسه ويمر عبر تشنجات واهتزازات ناتجة عن سوء وعي الموقف على حقيقته، لأن رؤياه لم تكن ارتجالاً عاطفياً، ولكن وعياً عميقاً ومسؤولاً لأبعاد المعركة التي وجد نفسه في صميمها، ولذلك فإنه تجنب ظاهرة الانتكاسات الذاتية الرومانطيكية التي شهدها معظم الشعر العربي في هذه الآونة، والتي نلاحظ أنها تشتد وتأخذ طابع النواح والهستريا والتنصل، كلما كانت تجربة الشاعر ذاته أكثر بعداً عن إدراك أبعاد التزاماته ووعيها في السابق.
فمقابل ما قرأناه جميعاً في الآونة الأخيرة من الشعر العربي، يستقبل توفيق زياد، مثلاً كارثة 5 حزيران بقصيدة يقول فيها:

"يا بلادي! أمس لم نطف على حفنة ماء
ولذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء!"

بهذا الثبات يكتب توفيق زياد قصيدته الرائعة "كلمات عن العدوان"، وهي قصيدة مفعمة بالحزن، ولكنه الحزن الواعي الذي لا يستطيع أن يهدم:

"إنكم تبنون لليوم وأنّا
لغد نعلي البناء
إننا أعمق من بحر وأعلى
من مصابيح السماء
إن فينا نفسنا
أطول من هذا المدى الممتد
في قلب الفضاء"

ومحمود درويش يستقبل كارثة 5 حزيران (يونيو) بذلك الحزن الذي لا يصدق، الذي يرتد فوراً إلى نفس جديد من الإصرار:

"خسرت حلماً جميلاً
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلاً
على سياج الحدائق
.. وما خسرت السبيلا!"

وفجأة يرتد إلى كورس شعبي يشكل خلفية هذا الحزن والتوق، والسد المنيع الذي يتكئ عليه:

"يما مويل الهوى
يما مويليا
ضرب الخناجر ولا
حكم الندل فيا!"

أما سميح القاسم، فيستقبل 5 حزيران (يونيو) بصورة فريدة، في قصيدة عن الفدائي، تنتهي كما يلي، على لسان الفدائي الشهيد:

"يا من ورائي
لا تخونوا موعدي
هذي شراييني
خذوها وانسجوا منها
بيارق نسلنا المتمرد"

إن مثل هذه المواقف لا يمكن أن تأتي بهذه التلقائية لو لم يكن هؤلاء الشعراء قد أدركوا منذ البدء، ليس فقط أبعاد معركتهم التي راهنوا عليها في نهاية المطاف، ولكن أيضاً مدى التزامهم ومعناه وكونه أكثر عمقاً من مجرد تظاهرة شكلية.

*   *   *

إن هذا الكلام يقودنا على التو لمتابعة استكشاف الأبعاد التي التزم بها أدب المقاومة، وقد استعرضنا قبل قليل الالتزام الواعي كإطار هذه الأبعاد، واستعرضنا قبل ذلك الالتزام بالبعد الاجتماعي لمسألة المقاومة، وأمامنا الآن: البعد العالمي، والبعد العربي.

وكما قلنا فإن تجزئة الموقف إلى هذه التفاصيل هدفها تسهيل العرض، وقد رأينا في الأمثلة التي استعرضناها نموذجاً لاستحالة فصل هذه الأبعاد عن مجمل الموقف.

عالمياً يدرك شعر المقاومة التزامه بحركة الثورة في العالم، التي هي في نهاية المطاف المناخ الذي ينمو داخله الحركة الثورية المحلية، تؤثر به وتتأثر منه.

فيما بين أيدينا من أدب المقاومة يلفت نظرنا بصورة مدهشة كمية ونوعية الإنتاج الذي يغني لثورات العالم وقضاياه الحارة، وقد تلخص لنا قصيدة لمحمود درويش اسمها: "أناشيد كوبية" جوهر هذا الالتزام ومعناه:

"أنا لم ألمس قصب السكر
والأرض الخضراء
لم أركب قارب صياد في البحر الكاريبي
لم أضرب قطرة ماء
لم أنزل فندق سياح غرباء
لم أسكر في هافانا من عرق الفقراء
لم أغمس قلمي في جرح البؤساء المحرومين
لم أقرأ أدب الشعراء الكوبيين
لكن عندي عن كوبا أشياء وأشياء
فكلام الثورة نور
يقرأ في كل لغات الناس
وعيون الثورة شمس
تمطر في كل الأعراس
ونشيد الثورة لحن
تعرفه كل الأجراس
والراية في كوبا
يرفعها نفس الثائر في الأوراس
وجذور الثورة مهما مدت أغصاناً
تنبت من نفس المتراس
واللهب الأزرق والأحمر والأخضر
يبدأ من غضب واحد
فتدفأ..
وأصنع لهباً آخر
يا شعباً يشعر بالبرد"

حين قلنا أن أبعاد أدب المقاومة المختلفة يشد نفسه، بجاذبية قوية، إلى محور واحد هو محور المقاومة ذاتها التي يخوضها الأديب المعني، فإنما كنا نقصد تلخيص هذه القصيدة، مجملة. ولكن ليس محمود درويش وحده هو الذي يلتزم شكلاً ومضموناً بهذا البعد الحيوي من أبعاد أدب المقاومة، فثمة قصائد كثيرة لفوزي الأسمر، بهذا المعنى، أبرزها "أنا عبد" موجهة لشعوب إفريقيا، ولسميح القاسم عدة قصائد عن باتريس لومومبا، وإفريقيا، وزنوج أمريكا، وله أيضاً في قصيدته الطويلة "أرم" مقطع اسمه "بطاقات إلى ميادين المعركة"، وهي سلسلة من القصائد القصيرة موجهة إلى المغني الزنجي بول روبسن، وفيدل كاسترو، وسارتر، وكريستوف غبانيا، وثوار الفيتكونغ.

وفي قصيدته هذه، "إلى ثوار فيتكونغ" يقول:

"اسمعها تهدر ملء دمي
أسمعها في الوديان على الغابات على القمم
أسمع صرخات الأحرار وقهقهة الرشاش
أسمع غارات الفاشست الأوباش
وأصيح أصيح بلا صوت:
الموت لآلهة الموت"

ولنلاحظ الآن، هذا الانتقال المذهل:

"وأحس بكفي تتقلص
وأغيب لبرهة
وأحس كأني أتربص
بذئاب الغزو على أرض الجبهة
وأصب على الأشباح النار.. وأبكي"

ويعود في قفزة مماثلة:

"من يجرع في بارات نيويورك الويسكي
من يلقي في المقهى حلوة
من ينشد في الشارع غنوة
من يحرث في أمريكا، من يزرع
من يحرث في فيتنام ويزرع
من يبقى في المصنع
من يبقى؟
يا آلهة الموت الحمقى في أمريكا
يا آلهة الموت الحمقى!"

وفي هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا "بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان"، وقصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد اسمها "أنشودة زنجي" وهي قصيدة تدل على ولادة شاعر جيد، إلا أننا مع الأسف لم نعد نسمع عن إنتاج جديد له.

إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائماً من ميزات شعر المقاومة، ومع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد إلى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه وأعطاه معنى وعمقاً وحافزاً، عكس تجارب كثيرة حدثت في الفترة الماضية في عدد من البلدان العربية.

بهذا المجال يجدر بنا أن نسجل موقفاً لمحمود درويش الذي كان ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" في معظمه، غناء لثورات إفريقيا، والذي غنى لثورات العالم بإخلاص وعمق وتلقائية تبعث على الإعجاب، والذي ـ أيضاً ـ قدم فيما أرى أجود رثاء عربي للشاعر الإسباني الثائر لوركا، تقول، مع ذلك كله ينظر محمود درويش نظرة واعية للمسألة كلها في قصيدته: "عن الأمنيات" حين يقول:

"لا تقل لي:
ليتني بائع خبز في الجزائر
لأغني مع ثائر
لا تقل لي:
ليتني راعي مواشي في اليمن
لأغني لانتفاضات الزمن
لا تقل لي:
ليتني عامل مقهى في هافانا
لأغني لانتصارات الحزانى
لا تقل لي:
ليتني أعمل في أسوان حمالاً صغير
لأغني للصخور
يا صديقي!
أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها
كل فجر، وله موعد ثائر!"

إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه إلى وعي الالتزام بالثورة المحلية، وليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، وهذا الإدراك الذي عبر عنه أديب المقاومة العربي بوضوح ومباشرة وحسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزاً ومسؤولية، في آن واحد.

يضع سميح القاسم هذا المبدأ كما يلي:

"فهناك، في أعماق إفريقيا الجواري والعبيد
فجر يمر بكفه فوق الجباه الشاحبات
ويصب فيها النور والدم والحياة
وهناك في أعماق أمريكا الجريمة والتمزق والضياع
طبل يدق بلا انقطاع
لمدينة تثري وزنجي يباع
وهناك، في الأفق القريب هناك في الأفق البعيد
ليست تتم الأرض دورتها بلا نصر جديد
فاحمل لواءك وامض في هذا الطريق
.. ابدأ على هذا الطريق
شرف السواقي أنها تفنى، فدى النهر العميق"

 *   *   *

ولكن الأمر يختلف، من حيث الكم والنوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، وهو البعد العربي.

إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.

في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دون أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، وكذلك كانت ثورة الجزائر، وثورة اليمن، وبناء السد العالي، وفي هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.

سنجد في قصيدة "بطاقة إلى الأسطى سيد" لسميح القاسم نموذجاً مختصراً وكافياً لما نقصده:

"يا أسطى سيد!
ابن وشيّد
شيد لي السد العالي
أطفئ ظمأ الغيظ الغالي
وامنحنا
وامنح أهلك
كوبا من ماء
وخضاراً وزهوراً وضياء
يا أسطى سيد
أزف الموعد
والقرية في الصحراء العطشى تحلم
والبذرة في الثلم الصابر تحلم
فأدفن أشلاء القمقم
في أشلاء الصخر المتحطم
وابن وشيد
يا أسطى سيد
باسم ضحايا الأهرام وباسم الأطفال
ابن السد العالي!
يا صانع حلم الأجيال!"

إن الاختلاط شديد الوعي، في مهمة الأسطى سيد، حيث لا يعرف القارئ لمن يبني السد العالي، لضحايا الأهرام أم للأرض العطشى، أم للجيل العربي الأسير في فلسطين المحتلة يذكرنا بشيء مماثل في قصيدة أخرى لسميح القاسم نفسه، عن صنعاء، غداة الثورة، حين يغني لصحرائه ولمستقبله.

الشيء ذاته نلحظه في شعر محمود درويش، فهو يبدأ قصيدة طويلة له عن "الأوراس" كما يلي:

"بيتي على الأوراس كان مباحا
يستصرخ الدنيا مساء صباحا
وتراب أرضي من دمي معشوشب
كي يشرب الغرباء منه الراحا"

ثم يقول في القصيدة ذاتها:

"فالوحش يقتل ثائراً
والأرض تنبت ألف ثائر
يا كبرياء الجرح! لو متنا
لحاربت المقابر!
فملاحم الدم في ترابك
ما لها فينا أواخر
حتى يعود القمح للفلاح
يرقص في البيادر"

ويقول:

"أوراس! يا أولمبنا العربي
يا رب المآثر
إنا صنعنا الأنبياء على سفوحك
والمصائر
أوراس! يا خبزي وديني
يا عبادة كل ثائر"

ويمضي محمود درويش في قصيدة أخرى اسمها "نشيد للرجال" إلى تحديات أكثر لهذا البعد في موقفه:

"سنخرج من معسكرنا
ومنفانا
سنخرج من مخابينا
ويشتمنا أعادينا:
"هلا! همج هم، عرب!"
نعم!
عرب
ولا نخجل
ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل
وكيف يقاوم الأعزل
ونكتب أجمل الأشعار!"

إنه من الجدير بالتسجيل أن سميح القاسم كان أول شاعر عربي يغني لثورة "الذئاب الحمر" في ردفان غداة تفجرها، مدركاً بعدها العميق ومعناها:

"حمت سراياك! فاشرب من سرايانا
كأساً جرعت بها للذل ألوانا
وأشحذ مداك على الجرح الذي عصفت
دماؤه بقلاع البغي نيرانا
أركان عرشك آلينا نقوضها
فاحشد فلولك حيات وعقبانا
يا طامعاً بالذئاب الحمر، ما غنمت
أطماعك السود، إلا بعض قتلانا!
بلادنا القدر المحتوم قاطنها
مذ كانت الشمس، ما لانت وما لانا
يا عابد النار! ما زالت مؤرثة
على القنال.. فماذا تعبد الآنا؟"

وفي ذلك الوقت كتب القاسم قصيدة أخرى اسمها "عروس النيل" عن السد العالي كمظهر نضالي:

"أسمعه.. أسمعه!
عبر فيافي القحط في مجاهل الأدغال
يهدر، يدوي، يستشيط
فاستيقظوا أيها النيام
ولنبتن السدود قبل دهمة الزلزال
تنبهوا.. بهذه الجدران
تنزل فينا من جديد نكبة الطوفان"

وفي وقت أبكر بكثير من التاريخ الذي كتب فيه سميح القاسم، ومحمود درويش هذه القصائد، كان البعد العربي موجوداً بعمق في موقف المقاومة، نذكر هنا قصيدة قديمة (1958) لشاعر من الأرض المحتلة اسمه عصام عباس:

"هذي بساتيل العراق
تهدها كتل الحشود
بغداد يا بلد الرشيد
أتيت بالفعل الرشيد"

وينتقل الشاعر، في قصيدته ذاتها، في جولة في البلاد العربية جميعها يقدم من خلالها موقفاً تقدمياً مسؤولاً، لا يخضع للافتعالات الرومانطيكية التي تؤدي غالباً إلى الاحتيال على الذات.

ولجمال قعوار قصيدة عن الجزائر اسمها "هذي الطريق" تتضمن ذلك الموقف المسؤول بوضوح،, والواقع أن ثورة الجزائر، فجرت نوعاً فريداً من الشعر في فلسطين المحتلة، وأوقدت حوافز جديرة بالتأمل.

فالشاعر حبيب قهوجي الذي غنى قبل ذلك لثورة مصر، ومعركة 1956 فاتحاً المجال أمام انعطاف جذري في شعر المقاومة، قفز به نحو التصدي المباشر لمواضيعه الأساسية، يقول في قصيدة عن الجزائر:

"دم الأحرار لم يذهب هباء   بمعتكر الدجى أمسى شهابا
تقدسه شعوب الشرق طرا   وتبذل دون حرمته الشبابا"


ثم يقول:

"فيا شعب العراق، ألام نوم   يحد تمرد الطغيان نابا
فدونك في الجزائر كيف تمحى   جيوش البغي تعطينا ضرابا"



إن هذا النداء المباشر للعراق، لتفجير الثورة التي انفجرت بالفعل فيما بعد، في 1958، قد حدا بالشاعر نفسه في وقت لاحق للمشاركة في إنشاء حركة "الأرض" التي لعبت دوراً أساسياً في المقاومة داخل فلسطين المحتلة.

في تلك المرحلة بالذات التي امتدت من ثورة مصر في 1952 إلى عام 1960، كان الشعر الغالب في الأرض المحتلة هو الشعر الملتزم بالصيغة الكلاسيكية من حيث الشكل، وبما يشبه الخطابية من حيث المضمون، منسجماً في ذلك مع الزلزال الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان يجتاح المنطقة العربية، في الوقت نفسه كان ينسجم فيه مع مرحلة أولية من مراحل تطوره ونشوئه، وفي تلك الفترة بالذات سيدهشنا بالفعل شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم اللذين استطاعا تحقيق تطور مذهل شكلاً ومضموناً فيما بعد، بالطابع الخطابي الذي كان لشعرهما آنذاك.
في تلك الفترة بالذات غنى شعراء عرب عديدون ثورة الجزائر، فبالإضافة للشعراء الذين ذكرناهم توجد قصائد طويلة لراشد حسين، وأبي أياس، ومحمود دسوقي، وجمال قعوار، وحنا أبو حنا، وابن الرامة، وعصام عباس، وفوزي الأسمر، وغيرهم.

طابع تلك المرحلة يلخصه راشد حسين في قصيدته:

"سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر
أن الشعوب إذا هبت ستنتصر
دم الجزائر صدر الفجر كعبته
وناره فوق صدر البغي يستعر"

ويقول حنا أبو حنا:

"ولدي! لأجلك قد حملت سلاحي
ولأجل رغدك ثورتي وكفاحي
ورأيت شعبي سيل نار دافق
متوثب في موكب الأرياح
وإذا اللهيب، بريق عينك ساطعاً
وعيون شعبي الثائر الطماح
فلأجل تحرير الجزائر ثورتي
ولأجل رغدك وثبتي وكفاحي"

ولكن، كما رأينا، فإن الصياغة الفنية، التي جاءت في هذه المرحلة على هذه الصورة الخطابية لم تكن على حساب المضمون، ولقد استطاعت تجارب شعراء المقاومة، من خلال الممارسة، أن تطور الشكل إلى الصيغة المعاصرة الحديثة، وفي هذا النطاق جرى التطوران:

الشكل والمضمون، في اتساق وانسجام ولم ينحر أحدهما الآخر، فيما ظلت جذور الالتزام والمعاداة في أصلها هي الرابط الجوهري في هذا التطور.

وعلى هذا الأساس، تلقى شاعر مثل توفيق زياد كارثة الخامس من حزيران مرة أخرى على هذا الصعيد، بثبات:

"ثم.. ماذا بعد؟ لا أدري ولكن
كل ما أدريه أن الأرض حبلى والسنون.."
ثم يقول:
"فارفعوا أيديكم عن شعبنا
لا تطعموا النار حطب
كيف تحيون على ظهر سفينة
وتعادون محيطاً من لهب؟"

وينتهي إلى القول:

"كبوة هذي
وكم يحدث أن يكبو الهمام 
أنها للخلف كانت
خطوة
من أجل عشر للأمام!"

وفي الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني، كان دائماً ظاهرة أساسية وليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، وتعميقه ووعيه، إلا استمرار لتلك الظاهرة تاريخياً، ولكن هذه الملاحظة هي عنوان لموضوع آخر.

لقد رأينا، باختصار، كيف يرتبط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة إلى بعد اجتماعي ويطرح ولاءه للطبقة الكادحة التي على أكتافها تعلق المقاومة بنادقها ومصيرها.

ورأينا كيف يحافظ أدب المقاومة على هذا الارتباط الاجتماعي التقدمي في ممارسته لبعد آخر من أبعاده وهو بعد الالتزام بالثورات التحررية في العالم.

ورأينا، ثالثاً، كيف يرتبط أدب المقاومة ببعده العربي ارتباطاً عضوياً راسخاً، دون أن يفقد وضوح نظرته الاجتماعية في هذا الارتباط، ومع إدراك عميق لمعناه وضرورته وأصالته.

ورأينا أن هذه الارتباطات تحدث ضمن إطار من الالتزام بقدسية الكلمة، والإيمان الذي لا يتزعزع بدورها وقيمتها والتمسك بمسؤولياتها كسلاح أساسي في حركة المقاومة التي تشتمل معنى أوسع بكثير من مجرد المقاومة المسلحة.

ولكننا قلنا أيضاً أن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.

فكيف يعبر أدب المقاومة عن هذه المسؤولية المباشرة، وكيف يخوض معركتها، دون أن يفقد ارتباطاته الاجتماعية والعربية والدولية؟

إن أدب المقاومة في هذا النطاق، غزير الإنتاج، وإذا كانت الظروف التي يعرفها الجميع تحول دون تعقب دقيق لحركة الإنتاج هذه على جميع المستويات، فإن ما يتوفر بين أيدينا الآن يكفي كنموذج.

لقد رأينا كيف تصدى "توفيق فياض" في مسرحيته "بيت الجنون" من خلال صيغة فنية متقدمة إلى المهمة المباشرة للمقاومة، حين تخلص من تشوشه في لحظة مواجهة ناصعة الوضوح، قرر فيها، مباشرة وبحسم، أنه لن ينسى، وأنه يرفض الاقتحام المعادي، وأنه سيقاتل وحده.

سنرى محمود درويش في لحظة مواجهة مماثلة، تشكل نوعاً فذاً من الصحو الدائم، حين يقول رافضاً التنصل مهما كانت براعة الصياغة:

"ذليل أنت كالإسفلت
ذليل أنت
يا من يحتمي بستارة الضجر!
وثمة لحظة مماثلة، عند سميح القاسم:
.. وأخاف، أخاف من الغدر
من سكين يغمد في ظهري
لكني.. يا أغلى صاحب
يا طيب.. يا بيت الشعر
رغم الشك، ورغم الأحزان
اسمع اسمع وقع خطى الفجر"

عبر هذا الصحو، الذي يعي تماماً جوهر المواجهة، وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخاً ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلاً من انتكاساتها وعذابها وقوداً لتجديد توق ملتهب.

في قصة قصيرة لفوزي الأسمر، اسمها "رمال ودموع"، يروي هذا الكاتب الشاب الذي ولد وعاش في بلدة "اللد" قصة عربي حاول قتل سائق تراكتور إسرائيلي، والمعضلة بالنسبة للمحكمة هي أن السائق الإسرائيلي لا يعرف ذلك العربي، ولم يسبق له أن قابله ولا يعرف سبباً للمحاولة.

بالنسبة للعربي فإن المسألة لها تفسير ومبرر، فقد شهد عن بعد ذلك السائق يربط جذع شجرة زيتون كان يملكها، وترمز بالنسبة له إلى تاريخ عائلته، محاولاً انتزاعها من أرضها، وحين اندفع نحوه ليقتله كان في الواقع يرمي إلى الدفاع عن عرضه وشرفه.

وتنتهي القصة نهاية مفاجئة حين ترفع المحكمة جلستها لتدارس الحكم الذي ستصدره على العربي.

وهذه "النهاية ـ الاشكال"، هي موقف واضح ومن نوع حاسم، فحكم المحكمة لا يهم على الإطلاق، وأساس القضية موجود ومحلول في القصة ذاتها، والنهاية هي أبعد ما تكون عن علامة الاستفهام التي يخيل للقارئ أنها موجودة في السطر الأخير منها.

لا توجد علامة استفهام في هذا الصدد، وإن كانت القصائد والقصص والمسرحيات التي أنتجها أدباء المقاومة تحفل بها من حيث الشكل، إلا أنها لا تعني إلا نوعاً من الاستفهام الإثباتي، إذا جاز التعبير، غايته الأساسية التأكيد بأنه يوجد جواب واحد فقط.

لقد رأينا نموذجاً لهذا الاستفهام الإثباتي في النماذج التي قرأناها من مسرحية توفيق فياض "بيت الجنون"، وهو استفهام ـ كما قلنا ـ لا يقصد إلى التساؤل بقدر ما يقصد إلى إثبات أنه لا يوجد أي طريق آخر.

وهو استفهام من نوع:

"ثم ماذا بعد؟ لا أدري! ولكن
كل ما أدريه أن الأرض حبلى.. والسنون"

كما يقول توفيق زياد في قصيدته "كلمات عن العدوان" التي كتبها في أعقاب حرب حزيران. وهو تساؤل من ذلك النوع الذي ضمنه حبيب قهوجي في رثاء كتبه عام 1957 لشهداء كفر قاسم:

"جنكيز خان تثاءبت أيامه؟
أم جند هتلر للدمار ضواري؟"

وتتكرر الصيغة ذاتها، في قصيدة أخرى، لراشد حسين في ذلك الوقت، يرثي فيها شهداء قرية صندلة:

"مرج بن عامر، هل لديك سنابل
أم فيك من زرع الحروب قنابل؟
أم حينما عز النبات صنعت من
لحم الطفولة غلة تتمايل؟"

ويطور محمود درويش هذه الصيغة إلى درجة حاسمة:

"يا وجه جدي!
يا نبياً ما ابتسم
من أي قبر جئتني
ولبست قمبازاً بلون دم عتيق
فوق صخرة
وعباءة في لون حفرة؟
يا وجه جدي!
يا نبياً ما ابتسم
من أي قبر جئتني
لتحيلني تمثال سم؟
الدين أكبر!
لم أبع شبراً، ولم أخضع لضيم
لكنهم رقصوا وغنوا فوق قبرك
فلتنم!
صاح أنا، صاح أنا، صاح أنا
حتى العدم.."

ولكن بعيداً عن هذه المسألة الجزئية التي توقعنا عندها بسبب تكرارها في شعر المقاومة، فإننا نلاحظ ظاهرة هامة عامة، وهي توفر درجة متقدمة من التحدي الواعي، القادر على تحويل العذاب إلى حافز ثوري.

لقد لاحظنا ذلك بوضوح في القصائد التي كتبها شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة في أعقاب العدوان الأخير، ولكن هذه الظاهرة في الحقيقة تأخذ طابع القاعدة، سواء في مواجهة العذاب الشخصي، أم الجماعي، لنهاية بالمستوى القومي.

فمن السجن كتب محمود درويش أروع قصائده وأكثرها توهجاً بالأمل والإصرار والتحدي.

"من آخر السجن طارت كف أشعاري
تشد أيديكم ريحاً على نار..
أقول للمحكم الأصفاد حول يدي:
هذي أساور أشعاري وإصراري!
في حجم مجدكم نعلى، وقيد يدي
في طول عمركم المجدول بالعار..
في اليوم أكبر عاماً في هوى وطني
فعانقوني عناق الريح للنار!"

يقول ذلك لأنه يؤمن أن:

"المغنى على صليب الألم
جرحه ساطع كنجم
قال للناس حوله:
كل شيء سوى الندم..
هكذا مت واقفاً
واقفاً مت كالشجر!"

ولسميح القاسم قصيدة اسمها "رسالة من المعتقل":

"أماه! كم يؤلمني!
إنك تجهشين بالبكاء
إذا أتى يسألكم عني أصدقاء..
لكنني أؤمن يا أماه
أؤمن
أن روعة الحياة
تولد في معتقلي
أؤمن أن زائري الأخير لن يكون
خفاش ليل
مدلجاً، بلا عيون
لا بد أن يزورني النهار.."

وللقاسم قصيدة طويلة من أربعة أناشيد عنوانها الرئيسي "من وراء القضبان"، وقد حالت الظروف دون معرفة النشيدين الأوسطين في هذه القصيدة اللذين صودرا ومنعا بقوة، ولكن المناخ العام للنشيد الأول والأخير يثبتان ما ذهبنا إليه:

هذا على صعيد شخصي، أما على صعيد جماعي فقد غنى شعراء الأرض المحتلة الأحداث اليومية التي مر بها شعبهم الأسير، وقد رأينا قبل قليل كيف سجل حبيب قهوجي، وراشد حسين، مجزرتي كفر قاسم وصندلة، ورأينا أمثلة أخرى في قصص زكي سليم درويش، وعطا الله منصور، وفوزي الأسمر، وسجل الشعر الشعبي بدوره أحداثاً يومية وتصدي للعملاء في نوع من التشهير الذي كبلهم وشل نشاطهم فعلاً، وكذلك في حالات رثاء وتشجيع، وقد تابع محمود درويش قضية النازحين بصورة فريدة، ونظم سميح القاسم عدة قصائد عن مجزرة كفر قاسم، واحدة منها لا نعرف إلا مطلعها، وحال الحكم العسكري الإسرائيلي المفروض على العرب دون وصول آخرها، أما قصيدته الثانية، عن كفر قاسم، التي ألقاها في تجمع شعبي ذهب إلى القرية المنكوبة للعزاء في الذكرى العاشرة، وحال الجنود الإسرائيليون دون وصولهم إلى القرية، فقد أدت إلى تظاهرة شعبية عنيفة.

ولهذين الشاعرين، الدرويش والقاسم، قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، وعن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، وعن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، وإلى آخر ما هنالك من قضايا يومية.

ولسميح القاسم بالذات قصيدة ملفتة للنظر، اسمها "كرمئيل" وهو اسم المدينة التي ابتناها الإسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى "دير الأسد" و"البعنة" و"نحف"، ضمن خطتهم لتهويد الجليل.. وقد أطلق القاسم على هذه المدينة اسم "مدينة الحقد والجوع والجماجم":

"صباح مساء
يطالعنا وجهها والسماء
ونبسم، لا بسمة الأغبياء
ولكنها بسمة الأنبياء
تحداهم صالب تافه
يغطي الشموس ببعض رداء..
غدا يا قصوراً رست في القبور
غداً يا ملاهي
غداً يا شقاء
سيذكر هذا التراب سيذكر
إنا منحناه لون الدماء
وتذكر هذي الصخور رعاة
بنوها بأدعية من حداء
ونذكر أنا..
هنا سفر تكوينهم ينتهي
هنا، سفر تكويننا، في ابتداء!"

إن الأمثلة في هذا النطاق أكثر من أن تحصى، وتتوفر منها لدينا كمية هائلة باتت تدعو بإلحاح إلى إصدارها في ديوان يضم شعر المقاومة، الظاهرة الأكثر توهجاً ومعنى في حياتنا الثقافية الراهنة.

لقد كان شعر المقاومة، وأدبها على العموم، متفائلاً منذ البدء، ولم يكن هذا التفاؤل ضرباً في الفراغ، أو وهماً مقامراً، وإلا لتصدع خلال عشرين سنة من الأسر والعذاب، ولكنه كان نتاجاً معافى وشديد المراس لإدراك عميق لأبعاد المعركة وانتساباً أصيلاً لجماهيرها الحقيقية وقضاياها، هدف المقاومة وأداتها في آن واحد.

لقد انطلق شعر المقاومة من أرض الالتزام ومن التزام الأرض، وكشف عن طريق الممارسة والمواجهة أعماقه وأبعاده، وحقق في هذا النطاق ـ برغم كل المصاعب التي لا تصدق ـ توهجاً فخوراً من حيث المضمون والشكل على السواء، بلا تردد في مقدمة الحركة الثقافية العربية الراهنة.

ولذلك فإن أدب المقاومة، وقد ربط نفسه إلى أصوله وعرف آفاقه والتزم بارتباطاته الأصيلة، لم يعرف ظاهرة التخلي، ولا التنصل، ولا العتاب والعويل، كان يمارس إدراكه لدوره ومسؤولياته، ولا يحجب نفسه عنها وراء "ستارة الضجر"، أو المزايدة الرخيصة، أو المزاج الذي تزلزله أصغر ريح، فهو لم يكن رفاها، ولكنه كان دائماً "التزاماً" بالسلاح والجمال والمثل، معاً.

وهذا وحده الذي يجعل شاعراً مثل محمود درويش، وحده تقريباً في قارتنا العربية الشاسعة، يتلقى كارثة الخامس من حزيران (يونيو) بثبات وصمود ويجعلها حافزاً:

"وطني!
يعلمني حديد سلالي
عنف النسور
ورقة المتفائل..
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا
ميلاد عاصفة
وعرس جداول!
سدوا علي النور في زنزانة
فتوهجت في القلب
شمس مشاعل
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي
فنما على الجدران
مرج سنابل
وحفرت بالأسنان رسمك دامياً
وكتبت أغنية الظلام الراحل
أغمدت في لحم الظلام هزيمتي
وغرزت في شعر الضياء أناملي
والفاتحون على سطوح منازلي
لم يفتحوا إلا وعود زلازلي
لن يبصروا إلا توهج جبهتي
لن يسمعوا إلا صرير سلاسلي
فإذا احترقت على صليب عبادتي
أصبحت قديساً
بزي مقاتل!"

(الآداب، ع4، س16، نيسان/ أبريل 1968)


"إلى شعراء الأرض المحتلة"

نزار قباني

 

1
شعراء الأرض المحتلة
يا من أوراق دفاتركمْ
بالدمع مغمسة والطينْ
يا من نبرات حناجركم
تشبه حشرجة المشنوقينْ
يا من ألوان محابركمْ
تبدو كرقاب المذبوحين
نتعلم منكم منذ سنين
نحن الشعراء المهزومينْ
نحن الغرباء عن التاريخ وعن أحزان المحزونين
نتعلم كيف الحرف يكون له شكل السكين

2
شعراء الأرض المحتلةْ
يا أجمل طير يأتينا من ليل الأسرْ
يا حزناً شاف العينين، نقياً مثل صلاة الفجرْ
يا شجر الورد النابت من أحشاء الجمرْ
يا مطراً يسقط رغم الظلم ورغم القهرْ
نتعلم كيف يغني الغارق من أعماق البئرْ
نتعلم كيف يكون الشعرْ
فلدينا قد ملت الشعراء ومات الشعرْ
الشعر لدينا درويش يترنح في حلقات الذكرْ
والشاعر يعمل حوذياً لأمير القصرْ
الشاعر مخصي الشفتين بهذا العصرْ
يمسح الحاكم معطفه ويصب له أقداح الخمرْ
الشاعر مخصي الكلمات وما أشقى خصيان الفكرْ

3
شعراء الأرض المحتلةْ
يا ضوء الشمس الهارب من ثقب الأبوابْ
يا قرع الطبل القادم من أعماق الغاب
يا كل الأسماء المحفورة في ريش الأهداب
ماذا نخبركم يا أحباب؟
عن النكسة، شعر النكسة، يا أحبابْ
ما زلنا منذ حزيران نحن الكتابْ
نتمطى فوق وسائدنا
نلهو بالصرف وبالإعرابْ
يطأ الإرهاب جماجمنا.. ونتقبل أقدام الإرهابْ
نركب أحصنة من خشب ونقاتل أشباحاً وسرابْ
وننادي يا رب الأرباب
نحن الضعفاء.. وأنت المنتصر الغلابْ
نحن الفقراء.. وأنت الرزاق الوهابْ
نحن الجبناء.. وأنت الغفار التوابْ
شعراء الأرض المحتلة
ما عاد لأعصابي أعصابْ
حرمات القدس قد انتهكتْ
وصلاح الدين من الأسلابْ
وابنة دايان كمومسة تتعهر في ظل المحرابْ
ونسمي أنفسنا كتابْ!

4
محمود درويش.. سلاما..
توفيق الزيّاد.. سلاما..
يا فدوى طوقان سلاما..
يا من تبرون على الأضلاع الأقلاما..
نتعلم منكم كيف نفجر في الكلمات الألغاما..
شعراء الأرض المحتلةْ
ما زال دراويش الكلمة..
في الشرق يكشون الحماما..
يحسون كؤوس الشاي الأخضر، يجترون الأحلاما..
لو أن الشعراء لدينا..
يقفون أمام قصائدكم..
لبدوا أقزاماً أقزاما..

(الآداب، ع7، س16، بيروت، تموز ـ يوليو 1968)


"لن أبكي"

فدوى طوقان (نابلس)

 

(إلى شعراء المقاومة: هدية لقاء في حيفا)

على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور، بين الردم والشوك
وقفت وقلت للعينين:
قفا نبك
على أطلال من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدار
وتنعي من بناها الدار
وأنَّ القلب منسحقاً
وقال القلب:
(ما فعلتْ
بك الأيام يادارُ
وأين القاطنون هنا
وهل جاءتك بعد النأي هل جاءتك أخبار
هنا كانوا
هنا حلموا
هنا رسموا مشاريع الغد الآتي
فأين الحلم والآتي
وأين همو؟
وأين همو؟)
ولم ينطق حطام الدارْ
ولم ينطق هناك سوى غيابهمو
وصمت الصمت والهجران
وكان هناك جمع البوم والأشباحْ
غريب الوجه واليد واللسان، وكانْ
يحوم في حواشيها
يمدّ أصوله فيها
وكان الآمر الناهي
وكان.. وكان..
وغص القلب بالأحزان

*   *   *

أحبائي
مسحت عن الجفون ضبابة الدمع الرمادية
لألقاكم وفي عيني نور الحب والإيمان
بكم، بالأرض، بالإنسان
فواخجلي لو أني جئت ألقاكم
وجفني راعش مبلول
وقلبي يائس مخذول
وها أنا يا أحبائي هنا معكم
لأقبس منكمو جمره
لآخذ يا مصابيح الدجى من زيتكم قطرة
لمصباحي. وها أنا يا أحبائي
إلى يدكم أمدّ يدي
وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي
وأرفع جبهتي معكم إلى الشمس
وها أنتم كصخرة جبالنا قوهْ
وها أنتم كزهر بلادنا الحلوه
فكيف الجرح يسحقني
وكيف اليأس يسحقني
وكيف أمامكم أبكي
يميناً، بعد هذا اليوم لن أبكي

*   *   *

أحبائي
حصان الشعب جاوز كبوة الأمس
وهبَّ الشهم منتفضاً وراء النهر
أصيخوا، ها حصان الشعب يصهل ـ
واثق النهمه
ويفلت من حصار النحس والعتمه
ويعدو نحو مرفئه على الشمس
وتلك مواكب الفرسان ملتمَّه
تباركه وتفديه
ومن ذوب العقيق ومن دمِ ـ
المرجان تسقيه
ومن أشلائها علفاً وفير الفيض
تعطيه
وتهتف بالحصان الحرِّ:
عدواً نحو عين الشمس عدواً يا
حصان الشعبْ
فأنت الرمز والبيرقْ
ونحن وراءك الفيلقْ
ولن يرتد فينا المدَّ والغليان
والغضبْ
ولن ينداح في الميدان فوق جباهنا ـ
التعبْ
ولن نرتاح حتى نطرد الأشباح ـ
والظلمه.

*   *   *

أحبائي مصابيح الدجى، يا أخوتي في الجرح
ويا سرَّ الخميرة، يا بذار القمح
يموت هنا ليعطينا
ويعطينا
ويعطينا
على طرقاتكم أمضي
وها أنا بين أعينكم
ألملمها وأمسحها دموع الأمسْ
وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني وفي أرضي
وأزرع مثلكم عينيَّ في درب السنا والشمس

(الآداب، ع4، س16، نيسان/ أبريل 1968)


"يوميات جرح فلسطيني"

محمود درويش (الأرض المحتلة)

 

رباعيات مهداة إلى الشاعرة فدوى طوقان

1
نحن في حِلٍّ من التذكار،
فالكرملْ فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليلِ
لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها،
لا تقولي!
نحن في لحم بلادي، وهي فينا!

2
لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمامْ
ولذا، يا أختاه، من عشرين عام
نحن، لا نكتب أشعاراً،
ولكنَّا نقاتل!

3
ذلك الظلُّ الذي يسقط في عينيك
شيطان إله
جاء من شهر حزيران
لكي يعصب بالشمس الجباه
إنه لون شهيد
إنه طعم صلاة
إنه يقتل أو يحيى،
وفي الحالتين: آه!

4
أوَّلُ الليل على عينيك، كان
في فؤادي، قطرة من آخر الليل الطويل
والذي يجمعنا، الساعة، في هذا المكان
شارع العودة..
من عصر الذبول!

5
صوتكِ، الليلة،
سكين وجرح وضمادُ
ونعاس جاء من صمت الضحايا
أين أهلي؟
خرجوا من خيمة المنفى، وعادوا
مرة أخرى.. سبايا!

6
كلمات الحب لم تصدأ، ولكنَّ الحبيب
واقع في الأسر ـ يا حبي الذي حمَّلني
شرفات خلعتها الريح..
أعتاب بيوت..
وذنوب ـ
لم يسع قلبي سوى عينيك،
في يوم من الأيام،
والآن اغتنى بالوطنِ!..

7
.. وعرفنا ما الذي يجعل صوت القبَّره
خنجراً يلمع في وجه الغزاة
وعرفنا ما الذي يجعل صمت المقبره
مهرجاناً، وبساتين حياه!

8
عندما كنتِ تغنّيِن، رأيتُ الشرفاتْ
تهجر الجدران،
والساحة تمتد إلى خصر الجبلْ
لم نكن نسمع موسيقى!
ولا نبصر لون الكلمات
كان في الغرفة مليون بطل!

9
في دمي، من وجهه، صيف
ونبض مستعار.
عدتُ خجلان إلى البيت،
فقد خرَّ على جرحي.. شهيدا
كان مأوى ليلة الميلاد،
كان الانتظار
وأنا أقطف من ذكراهُ.. عيدا!

10
الندى والنارُ عيناهُ،
إذا ازددتُ اقتراباً منه.. غنَّى
وتبخَّرتُ على ساعده لحظةَ صمت، وصلاهْ
آه، سمِّيه كما شئت شهيداً
إنه أجمل منا
غادر الكوخ فتى
ثم أتى، لما أتى،
وجه إله!

11
هذه الأرض التي تمتصُّ جلد الشهداء
تَعِدُ الصيف بقمح وكواكب
فاعبديها!
نحن في أحشائها ملح وماء
وعلى أحضانها جرح.. يحارب!

12
دمعتي في الحلق، يا أخت،
وفي عينيَّ نارْ
وتحررتُ من الشكوى على باب الخليفه
كل من ماتوا،
ومن سوف يموتون على باب النهار
عانقوني، صنعوا مني.. قذيفه!

13
منزلُ الأحباب مهجور،
ويافا تُرجمتْ حتى النخاعْ
والتي تبحث عني..
لم تجد مني سوى جبهتها!
اتركي لي كل هذا الموت، يا أخت،
اتركي هذا الضياع
فأنا أضفره نجماً على نكبتها!

14
آه، يا جرحي المكابرْ
وطني ليس حقيبة
وأنا لستُ مسافر
إنني العاشق، والأرض حبيبه!

15
وإذا استرسلتُ في الذكرى،
نما في جبهتي عشب الندمْ
وتحسَّرت على شيء بعيد
وإذا استسلمت للشوق،
تبنيت أساطير العبيد
وأنا آثرتُ أن أجعل من صوتي حصاةً
ومن الصخر.. نغم!

16
جبهتي لا تحتملُ الظلَّ،
وظلِّي لا أراه.
وأنا أبصق في الجرح الذي
لا يشعل الليل جباه!
خبئي الدمعة للعيد،
فلن نبكي سوى من فرح
ولنسمِّ الموت في الساحة
عرساً.. وحياه!

17
.. وترعرعت على الجرح، وما قلتُ لأمي
ما الذي يجعلها في الليل خيمة
أنا ما ضيَّعتُ ينبوعي وعنواني واسمي
لذا أبصرتُ في أسمالها مليون نجمة!

18
رايتي سوداءُ،
والميناء تابوت،
وظهري قنطرة
يا خريف العالم المنهار فينا
يا ربيع العالم المولود فينا
زهرتي حمراء!
والميناء مفتوح،
وقلبي شجرة،

19
لغتي صوت خرير الماء
في نهر الزوابعْ
ومرايا الشمس والحنطة
في ساحة حرب
ربما أخطأت في التعبير أحياناً
ولكن كنت ـ لا أخجل ـ رائع
عندما استبدلت بالقاموس قلبي!

20
كان لا بد من الأعداء
كي نعرف أنَّا توأمان!
كان لا بد من الريح
لكي نسكن جذع السنديان،
ولو أن السيد المصلوب لم يكبر على عرش الصليب
ظل طفلاً ضائع الجرح.. جبان!.

21
لك عندي كلمه
لم أقلها بعدُ،
فالظل على الشرفة يحتل القمر
وبلادي ملحمه
كنت فيها عازفاً.. صرتُ وتر!.

22
عالم الآثار مشغول بتحليل الحجاره
إنه يبحث عن عينيه في ردم الأساطير،
لكي يثبت أني:
عابر في الدرب لا عينان لي،
لا حرف في سفر الحضاره!.
وأنا أزرع أشجاري، على مهلي،
وعن حبي أغني!.

23
غيمة الصيف التي.. يحملها ظهر الهزيمة
علقت نسل السلاطين
على حبل السراب.
وأنا المقتول والمولود في ليل الجريمه
ها أنا ازددت التصاقاً.. بالتراب!

24
آن لي أن أبدل اللفظة بالفعل، وآنْ
لي أن أثبت حبي للثرى والقبَّره
فالعصا تفترس القيثار في هذا الزمان
وأنا أصغر في المرآة،
مذ لاحت ورائي شجره!.

(الآداب، ع7، س16، تموز/ يوليو 1968)


"أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر"

محمود درويش (حيفا/ الأرض المحتلة)

 

هل لكل الناس، في كل مكان
أذرع تطلع وأماني
ونشيداً وطنياً؟
فلماذا، يا أبي، نأكل غصن السنديان
ونغني، خلسة، شعراً شجيا؟
يا أبي! نحن بخير وأمان
بين أحضان الصليب الأحمر
*   *   *
عندما نفرغ أكياس الطحين
يصبح البدر رغيفاً في عيوني
فلماذا، يا أبي، نأكل غصن السنديان
بفتات، وبجبن أصفر
في حوانيت الصليب الأحمر؟
*   *   *
يا أبي هل غابة الزيتون تحمينا
إذا جاء المطر؟
وهل الأشجار تغنينا عن النار
وهل ضوء القمر
سيذيب الثلج، أو يحرق أشباح الليالي؟
إنني أسأل مليون سؤال
وبعينيك أرى صمت الحجر..
فأجبني يا أبي.. أنت أبي؟
أم تراني صرت ابناً للصليب الأحمر؟
*   *   *
يا أبي هل تنبت الأزهار
في ظل الصليب؟
هل يغني العندليب؟
فلماذا نسفوا بيتي الصغيرا
ولماذا، يا أبي، أنت تناديني كثيرا
وأنا أحلم بالحلوى وحبات الزبيب
في دكاكين الصليب الأحمر؟
*   *   *
حرموني من أراجيح النهار
عجنوا بالوحل خبزي، ورموشي بالغبار
أخذوا مني حصاني الخشبي
جعلوني أحمل الأثقال عن ظهر أبي
جعلوني أحمل الليلة عام
آه! من فجرني في لحظة جدول نار؟
آه، من يسلبني طبع الحمام
تحت أعلام الصليب الأحمر؟
*   *   *
ملاحظة على الأغنية:
أخذوا منك الحصان الخشبي؟
أخذوا، لا بأس، ظل الكوكب؟
يا صبي!
زهرة البركان، يا نبض يدي
إنني أبصر في عينيك ميلاد الغد
ووجوداً غاص في لحم أبي
نحن أدرى بالشياطين التي
تجعل الطفل نبيا!
قل مع القائل: "لم أسألك عبئاً هينا
يا إلهي.. أعطني ظهراً قويا"!
أخذوا بابا ليعطوك رياح
فتحوا جرحاً ليعطوك صباح
هدموا بيتاً لكي تبني وطن
حسن هذا، حسن
نحن أدرى بالشياطين التي
تجعل الطفل نبيا
قل مع القائل: "لم أسألك عبئاً هينا
يا إلهي! أعطني ظهراً قويا!"

(الآداب، ع2، س16، شباط/ فبراير 1968)


قرأت العدد الماضي من الآاب/ القصائد

بقلم رجاء النقاش (القاهرة)

 

... نلتقي في البداية بقصيدة لمحمود درويش. وقد أتيح لي وللمواطنين العرب أن يقرأوا في الفترة الأخيرة نماذج متعددة لهذا الشاعر العربي الرائع الذي ما زال مقيماً في الأرض المحتلة لا يخرج من سجون اسرائيل إلا ليدخلها من جديد. وهذه القصيدة التي نشرتها الآداب لمحمود درويش بعنوان "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر" هي من أجمل قصائد محمود درويش، ومن أكثرها عذوبة وحرارة. ومن خلال قراءتي السابقة لمحمود درويش أستطيع أن أسجل ملاحظتين حول هذا الشاعر اللامع... الملاحظة الأولى هي أنه شاعر يتطور من الناحية الفنية تطوراً مستمراً لا يتوقف، فقصائده الجديدة أفضل من قصائده السابقة، وقدرته الفنية تزداد أصالة من قصيدة إلى قصيدة. وتطور محمود درويش ليس تطوراً بطيئاً ولكنه تطور سريع جداً، فملامح فنه في سنة 1967 أوضح، وأعمق من ملامح هذا الفن في سنة 1966. وهو في إنتاجه سنة 1966 أفضل منه قبل ذلك. ومعنى هذه الملاحظة أن محمود درويش لم يعطنا بعد كل ما عنده، وأنه سوف يقدم الكثير إلى الفن العربي إذا استطاع أن يتغلب بشكل أو بآخر على ظروفه الصعبة كمواطن عربي يعيش في ظل الاحتلال الصهيوني لفلسطين. والملاحظة الثانية أن محمود درويش يجدد في شكل القصيدة العربية تجديدات جريئة وعميقة، إنه لا يعتمد أبداً على الأشكال المعقدة للقصيدة، ولا يستمد رغبته في التجديد من تلك "الموضات" الشائعة في عالم الفن والأدب، والتي تفرض على أصحابها نوعاً من الفوضى الفنية باسم التجديد.

والواقع أن التجديد يجب أن يكون بالدرجة الأولى تعيراً عن اجتياح روحي عميق عند الفنان، قبل أن يكون مجرد تقليد أو محاولة لمتابعة الأشكال العصرية الجديدة حتى ولو لم تكن ملائمة للفنان وقدراته واحتياجاته الحقيقية الخاصة. والواقع أن تجديد محمود درويش في بناء القصيدة العربية ينبع أولاً من أصواته الداخلية التي تملأ وجدانه وقلبه وتسيطر على روحه، وهو بعد أن يستمع إلى صوت روحه يبحث عن الشكل الفني المقبول لكي يعبر عن هذا الصوت... وهذا هو التجديد الحقيقي الأصيل. وفي القصيدة التي نشرتها الآداب... قصيدة "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر" نجد نموذجاً لهذا التجديد في بناء القصيدة العربية، وهو نموذج جميل وصادق ويستحق الدراسة والتأمل. فالقصيدة تنقسم إلى قسمين مختلفين، أو قل إلى صوتين مختلفين، يعبر الصوت الأول عن اليأس والضياع والتشاؤم، ويجمع أسباب هذا كله من واقع حياة طفل عربي ينتظر خدمات الصليب الأحمر له ولأهله فلا يرى في ذلك إلا كل تعذيب وإهانة لنفسه البريئة ولشعوره البكر بالحياة. وفي هذا الجزء من القصيدة يعتمد محمود درويش في تصوير تجربته على السخرية والاستنكار والدهشة والغضب... إنه يسخر بمرارة عندما يقول:

يا أبي! نحن بخير وأمان
بين أحضان الصليب الأحمر
ويعبر عن استنكاره الحاد في قوله:
فلماذا يا أبي، نأكل غصن السنديان
بفتات وبجبن أصفر
في حوانيت الصليب الأحمر؟
ويعبر عن نوع من الدهشة الدامية عندما يقول:
إنني أسأل مليون سؤال
وبعينيك أرى صمت الحجر
فأجبني يا أبي... أنت أبي
أم تراني صرت ابناً للصليب الأحمر؟!
ويعبر عن الغضب الداخلي العميق في قوله:
آه! من فجّرني في لحظة جدول نار
آه! من سلبني طبع الحمام
تحت أعلام الصليب الأحمر؟

ولكن هذه المشاعر جميعاً: من السخرية والاستنكار إلى الدهشة والغضب، هي كلها ملامح في وجه حزين متألم، بل إنه وجه يائس متشائم لا يكاد يرى فجراً ولا إشراقة شمس. هذا الصوت اليائس الحزين الذي تنطلق منه شرارة هنا وشرارة هناك من الثورة والغضب، كان يكفي بالنسبة لفنان متوسط، وبالنسبة لفنان جيد أن يكون مادة لقصيدة ناجحة، ولكنه لا يكفي أبداً لخلق عمل فني متألق يلمس أعمق ما في القلب. لقد اختار محمود درويش لقصيدته أن تكون تعبيراً عن "صوتين" لا عن "صوت واحد". الصوت الأول هو صوت الحزن واليأس، والصوت الثاني هو صوت الغضب والثورة، وهذا الصوت الثاني هو ما نلتقي به في القصيدة نفسها تحت عنوان "ملاحظة على الأغنية". هنا صوت الشاعر هو صوت الثائر لا صوت اليائس كما كان الأمر في الجزء الأول من القصيدة. إن هذا الصوت الثاني ينتفض بالتحدي لليأس فيقول:

أخذوا منك الحصان الخشبي؟
أخذوا، لا بأس، ظل الكوكب؟
يا صبي
زهرة البركان، يا نبض يدي
إنني أبصر في عينيك ميلاد الغد

ويستمر هذا الصوت الغاضب الثائر فيمسح الأحزان من القلب ويدعو إلى أن يحمل كل مناضل صليبه على كتفيه ويعمل بلا هوادة من أجل الانتصار على كل حزن وتشاؤم.

هذا الشكل الفني الذي يعتمد على وجود صوتين مختلفين في العقيدة الواحدة لم يولد فجأة عند محمود درويش، وإنما بدأ كنبات صغير في قصائده الأولى، ثم نضج وأثمر في قصائده الأخيرة. وأعتقد أن هذه الظاهرة في شعر درويش، ظاهرة وجود صوتين في القصيدة الواحدة، إنما تحتاج إلى دراسة واسعة على ضوء نصوص متعددة، وأرجو أن أعود إلى هذه الدراسة في الشهور القادمة على صفحات "الآداب". والذي يهمنا أن نشير إليه الآن هو أن هذا البناء الذي يعتمد على صوتين في القصيدة لا على صوت واحد، إنما يحقق أكثر من قيمة فنية وموضوعية:

أولاً: بهذين الصوتين تتخلص القصيدة العربية من الرتابة النفسية التي تتعرض لها عندما تعتمد على الصوت الواحد... فالقصيدة التي تبدأ من منطلق يائس تستمر كذلك حتى النهاية، والقصيدة التي تبدأ من منطلق متفائل تستمر كذلك حتى النهاية... ولكن القصيدة التي تعتمد على صوتين تملأ العالم الشعري بالحيوية، وبالأنغام المتنوعة المتعددة التي يتم "تركيبها" بطريقة فنية تجعل منها أقرب إلى السنفونية المتعددة الألحان منها إلى اللحن المتكرر الممل.

ثانياً: اعتماد القصيدة على صوتين يقرب خطوات الشاعر العربي من "الدراما"... حيث تحتاج "الدراما" إلى الحوار بدلاً من "المنولوج" أو الحوار الفردي حيث يتكلم صوت واحد ويعبر عن نفسه بطريقة مباشرة. كما أن الدراما تحتاج إلى رسم الشخصية الإنسانية وتصويرها بصدق وأمانة، وليس من الفن الصادق الأمين أن نتصور الإنسان بلا قلق ولا تمزق ولا حيرة. وكلما اعترف الفنان بالقلق الإنساني وكلما اعترف بتعدد الأصوات في النفس البشرية، كلما استطاع بذلك أن يقترب من الفن الأصيل الرفيع.

ثالثاً: بناء القصيدة على أكثر من صوت واحد يعتبر من الناحية الموضوعية درجة عليا من درجات الفهم للتجارب الإنسانية، وهذه الدرجة العالية من الفهم تحمي الفنان من التعبير المباشر عن قضاياه، وهو أبغض شيء بالنسبة للفن الحقيقي الرفيع... وهذا التعبير المباشر هو مقبرة لكل تجربة فنية... إذ يتحول الفنان عن طريق التعبير المباشر إلى خطيب مرتفع الصوت، تسمعه الآذن ولا يسمعه القلب.

هذه بعض القيم التي يحملها هذا الشكل الجديد للقصيدة العربية عند محمود درويش.. هذا الشكل الذي يعتمد على صوتين لا على صوت واحد. وما زلت أعتقد أن هذه الظاهرة في شعر محمود درويش تحتاج إلى دراسة أوسع ونصوص أكثر.

ولنترك الآن هذه القصيدة البديعة كما نترك صديقاً حبيباً يعز علينا أن نبتعد عنه، ونشعر دائماً أمامه بأننا لا نعطيه حقه الكامل من الحب الذي هو جدير به.

(الآداب، ع3، س16، آذار/ مارس 1968).