وثائق
سنوات محمود درويش في القاهرة
"رأيت الوداع الأخير.. سأودع قافية من خشب سأُرفع فوق أكف الرجال، سأُرفع فوق عيون النساء سأُرزم في علم، ثم يُحفظ صوتي في علب الأشرطة ستُغفر كل خطاياي في ساعة.. ثم يشتمني الشعراء سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة ستأتي فتاة وتزعم أني تزوجتها منذ عشرين عاما.. وأكثر ستروى أساطير عني وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدة ستبحث صاحبتي عن عشيق جديد تخبئه في ثياب الحداد سأبصر خط الجنازة، والمارة المتعبين من الانتظار ولكنني لا أرى القبر بعد.. ألا قبر لي بعد هذا التعب؟!"
هكذا تكلم الشاعر الكبير محمود درويش، بعد أن رأى ما رأى، هو صاحب "أرى ما أريد" المحمل بكل هذا الإرث الطويل من الوجع التاريخي، والسخرية الحادة، التي تخلف في النفس مرارة، يشف معها الجسد، فيرى ما يحدث بعد موته، ويسأل عن مكافأته بعد هذا التعب فلا يجد ما يريد، مجرد قبر كان ما يريد.
محمود درويش الذي وصف نفسه بأنه "مندوب جرح لا يساوم" يجلس الآن هادئا على "تلة" ترى القدس من بعيد، يتأمل سنوات عمره ببصيرة الشعراء الكبار، لعله يتوقف الآن أمام سنواته الأولى في القاهرة حين كان شابًا، وكانت العاصمة العربية الأولى آنذاك أول من بشر به.
كان درويش قد قضى عامًا في موسكو، من خلال منحة دراسية، أمنها له "حزب راكاح" الذي كان عضوًا فيه، وكان قد أنهى دراسته الثانوية في حيفا، وبعد عام قضاه في العاصمة السوفييتية، قرر الشاعر الشاب محمود درويش وكان عمره آنذاك 30 عاما (ولد في مارس/ آذار 1941) أن يذهب إلى القاهرة، مفضلا إياها عن العودة إلى أوامر الإقامة الجبرية، التي كان يحاصره بها الحاكم العسكري الصهيوني، حيث حولته دولة الكيان إلى لاجئ في بلاده.
وفي أول ظهور علني له بالقاهرة في فبراير/ شباط 1971م عقد درويش مؤتمرًا صحافيًا في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري أو العربي، كما كان يسمى آنذاك، وألقى بيانًا صحافيًا، أوضح فيه ملابسات اتخاذه قرارًا باختيار مصر مكانًا لإقامته الجديدة، وكانت تسمى آنذاك "الجمهورية العربية المتحدة" ودافع درويش عن قراره، باعتباره قرارًا شخصيًا لا يتحمل تبعاته أحد، وحيا خلال بيانه رفاقه في الحزب الذي انتمى إليه، مؤكدًا على مواصلته النضال ضد الاحتلال الصهيوني.
كان الكاتب الكبير رجاء النقاش قد قدم شعر درويش إلى الجمهور المصري قبل قدومه إلى القاهرة بسنوات، ففي العام 1969م أصدر النقاش كتابه المهم "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" وقبلها أعادت مجلة "الهلال" في عدد مايو/ أيار 1968م نشر ديوانه "آخر الليل" كاملاً وكان يترأس تحريرها آنذاك كامل زهيري، ونوه في تقديمه للديوان أنه "النص الكامل لأحدث ديوان أصدره الشاعر محمود درويش في فلسطين المحتلة بعد 5 يونيو/ حزيران وصادرته السلطات "الإسرائيلية" بعد صدوره".
واستقبله الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بمقالة ترحيبية نشرت في مجلة "روزاليوسف" بتاريخ 22/ 2/ 1971م على عكس ما حدث على صفحات "الحوادث" اللبنانية، حين كتب "ربيع مطر" يرجح أنه اسم مستعار "ليته يعود إلى" "إسرائيل"، لكن حجازي كتب في مقاله: "أنت تعلم يا صديقي أن كل العيون الآن مفتوحة عليك، عيون شعبك العربي في كل أقطاره وعيون رفاقك في الأرض المحتلة، وعيون أعدائك أيضاً.
وأنت تعلم أيضا أن الناس الذين طعنوا بما فيه الكفاية، وخدعوا بما فيه الكفاية، يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلى أنفسهم من المصير الذي ينتهي إليه في العادة نضال اللاجئين السياسيين، وهو أن يقبعوا في ركن مقهى، بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحي بهذه الشفقة، وربما قرأت في بعض صحف عواصم عربية أخرى تعليقات تصرح بها".
ويدافع حجازي في مقاله عن درويش (الشاب) إذ اتهمه البعض آنذاك هو ورفاقه بأنهم "ظاهرة " "إسرائيلية" خصوصًا حين شارك هو وسميح القاسم في مهرجان الشبيبة في صوفيا (بلغاريا) ويؤكد حجازي أن الوقائع تكذب هؤلاء، ف "الإسرائيليون" لم يتيحوا لدرويش ورفاقه إلا الاضطهاد والقهر، إلى أن يقول: "لقد قدمت القاهرة ببالغ الإعزاز نصيبها في الحرص عليك حين هيأت لك مكانك في "صوت العرب" وبقي أن تواصل أنت تقديم نصيبك".
هكذا يمكن أن نقف على بداية عمل درويش في القاهرة، وتحديدا في إذاعة "صوت العرب" لأن هناك روايات تشير إلى مجلة "المصور" زمن أحمد بهاء الدين، ومجلة "الطليعة" التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام، وكلها في الأغلب الأعم روايات صحيحة، لكن حجازي في مقاله، الذي أشرنا إليه، يقترح على درويش عدة مقترحات، أو يقدم له نصائحه: "أقترح عليك في البداية أن ينصب نشاطك في صوت العرب في مجال أساسي هو البرنامج العبري الذي تستطيع أن تساهم في التخطيط له وفي تحريره، وهذا تخصص نحن في أشد الحاجة إليه، فأنت لا تتكلم العبرية، كما يتكلمها سكان "إسرائيل" فحسب، بل أنت أيضا تفهم روح هؤلاء القوم، وتعرف ماذا يؤثر فيهم ويثير انتباههم ويخاطب عقولهم".
ويواصل حجازي اقتراحاته "أقترح عليك أيضا أن تبدأ مشروعا لترجمة الأدب "الإسرائيلي" الحديث إلى لغتنا العربية، إن أعداءنا يعرفوننا عن طريق كاتب مثل نجيب محفوظ أضعاف أضعاف ما يعرفوننا عن طريق أجهزة أمنهم وجواسيسهم".
ويقترح حجازي على درويش ترجمة شعراء معينين، تحديدا أولئك الذين بدأوا حياتهم الشعرية بالروسية ثم تحولوا إلى الكتابة بالعبرية، وذلك لمعرفة كيف يستطيع الشاعر أن يغير لغته في عشرين عاما ومع ذلك يظل يكتب الشعر.
ويختتم مقاله قائلا: "لقد قلت لي في حديث سابق إن الصراع سيكون طويلا، لأنه صراع تاريخي معقد، لن يحسم قبل أن ينضج، فلندخله مسلحين، والوقت أمامنا ومن يدري يا محمود ألا يكون مقامك في القاهرة بداية لأن تشعل نشاطا وتثير روح العمل من أجل ما نطالبك بأن تقوم به وحدك".
وصدق حدس درويش، فالصراع طال أكثر مما يجب ولم ير هو ذاته نهايته، التي ربما تقترب، لكن رهان حجازي أخفق، فقد صرخ درويش فيما بعد: "كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أب" لكنه ينعاه الآن بعد 37 عاما من كتابة مقاله هذا.
يقول حجازي: "رحيل درويش خسارة كبيرة للشعر العربي الحديث وللثقافة العربية بشكل عام، فقد استطاع الصمود في وجه القهر الصهيوني لبلاده بأشعاره التي كانت تؤكد معنى الصمود والمجابهة، مجابهة المحتل والصمود أمام غطرسته، لذا فإن الشعب الفلسطيني خسر شاعرًا كبيرًا لا يزال في أمس الحاجة إليه وإلى أشعاره".
وهناك من يؤكد أن الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين هو من احتضن الشاعر محمود درويش في بداية مجيئه إلى القاهرة وأن غسان كنفاني هو أول من اكتشفه واكتشف شعراء الأرض المحتلة.
وكانت مجلة "المصور" في عددها الصادر بتاريخ 2/ 5/ 1967م قد نشرت مقالا لغسان كنفاني عنوانه "محمود سليم درويش شاعر المقاومة الفلسطينية" بدأه بتناول قصيدة درويش "بطاقة هوية" التي باتت معروفة أكثر بأول سطر فيها "سجل أنا عربي" وأنهاه بقوله: "إن محمود درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة، وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو، حورب فيها برزقه أولا، ثم أبعد عن قريته، ثم وضع في السجن، ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفًا وتحدياً".
وكانت القاهرة أول مدينة عربية تطأها قدما محمود درويش وقد اصطحبه عبدالرحمن الابنودي لرؤية شارع الغورية (أحد أحياء القاهرة الفاطمية) وقد أخذ درويش صورة فوتوغرافية مع مدبولي (الناشر) حينما كان صاحب فرشة كتب وصحف في ميدان طلعت حرب".
بدأت علاقة درويش بالأبنودي قبل أن يخرج من فلسطين، ففي موسكو التقى الشاعر الراحل بمراسل الأهرام هناك "عبدالملك خليل" وسأله عن الأبنودي هل يعرفه؟ وقال له أيضا: "إذا نزلت إلى مصر أحب أن أنزل في بيت الأبنودي قبل أن أزور أيا من المثقفين".
يقول الأبنودي: "درويش هو أهم شاعر معاصر، وقد حمل على كتفيه حملا وطنيا وقوميا ثقيلا، لم يتراجع عنه لحظة، درويش حالة إنسانية وشعرية لن تتكرر، لأن زواجه وأولاده ووظيفته كانت القصيدة، وعلى الرغم مما عرض عليه من مناصب، يسيل لها لعاب أي مثقف، إلا أنه رفض توليها ليصبح شاعرًا فقط، فالشعر كان حياته، وقد كتب أشعارًا تصلح طعامًا وهواء يتنفسه المقهورون، وكل من يطلع على شعر درويش يدرك أنه قيمة كبرى لن تتكرر".
وعودة إلى عمله في مجلة "المصور" فإنه في العدد الصادر بتاريخ 24 مايو/ أيار 1968م كان صلاح عبدالصبور قد نشر مقالا عن درويش عنوانه "القديس المقاتل" وفي العدد الصادر في يوليو/تموز 1968 نشر رجاء النقاش مقالا بعنوان "مع الطبيعة في شعر محمود درويش" شكل أحد فصول كتابه الصادر عنه فيما بعد.
وعندما استقر درويش في القاهرة كتب في المصور بتاريخ 19 أبريل/ نيسان 1971م مقالا عنوانه "هل تسمحون لي بالزواج؟" قال فيه: "لست بطلا كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت"، وطلب فيه أن يتعامل النقاد معه كشاعر لا صاحب قضية.
وتصدر عدد المصور المشار إليه تنويه يقول: "الشاعر الفلسطيني محمود درويش والذي عاش في الأراضي المحتلة قبل أن يأتي إلى القاهرة منذ أسابيع قليلة انضم إلى أسرة المصور ليساهم بقلمه وكلمته في معركة النضال الدائب لتحرير الأرض واسترداد الوطن".
هذا بينما يؤكد الناقد السينمائي سمير فريد على أن درويش تجاوز الحدود الفلسطينية والعربية منذ عقود، وصار من شعراء الدنيا الكبار، وقد أتيح له أن يعرف درويش أولا، من خلال كتاب رجاء النقاش عنه الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الهلال في يوليو/ تموز 1969م.
يقول فريد: عرفت محمود درويش الإنسان في مكتب لطفي الخولي في أول أيامه بالقاهرة عام،1971م وكانت أول زيارة في حياته لمدينة عربية، وأيامها قال "فرحتي غامرة بوجودي في مدينة عربية عظيمة كل اللافتات فيها باللغة العربية".
يقول سمير فريد: "اقتربت من محمود درويش عندما عملنا معًا في مكتب واحد في مجلة "الطليعة" بالأهرام لإصدار "ملحق الأدب والفن" الذي صدر عدده الأول في يناير، 1972م وفي "الترويسة" كان مجلس التحرير مكونًا من لطيفة الزيات، غالي شكري، محمود درويش، سمير فريد، صبري حافظ، وكانت أول قصيدة اختارها درويش للنشر هي "اشتهاء الملكة" للشاعر الشاب آنذاك "محمد عفيفي مطر".
يذكر هنا أن مجلة "الطليعة" كانت قد نشرت نص مقال درويش "أنقذونا من هذا الحب القاسي" قبل أن يغادر الأرض المحتلة إلى موسكو، ومن ثم إلى القاهرة، وهو المقال العلامة في مسيرة درويش حيث طالب النقاد بأن يتعاملوا مع الشعر الفلسطيني في سياق الشعر العربي، لا أن يربتوا على كتفي قائله لمجرد أنه فلسطيني.
وكانت القاهرة قد استقبلت درويش قبل أن يأتي إليها مقيمًا كما ذكرنا بمقال للشاعر صلاح عبدالصبور، وكأنه يرد على مقولة درويش "أنقذونا من هذا الحب القاسي" بشكل غير مباشر، فقد كتب عبدالصبور مقاله عن ديوان "آخر الليل" الذي نشرته مجلة "الهلال" كاملا، إذ رأى الشاعر المصري الكبير أن هذا الديوان "يتحدث للمرة الأولى بلهجة المشارك، لا بلهجة المشاهد، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل، ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده".
كان الديوان يجيب عن أسئلة كثيرة شغلت عبدالصبور، مثل "كيف نعبر عن القضية (الفلسطينية) وبأي كلمات نستطيع أن نخاطب بالمأساة قلب الإنسان وأن نخلق للجرح فمًا ولسانًا فصيحًا، وكانت تثقلنا في بعض الأحيان بأغلال عنتريتنا الجوفاء، فنصرخ ونتوعد ونكذب حتى على أنفسنا".
ويقول عبدالصبور في المقال ذاته "كان شعر فلسطين في معظمه ضائعًا بين العنترية الجوفاء والبكاء الذابل، حتى كتب محمود درويش ورفاقه، لقد تكلموا فحسب كلمة صادقة حزينة حزن الرجال، فأثبتوا أن الشعر هو صوت الإنسان حين يتكلم من قلبه، وبصوته الخاص، لا بأصوات الآخرين، والمجموعة الباذخة التي نشرتها مجلة الهلال في عدد مايو (1968م) الأخير من شعر محمود درويش هي في رأيي حدث فني من أحداث حياتنا ولو استطعت أن أتجرد من ظلال قضيتنا المصيرية، وتذرعت بالحس النقدي وحده، لما تغير رأيي قليلا أو كثيرا فهي شعر، وشعر عظيم بشتى المقاييس".
وفي أحد الحوارات التي أجريت معه تحدث درويش عن علاقته بالقاهرة، والاستشهاد هنا يطول حيث جاء الشاعر الكبير على تفاصيل كثيرة، حيث قال: "بقيت في القاهرة سنتين هما 1971م و 1972م الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية، في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها ولم يكن هذا القرار سهلا، كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي، أفتح الشباك عندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة".
وقال أيضا: "خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية، والناس فيها يتكلمون العربية، وأكثر من ذلك وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدهم من آبائي الروحيين".
وقال درويش: "من سوء حظي أنني لم ألتق طه حسين، كان في وسعي أن ألتقي به، ولم يحصل اللقاء، وكذلك أم كلثوم لم ألتق بها، وحسرتي الكبرى أنني لم ألتق هذه المطربة الكبيرة، كنت أقول إنني مادمت في القاهرة فلديّ متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات، التقيت محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتّاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم".
وفي ذلك الحوار المطول الذي أجراه عبده وازن تحدث درويش قائلا: "عينني محمد حسنين هيكل مشكورا في نادي كتّاب الأهرام، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ، وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي، ونحن البقية في مكتب واحد، وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وإدريس الشخصيتين المتناقضتين، محفوظ شخص دقيق في مواعيده ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة، وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة أستاذ نجيب؟ كان ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان وقت القهوة أم لا، أما يوسف إدريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية وكان رجلاً مشرقًا". وفي القاهرة قال درويش "صادقت أيضا الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل، كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جدًا وكذلك الأبنودي، كل الشعراء والكتّاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم، والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي".
كانت مصر حاضرة في شعر درويش باستمرار عبر مراثيه لجمال عبدالناصر وصلاح جاهين وأمل دنقل، وعبر النيل: "للنيل عادات وإني راحل" و "يا مصر أعطني الأمان" و"في مصر لا تتشابه الساعات/ كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل"، وعبر الحواري الضيقة والأكباد التي أكلتها البلهارسيا، والبنايات الشاهقة، وأضواء الشوارع، والجائزة قبل الأخيرة في حياته والتي منحها له "ملتقى القاهرة للإبداع الشعري" في دورته الأولى العام الماضي، كانت مصر حاضرة في كل هذا وفي كلمته الموجهة إلى الجمهور: "يا مصر خذينا إلى المستقبل"، وفي زواجه من مصرية (له زيجتان) كانت تعمل في منظمة اليونسكو لكنه رحل دون أن يرى هذا المستقبل الذي كان يريده.
الاتصال الأخير ظلت علاقة الابنودي قائمة بدرويش إلى ما قبل أسبوعين من عمر الشاعر الراحل الكبير، فقبل أن يسافر درويش إلى أمريكا، لإجراء الجراحة الخطيرة، كان هناك اتصال هاتفي بينهما، حيث يقيم الأبنودي في بيت ريفي بالإسماعيلية.
كان صوت درويش عبر الهاتف، تسمع صداه جدران بيت الأبنودي في الإسماعيلية، وكان يقول: "لن أدعهم يعبثون بجسدي، خاصة أنهم يريدون 25 سم شرايين، ولم يعد بإمكان جسدي التحمل أكثر من ذلك وسوف أتركهم يكشفون على جسدي ولن أدعهم يجرون العملية". كان الأبنودي يتلقى إذن آخر اتصال هاتفي مع الشاعر الراحل الكبير، وكان قبلها قد علق قصيدته الأخيرة "لاعب النرد" على جدار أمامه، في بيته، بعد أن قصها من إحدى الصحف، من غير أن يفعل ذلك مع شاعر آخر، ومن غير أن يعرف أنها القصيدة الأخيرة.
الخليج 16 / 8 / 2008م