من أوراق خاصة لم تنشر في حياة درويش

أحمد الشّهاوي

رغم ما بيننا من محبَّةٍ لم أُجْرِ حوارًا واحدًا مع محمود درويش، لكنَّني سألتُهُ مئاتِ الأسئلةِ، وتحدثنا في موضوعاتٍ شتَّى، وليس لديَّ سببٌ لأذكَرَهُ عن لماذا لم أحاوره، رغم أنَّني حاورتُ أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الماغوط، وأدونيس، ونزار قباني وغيرهم طبعًا.

هل لأنَّه الأقربُ لي شعريًّا، ربَّما.
هل لأُحافظَ عَلَى المسافةِ بين حَرْفٍ وآخر ربَّما.
وربَّما أشياءٌ أُخرى كثيرةٌ.

لكنَّني كُنْتُ دائمَ الحديثِ عنه في كلِّ مجلسٍ، وإذا ما كان هناك موضوعٌ مَثَارُ جَدَلٍ حولَهُ في الصحافة العربية، أُشَارِكُ فيه بالرَّأي والكِتَابَةِ.

فَتَحتُ صفحات مجلة "نصف الدنيا" ـ التي يصدرها الأهرام أسبوعيًّا ـ حيث أعملُ نائبًا لرئيس التحرير، لنشر سلسلةٍ من الحواراتِ معه أَتَتْ من دولٍ عربيةٍ شَتَّى.

كما كان أحد الكبار في برنامجٍ تليفزيونيٍّ شاركتُ فيه، أنتجتْهُ قناةُ النِّيل الثقافية، وقد تحدَّثَ فيه درويش عن أشياء جديدةٍ ومختلفةٍ وزوايا مغايرةٍ لا يعرفُها عنه جمهورُهُ.

أصدقاؤنا المشتركون حاوروه، ربَّما أكثر من مرَّةٍ، وجاءت حواراتهم وثائقَ مهمةً ستبقى طويلا، ومن هذه الحوارات ما نُشِرَ في كُتبٍ. لكنَّني كُنْتُ أفعلُ أشياءً أُخْرى لمن أُحبُّ، ومحمود في مقدمةِ هؤلاء من الشُّعراء، مِنْهَا دعوتي إياه إلى مكتبةِ الإسكندريةِ، إذْ أمضينا أَيّامًا مُهمةً: محمود وصبحي حديدي وأنا، كُنَّا في ضيافةِ الإسكندريةِ برعايةِ وحبِّ صديقي د. يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات بمكتبةِ الإسكندرية، وَدَعَوْنَا علي الحجَّار ليغنِّي من شِعْرِ محمود، وجاء أصدقاؤنا الشُّعراء والصحفيون والنقَّاد والكتَّاب من القاهرةِ.

وكانت أيام محمود في الإسكندرية في مايو 2003 ثريةً وخاصَّةً ومحتشدةً بالذكرياتِ والشِّعرِ والفَيْضِ والتذكُّرِ والحنينِ إلى مصر، والسبعينيات من القرن الماضي، حيث عاش محمود في القاهرةِ، التي كانت أوَّلَ مدينةٍ عربيةٍ يراها بعد خروجِهِ التاريخيِّ من فلسطين.

قررتُ وكان معي المصوِّر الصَّحفي محمد حجازي، أن أُسَجِّلَ هذه الأيامَ بالقلمِ والكاميرا. وأعلمتُ محمود أنَّني سأدوِّن كُلَّ مايذكرُهُ، وأخرجتُ من جيبي قلميَ الأَسْوَدَ، ومفكَرةً صغيرةً قرمزيةَ الَّلونِ، عثرتُ عليها بسهولةٍ يوم السبت التاسع من أغسطس 2008 (تاريخ رحيل محمود في مدينة هيوستن الأمريكية).

ويوم السَّبت هذا حدَّده محمود من قبل في كتابِهِ الأخيرِ "أثر الفراشة" موعدًا لموتِهِ، إنه استشرافٌ مثيرٌ وشفيفٌ في آنٍ:

"صدَّقتُ أنِّي مِتُّ يوم السَّبتِ،
قَلْتُ: عليَّ أن أُوصِي بشئٍ ما
فلم أَعْثُرْ على شئٍ
وقلتُ: عليَّ أن أدعو صديقًا ما
لأخبَرهُ بأنِّي مِتُّ
لكنْ لم أجدْ أحدًا.
وقلتُ: عليَّ أَنْ أمضي إلى قبري
لأملأَهُ، فلم أجد الطَّريقَ
وظلَّ قبري خاليًا منِّي
...."

إلى نهايةِ القصيدةِ التي عنوانها "إجازةٌ قصيرةٌ" كأنَّ محمود كان يُشيِّعُ نَفْسَهُ يوم كَتَبَ هذه القصيدةَ بين صيف 2006 وصيف 2007 (هو لم يحدِّد. لأنَّه غالبًا لا يؤرِّخُ قصائَدُه ولا يحدِّد أمكنةَ كتابتها، خصوصًا في سنواتِهِ الأخيرةِ).

"وأُشيِّعُ نفسي بحاشيةِ من كمنجاتِ إسبانيا
ثُمَّ
أمشي
إلى المقبرة".
"لم أكتب السَّطْرَ الأخيرَ من الوصيِّةِ،
لم أُسَدِّد أيَّ دَيْنٍ للحياة".
"وَطَارَ الموتُ من لُغَتي إلى أشغالِهِ".

كأنَّ محمود في كتابهِ الأخيرِ "أَثَرُ الفَرَاشَةِ"، كان يودِّعنا، يودِّع لُغته، مَاءَ قصيدتِهِ، صَوْتَهُ في رنَّة الذَّهَبِ حينما يَنْزِلُ من نَارِهِ.

وَافَقَ محمود أن أدوِّنَ، دُونَ أَنْ أخدشَ صَمْتَهُ، أو استرسالَهُ، وكان يتحدَّثُ دون أَنْ أَعِدَ بالنَّشْرِ قريبًا. ومحمد حجازي يُصوِّرُ، ولم نَنْشُرْ صورةً أو كَلِمةً واحدةً قبل موتِهِ.

وظلَّت الذكرياتُ محفوظةً بتدوينها الأوليِّ في مفكِّرتي، وأنا أَسَاسًا لا أستخدمُ المفكِّراتِ في التدوينِ، وهي المرَّةُ الأولى في حياتي التي أدوِّنُ فيها لصديقٍ. فَأَنَا عادةً أدوِّنُ لنفسي في رحلاتي فقط، أو فيما يتعلَّقُ بشعري.

وما سأكتبُهُ الآَنَ ليس كُلّ ما دوَّنْتُهُ، لأنَّ بَعْضَ ما قال محمود، لا يجوزُ أَنْ يُنْشَرَ الآنَ، لكنَّه قَال، ويدركُ أَنّهُ سَيُنْشَرُ يومًا ما، كأنَّ عبئًا ما كان يحملُ، هي وجهاتُ نَظَرٍ أراد أن يقولَها حتَّى لو عَرفَها شَخْصٌ واحدٌ على هذه الأرض، هو أنا.

بدأتُ التدوينَ في يوم الخميس الثاني والعشرين من مايو 2003 ميلادية. وسأكتفي بأجزاءٍ مما دوَّنتُ، كيْ يتعرّفَ قارئُ محمود جَوَانبَ من حياتِهِ الشخصيةِ.

وسأعلِّق أحيانًا لأضِئَ، أو أضيفَ؛ كيْ يكتملَ المشْهَدُ (مع أنَّ المَشَاهِدَ تظلُّ دومًا ناقصةً حتَّى بعد مَوْتِنَا).

1 ـ أعشقُ صوتَ الشِّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد (عادةً ما يقومُ محمود من نومه في التاسعةِ صباحًا، ويتناولُ قهوته مضبوطةً و "من غير وش" على حدِّ تعبيره). ولا يتناولُ إفطارَهُ في مطعم الفندق إذا كان على سَفَرٍ، إذْ يفضِّل الأكلَ في الغرِفةِ، وهو عمومًا لا يأكلُ كثيرًا. ولا يأكلُ الأرزَ.

2 ـ في أوائل عام 1971 جاء محمود إلى مصر، حيث كان يسكنُ في حي جاردن سيتي في وسط المدينةِ، وقبل ذلك كان نزيلاً في فندق شبرد، وعمل في جريدة الأهرام وكان يتقاضى راتبًا قدره (مئة وخمسون جنيهًا مصريًّا)،

وكان مكتبه في الطابقِ السَّادسِ من برج الأهرام مع كُتَّابِ الأهرام نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ولويس عوض، وزكي نجيب محمود، وبنت الشاطئ، وآخرين.

وفي تلكَ الفترةِ زار بورسعيد والإسماعيلية والسويس والأقصر وأسوان، (نزل في فندق كتراكت)، والإسكندرية إذْ حَضَرَ حَفْلاً لعبد الحليم حافظ وكان يشدو وقتذاك أغنية "مدَّاح القمر" ـ كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي"7من أكتوبر1932 ـ17من سبتمبر1993" ـ أي قبل ست سنوات من موت عبد الحليم (30 من مارس 1977 ميلادية).

وكانت رحلة محمود درويش هي الثالثة إلى الإسكندرية، أمَّا الرابعة فكان مُحَدَّدًا لها في أكتوبر أو نوفمبر 2008، خمسة عشر يومًا، وسبع أمسيات شعرية، وتسجيل ما تيسَّر من شعره على سبع اسطوانات DVD في استوديو مكتبة الإسكندرية، على أن تُهدي المكتبةُ هذه التسجيلات إلى مكتباتِ العالم والمراكزِ الثقافيةِ في كلِّ مكان.

يقول د. يوسف زيدان: قلتُ له: سأرتِّب لك إقامةً في قصر السلاملك، فهو أفضلُ مكانٍ بالإسكندرية يليقُ بالشُّعراء. فقال: ليس هذا هو المهم، المهم أن تدعوَ أحمد الشّهاوي ليكونَ معنا.. قلتُ: سوف أعتقلُهُ في الإسكندرية طوال أيامِ بقائِكَ بها، ولن أسمحَ له بالخروج منها ما دمتَ موجودًا، ضحك محمود درويش، وقال ما نصّه: "هذا جيِّدٌ، حتَّى نسترجعَ ذكرياتِ الزيارةِ السَّابقةِ".

3 ـ في المرَّة السابقة مايو 2003، نزل محمود في الغرفة رقم 308 بفندق سيسل (تأسَّسَ عام 1929) بجوار غرفة أم كلثوم "4من مايو 1889 ـ3 من فبراير1975"، وهي الغرفة التي كانت تقيم فيها وقد أحبَّ محمود هذا الفندقَ، أو تلك الإقامةَ لأسبابٍ كثيرةٍ منها أنه قريبٌ من بيت الشَّاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس (29 من أبريل 1863 ـ 29 من أبريل 1933) وأنه ـ أيضًا ـ شهد كتابةَ لورانس داريل "27من فبراير 1912 ـ1990" لـ "رباعية الإسكندرية" كما أنَّ بعض غُرَفِهِ تحملُ أسماءً لفنانين وكُتَّابٍ ومبدعين نزلوا فيه، ويحبُّهم محمود أو شَاهَدَ أعمالهم وهو المُتيَّمُ بالسينما: عمر الشريف، طه حُسَيْن، أجاثا كريستى وغيرهم.

وبمناسبة كفافيس الذي زرنا بيته (متحفه) وكلانا حصل على جائزة كفافيس في الشِّعر، فقد طلبتُ منه كتابةَ كلمةٍ في "دفتر سجل الزيارات" كما جرت العادةُ مع كبار الزائرين، فكانت كلمته مدهشةً: "رزتُ اليومَ غيابَ الشَّاعر قسطنطين كفافيس، فوجدته حاضرًا بأشيائِهِ الصُّغرى في المكان، ولكنَّه حَاضِرٌ أكثر في شِعْرِهِ العظيم، لأنَّ مَكَانَ الشَّاعر الحقيقيِّ والطبيعيِّ هو القصيدةُ فقط التي يضيقُ بها المكان".

(وكانت زيارة محمود يوم الجمعة، الثالث والعشرون من مايو 2003).

أما أجملُ الأسبابِ لفرحِ وابتهاجِ درويش بإقامتِهِ، فهو بسببِ تجاور غرفتِهِ غرفة أم كلثوم، وهي بالنسبة إليه "إدمان الوحيد".

قال لي: "أم كلثوم معجزةٌ/ وهي من الظَّواهرِ الكونيةِ/ عبقريةٌ خَارِقَةٌ صوتُها فيه قوةٌ تعبيريةٌ". حدَّثتُ محمود عن انزعاجي من كتاب "الهَوى دونُ أَهْلِهِ" الذي كتبه حازم صاغية، وهو كتابٌ في ذَمِّ أم كلثوم.

وبعد سنواتٍ فاجأني محمود بنصِّه المدهشِ في كتابِهِ الأخير "أَثَرُ الفَراشَةِ"، عن أم كلثوم أسماه "إدمان الوحيد":

"أستمعُ إلى أم كلثوم كلّ ليلةٍ، منذ كان الخميسُ جوهرتَها النادرةَ، وسائر الأيام كالعقدِ الفريدِ. هي إدمانُ الوحيدِ. وإيقاظُ البعيدِ على صهيلِ فرسٍ لا تُروَّض بسرجٍ ولجامٍ. نسمعها معًا فنطربُ واقفين وعلى حدة فنظلُّ واقفين.. إلى أن تُومئَ لنا الملكةُ بالجلوسِ فنجلسُ على مترٍ من ريحٍ.

تقطِّعنا مقطعًا مقطعًا بوترٍ سحريٍّ لا يحتاجُ إلى عودٍ وكمانٍ.. ففي حنجرتها جوقةُ إنشادٍ وأوركسترا كاملة، وسرّ من أسرار الله. هي سماءٌ تزورنا في غيرِ أوقاتِ الصلاةِ، فَنُصلِّي على طريقتها الخاصة في التجلِّي. وهي أرضٌ خفيفةٌ كفراشةٍ لا نعرفُ إن كانت تَحْضِرُ أم تغيبُ في قطرةِ ضوءٍ أو في تلويحةِ يدِ الحبيب. لآهتها المتلألئةِ كماسةٍ مكسورةٍ أن تقودَ جيشًا إلى معركةٍ.

ولصرختها أن تعيدَنَا من التهلكةِ سالمين. ولهمستها أن تُمْهِلَ الَّليْلَ فلا يتعجَّلُ قبل أن تفتحَ هي أولاً بابَ الفَجْرِ..."

إلى آخرِ النصِّ الذي أدعو حازم صاغية إلى قراءته علَّه يعيدُ النَّظَرَ في كتابه الذي لم يُكْتَبُ له "النجاح" الذي أراده له.

هل قُلْتُ إنَّ درويش ونحن خارجان من بيتِ كفافيس الذي صار مُتْحَفًا، قال لي إن "كفافيس قَضَى على الأقلِّ على ثلاثين شاعرًا عربيًّا".

ومقولته واضحةٌ، وخطيرةٌ وَدَالَّةٌ وحقيقيةٌ، لكنَّه لم يُسْم أحدًا ممن قَضَوْا تحت "سنابك" كفافيس في معركةِ التأثُّرِ والتقليدِ والمحاكاةِ.

كان محمود يعرفُ أنَّني أحبُّ صوت عفاف راضي، وأنَّها قريبةٌ منِّي روحًا وَشَخْصًا فقال لي: "عفاف راضي صوتها خاصٌّ جدًّا". بالمناسبةِ هو لم يحب صوت محمد فوزي"28 من أغسطس 1918 ـ20 من أكتوبر 1966"، لكنَّه فاجأني بحبِّه لموسيقى أغنية "العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو" التى غَنَّتها ليلى نَظْمي (وهي أغنيةٌ شهيرةٌ ذاعت بعد هزيمة 1967 وهي من ألحان الموسيقار الطليعي علي إسماعيل (الخميس 28 من ديسمبر 1922 ـ الأحد 16 من يونيو 1974).

كان مذياع السيارة التي تُقلُّنا محمود وأنا مفتوحًا على "إذاعةِ الأغاني"، وأطلَّ على آذاننا كمال حُسني "1929 ـ أبريل2005" بأغنيته: "لو سلمتك قلبي واديت لك مفتاحه" وحاول محمود أن يتذكَّرَ الأغنيةَ، باعتبارها من الأغنياتِ التي يحبُّها، والصَّادرةِ عن صوتِ كمال حسني الذي يُحِبُّ.

وهذه الأغنيةُ وُضعت بمناسبةِ الوحدةِ بين مصر وسورية عام 1958 ميلادية.

4 ـ "الشَّاعر ينضجُ في الأربعين".

5 ـ أُفضِّلُ شِعْرَ أحمد شوقي في المسرحياتِ والغزلياتِ، وهو من أمتن الشُّعراءِ في القرنِ العشرينِ. لقد تحقَّقَ شعر صلاح عبد الصبور في المسرحيات، فالصنعةُ عنده مُحْكَمةٌ. لم أحب شِعْرَ حافظ إبراهيم.

6 ـ قال لي في نَدَمٍ: "نشرتُ شِعْرِي مُبَكِّرًا".

7 ـ أَخْطَرُ شئٍ أَنْ يُقَرِّرَ الشَّاعرُ قصيدتَهُ سَلَفًا.

8 ـ سِياقُ المقطعِ الأوَّلِ هُوَ الذي يُقَرِّرُ القصيدةَ. وهذا هو الفَرْقُ بَيْنَ النَّظْمِ والكتابةِ. وأصعبُ قافيةٍ هي السَّهْلةُ، لأنَّها مُسْتَهْلَكَةٌ، ولابدَّ عِنْدَمَا تستخدمُها أن تجدِّدَهَا.

9 ـ لم أقرأْ العَرُوضَ، ولم أتعلَّمْهُ، وليس لديَّ كِتَابُ عَرُوضٍ وَاحِدٍ. فيما بعد اطَّلعتُ على كتابٍ بسيطٍ في العَرُوض. لم أتعلِّمْ العَرُوضَ بتاتًا، كان ذلك بالسليقةِ، وقرأتُ ـ فقط ـ كتابًا لضبطِ القواعدِ. وَأُحسُّ أنَّ لديَّ سَيْطَرةً على العَرُوضِ.

10 ـ لا أكتبُ النَّصَّ في نَفٍس وَاحِدٍ.

11 ـ أَنَا من أَكْثرِ الشُّعراءِ نكدًا. فَأَنَا أكتبُ القصيدةَ أَرْبَع مرَّاتٍ.

12 ـ معدَّل مَا أَنْشُرُهُ هو ثلثا ما أكتبُ، والثلث الآَخَرُ للإبادةِ. ولا يوجدُ نصٌّ شعريٌّ شِبْه مُنَزَّلٍ، فَلاَبُدَّ أَنْ تَعْمَلَ "كولاج ومونتاج".

13 ـ أؤمنُ بالصَّنْعَةِ بَعْدَمَا تقومُ السَّليقةُ بدورها.

14 ـ السُّلوك يُنْسَى (سُلُوكُ الشَّاعِرِ)، ولكنَّ النَّصَّ يَبْقَى.

15 ـ إِذَا فَقَدَ الشَّاعِرُ أسلوبَهُ فَقَدَ شخصيتَهُ.

16 ـ أُوقِفُ كتابًا لمصلحةِ كتابٍ آَخَر.(في مسألةِ تأجيلِ نَشْرِ بَعْضِ كُتُبِهِ الجاهِزَةِ والمُنْجَزَةِ).

17 ـ لديَّ نظامٌ للفوضى. كلُّ شئٍ في حياتي مُنظَّمٌ إلاَّ مكتبي، فَإِذَا رُتِّبَ أَضِيعُ. أُكَدِّسُ الجرائدَ والمجلاتِ ثم بعد عامين أرميها. إنَّ ًأصعبَ شئٍ عليَّ ترتيب الأوراقِ والمكتبِ الخاصِّ بي.

18 ـ لا أكتبُ حَرْفًا واحدًا بالَّليل. إنَّ ذروةَ العملِ عندي من العاشرةِ صباحًا وحتَّى الثانيةِ ظهرًا. فأنا لستُ صديقًا لليل، مع أنَّه صديقٌ للشُّعراء.

19 ـ ما لا أَرْضَى عَنْهُ من شِعْرٍ أَتَخلَّصُ مِنْهُ نهائيًّا، إلاَّ ما أرى فيهِ قد يَصْلُحُ في عَمَلٍ آَخَر. وما لا نَرْصَى عنه هو "عورات الشُّعراء" فلا ينبغي أن تظهرَ على النَّاس.

20 ـ نتأخَّرُ أَحْيَاءً، وَلاَ نَصِلُ مَوْتَى. (في مَسْأَلَةِ قَلَقِ المُسَافِرِ. كان محمود يطلبُ من السَّائِقِ أن يقودَ السيَّارةَ بسرعةٍ تتراوحُ بين تسعين إلى مئة كيلو متر في السَّاعة. ولم أر شاعرًا قَلِقًا مِثْل محمود درويش في حياتي).

21 ـ في الرابع والعشرين من مايو 2003. ذهبنا إلى أحد أشهر مطاعم الأسماك في الإسكندرية وهو "سي جل" بمنطقة الماكس، وجلسنا على المنضدةِ رقم 131. وكان شعار المطعم "من البحرِ إلى المائدة"، فقال محمود مُعَلِّقًا ـ وهو السَّاخر العظيم لمن لا يعرفُ ـ "من البَحْرِ إلى المَعِدَة".

22 ـ قال محمود درويش عنِّي:

"إنَّ الشّهاويَّ مَحْبُوبٌ وَمَرْغُوبُ".

ما تزالُ مفكرتي القرمزية بلونِ دم شَفِقِ الأيامِ مَـْلأَى بذكرياتٍ، وحِكَمٍ، وآراءٍ، وقفشاتٍ، ونكاتٍ، وعوالم محمود درويش لكنَّ بَعْضَ مَادَوَّنْتُ هَلْ أَنْشَرُهُ، أَمْ أَنْتَظِرُ، أم أَحْفَظُهُ في روحي إلى أَنْ أرى محمود بَعْدَ أَنْ تموتَ أشيائي التي لن تُدْفَنَ معي يَوْمَ أَمُوتُ، لأنَّها لا تموتُ مِثْلي.