رام الله المحتلة
كثير من الناس كتبوا وتحدثوا عن غسان كنفاني لكن أجمل ما قيل عنه " انه كان شعبا في رجل، وكان قضيه، وكان وطنا ولا يمكن إن نستعيده إلا إذا استعدنا الوطن " وهذا كان كلاما صحيحا، ونحن اليوم لم نلتق فقط لكي نؤبن غسان كنفاني بل أيضا لنؤبن مرحله غسان كنفاني وما احتوته من صدق ونقاء نفتقده اليوم، لنتحدث عن الظاهرة الثورية النظيفة التي جسدها غسان. عندما اخذ غسان كنفاني يبشر بالثورة كان يؤمن بان هذه الثورة إنما تنبع فقط من فوهة البندقية، وكان عصره عصر أحلام سرعان ما جائت الفرصة لتمتلك فعلا الحركة الفلسطينية هذه البندقية وتنطلق نحو هدفها المعلن والمفترض تحرير فلسطين لكن سرعان ما يتبخر هذا الهدف عندما أخذت منظمه التحرير تتحول تدريجيا إلى كيان اندمج بالا نظمه العربية وأصبح شبيها بها بل واخذ أحيانا يسير في ركابها........ وهذا ما اقلق غسان وحذر منه مبكرا حينما قال " أن الانحراف السياسي يبدأ من ألنقطه التي نتنازل فيها عن استراتيجياتنا التحررية لحساب استراتيجيه العدو" وكأنه يستشعر الخطر القادم حينما جاء اليوم الذي وقع الفلسطينيون في أوسلو على صك استسلامهم، وهجروا الرفاق والشهداء والتحقوا مبكرا بمعسكر السلام مع الأعداء وأصبحوا في المعسكر الأخر بعيدين عن غسان كنفاني والعديد من الشهداء العظام. وليس هناك شك باننا اليوم في غمره ذلك.
بالحقيقة أنا عرفت شهيدنا غسان في بداياته وفي أواخر الخمسينات عرفته في الكويت حيث كنت طالبا وكان هو يعمل في وزاره المعارف الكويتية والتقيته لاحقا في بدايات الستينات في بيروت في أمكنه كثيرة كان يرتادها في بيروت في الغلاييني وفي الانكل سام وفي مطعم فيصل، هذا الإنسان بمجرد ان تسمعه يتحدث تجد نفسك أمام عوالم متعددة حافله بالثراء المطلق والعطاء اللامحدود، رغم صغر سنه آنذاك ورغم مرضه المبكر فقد كان يعاني من السكري والنقرس، ولكنك تذهل من قوه ذلك التوهج وعنفوان إيمانه اليقيني بعروبة فلسطين وتحس بشغفه اللامحدود وكأنه يحث الخطى في طريق العودة نحو فلسطين.
عرفته مناضلا ثوريا حتى النخاع عاش ومات فقيرا، ولكنه ترك لشعبه أرثاً كبيراً ما يزال ماثلا حتى يومنا هذا، وكان رجل موقف لم يتلوث بغواية المال رغم الفرص العديدة التي أتيحت له، عرض عليه المال ولكنه اعرض عنه وفضل استدانة القروش من محبيه ولم ينكسر أمام إيه إغراءات، وظل يجسد السمو والارتفاع الثوري الحقيقي وكان فعلا وطنيا من نوع نادر لا يعرف المساومة ولذلك دفع حياته ثمنا لمواقفه ورؤيته التي امن بها. كان يحدثنا بكل تواضع وافتخار كيف عاش حياه فقر وتشرد وكيف عمل بائعا لأكياس الورق في أسواق دمشق وتنقل من هذا الى كاتب استدعاءات أمام دار المحاكم، وكان رأسماله آلة كاتبة قديمه مستأجره، ثم عمل بالمطابع وتطور الى تعليم الرسم في مدارس الوكالة في اليرموك وهذا يفسر نبوغه بالرسم فيما بعد حتى انه من كان يرسم ويصمم ملصقات الجبهة الشعبية في لبنان، بعد ذلك وبعد أن أنهى دراسته الثانوية عمل في مدارس اللاجئين بوكالة الغوث إلى أن التحق بجامعه دمشق وبدا يدرس الأدب العربي، وفي هذه المرحلة التحق بحركة القومين العرب، وبدأت رحلته الحافلة بالعطاء والمجد، وبدأت هذه المرحلة بالوطن المغتصب وانتهت بهذا الوطن. عرفته وعرفه العالم مثقفا يسارياً بارزا وعضوا فاعلا في حركه القومين العرب ثم عضوا بالمكتب السياسي بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو من شارك في وضع البيان السياسي للجبهة والذي عرف آنذاك باسم " برنامج اب 1969 " ثم متحدثا رسميا باسم الجبهة.
هذه لمحه ومقدمه أريد أن اتبعها بلمحه أخرى عن الوجه الاخر لهذا الشهيد المناضل فقد كان من أكثر الكتاب والصحفيين العرب شهره في عصرنا وقد كانت أعماله الادبيه متجذره ومازالت بكل عمق وقوه في الثقافة الفلسطينية والعربية.
وقد كان هو دون غيره من عرف العالم بناجي العلي ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم من أدبائنا وشعرائنا (في كتابة أدب المقاوكة في فلسطين المحتلة – 1965)، وهو في هذا العمر القصير ورغم المرض والفقر فقد عمل ليلا ونهارا لكي يحكي لشعبه. وللعالم حكايه اغتصاب فلسطين على طريقته عبر تسعه عشر كتابا ومئات المقالات الثوريه الغنيه التي كانت تصل الى الجماهير والى المخيمات الفلسطينيه في كل مكان، وهو من أوائل من كتب عن شعراء المقاومه ونشر لهم وتحدث عن اشعارهم واهازيجهم الشعبيه في السنوات الاولى للثوره فكان بحق القمر الذي اطل في السماء فظهر بهيا رائعا، كان يطل على قضيه شعبه ويبشر بالعمل الفدائي قبل ان يولد هذا العمل بسنوات عبر مقالاته من موقعه في اهم الصحف العربيه الكثيره التي عمل محررا فيها كالراي والحريه والمحرر وفلسطين والانوار الى ان استقر في صحيفه الهدف.
هاجر غسان من مدينته عكا ثم يافا وعاش النكبه وما تلاها، ولم يبقى له سوى ان يشهد على هذه النكبه ويسرد الكارثه، وكانت جميع كتاباته دعوه الى التمرد والى الثوره حينما قال في بدايه الستينات " انها الثوره هكذا يقولون جميعا وأنت لا تستطيع ان تعرف معنى الثوره الا اذا كنت تعلق على كتفك بندقيه تستطيع ان تطلق فالى متى تنتظر ؟ " قد يكون هذا الكلام امرا طبيعيا اليوم ولكنه في ذلك الزمان كان نبوه وتبشيرا.
كيف قتل غسان ولماذا قتل ؟ إثر عمليه ميونخ ومقتل الرياضيين الصهاينة أصدرت حكومة العدو برئاسه جولدمائير قرارها بتصفيه العديد من القادة الفلسطينيين، وكلفت في حينه رئيس الموساد زامير للعمل على تصفيتهم وشكلت من اجل ذلك لجنه ضمت كبار قاده الكيان الغاصب وكان احدهم رحبعام زئيفي "قامت كوكبه من رفاق غسان فيما بعد بتصفيه وقتل زئيفي في القدس العربيه فبرغم الارتداد الحاصل فهناك دوما طليعه من ابناء شعبنا لا تغفر ولا تساوم " نرجع ونقول ان غسان كنفاني كان على راس تلك اللائحه " لائحه الاعدام " التي ضمت وديع حداد وكمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار وانيس الصايغ والقائمة تطول.
وفي الثامن من تموز عام 72 امتدت يد الغدر الصهيوني في حالك الظلام وزرعت عبوات ناسفه في سياره غسان المتوقفه امام منزله في الحازميه حيث كان يعيش مع عائلته المكونه من زوجته اني وابنه فايز وابنته ليلى، وفي ذلك الصباح اصطحب غسان ابنة اخته لميس التي انهت دراستها الثانويه للتو لكي يسجلها بالجامعه الامريكيه، وما ان جلست لميس بجانب غسان حتى انفجرت السياره وقتل وقتلت معه لميس وتطاير الجسدان في كل الاتجاهات وتعلق اطرافهما باغصان الشجر، وكان هناك عبوه اضافيه مزروعه تحت يده التي تطايرت مع اشلاء جسده، ومن زرع العبوه كان يريد بتر يده قبل قتله، وبذلك إصابته واصابت شعبنا بفاجعة كبرى، فكان هذا الفارس هو اول قائد يسقط في هذه الحرب التي بدأت للتو واستمرت هذه الحرب الارهابيه فحصدت خيره القاده والمناضلين وما زالت حتى اللحظه هذه مستمرة، ولم يكن من قبيل الصدفة أن تبدأ به جرائم القتل والاغتيالات فهذا الفارس الذي ملا الدنيا أفكاراً ومواقف ثوريه وملا عالمنا نحن الذين عاصروا الثوره انذاك، نحن الذين عشنا هزيمة عام 67 هذا الفارس كان لا بد ان يقتل بقرار صهيوني طالما انه أعاد إحياء الذاكرة الفلسطينية وبذاك أعاد إحياء المناضل والثائر الفلسطيني الذي ظنت المؤسسة الصهيونية انه مات ونسي وطنه فالكيان الصهيوني لا يريد فلسطينياً إلا لاجئاً أو ميتاً أو خائناً مستسلماً وقد ظن هذا الكيان بانه قتل روح هذا الإنسان الذي بدا يمسك بقضيته في معسكرات اللجوء في وقت كانت المنطقة تغلي بالثوره بعد هزيمه الجيوش العربيه عام 67 وكانت قوى الثوره قد تقدمت الصفوف وبدات ترفع رايه الكفاح المسلح وكان غسان كنفاني من اوائل من عبر عن هذه الحاله وقد سبق العديد في الدعوه والتنظير للكفاح المسلح والثوره وكان صارما كالسيف في موقفه رافضا كل محاولات التسويه او الاعتراف.
وانا اسجل عنه الان كيف تصدى بمقالاته وكتاباته الثوريه العنيفه والملتهبه ضد قبول جمال عبد الناصر الزعيم الثوري الكبير لمبدا روجرز وكيف الهبت هذه الدعوات التي اطلقها غسان جماهير الشعب العربي الفلسطيني انذاك والتي نزلت الى الشوارع منددة بهذا القبول الامر الذي ادى الى قطع الطريق على تداول هذا المشروع برغم العلاقه القوميه التي
كانت تربط غسان والاعجاب الكبير الذي كان يبديه غسان نحو عبد الناصر، وما كان يمثله من عنفوان وثوريه ولكن حينما تعلق الامر بالمبادئ والثوابت التي آمن بها لم يتردد في نقده الثوري وتصديه لهذا الموقف ومن هنا اقول بانه لم يكن يعرف المساومه فاين نحن اليوم من هذا الامس ونحن نشاهد التخريب والاستسلام ونشهد تكريم المطبيعن واتلائهم منابر الإشراف على الثقافة وحتى الاحتفال بذكرى غسان، فأي تناقض صارخ!! ونشاهد عمليه مقايضه شعب فلسطين وقضيتهم بسلطه وهميه دون ان يحرك احد ساكنا الا ما نذر. كان يؤمن ويكتب ما يؤمن به بان دويلة الصهاينه ينبغي ان تزول من الوجود وان اندثار هذا الكيان الغاصب وتدميره وازالته هو حتميه تاريخيه لابد منها، وانه يتوجب على كل فلسطيني ان يعمل من اجل انجاز هذا الهدف العظيم ولو بعد مئات السنين، وكان ما يكتبه يخترق السمع والبصر، قتلوه لانه كان يشحن الذاكره الفلسطينيه وذاكره ابناء فلسطين منذ طفولتهم، والصهاينه لا يريدون لهذه الذاكره ان تبقى فهي عدوتهم الاولى حتى يومنا هذا.
قتلوا غسان لأنه تبنى قضيه فلسطين على نحو جذري وحاسم وكانت صرخاته الداويه من شانها أحياء هذا الإنسان وتحويله من لاجيء مقهور إلى مقاتل ومناضل هذا الإنسان الذي ظنوا انه قد استكان للهزيمة والقهر والهوان ها هو قد انطلق مارداً جباراً ممسكاً بقضيته يعرف كيف يدير معاركه لهذه الاسباب امتدت اليه يد الغدر الصهيونيه وكانوا يتصورون انهم بقتلهم غسان ورفاق واخوة غسان من قاده شعبنا فان نجم الثوره سوف يخبو ولكن هذا النجم ظل ساطعا والثوره ظلت باقيه ولن تفنى رغم كل الهزائم والتراجع الحاصل رغم الحصار والقتل ورغم الانقسام والانكسار ورغم التآمر والانبطاح فروح غسان كنفاني مازالت مناره تهدي الثوار لدرب الثوره ولن تفنى هذه الثوره بغياب احد روادها. واليوم ايها الاخوات والاخوه نسال انفسنا هل عاد غسان الى حيفا ؟ وانا اجيب على هذا السؤال واقول لغسان بانك قد عدت الى حيفا والى عكا والى يافا ولكنك لم تعد مثلما عاد سواك الذين ظنوا ان السجاده الحمراء سوف تعطيهم دوله، فانت ومن آمن بك من الذين قدموا ارواحهم على مذبح الفداء والثوره وبقيتم كما عاهدتم شعبكم منذ البدايات الطاهره ؟
وهم ما جنو سوى الاوهام والاتفاقات التي لا تليق باشلائك هم بعيدون عنك وعن ابو علي مصطفى وابو علي اياد وابو جهاد ووديع حداد وابو اياد والشيخ احمد ياسين والرنتيسي ومحمد الدره وكل شهداء شعبنا، واقول لك بانهم قد بدلوا البندقيه بالارصده والفلل والمرافقين وكرت الشخصيات المهمه وبدلوا النضال بالمطالبة بالرواتب والتقاعد المزدوجة ولكن لا تحزن ايها الفارس فها هي روايتك عائدالى حيفا تعرض في يافا وتل ابيب رغم انف الغاصب الصيهوني لا تحزن ايها الفارس ولا تغضب ممن عاصروك وعادوا بعد ان هجروا البنادق فانت في قبرك اكبر منهم جميعا فهم لم يهجروك وحدك فحسب بل هم هجروا الشهداء والجياع في المخيمات فقد استطابت لهم الحياه في امكنه اخرى، لكنهم يخافون النطر الى عينيك المحدقه بهم وانت في قبرك، فانت الحي ايها الشهيد وهم الميتون. لا تحزن على ام اسعد التي سرقت منها السعاده وهي تشاهد نفراً من ابنائها يتسابقون لمرضاة امريكا ويسافرون بتذاكر الدرجه الاولى وينزلون بافخم الفنادق يملكون الارصده واساطيل السيارات الفارهه وهي تشاهد كيف يجري العمل ليلا ونهارا على تخريب المقاومه ووصمها ووصفها باقبح الصفات كي تعبد الطريق التي بدات في اوسلو وجنيف وواشنطن الى ابعد من ذلك بكثير.
لا تحزن ايها الفارس فالروايه لها بقيه فشعبك لم يستكن ولم تخر قواه ولم يفقد ايمانه العميق بالتحرير والعوده وهو يقف اليوم في ذكراك ويعاهدك على انه رغم كل جرائم الاباده التي يشنها الكيان الغاصب رغم التامر والانبطاح رغم كل الصعاب والمحن فسيبقى هذا الشعب رافعا رايه الكفاح وحتى لو فني شعب فلسطين وبقيت هناك امرأة فلسطينيه واحده اسمها ام سعد تلد اطفالا فلسوف يرفعون رايه التحرير والعوده وستظل ام سعد تحفزهم قائله لهم دوما هذا وطنكم فقاتلوا لاسترجاعه.
الأراضي المحتلة