حوار أدونيس ومحمود درويش

مهرجان للشعرالعربي في برلين وندوة حول الذاكرة والشعر

 

وثيقة برلين

ادونيس يقدم محمود درويش في ندوة الذاكرة والشعر بمعهد الفكر الالماني غ1ـ2ف استطيع التمييز بين ما هو خاص وعام ولكنني لا استطيع ان اصنع دائما حدودا بينهما...

أقامت مهرجانات برلين في يومي 16 ـ 18 تشرين الاول (اكتوبر) الجاري مهرجانا للشعرالعربي وندوة حول الذاكرة والشعر وقد شارك في هذا المهرجان الذي حضره حشد كبير من الالمان والعرب قدر بألف مستمع في الليلتين، وهو ما اعتبر حدثا شعريا نادرا في برلين، الشعراء: ادونيس، محمود درويش، عباس بيضون، وديع سعادة، لميعة عباس عمارة، أمل الجبوري، عبد المنعم رمضان، عبده وزان، مؤيد الراوي وأمجد ناصر.

أشرف علي تنظيم هذا المهرجان الشعري العربي الشاعر الالماني يواكيم سارتوريوس الذي يرأس مهرجانات برلين وأسهم في ادارة ندوة الذاكرة والشعر التي خصصت لمحمود درويش وقدمه فيها الباحث الالماني نفيد كراماني وترجم المداخلات والحوارات اللاحقة فورياً غونتر أورت.

وقد حضر الاخيرة عدد من المثقفين الالمان والعرب وعقدت في معهد الحكمة الالماني في برلين.

هنا وقائع هذه الندوة نستهلها بتقديم أدونيس وكلمة محمود درويش ويليها الحوار معه. 

أدونيس:
يسعدني ان اقدم صديقا كبيرا، شاعرا كبيرا، في هذا المعهد الذي اصبح بالنسبة الي اكثر من مكان للقاء والحوار، اصبح رمزا ثقافيا انسانيا يجعلني اشعر كأنه بيت لي.

في الكلمة العربية (المحتل) التباس فهي تشير في آن الي من يقوم بالاحتلال والي من يقع عليه الاحتلال، هكذا تبدو الذات مشغولة بالاخر بدئيا فيما يبدو الاخر مقيما في الذات. وهو التباس يساعد الي حد في الاقتراب من شعر محمود درويش.

محمود درويش ليس شاعرا يكتب شعرا فلسطينيا كما تحاول بعض النظرات ان تؤطره وانما هو فلسطيني او بالاحري عربي يكتب الشعر، وبوصفه كذلك يتحرك شعره في نقطة تقاطع تراجيدي بين التاريخ والواقع. يقول له التاريخ: ان هذا الاخر جزء من حياته وثقافته لا علي المستوي الديني وحده وانما كذلك علي المستوي الدنيوي، لكن الواقع يقول له بالمقابل: ان هذا الاخر هو نفسه الذي ينقض هذا التاريخ ويهدمه اخذا منه كل شيء حتي بيته، التجسيد الاجتماعي والمديني، في تعايشه مع الاخر، يقول له الواقع باختصار عليك ان تقتلع نفسك من نفسك، ان تموت كذات، لكي يعيش هذا الاخر علي انقاضك. هذا التقاطع التراجيدي بين التاريخ والواقع يتحول بكيمياء الشعر الي صراع تراجيدي كذلك داخل الذات، بينها وبين الذاكرة، بين الوعي وما لم يعد الا اثرا، وبين الوجود والمعني.

هكذا يتجاوز شعر محمود درويش الاختزال القومي، الوطني، والاختزال الايديولوجي يتمحور حول فرادة ذاتية لا تحصر ولا تذوب في مجرد الانتماء ايا كان، والطاقة التي يكتنز بها تتخطي الواقع الاجتماعي السياسي القائم.

وما نراه احيانا من توافق بين الشاعر وقضائه السياسي والاجتماعي لا يصح ان يستند اليه بوصفه عاملا حاسما في فهم شعره. الحاسم، ان كان هناك حاسم، يكمن في تاريخ الشاعر الشخصي وفي حياته تخيلية ومشروعا واستباقا. ان شعره يفلت من الوسائط والبني ومن الحتميات والموضوعيات كلها كمثل وردة تنغرس في احضان المادة، غير ان العطر لا يجيء من هذه المادة، وانما يجيء من شهيق هذه الوردة وزفيرها، هكذا يصعد عالمنا نحو آفاق انسانية كونية. 

محمود درويش:
لا استطيع ان اخفي تأثري العميق بما سمعته من ادونيس، تربطني بأدونيس علاقة شخصية منذ ثلاثين عاما، اعرفه صديقا كبيرا وشاعرا كبيرا ومفكرا كبيرا، ولكن قد يكون من المفارقات انني لم اسمع رأيه في شعري الا الان في برلين، وهذه احدي ثمار اللقاء الثقافي الالماني ـ العربي والعربي ـ العربي ايضا.

شكرا مرة اخري للصديق والشاعر الكبير وشكرا لكم علي هذه المناسبة التي حملتموني بها مسؤولية الحديث في الشعر والذاكرة.

اري ان الموضوع واسع ومعقد ومتشعب ولعل خير ما ارتئي البدء به هو تعريف الانسان بانه كائن يتذكر وهو اذ يتذكر يستحضر صورا من الماضي، ولكنه لا يستطيع ان يستحضر او يستعيد التجربة، وعندما يتذكر المرء الماضي لا يسعي الي التحرر من ضغط الحاضر. انه يتذكر فقط لانه يتذكر. يتذكر ليعرف من هو؟ واين هو؟ الذاكرة تستطيع ان تخلق وهم العودة الي الماضي، لكن طريقة عملها الغامضة توضح مدي تعقد العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل في الوعي الانساني.

الذاكرة الشخصية متحف خاص لا يختار محتوياته بوعي او انتقائية. هذه الذاكرة عفوية وتطوعية تحن الي امكنتها السابقة وازمنتها السابقة، تستعيد ذكري فرح لم يعد يفرح او ذكري حزن لم يعد يحزن.

انها تعمل بطريقة تختلف عن الذاكرة الرسمية، فالذاكرة الرسمية تنتقي بوعي كامل ما تريد للجماعة ان تتذكره عن تاريخها، وتنزع عن الذاكرة طابعها المطلق لأن التاريخ يحاول ان ينسي.

الذاكرة الرسمية لا تريد للجماعة ان تنسي، انها تحدد للجماعة ما يجب ان تتذكره. هكذا تخضع لسياسة صنع الصورة عن النفس، الصورة الخالية من العيوب لأن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة وظيفية او نفعية، اما الذاكرة الفردية فهي شاعرية ترتبط بشيء حميم وتحن الي المكان الحميم التي توقظ زيارته الواقعية او المتخيلة كل ما في الزمن الماضي من جمال. انها تعود دائما الي طفولة دائمة، لكن الطفولة طارت وربما يكون المكان قد تعرض لتغييرات جغرافية جعلته مكانا اخر وربما لم يعد البيت الاول موجودا، لكن ذلك المتغير والغائب والمفقود وغير الموجود يبقي ثابتا في الذاكرة.

هل تستطيع الذاكرة الفردية ان تكون حرة تماما؟ ألا تتأثر بالذاكرة الجمعية التي هي عالم العادات والتقاليد والاهداف المشتركة؟

صحيح ان علاقة الذاكرة الفردية بالجمعية تحمي الفرد من خطر الاقتلاع واللاانتماء ولكنها تضغط ايضا علي طريقة تشكل شخصيته او خصوصيته.

في حالتي المحددة استطيع التمييز بين تذكر ما هو خاص وما هو عام لكنني لا استطيع وضع حدود دائمة بينهما، فان ذاكرة الاشياء الحميمية الشخصية ترتبط موضوعيا بذاكرة الجماعة التي انتمي اليها في علاقتها بالمكان اياه.

لا تحتاج ذاكرتي الي نصب تذكاري او متحف لكي تتذكر ولا تحتاج الجماعة، اي جماعتي، الي مثل هذه المعالم لكي تتذكر. ولعل هذا ما يفسر الغياب الفادح للمذكرات واليوميات والسيرة الذاتية في الكتابة الفلسطينية ولكنه يفسر ايضا حضورها الطاغي في الشعر لأن في الشعر دائما اصداء لسيرة شخصية.

هناك مشروع فلسطيني لانشاء متحف وطني، لكننا نسأل دائما منذ سنوات: ماذا نعرض في هذا المتحف؟ هل نعرض الماضي الذي لم يمض تماما أم نعرض الحاضر الذي يتحول بسرعة الي ذكريات؟ فما زالت الذاكرة حية حاضرة في اطلال مئات القري وفي المخيمات وفي الحاضر المدمر، لذلك عندنا سؤال صعب: كيف تنتصر الذاكرة علي تاريخ يطاردها. اننا لا نتذكر الماضي فقط بل نتذكر اللحظة الراهنة التي تحول كل شيء فيها الي ذكريات.

وفيما تبقي لنا من امكانية حياة نتذكر المستقبل ايضا. ان الرغبة في استعادة بعض أمكنة الماضي واستعادة الحاضر تشكل بعض صور المستقبل.

ان سؤال الذاكرة يرتبط بسؤال الهوية والتاريخ والجغرافية، وهنا تتصادم ذاكرتان، ذاكرة المهزومين وذاكرة المنتصرين، ذاكرة المهزومين تلح علي الخطأ وذاكرة المنتصرين تلح علي الصواب، فهذه الذاكرة التي تدونها السلطة مهووسة في تنظيف ذاكرتها من كل عيب وتنظيف تاريخها من وجود الآخر. لنأخذ علي سبيل المثال صناعة الذاكرة الاسرائيلية الرسمية فهي ترسم بقوة الجيش خارطة المكان التوراتي القديم وتحيي رابطة ذهنية بالمكان قائمة علي اساس اساطير دينية، وهذه الصناعة تنفي علاقة الآخر الفلسطيني بالمكان نفسه.

الرواية الاسرائيلية الرسمية التي تؤلف ذاكرة الجماعة تقول: ان الاسرائيليين يعودون لا يهاجرون الي فلسطين وان فلسطين في غيابهم لم تفعل شيئا الا انتظارهم اي ان الزمن كان هناك غائبا لانهم كانوا غائبين، وكان التاريخ عاطلا عن العمل لأن الاسرائيليين يرون انفسهم ظاهرة فوق تاريخية، وهكذا احتاجوا الي تلفيق الماضي والي حصر تاريخ فلسطين كله في الحقبة اليهودية ليتحول مشروعهم السياسي الي معجزة، معجزة احضار الماضي كله من الزمن القديم.

اما الذاكرة الفلسطينية فانها تتذكر هذه العملية باعتبارها عام النكبة، لقد ادي تلفيق الماضي واحتكاره الي انتقال الصراع بين الذاكرتين الي صراع علي الماضي ايضا، لكني اعتقد ان الرد علي الميثولوجيا الاسرائيلية بمثلها اي بميثولوجيا فلسطينية كنعانية وسرد الحكاية الفلسطينية باعتبارها حكاية فلسطين المتواصلة منذ الكنعانيين حتي اليوم هو شكل من اشكال التهديد بسلاح غير موجود، فليست الاسطورة الاسرائيلية هي التي انتصرت، ان الذي جعل المشروع الاسرائيلي قابلا للتحقيق هو قوة السلاح والحداثة الغربية وقوة التأثير الاخلاقي الذي احدثه الهولوكوست في الضمير العالمي، ولكن احدا لا يريد ان يستمع الي تساؤل الفلسطينيين: لماذا ينبغي علينا ان ندفع وطننا ثمنا لما حدث لليهود في اوروبا؟

الذاكرة الشعرية والشخصية والثقافية هي ذاكرة عابرة للزمن، فعندما نستعير بعض الرموز والاساطير الكنعانية في الشعر لا نسعي الي الدخول في صراع علي أي منا يملك ماضيا أبعد؟ بل نفعل ذلك لكي نشير الي تعددية الثقافات علي تلك الارض لنقول اننا نتاج هذه الثقافات بما فيها الثقافة الكنعانية واليهودية وغيرهما. فتاريخ فلسطين الثقافي تاريخ تعددي وليس تاريخا حصريا، من دون ذاكرة فردية لا يمكن ان يكتب الشعر.

ذاكرة الشاعر هي مخزون الصور التي رآها او تخيلها من خلال الثقافة، وقد رأيت كيف اقتطعت طفولتي من عمرها ورأيت طريق الرحيل الواضح ورأيت كل قصتي، كل القصة. ووجدت من الصعوبة البالغة التعود علي اسمي الجديد في لبنان، هذا الاسم الجديد هو كلمة (لاجئ) وقد رأيت كيف تغيرت مشهدية المكان، لا أثر لوجودي السابق الا في الاطلال وفي الذاكرة، وهكذا عندما اتذكر حكايتي الشخصية او حكايتي الصغري، ترتبط في وعيي بالحكاية الكبري، لا اقصد ابدا ان اكون صوت الجماعة لكن ذاتي تحتضن ذواتي الاخري فيختلط صوت الشاعر بصوت الجماعة، ولا يتميز صوت الشاعر من صوت الجماعة الا بالطريقة الشعرية والرؤية الجمالية التي يعمل بها لترميم المكان شعريا، وهكذا لا يكون شخصيا تماما ولا عاما تماما، هناك تلاحم صعب بين الشعر والذاكرة الجمعية، كل طرف يضغط علي الطرف الآخر.

تعرفون كم هو صعب ان يكون المرء فلسطينيا ولكني اعرف اكثر كم يكون من الصعب ان يكون الفلسطيني شاعرا لأنه محمل بمهام قد لا يتحملها الشعر، موزع بين متطلبات جماعية ودور لا يستطيع القيام به وحده، كأن يكون فيه شيء من المؤرخ، شيء من الجغرافي، شيء من الميثولوجي، شيء من الآركولوجي، وشيء من السياسي، وعليه ان يحرر الواقعي من الاسطوري وان يجعل الواقع أسطوريا في آن واحد.

اتفقنا ان الشعر لا يتشكل الا انطلاقا من ذاكرة الفرد لكن هذه الذاكرة تلتقي الذاكرة الجمعية من خلال التاريخ المشترك والحاضر المشترك وتراجيديا الماضي المستمر.

وعندما تقوم الذاكرات الفردية بسرد حكايتها فانها تسهم في تشكيل ذاكرة جمعية كما تسهم الذاكرة الجمعية في تشكيل الذاكرة الفردية.

ومن المعروف ان مفهوم الشعب لا يتحدد دائما بعلاقة الدم ولكن بالذاكرة المشتركة.

ان ازمنة الذاكرة هي الماضي البعيد او القريب وامكنة الذاكرة هي الأمكنة المفقودة والغائبة او التي شهدت تجربة حميمية شخصية او شهدت كارثة جماعية ونحن لا نتذكرها لكي نستعيدها، نتذكرها لنفهم حاضرنا ونعرف طريقنا الي المستقبل. لا أحد يحن الي وجع سابق ولكننا نحن جميعا الي فرح عرفناه في الماضي ولا نجده الا في المستقبل، وعندما يتذكر الفرد او الجماعة الوجع السابق فانه يفعل ذلك لكيلا تتكرر هذه التجربة المأساوية وعندما يصبح طريق الغد آمناً فان شيئا من النسيان قد يصبح احد شروط التحرر. 

الحوار والمداخلات:
وبعد ان فرغ محمود درويش من كلمته المعدة فتح باب الاسئلة والحوار بين حضور الندوة المصغرة ومحمود درويش، وشارك ادونيس بمداخلة ثم اجاب علي بعض الاسئلة التي طرحت عليه.

سؤال من الصحافي الالماني (...)

اذا لم يكن هناك مانع أود ان افتح النقاش بأن الشعر الفلسطيني يمثل بشكل خاص ذاكرة جماعية، ربما يصح القول: ان الشعب الفلسطيني تشكل عبر الشعر كما تشكل العرب بمعني معين قبل الاسلام في ضوء تفتتهم القبلي، تشكل العرب آنذاك ايضا عن طريق الشعر واللغة المشتركة كما ينطبق ذلك الي حد ما ايضا علي الشعب الالماني الذي كان مفتتا او مقسما الي عدة دويلات صغيرة في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وكان الأدب دائما هو العنصر المشترك.

الي جانب الشعر الفلسطيني لا يوجد تقريبا الا شعر واحد في العالم يمثل نفس الذاكرة الجماعية هو الشعر اليهودي، ربما يتمثل ذلك ايضا في الأديب المجري الكبير (امروكارتش) الذي كان زميلا في معهد الدراسات العليا هنا والذي اتخذ من تجاربه في معسكرات الابادة النازية موضوعا لحياته، والسؤال المطروح علي السيد محمود درويش، اليس من مأساوية الحداثة ان تكون الثقافتان الفلسطينية واليهودية بالذات هما ثقافتان تصطدمان الآن وتعتبران عدوتين؟ علي الرغم من ان الموضوعات الكبيرة في هاتين الثقافتين هي الهجرة والابادة والنكبة الوطنية؟ 

محمود درويش:
السؤال مركب ومعقد وحساس ايضا لأن الفلسطينيين قد يكونون مرشحين ان يصبحوا يهوداً من نوع آخر، اي ان اليهود، الاسرائيليين اعني بنفيهم للوجود العربي في فلسطين، نفي الاخر بهذا الشكل، قد يخلقون يهودهم بأيديهم، ولكن هذا المصير يعذب الاسرائيليين اكثر مما يعذب الفلسطينيين علي المستوي البعيد لانهم لا يريدون ليهودي اخر ان يكون يهوديا.

تعرفون ان الله في معظم الاديان هو للجميع، ولكن العقيدة اليهودية: الله فقط لليهود. ان القدرة علي احتكار الله هي قدرة استثنائية، ولكن هذه مسألة عقائدية، دينية، ايمانية، متروكة لكل فرد يعالجها بطريقته الخاصة، ولكن في العمق لا اعتقد ان الصراع بين المشروع الاسرائيلي والوجود الفلسطيني هو صراع، في الاساس، قائم علي اسس ثقافية، هو صراع، في الاساس، سياسي، صراع بين قوة استيطانية ومجتمع معرض للاقتلاع الدائم.

ولنعد الي الكتب المقدسة، كنت اتحدث انا وادونيس منذ ايام عن ان القرآن هو الحافظ للذاكرة اليهودية، اي ان اليهودية موجودة وذات مكانة رفيعة في الديانة الاسلامية، وفي النص القرآني، وهكذا اري ان الصراع بيننا وبينهم لا يدور حول امتلاك الله او انبيائه، فكل انبياء اسرائيل، وكل حكام اسرائيل وكل ملوك اسرائيل الذين ليسوا دائما انبياء في التوراة هم انبياء في القرآن، لذلك اري ان اساس الصراع في فلسطين هو ليس صراعا علي الله، انه صراع علي الارض. ولكن صحيح كل طرف يجند الثقافة لنقل الصراع الي مستويات اخري من اجل تفعيل شرعيته التاريخية من خلال الثقافة. 

أمجد ناصر:
هناك ما يسر في الكلمة التي قدمها أدونيس عن محمود درويش وتأثرنا بها بقدر ما تأثر درويش: شاعر كبير يقدم شاعراً كبيراً، كما اننا اذا تحدثنا عن علاقة الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية لن نجد افضل مما قاله محمود درويش في هذا السياق.ولكن لفت نظري، في الكلمة التي قدم بها أدونيس محمود، حديثه عن كلمة في العربية تحمل التباسا هي كلمة المحتل . إنها، كما اشار ادونيس، تعني من يقوم بالاحتلال ومن يخضع للاحتلال، ولكن ادونيس اشار مباشرة بعد هذه الكلمة الي الآخر ، الي علاقة محمود درويش بالآخر، وانا اظن ان كلمة الاخر هنا ايضا لا تقل التباسا عن كلمة محتل، أدونيس عندما تحدث عن الآخر هل كان يقصد بالآخر: الغربي؟ هل الاسرائيلي هو الاخر؟ 

أدونيس:
أعتقد في سياق النص: الآخر مفهوم أنه اليهود، مميِّزا بين اليهودي والاسرائيلي. أنا لا اقيم تماهيا بين اليهودي والاسرائيلي. الاسرائيلي هو انتماء لدولة، لنظام سياسي، واليهودي هو انسان مثلنا جميعا، ولذلك الآخر الذي أعنيه هو اليهودي، واذا كانت هناك نقطة التباس جوهرية: هي كيف ان هذا اليهودي الذي هو جزء منا ومن حياتنا لا يستطيع ان يقيم فاصلا اخلاقيا ومعرفيا بين كونه يهوديا وكونه اسرائيليا، فأنا اتساءل عن انعدام المسافة بينهما في حين ان هذه المسافة موجودة عند جميع الشعوب، وعند المثقفين خاصة، لكن، مثلا، اليهودي يقظ ومتنبه لحقوق الانسان في العالم كله، ولكنني قلما رأيت شهادة تاريخية من المثقفين اليهود يدافعون بها عن حقوق الانسان في فلسطين.

وانا هنا اجدد، اكرر عتابي لهذا الاخر الانساني الغائب عند اليهودي، طبعا انا هنا اعمم ولا بد من ان اشير الي ان هناك يهودا معنا ويدافعون عن حقوق الفلسطينيين، انما هؤلاء ما زالوا قلة واستثنائيين، لكننا نحييهم. 

يحيي الوردي:
الي أي مدي يمكن اعتبار ان ذاكرة الاخر استطاعت تحويل الاسطورة الي واقع؟ بنيما ذاكرتي انا قد حولت الواقع الي اسطورة. والي اي مدي يمكن اعتبار هذا دليلا علي ان هناك صراعا حضاريا وثقافيا قد يكون اهم من الصراع السياسي الذي طرحته.ان الذاكرة الصهيونية اكثر حداثة تعود جذورها الي الحقبة الصهيونية، لكن عندما ظهرت دولة اسرائيل كان يتحتم عليها ان تقيم في ذاتها وعيا تاريخيا خاصا بها. 

الكاتب الالماني ميشيل كليبارك:
ما قاله محمود درويش عن الذاكرة الفردية وجدته صحيحا من اول لحظة، ولكن ما يتعلق بالذاكرة الجماعية او المشتركة للفلسطينيين، انا لاحظت السرعة التي انتقلت بها الي اسرائيل كأن الذاكرة الجماعية مرتبطة ارتباطا مباشرا بوجود دولة اسرائيل، فسؤالي الذي اطرحه في هذا السياق: الي اي مدي تنطبق هذه التهم الموجهة الي اسرائيل، انها قفزت من تاريخ قديم ما قبل الفي سنة الي الدولة الحديثة، الي اي مدي ينطبق هذا ايضا علي الفلسطينيين؟ كأن الذاكرة المشتركة لديهم ايضا تبدأ او ترتبط بشكل خاص فقط بتأسيس دولة اسرائيل. 

محمود درويش:
قد تكون محقا في الاشارة الي الالتباس الذي اثاره كلامي، ولكنني اخذت عام ثمانية واربعين مثالا علي كيف كل ذاكرة تقرأ الحدث بطريقة مختلفة، وكيف ان نفس الحدث التاريخي بالنسبة الي طرف معجزة استعادة، وبالنسبة الي الطرف الآخر هو نكبة، ولم اشأ ان اقول ان تاريخ الذاكرة الفلسطينية او تاريخ وعي الفلسطينيين بذاتهم قد بدأ في عام ثمانية واربعين، ولكن لا شك ان زلزال ثمانية واربعين قد استنفر عناصر الهوية الوطنية الفلسطينية ووعيهم بذاتهم، واعتقد ان كل هوية لا تنتبه الي التساؤل حول نفسها الا اذا تعرضت للخطر، اي ان الهوية التي تنتبه دائما الي نفسها في أيام السلم والأيام العادية هي هوية مهووسة او متأزمة ولكن الخطر هو الذي يحرك سؤال الهوية، خارج هذا الخطر لا سؤال حول الهوية.

الوجود الفلسطيني حقيقي الي درجة، وتاريخي الي درجة، لم يشعر فيها الفلسطينيون بالحاجة الي البرهنة علي وجودهم، ووجودهم عفوي وتلقائي وتاريخي، لم يكونوا بحاجة الي تقديم البراهين التاريخية علي وجودهم، وهذا يفسر الفارق الكبير في الكتابة حول المكان، بين الكتابة الاسرائيلية والكتابة العربية، لان الاسرائيلي يحتاج الي تثبيت شرعية ثقافية وتاريخية للمكان فكتب مذكرات شخصية وسيرة ذاتية وتاريخ المكان من الزاوية التي رآها تخدم شرعيته الحاضرة، بينما الفلسطيني لم يكتب مذكراته ولم يشعر بالحاجة الي ان يبرهن انه موجود وممتلئ بوجوده.

كثيرا ما يجري الحوار مع بعض المؤرخين الاسرائيليين او المثقفين الاسرائيليين، هم يقولون: انكم، أنتم الفلسطينيون، مدينون بهويتكم لنا، اي نحن الذين صنعناكم ولكن عندما تسألهم: ومن الذي صنعكم؟ لا تتلقي جوابا، يقولون لك: الملك داود او الملك سليمان، وهذا ليس جوابا حقيقيا، لا يستطيعون ان يقولوا انهم مدينون بنجاح المشروع الاسرائيلي الي الهولوكست، لا يستطيعون ان يقولوا ذلك لان الهولوكست حادثة او جريمة صنعها الغرب في زمان ومكان محددين تاريخيا بينما الوجود الاسرائيلي، امام نفسه، هو وجود فوقي.

اما ان المشروع الاسرائيلي وعام النكبة قد ايقظا عوامل الوعي الفلسطيني بهوية فلسطين فهذا صحيح ايضا مثل اي خطر دائم يحرك الوعي بالهوية. كذلك الهوية الاسرائيلية تتشكل من عوامل الصراع في المنطقة مع العرب، ليست هناك هوية بمنأي عن التأثر بالعوامل التاريخية لأن الهوية ليست مفهوما خرافيا ولا استعاريا. 

مداخلة من احدي الحاضرات:
أنت قلت: كون الانسان فلسطينيا صعب، وكون الانسان شاعرا فلسطينيا اصعب، لذلك اردت ان اطرح سؤالا شخصيا: بعض الافلام الجديدة مثلا فلم أزهر حسن او افلام سليمان يظهر ان وضع الفلسطينيين يصبح اكثر واكثر وضع انتظار. كأنهم في حالة الانتظار. كيف وما سبب انفجار هذه الظاهرة؟ وكيف يؤثر هذا الانتظار الملموس في قدرة تكوين الابداع، أنت، مبدعا، كيف تعيش هذه الحالة؟ 

محمود درويش:
سؤالك صعب، الواقع اصعب من سؤالك، لا يستطيع الشاعر ان لا يري ما حوله، وماضيه، ولكن باستطاعته ان يخلق ما يشبه منطقة محايدة في داخله، محايدة لكي يستطيع ان يتأمل في عمله الابداعي ولكي يخلق مسافة بين اللغة ومرجعيتها، بين المتطلبات الجمالية وضغط الواقع. ان يبحث عن علاقات غير موجودة احيانا بين الكلمات والموضوعات، وكل ذلك من الاسئلة الصعبة التي تواجه اي شاعر حتي لو لم يكن فلسطينيا، وهذه تعتمد علي الخبرة الخاصة والتدريب الخاص لكل شاعر لان الشاعر كائن قادر علي خلق الوهم بأن الكتابة تحرره، وسيلته الوحيدة لتحرير نفسه هو ان يكتب، وعندما يكتب يشعر انه انتصر علي الحصار وعلي الدبابات وعلي منع التجول، هكذا الوهم ضروري للابداع، ولكنه لا يستطيع العيش معه دائما ولا ان يكتب الشعر دائما، لذلك الشعر قليل، لا اريد ان اقول ان الحرمان هو الذي يخلق الابداع، لا، ما دام الحرمان موجودا، نتغلب عليه باستحضار الغائب. 

مداخلة:
لدي تساؤل: هل يمكننا بسهولة ان نتلمس البعد السياسي للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي لنحوله الي صراع علي الأرض؟ كما قال الشاعر محمود درويش ولا سيما بعد بروز الدور الكبير الذي يؤديه الجهاد الاسلامي من جهة، وحزب الليكود، ذي النزعة التلموذية، وبعد بروز ظاهرة الاستشهاديين الفلسطينيين التي استطاعت ان تهز الوضع الاسرائيلي. اود ان اطرح هذا السؤال: الي اي مدي سيظل الطابع الديني يؤدي دورا في هذا الصراع؟ اما بالنسبة الي قضية اليهود وعلاقة القرآن والاسلام باليهود فأعتقد ان الاسلام يتكلم علي اليهود بمعني التاريخ مثلما تتكلم المسيحية عن اليهود بمعني التاريخ اود ان اوجه سؤالي بحضور الاستاذ ناصر حميد ابو زيد، لعل له تعليقا يوضح هذا الاقتباس. 

ادونيس:
انا ليس لدي سؤال انما لدي وجهة نظر، يصعب في هذا الاطار الكلام علي الذاكرة دون الاشارة الي جوانب سلبية ولا انسانية تؤديها الذاكرة في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، فالذاكرة تخلق اصوليات اسلامية واصوليات يهودية، تكاد الذاكرة تكون نوعا آخر او شكلا آخر من اشكال استعمار لا العقل وحده وانما الجسد ايضا، تستعمر العقل والجسد، وفي هذا الاطار انا اري الذاكرة، خاصة في الشرق الاوسط العربي، حجابا وقيدا، حجابا لانها لا تري الا ذاتها وتتمرأي في تاريخها الخاص، وقيدا لانها تأسر صاحبها فيها، وهكذا تخلق لنا الذاكرة عالما، التوهم فيه اكثر واقعية من الواقع، بل التوهم ينظر اليه احيانا كأنه الحقيقة الوحيدة، وهكذا تضعنا الذاكرة في المنطقة عندنا امام هذا المأزق الخطير.

ما يأتي لا يقدر ان يحيا الا بما مضي. وهذا اعظم قيد ليس للشعر وحده، للابداع، وللتقدم، وللانسان. 

جورج تامر (استاذ جامعي عربي).
أدونيس شاعر ويشعر بأسئلة الآخرين قبل طرحها ولكن أود أن أطرح سؤالا وأن اعقب علي ما قاله الاستاذ عبده وازن بملاحظة، وأبدأ بالملاحظة:

ما قاله، سؤالا موجها اليك (محمود درويش)، استطيع ان اشاركه فيه وان الفت النظر الي انه، بناء علي تصويرك للواقع وللصراع الثقافي الذي ليس صراعا بين اليهود والمسلمين، اقول بناء علي هذه الرؤية يكون الصراع القائم حاليا في الشرق الاوسط بالاحري صراعا بين مسيحية ويهودية، والمفارقة الكبري هي ان دور المسيحيين العرب مغيب تماما في هذا الصراع.

هذه كانت الملاحظة، السؤال: أنتَ (محمود درويش) قلت في ختام حديثك جملة جميلة جدا: حين يكون المستقبل آمنا يصبح النسيان نوعا من التحرر ، وبالتالي منحت النسيان دوراً فاعلاً. ما الدور الفاعل، يا تري، الذي يمكن ان تؤديه الذاكرة في خلق حاضر جديد؟ 

نصر حامد ابو زيد:
حين تحدث ادونيس عن الالتباس في كلمة المحتل انها اسم فاعل وأنها اسم مفعول في الوقت نفسه، وربط بين المحتل والآخر، ثم جاء سؤال أمجد ناصر عمن يكون الآخر: هل هو الاسرائيلي فقط؟ ام الآخر، بمعني اوسع، الغرب، وهذا التباس ايضا في وعينا للآخر، يلتبس الاسرائيلي بالغربي، وتلتبس اسرائيل بالغرب، ولكن هذا الالتباس ليس قائماً في فراغ، أقول ان هذا الالتباس ليس، بالكامل، خطأ عربيا او خطأ فلسطينيا اذا ما ربطناه بما قاله الاستاذ محمود درويش عن المشروع الصيهوني انه انتصر ليس بالاسطورة وانما بالحداثة، ونحن هنا ازاء دور الحداثة في انتصار المشروع الصهيوني والمشروع الصهيوني شديد الارتباط بالحداثة علي المستويات المتعددة، ليس فقط علي مستوي السلاح. المشروع الصيهوني، كما نعرف جميعا، سابق علي الهولوكست وليس نتيجة للهولوكست. ربما يكون الهولوكست تعبيرا عن ازمة الحداثة نفسها وعن الالتباس في الحداثة التي افضت الي الاقصاء: اقصاء الآخر من مشروع الحداثة، لأن هذه الحداثة قائمة بشكل سياسي علي مفهوم العلمانية ومع ذلك فان هذه الحداثة هي التي اسست دولة اسرائيل علي اساس ديني ودولة باكستان علي اساس ديني.

يقودني هذا الي مشكلة الذاكرة الجمعية وكيف تصنع صورة الآخر، وسؤالي هنا: هل نحن بازاء ذاكرتين في تصارع الفلسطينية والاسرائيلية؟ او اننا يجب ان ندخل في هذا الصراع الذاكرة الاوروبية او الوعي الاوروبي بالتباساته ايضا جزءا من هذا الصراع بين الثقافات.من خلال وجودي في اوروبا خلال سبع سنوات اري ان اي نقد لدولة اسرائيل هو نقد لليهود وانه من الصعب بمكان طرح تفكيك الاسطورة الاسرائيلية القائمة علي الاسطورة التوراتية، فالمتدينون يؤمنون بالحق التوراتي لليهود في ارض فلسطين، وغير المتدينين يتحدثون عن الحق التاريخي، وهنا يلتبس التاريخ بالاسطورة، كما يلتبس التاريخ بالاسطورة في العقل الاسرائيلي وفي العقل العربي.

وهذا يعقد دور المثقف ودور المفكر ودور الشاعر، وسؤالي لمحمود درويش: بعد السنتتين الاخيرتين وانا اعرف ان شعره يقوم علي هذه المحاولة الدائبة لتفكيك الاسطورة، ذلك التوتر الذي اشار اليه ادونيس بين الذاكرة الجمعية وبين الذاكرة الفردية، بين التاريخ وبين الحاضر: الي اي حد يحس محمود درويش، شاعرا في شلال الدم الذي لا يستطيع احد ان يتجاهل وجوده، ان يحافظ علي هذه الصيغة الابداعية. ان سؤالي هنا نابع من احساسي انا بالعجز، في المجال الذي اعمل فيه، عن الاحتفاظ بهذه الصيغة، فالي اي حد الشاعر قادر علي الحفاظ علي هذه الصيغة؟ 

محمود درويش:
كل ما سمعته، طبعا، قضايا كبري، وليست اسئلة توجه الي شخص سياسي، ولكن كان بودي ان يبدأ عباس بيضون النقاش لكي يلغي كل النقاش! لم يتكلم احد علي السياسة والذاكرة، تكلمنا علي سياسة الذاكرة الجمعية، ولم نتكلم علي الهوية، مفهوما مطلقا، تكلمنا علي علاقة سؤال الذاكرة بسؤال الهوية. صديقي عبده وازن تساءل عن كيفية تناسي البعد الديني في الصراع. من المفيد ان لا ننسي ان نقدنا الاساسي الي اسرائيل انها قائمة علي اساس فكرة دينية، وهذا التناقض بين الفكرة الدينية والحداثة الاسرائيلية هو وجهة الصراع الداخلي الرئيس في اسرائيل.

ان اي فتحة لاحتمال سلام عربي ـ اسرائيلي تطور الصراع الداخلي بين العلمانيين والمتدينين في اسرائيل، لذلك هذا التناقض هو سؤال اسرائيلي داخلي اكثر مما هو سؤالنا، لانه لا يمكن ان تتعايش الخرافة مع الحداثة الي امد بعيد، ولكن في المفاوضات، مثلا، حول اماكن مقدسة في القدس كان وزير الخارجية الاسرائيلي آنذاك من العلمانيين المعروفين، استاذ تاريخ اسمه (شلومو بن عامي) هو استاذ تاريخ وعلماني كبير، كان في المفاوضات يتبني الخطاب الديني بالكامل لانه بحاجة الي تصليح الواقع بأدوات خرافية، فكلما اصطدم الواقع بحالة تناقض مع الخرافة يتقدم البلدوزر من اجل اصلاح الواقع لمصلحة الخرافة.

لا احد يحسد الاسرائيلي علي هذا التمزق في داخله وعلي هذا الانقسام الحداثي والخرافي، ولكن من مصلحتنا ان لا نطور فهمنا للبعد الديني في الصراع، وبقدر ما نستطيع ان نجنب الصراع هذا البعد الديني لاننا جميعا، عربا واسرائيليين، يهودا ومسلمين ومسيحيين، سنكون ضحايا الهيمنة الاصولية من كل الاطراف.

سؤال حول الاستشهاديين، من السهولة دائما الا نقبل وان ندين العمليات الاستشهادية التي تصيب المدنيين، ونحن نفعل ذلك دائما، ولكن علينا ان نفسر هذه الظاهرة ليس باعتبارها جزءا او تعبيرا عن الثقافة الاسلامية لدي الفلسطيني المنتحر، ولكن باعتبارها افصاحا عن يأس وعجز تجاه مقاومة الاسلحة الاسرائيلية الحديثة. علينا ان نفهم الطريقة التي يكره فيها الانسان عجزه، ولكن ليست اصابة المدنيين بخيار مقبول بتاتا لا من الناحية الاخلاقية ولا من ناحية المصلحة الوطنية ولا السياسية، ولكن ما ينبغي ان نؤكده هنا، في اوروبا وفي الغرب، بشكل عام هو ان هذا ليس استجابة لعقيدة دينية او ثقافة دينية تمجد الموت والبحث عن العذاري في الآخرة!

اتفق تماما مع ما قاله ادونيس عن الجوانب السلبية للذاكرة الجمعية عندما تقدس الماضي وتنظر الي ماضيها علي انه المستقبل الوحيد فتحوله الي سجن فعلا.

اما موضوع الصراع بين المسيحية واليهودية فأرجو الا أفتي فيه، ولكني اتمني الا نشهد اي صراع بين الاديان. الذاكرة تستطيع ان تؤدي دورا في خلق حاضر جديد بشرط ان نفهم المشترك في الذاكرة الانسانية، ان لا نبحث عن المختلف بحيث يكون في ذاكرة جماعة ما مكان لجماعات اخري، وهذا يقودنا الي سؤال الاقصاء، ليس في ذاكرتنا اقصاء للآخر.

ولا طريق نحو سلام حقيقي الا باعتراف ذاكرة المنتصر بذاكرة المهزوم.

ولكن هل هذا ممكن؟ انه يتوقف علي النضج الانساني وعلي سعة ثقافة الآخر تجاه آخره، هكذا ترون ان الاسئلة كلها محالة علي الجواب السياسي وليس علي الجواب الثقافي.

مع الاعتذار لعباس بيضون.

شكراً جزيلا 

المصدر: القدس العربي/ 2002م