كلمات جعلتني أكتب
" الذاكرة هي كل ما يبقي لنا من النسيان ...
الكتابة هي كل ما تبقي لنا من الذاكرة "
(سارتوريوس)
تعكس المرآة الصورة تماما
لاتخطيء لانها تفكر
أيفكر المرء .. يعني أن يرتكب الأخطاء
(شاعر برتغالي)
أننا معارضون وبمختلف المعاني لأي إكراه يحاول هذا العالم أن يجرنا إليه
(برتون)
الذي لايحب الوحدة لايحب الحرية
(شوبنهاور)
اسع لأن تكون كلّ نهاية مفترضة براءة جديدة
(رينيه شار)
مايؤلمنى ليس ماينبع من القلب
بل تلك الأشياء الجميلة التى لن تكون أبدا
(فرناندوا بيسوا)
إهداء
إلي مُـهْجَة وجُـبِـيـر
وجدّتهما قسامي
فراغ يمتلئ بالمستحيل
فراغ ممكنه فارغ
فراغ يبدعه الرحيل
فراغ يغترب ويتوطن
فراغ يتوطن فيغترب
فراغ يرحل ولا يعود إلا إلى فراغ
فراغ فارغ من الهواء
فارغ من الصمت
فارغ من الجنون
فراغ يرحل بالألم إلى فراغات أخرى آلامها مؤجلة
ينتظر يقظة تفاجئه ليلسعه الوجع
فراغ لا أحد يدري من أفرغه
لا أذكر إلا ضباب وخزة في وريدي المحتقن
لا أذكر سوى شبح ابتسامات تلاطفني قبل الغياب
فراغ × فراغ
فراغ + فراغ
فراغ ÷ فراغ
فراغ - فراغ
فراغ = فراغ
فراغ % فراغ
فراغ؟ فراغ
فراغ! فراغ
بريدي الإلكتروني:
فراغ مفروغ منه@فراغ. com
فراغ فوق فراغ تحت فراغ وسط فراغ .. فراغ فراغ فراغ إلى ما لا نهاية ووصلت إلى ما لا نهاية ومازال الفراغ فارغا وأنا لا أحب الرياضيات فعجزت عن تفسير المسألة أو حساب المسألة .. فراغ رأسي يطير وينقلب ويتدحرج ويفرغ ويتفرغ هنا وهناك في سماء يجهل كنهها يبدو سعيدا مبتهجا كما لو أنه يؤدي عروضا بهلوانية أثيرية وهذا كلما دغدغه كسل الطفولة وكلما فاجأته طزاجة الذكريات اليانعة، ولكنه فجأة توقف بجبينه الغائر المحفور وأخذ يهتز بعنف فجائي كما لو أنه يمر بمنطقة مطبّات هوائية .
غادرت البهجة، تبخرت النشوى ليحلا محلهما الدهشة والإستفهام؟! .
أنفي مفصول عن جبيني ومنطقيا آنذاك أني لا أشم لكن من أين لي كما تقول التقاطات ذاكرتي بمنطق غير مشطور .. منطقيا لا يوجد انـتصاف ..السّـكين شطـّــار مائل ..الذي ضاجعنا هو المنطق .. أما الجنون فأضحكَ عـلينا الوجوم الأبله ..!! .
أيعقل أن تأسرنا الحيرة وندمن التساؤل إلى الحد الذي تتكلس فيه كرامتنا ويفرض فيه البحث عن اللا جواب وجوده الصامت ..أحقا لا نملك سوى الدوران في عجلة التبلد؟! .
بت لا أطيق البحث في دروب المتاهة عن كبة ندثر بها عورة جليدنا!
سنستحلب معا قسوة الصحراء إلى متى سيظل هذا الهتاف الأخرس مدمدما؟!
إننا نعيش على أمل سحائب الجفون أن تنعش الأفئدة العجاف؟!
الخراطيم مقلصة والصنابير ظامئة والحيتان فاغرة أفواهها .. وغابات الصبّار تستنزف الطاقات بالرغم من أجسادنا النازة بعرق الانكماش ولسع السياط العالق بنا كذرات رمال متصمغة إلا أن الشفاه والأهداب تتحدى النواجذ الزعاف .. صمت مخجل يخيم على أجوائنا أهي الرغبة عن اللا جواب، ذاكرتي تسوح كبقعة زيت طافية تردم شاطئ أساي المتورم بذريراتها الذارفة، البحر يلفظها هناك حيث اشتممت بذاكرة الماضي رائحة طازجة، ليس بخور والدتي قسامي ولا سخاب جدتي الفزانية ولا زهر جدي الفيتوري ولا جاوي سيدي عبد السلام ولا صابون السوسي الذي تستعمله جدّاتنا في غسل ملابسهن النظيفة أصلا، ولا المروّن الذي تبلل به أمي شعرها، الرائحة ليست لقفة عمتي التي تأتينا بها من البر محملة بخيرات الله، ولا رائحة عطر " البروت " الممتزجة بدخان الروثمان التي تفوح دائما من حضور أبي، ولم تكن الرائحة للسجائر المعمرة بالكيف التي يدخنها المراهقون تحت نافذة بيتي المستأجر بالصابري، ليست للمفرقعات والقومّات التي يشعلها التائهون تعبيرا عن احتفالهم بعيد المولد النبوي، الرائحة ليست لبحر الصابري ولا لعجاج سيدي المهدي، ليست كرائحة المعقّمات، إنها رائحة شياط الفجيعة المنبعثة من الجثث متفسخة الهوية والحلم، حللتها ذاكرتي عبر وشائم الوجع النازف وصرخات الفجائع المدبوغة علي جبل من الضحايا بمذابح سجون العالم التي أشتمت ذاكرتي الماضية قذارة فعل يلازم هول ماحدث لكنه يعجز عن التطاير والطيران مع المتشظيات السابحة في ملكوتات طاهرة متجددة كموج البحر الحي، خلف كل حياة حيوات حتي وإن لم تكن جديدة فحتما ليست كالتي عشناها .
أحاول أن أكتب عن لوحة فراغ شيئا لكني عاجزة، لا تريد أن تنطبق لأرى الملامح بوضوح وأكتب عنها، أرسمها وتتمرد علي، لم أرفع نصف الوجه العلوي عن السفلي، لقد طار لوحده، استطعت فقط أن أضبطه، أن أوقفه لحظة قبل رحيله في عالم الحكايات، أوقفه كي أراه، يمكنني ملأ المسافة الفاصلة، أمزق الفراغ الذي بين النصفين، أحرقه بمشاعري وأحاسيسي، لو تركته يغيب عن ناظري ويحلق خارج الورقة سينبثق الدم من رقبتي كنافورة وأنا لا أريد أن أكتب بالحبر الأحمر الذي لم استخدمه قط حتى وأنا أصحح كراسات مهجة وجبير وكل تلميذاتي، لوحتي أحبها وهي من ألهمتني كتابة هذا النص الذي منحته اسم أمي التي فقدتها وأنا في سن صغيرة المرحومة قسامي:
فراغ فراغ فراغ هذا ما أشعر به الآن، نصف رأسي العلوي ينفصل عن نصفه السفلي، يهرب جبيني بمخي وعيني وأذني وشعري الأكرد الذي يحمل الحنين لأنامل والدتي الحانيتين وهي تفليني في الشمس تحت شجرة الزيتون بمزرعة جدي من صيبان وقمل وبرغوث الحياة ومن ثم تمشطني بمشط العاج ذي الأسنان المتلاصقة جدا، تمشطني و تشدو لي صادحة بصوتها الكرواني العذب:
ياعيشة .. عيشة .. عيشة
ياعيشة بنت خليفة
ياجمّارة في ليفة
شعرك داني داني
كيف سبيب الخيلاني
عطيني منه قضبة
باش نملّخ صباطي
صبّاطي عند القاضي
والقاضي ماهو راضي
صبحت عيلته حرجانه
علي الششة والعصبانة
والششة وين بيلقوها
نقلب عيني علي الحماس
يجوني سطاشن فرّاس
يافارس يامتعلي
ضبحلي علي باباي
باباي شيخ مسمّي
قطّايته مجليّة
بالذهب مكسيّة
نصف رأسي العلوي ينفصل عن نصفه السفلي فيهرب جبيني بمخي وعيني وأذني إلى أعلى تاركا أنفي وفمي ورقبتي وما تحت رقبتي من أجزاء آدمية ولا يعود إلى نصفه الآخر إلا بعد أن يشبع تجولا ولعبا وتسكعا في كل الأماكن والأزمنة التي عاش فيها قديما، يعود ليلتصق في نصفه الأسفل جالبا معه غنيمة كبيرة من أحاسيس ومشاعر وأحداث يكبّها جميعها في براح القلب ليبدأ نبضه في تسطيرها ورقنها على الورق أو أزرار مفاتيح الحاسوب، نصف رأسي الأعلى يهرب مجددا ويعود ونصف جسمي الأسفل ينتظره بفارغ الصبر ليملأ من صيده الجميل صهاريج حزنه وكآبته بالسعادة والهناء وبكل الأشياء الجميلة التي تجعل الحياة محتملة ورائعة، شيء غريب يجري في دمي، يتجول في عروقي، جئت للمستشفى من أجل منح الإنسانية حياة جديدة، جئت في حالة نزف شديد، الإعياء يجعلني أترنح يسندني زوجي وممرضة فلبينية، ويستقبلني طبيب مصري وممرض سوداني بابتسامة حب، وبعد حقن ذراعي بدأت الرحلة، نصف رأسي يتركني في المستشفى ويطير في السماء، يرى أشياء كثيرة أعتقد أنها قد حدثت لي وقد عشتها سابقا ثم يعود إليّ لأحس بهذه الأحداث ولا يبقى طويلا فيغادرني من جديد، أشعر أن رأسي وردة تتفتح وتنقفل، كما كانت دائرة زمننا تنفتح وتنغلق في دائرة لعبنا في فناء مدرسة التقدم الإبتدائية حيث كنا نلعب لعبة:
فتّحي ياوردة
غمّضي ياوردة
ونهز أيدينا بحماس قوي دون أن نفكها أو يخترق أحدنا نظام الدائرة ونهتف .. طرابلس .. بنغازي .. وعند ترديدنا "شيكا شيكا هي" نتقرفص أرضا ونعيدها مرارا وتكرارا دون كلل أو ملل إلي حين إنتهاء الدوام " التسريح " وكثيرا ما وقعت وسط زحام تلاميذ الصف الثالث والرابع الإبتدائي وداست أطرافي النحيلة مداساتهم وهم يتغنون مبتهجين
تسريح
عجاج وريح
والدّبة تمشي وأطّيح
أخرج لأجد ابن جيراني سالم ينتظرني كجندي يؤدي واجبه علي أكمل وجه وهو لايغفل عن اعطاء المتحرشين ببنيات زنقتنا نصيبهم من الصفع والركلات التي تطيحهم أرضا .. أشعر بوردة رأسي تنفتح بعنف، فلا أحس بأي ألم، أحس اني منتعشة وسعيدة واتمنى أن تكون حياتي كلها مثل هذه اللحظات، رأسي ينفصل عن نصفه ثم يعود، الحواس تنفصل عن بعضها ثم تتحد، مرارة مُرّة أن تعيش الحياة برأس ثابتة لا تتجول في زمن الذكريات ولا تطير ولا تتسكع، الممرض السوداني يغرز في وريدي حقنة جديدة، أشعر بالانتعاش، نصف رأسي يواصل رحيله باحثا في كل رحلة عن المزيد من المغامرة، المزيد من الألم والمزيد من المفاجآت التي ظننت أني دفنتها في قبور النسيان إلى الأبد.
ها هو نصف رأسي يعود إلى مرة جديدة وها أنا أشعر بأني أحوم في فراغ يحكي الحكاية .. ماكنت لأكتب لولا هذا المخدر الذي عبث بجسدي وحرر مخيلتي لتصطاد أزهار الحكاية من متشظياتها و تضعها في قارورة حبر ثم تسكبها بعفوية علي وشاح رمش العين .. وشاح منتصب كشراع في وجه الرياح .. رياح العون تجفف الحبر .. رأسي ترى عند عودتها فسيفساء بهيجة من الذكريات .. ألتقط منها وألصق علي اللوحة الخالية وألصق علي وجه السماء الذي أعرف أنه لن يخذلني .. أنظر أنظر بعيون روح شفافة غائرة في العمق ولكن
ما سرى في جسدي من خدر جعل رأسي ينفصل محلقا يطوف بأصقاع وعوالم من عصور غابرة وحضارات لأمم قرأنا عنها في كتب التاريخ .. لا حدود ولا مطارات لا تفتيش ولا مصادرات لا جواسيس ولا بصّاصين .. لم أري سبابة واحدة .. كل السبابات تقلّب الصفحات وأوتنبش طيات الأرض أو أنها بمساعدة الإبهام تطبقان علي ريشة إما لتدوين مخطوطات أو لإبداع لوحات تتحف الإنسانية بروعتها وبهائها .. الكل علي حاله .. تصّوف ووجوه هائمة .. فن وأصوات شجية صادحة .. فنانين يعبثون بالبيض ويسحقون اللازورد .. أحدهم حقن حقنة مملوءة بألوان ليست كالخراء طبعا .. رأيته يحقن شرجه بجنون إبداعي .. مررت علي أحدهم يعتني بوردة وعرفت أنه إمبرتوا إيكو قابلت وقابلت ولم أكن لأحظى بتلك العوالم الرحبة النقية كنقاء مانخل من رمش العين لولا جرعة المخدر التي جعلت رأسي ينفصل عن باقي جسدي ويطير دونما قيود .. لا فواصل بين الأزمان عالم تلتقي فيه كافة الأجناس والملل تجد جلال الدين الرومي يجلس قبالة ابن عربي والرازي مع أفلاطون و كونفشيوس مع بوذا وكل عبقري مع مريديه و اشعر بصداع أعود لاسبرين فسيفسائي البهيجة التقطت والتقطت والصقت علي لوحتي الخالية والصقت مجددا علي وجه السماء وها أنذا أنظر ما صنعت من كولاج أحبه .. ليس بأمكاني إطالة النظر طويلا فالمطر لم يمهلني لأري اللوحة كاملة وأيضا دموعي تمسح اللوحة أسرع من مسح ماء المطر .. اللوحة تشرب دموعي وأنا أشرب ماء المطر ..
أين الملح يارأسي المنفصل الآن والراحل من جديد في رحاب السماء؟! .
أين الملح الذي تذوقته في قنان السعد عندما كانت تعجنه لنا عمتي حدود بحب فأقضم منه قضمة وأضع باقيه تحت مخدتي لأحلم بالسعد:
ياملح ياللي ذريراتك حب
وريني سعدي وين يطب
أين ملح كركورة يامحني ذيل العصفورة .. وملح سبخة رأس عبيدة .. أين ملحة العيد التي تغمسها جدتي في أول زخة من دم أضحية العيد .. أشعر أني طرت بعيدا برأسي أما ذاكراتي فلا زالت بطزاجتها ولم يستطع ذاك المخدر اللعين كبت غيها .. يالا لروعة اللوحة الآن تشرب دموعي وأنا أشرب ماء المطر .. أين الملح يارأسي المنفصل الأن والراحل من جديد في رحاب السماء؟
أسألك مجددا .. أين الملح الذي تذوقته من دموعي وأين سكر السماء الذي رشفته في ماء المطر والتبروري الذي كنت في حيوات غابرة أغمس فيه ورقتي تحت نجيمات السماء لتجففه رياح العون وأضع فيه حلوي حب عزيزوحصيوات من ملح كركورة وقديدة العيد وشعير وفحم
هاكم
شعير لخيلكم
ملح لزادكم
شحيمة
فواح طعامكم
فحيمة
أوقدوا ناركم
وحليوة
لخطّاركم
فراغ .. فراغ .. فراغ .. رأسي ترحل بنصفها العلوي وتعود إلي محملة بخيرات كثيرة ..سأترك نصف رأسي في رحلة دائمة .. سأرسله للمريخ وزحل والزهرة وعطارد وسأنتظر أوبته الأكيد .. فمن سيغني أثناء الانتظار ولساني سيزغرد .. لقد رحل نصف رأسي بأكثر حواسي أهمية وترك في جسدي اللسان والقلب والنهد الذي أرضع به أبنائي لبن الحب والدفء والنماء .
فراغ فراغ فراغ .. رأسي تهبط الآن هبوطا حادا ولكنّ أشجار غابة كثيفة متلاصقة وملتحمة بتعاضد حميمي منعت أرتطامي بالأرض .. منعت عودتي لألتحم بجسدي المسكين ذاك الجسد المخدر العاجز عن أي ردة فعل حيال المباضع ومشارط الأطباء .. شمس حارقة جعلتني أحلق مجددا .. عيناي تختزل مشاهد قاسية وأذني تسمع شكاوى هامسة لأطفال يكدحون في حقول شاسعة ويجنون حبيبات البن الحمراء قبل أن تتفحم جراء استعارها علي نار الشقاء .. يكدحون ويكدحون من أجل ربح يسير يكاد لايسد رمق جوعهم .. رأسي غادر الحقول ليشم نسيم البحر .. ماعاد هواءه نقيا كذي قبل .. ماعادت عالقة به روائح الطحالب المنشطة للغدد والغازية للنخاشيش .. الموازين انقلبت رأسا على عقب! الماء معكر ..الجمال تشوه بصورة تقريرية .. تمسخ .. تقيح .. أحلق فوق الضفة الغربية الآن .. أري أناسا محتشدين منهم من جعل حقيبته كرسيا يجلس عليه ومنهم من استـند إليها ومنهم من توسدها وغط في نوم عميق .. الكل يحمل جواز سفره بيده وحالما رأوا رأسي الطائر لوّحوا لي بجوازاتهم بحماس فائض لعلهم ظنوني جسما طائرا أو مركبة فضائية ودّوا عبرها الحصول على الخلاص العتقي!
أفكاري مشحونة بالغربة ..
آنة بالانقسام!
بعذاباتي يتلذذون
أوغاد يسخرون من براءتي
تبا لضحكاتهم الفارغة كعيني تمثال أجوف نهم .. نهم ..
يتملكهم الدمار!
أطرافي تبتر أمام ناظري
ويطالعون ذلك في المرناة
يصعّدون القمة
سيبتكرون بحذاقتهم المزمنة
أفيونا جديدا
ها .. ها
يجمعون التبرعات من الجائعين
أريد الترياق!!
قرعت أجراس وأجراس إيذانا بهول النكسات
صرخات الإغاثة أرسلناها دونما حساب
الزغاريد حركت النيازك المتحجرة .. جمّدت الإنسانية .... ..
نازفة جراح قلبي
المروج وحدها توآزرني في النفخ ببوحي الوحيد
العالم يتفرج بكل صفاقة
رباه .. كيف للجرح أن يلتئم؟
أين الزنار؟ أين الزنار؟ أين الأين؟
هل انتظر حتى اغتصب على مرأى من الشمس؟!
فراغ فراغ فراغ يلف برأسي فوق دلتا النيل هناك بأم الدنيا حيث أستحمت نفرتيتي بضوءالشمس بعد أن دلكت جسدها الناعم بحليب الآتان وغطت في نوم عميق قرب كوبرا الكبرياء الملفوفة بالسلة مخضبة الحواف .. غطّت وغطّت وما ضرها الفحيح .. رقدت بسلام ونامت نومتها الأبدية بشموخ مجيد كما شموخ أبي الهول الجليل .. وراء كل عظمة وشموخ انسحاق وألم .. أجساد تنز عرقا .. عظاما تنكسر وسرعان ما تعاود الشغل دونما جبيرة من أجل شظف العيش الذي أجبرني علي الكتابة الآن وراسي منفصل عن جسدي وأجبركم علي القراءة لترحلوا بدوركم إلى واقع مرير! الأطفال تنسحق أجمل سني عمرهم يئنون تحت سياط الحياة التي لن ترحم براءتهم البكر .. صودرت أحلامهم .. حرموا ممارسة حقوقهم بكل تبجح وعنجهية حتي في ذرف دموعهم وهي كل مايملكون .. مرت رأسي التي ليست بدائخة بأطفال يحملون أرغفة العيش في سفر كبيرة تتمايل رؤوسهم ذات اليمين وذات الشمال تفوح في أنوفهم روائح العيش الذي يسيّل لعابهم .. يتذمرون جوعا فستبتر أيديهم إذا ماحاولوا أن يتذوقوه .. عجبا يا قلب يحمل الرغيف على رأسه و لا يأكل منه .. حتى الطير حرم من الأكل منه .. في الواقع والأحلام .. أطفال يدفعون الإطارات الثقيلة بأجسادهم البضة النحيلة والكبار يشفطون النيرجيلا .. أصابعهم ذاوية .. اراهم في التلفاز الآن .. في الهند وباكستان منهمكون في لظم العقيق واللؤلؤ وطرزه وتثبيته في أقمشة الحرير وفساتين البذخ .. في المحاكم تزوّر أعمار الصغيرات .. يحدث ذلك في معظم الأرياف وفي حاضرة بعض البلدان .. تباع ليست نخاسة بل من أبوين شرعيين من أجل البقاء في غابة البشر .. يزج بها في الحوانيت والخانات لتبدأ رحلة الضياع وتصرف عليها سنتات قليلة لأسكات صرخة جوع وخّاز والباقي يتنعم به مدير حانة البغاء وشركائه في غض النظر والكتمان .. يعقدون مع الأهالي عقود صفقات تباع فيها الكلى وما أمكن من أعضاء إزاء مبالغ لا تسمن ولا تغني من جوع .. أنا في الهند في بنغلاديش في العراق في المغرب في مصر في في في آه .. بل خسئت يا قلمي .. أنا قريب من الوطن الآن .. أنا في الوطن الآن .
فراغ فراغ فراغ .. يهبط رأسي ويدور أشعر بتضائل نسبة الأكسجين لحد الإنعدام،، إنها الخفافيش تتجمهر في هالة سوداء هاربة من صوت ورائحة الديناميت لنهب قلب البسيطة وإن كانت في كل مرة تزداد عروق الأرض قوة فتصبح قدرتها أكثر كفاءة من ذي قبل علي ضخ دماء العطاء أينما طار رأسي .. اينما تدحرج .. اينما أنقلب .. يرططم بخيالات أطفال ترتسم علي السحب.. أطفال مشردين جائعين مرضى مبتزين جهلي لم يواصلوا تعليمهم ..إما للفاقة والقهر والمعاناة وإما لأنهم عانوا من ويلات الحرب أو ماندعوه غضب الطبيعة من فياضانات وزلازل وبراكين .. رأسي يحلق .. يدور .. يتدحرج .. هاهم يستلمون الروبيات ويشربون نخب عودة ابنهم سالما و مع الجدة يودعونه بعد أن استلموا المبلغ ليحسن من وضع الأسرة مقابل غياب ابنهم ثلاث سنوات قد يرجع خائبا وقد يضيع بين الشواطئ وقد تغرقه أمواج السماء .. هذا إن لم يغرق ويكون لقمة سائغة ووجبة سهلة لحوت البحر .. أراهم يتوشحون سواد الليالي الحالكة ويرتدون قروصة البرد مفترشين القليل من التفل المخلوط بالقواقع الملتصقة بالطحالب ومتوسدين كومات من بلح البحر مبللين ريقهم بالماء المتقاطر من صناديق الثلج التي تحفظ فيها الأسماك .. أر أكفهم وبواطن أرجلهم وقد نخرها السوس .. لكن قلبهم لا يعض .. لا سوس نخره .. حتى سوس الأحلام ابتعد عن نبضه البرئ الطازج على الدوام .. حتى سوس السفر والطيران .. انطلق اربعتنا في سيارة أجرة إلي مطار بنينة، ثلة من الأصدقاء الكتاب والصحافيين ينتظرون المتأخرين هناك لنطير جميعنا إلى طرابلس ومنها برا إلى بلدة الرجبان للمشاركة في الاحتفالية الخاصة بذكري الشاعر الراحل الجيلاني طريبشان .
وصلنا إلى مطار بنينة الصغير ودخلنا صالة الانتظار فجلست صحبة طفلي على الكرسي اللدائني البارد بينما ذهب زوجي لأنهاء الإجراءت، وظلت مهجة تشاكس أصدقاء والدها الجالسين قربنا وهم يضحكون من بعض مواقفها الطريفة وشقاوتها الزائدة عن الحد .. ثم استلطفت سائحة أوروبية فأجلستها إلى جنبها وأعطتها ورقة بيضاء لترسم فخربشتها مهجة بخطوط نالت إعجاب السائحة الفنانة .
الصديقة الصحفية إلهام بن علي نزعت وشاحها الصوفي المزركش بألوان ليبية هافتة وأوقفتني من على الكرسي البارد مرددة " أنت حامل " وطرحته خلف ظهري فشعرت بدفئها الروحي قبل أن يطالني دفء الوشاح المخضب بمثلثات تانيت، ابتسمت بود و جلست بجانبي تؤانسني لحظات لا أدري كيف مرقت سريعا من فرط حلاوتها، تجاذبنا أطراف الحديث الشيق حول مدي مقدرة الإنسان في الإصرار وإزاحة العراقيل العارضة والصعبة وغير المألوفة لبلوغ هدفه ونيل مراده:
- بصراحة أنت أستطعتي أن تثبتي وبجدارة كل ذلك وهذا واضح من إصرارك علي الأرتباط بالروائي محمد رغم غرابة أطواره وظروفه غير المحمسة للاقتران بأي امرأة بدءاَ من خطواته السريعة التي لا أدري كيف أستطعت مجاراتها إلي ضعف سمعه إلى سرحانه إلى هوسه الجنوني بالكتابة الطاغي حتي علي هيئته وهندامه فهو لا يكتب من أجل النشر بل يكتب ليحكي كما قال جبرائيل جارسيا ماركيز في سيرته الذاتية أو ربما يكتب لشيء آخر لم نكتشفه بعد، أري أن الكتابة صارت له تماما كالهواء الذي يحي به، يستنشق عبير مايدور حوله من أحداث بدءا من صعوده الحافلة مرورا بالشارع ومقاهي النت والفندق البلدي وشوارع بنغازي العتيقة وسوق الحوت والحدائق العامة وحتي مجلة الثقافة العربية و مؤسسة الصحافة والمنتدى الإذاعي، يسجل في ذاكرته الأحاديث العابرة التي تدور سريعا بينه وبين الكثيرين، ليزفرها لنا من خياله الخصب الذي لا يعرف الجفاف روائح إبداعية فوّاحة، ماشاء الله عليك وأنت واقفة إلى جانبه تشجعينه باستمرار ولا تفتعلي له المشاكل التي تفتعلها بقية الزوجات .
أول معرفتي به قرأت له نصا نشر بجريدة الجماهيرية الصفحة الأخيرة في 18-7-1999 م بعنوان " من مذكرات شجرة " مازالت ذاكرتي محتشدة بشيء منه سأقرأه سريعا الآن:
" لا أستطيع أنْ أبدأ منذ الأزل .. فالأزل مازال مجهولاً .. رغم كل ما قيل عنه من نظريات نقلية أو عقلية؟ ولكني سأبدأ من يوم كنت جزءاً من شجرة باسقة غرستها الرياح ذات فجر في جوف جبل أشم .
الأمطار تغسلني شتاء والصيف يجفف كل ما يؤذيني من رطوبة وبرد؟ أسعد بزقزقة العصافير وثغاء المواشي وعواء الذئاب؟ كنا نصنع حفيفاً شجياً وقت الغروب .. أحياناً أسترق السمع لأناس يجلسون متوسدين أقدام أمي أنظر إليهم وهم يتهامسون في هدوء كأنهم يدبرون مكيدة؟ تهتـز أمي مع الرياح فنرقص معها ولكنها سرعان ما تـتوقف وتبكي بدمع من صمغ خاثر . ذات صباح سمعنا دوياً وهـرجاً ومرجاً كأنها القيامة قامت وفجأة انهالت على أقدام وبطن أمي مناشير مشرشرة من المعدن وفؤوس حادة كلسان يتكلم! وطوقت رقابنا حبالاً تجذبها بغال قوية ونداء بشع يصرخ (بهيلا هـُب) الطعنات تأتي من كل حدب وصوب، لا تفرق بين جذع أو غصن أو ورقة .. صرخت أمي (وامعتصماه) تـناثرت نشارات دموعها وبدأ عنقها يصغـر حتى خـرّ تماماً لم ينجدها أحد، كانت الزراعة نائمة والمرشد يتـفرج على مباراة في كرة الصدر، أما شرطة النبات فلديهم (زردة) مع مدرسة البنات في بطن الوادي ..
اجتـثت أمي المسكينة .. لم يرحموا أوراقها التي تخرّفت قبل الخريف ولا ثمارها التي أطعـمت الجائعين .. اقتادها نخاسو الفحم، جرجروها على الصخر .. بكى الظل لفراقها وشعر أنه هو الذي اجتث؟ في الماضي كان بكاؤه في منتصف النهار فقط! أما الآن فسيـبكي هذا الظل الشجرة منذ أنْ كانت شتلة وبدأت تكبر وهو معها؟ كان يفارقها في منتصف النهار فقط أما باقي الوقت فدائماً معها، أحيانا تسأل الشجرة الظل لماذا أنت أناني؟ تجعلني دائماً درعاً واقية لك من أشعة الشمس، أحبّ ظلك الليلي لأنني لا أتألم من الحر، ولكن ظل النهار مؤلم وتصرخ فيه مازحة: يا أناني .. يـبتسم لها الظل قائلاً:
لن يحبك أحد أكثر مني والظل الذي نكونه أنا وأنت ليس لمصلحتـنا وإنما لمصلحة الغير، الغير المحتاج لهذا الظل، الأرض التي لا تستطيع أنْ تحتمل الحرارة طويلاً، الحيوانات الهاربة من القيظ، عابري السبيل، ألا تريني أقصر وأطول وأدور؟ لا أعرف أين أقسّم نفسي، المهم أنا حزين جداً لفراقك .
قام نخاسو الفحم بجرّنا بواسطة دواب قوية، دفنونا في خندق مستعر، كان سجناً مظلماً لا هواء فيه، كوة واحدة تركوها، ليس من أجل إنعاشنا ولكن من أجل أنْ لا تخب النار، أهالوا علينا التراب، حتى دُفنا أحياءا، أخذت أموت رويداً في هدوء .
أحياناً أنام فأحلم بنار إبراهيم عليه السلام؟ أحلم ببرد وسلام .. ولكن أين كوني؟ أين؟ أشعر أن لحمي وعظامي وعصارتي تحترق .. ولكن روحي لا يحرقها اللهب .. قد تحرقها دمعة أو كلمة أو ابتسامة صادقة .. ولكن اللهب النار الأتون .. لا .. لا .. لا .. ثم استيقظ لاستقبال مزيد من الكي والاختـناق والتـفحم .
بعد عـدة أيام تـفحّمتُ، أصبحتُ لا أدري ما انتظره أو بالأحرى ما ينتظرني .
هل هناك نار أخرى بعد التـفحم؟ هل ستـُحرق روحي أيضاً؟ كيف؟ ومن الذي سيحرقها؟ وأين أمي؟ أشعر أنّ أمي مازالت في الأرض، مازالت بذرة " .
ولتتواصل قراءتي للنص إلى قراءتي له هو شخصيا حتى أني صرخت في المدرسة في لحظة جنون بغرفة الكونترول: " جيبولي الأصفر " .
و جاء حبيبي سريعا وتزوجنا سريعا ليواصل نصوصه حتى نهايتها لتبدأ مشاريع قصص وروايات جديدة لا تنتهي ولا تبدأ إلا بي أي بنا جميعا .
- " يعني يا أمّولة طلعلك محمد وعلي قولتك حمادة في قنان السعد ". قنان السعد هذا الذي دوخني، قنان السعد يا صديقتي إلهام، قنان خبز لذيذ ساخن، كنا نتنافس علي أكله والنوم باكرا لنحلم بالسعد بعد أن تعجنه عمتي " حدود " بحفنة دقيق مع حفنة ملح وتقرصه أقراصا صغيرة تسمي القنان وتخبزه أخيرا في التنور بعد الإنتهاء من خبز " خبزة التنور الكبيرة المفلطحة " .
الوحيدة التي كنا نتوسل اليها أن تعجنه هي " عمتي حدود لأن عمرها تجاوز الخمسين ويزيد .. فقنان السعد لا تعجنه إلا من أنقطع حيضها للأبد .. قبل النوم أقضم قضمة من قنان سعدي المالح ولا أشرب الماء بعده وأضعه تحت وسادتي ثم أهجع للنوم علي أن لا أكلم أحدا .. فمن شدة العطش سأحلم بالماء ومن يسقيني بمنامي فهو سعدي:
" ياملح يامليح
وريني سعدي
وين إيطيح "
" ياملح يلي ذريراتك حب
زعما سعدي وين إيطب "
الملح ذكرني بالقصة التي لا أملها وأتلهف لسماعها من جدتي في ليالي الشتاء الباردة قرب موقد الفحم ورائحة الشاي بالزعتر والنعناع المخلوط بالبردقوش، كنا نتزاحم علي حضنها وننصت إليها في شغف منسجمين مع حركات يديها وإيمآت رأسها والمسح علي ثديها أو مسك أحدهما أشارة للأمومة والحنان مع تغير نبرة صوتها صعودا وهبوطا همسا وجهرا غناء وإنشادا، ألما وفرحة، تتقمص الشخصية كما لو كانت هي ذاتها، هذا الملح الذي أرتبط أرتباطا وثيقا بطفولتي، بسبخة السلماني وراس عبيده، بملحة العيد، بملح كركورة، بخرافة عيشة " بنت البر " التي أفترقت عن زوجها الذي ذهب للحج وعاد محملا لها بالهدايا ليجد المكان خاويا علي عروشه فقد تعرضت هي وقبيلتها للغزو فمات منهم من مات والذين نجوا تفرقت بهم السبل لكن زوجها لم ييأس وهام ليس على وجهه بل مجتهدا باحثا عنها، يطوف القري ويخترق النجوع بأتانه المحملة بالأقمشة والمرايا والقلاّمات والمشابك والعطور وكل مستلزمات النساء في ذاك الزمان من أمشاط .. خلله .. أحزمة .. رقاع ..عباريق .. خواتم .. دبالج .. خراص ..صوالح .. خلاخيل وهلله .. وينادي على عيوشته في كل نجع يدخله وكلما تحولقن حول حمارته النسوة يتفقدن بضاعته وكلما سألته إحدى النسوة عن ثمن شيء مما يعرضه للبيع
- بيش
يجيبها " بضحكة " حتي يتحقق ما أد كانت عيشوشته بسنها البارقة الملبسة بالذهب ..
ويستمر مناديا بصوته الغارق في الأسي والشجن:
" ياملح ياملاح
ريتش من الناس الملاح
ريتش بنت تلتهب
سنها تبترق
منها ريت عجب
فرقت مني في الظلام
ما وادعتني بالسلام "
وبعدها جربنا الكثير الكثير مما كنا نسمعه من بنات المدارس لجلب السعد .. الحظ .. البخت أو ما نطلق عليه الطالع الحسن ولم أبقي طريقة إلا وجربتها: " الخلله" " الأمشاط " ماعدا أزعيزع التي أصلها في تراثنا كما أخبرتني جدتي عن أسطورة بطلتها بنت النجع القبلي التي هامت وجدا في ولد السلطان فساعدها " الجان " بتلقينها هذه الطريقة وهي أن تخرج بنت النجع " ماعليها خيط " أي مجردة من ثيابها في ليلة ظلماء بعد ما تخف الرَّجل " يقبع الناس في بيوتهم ويهجعون للنوم " .. فتركض مسرعة وتحفن من أول كومة ثرى تصادفها وتقبض عليها مرددة:
يازيعيزع من أمك نأخذك
وكان زعزوع يبيك
يجي
من تحت رأسي يأخذك
وبعد أن تدخل تضع قبضة التراب في قطعة قماش بيضاء جديدة كانت قد جهزتها لهذا الغرض منقوش عليها اسم فارسها .. تعقدها وفي كل ليلة تتوسدها فتسمع صراخ طفل صغير لا يحتمل فراق أمه وسيأتي والده زعزوع فورا لتخليصه وعندما يأتي تسكب ما حبسته من تراب في صرّتها البيضاء ليصير بكف يدها اليمني وتلوح به للأب زعزوز مملية شروطها فيحقق لها جل مطالبها كي يخلص ابنه المبتغى! .
وأفضل طريقة هي التي لا تخلو من الملح وجربتها دون أدني تحوير بكل حذافيرها تماما كما روتها جدتي .. أخذت ورقة ونقعتها في ماء حبيبات البَرد الذائبة " التبروري" وهو ما نسميه في بلادي ليبيا ملح المطر .. إلهام غادرت ذاكرتي الآن، لديها شغل متراكم في المجلة .. تعالي يا سستر باز .. ياعروس الفليبين الجميلة ... ايتها القصيرة ذات الشعر الناعم .. ليتك تعطيني منه قليلا أجعله قصة على جبيني .. جرح خفيف اعلى حاجبك الأيمن وخال بني على وجنتك اليسرى .. أنت جميلة .. لا أدري كيف سمح لك زوجك ان تبتعدين عنه كل هذه المسافة والمدة .. لا اسمح لك بالابتعاد عن سريري .. أنت ملائكة تخففين ألمي .. المخدر بدونك لا يفعل في جسدي شيئا .. ضغطتك على معصمي تريحني .. ووخز إبرتك في وريدي تشعرني بالمتعة .. أما ابتسامتك يا باز فما أروعها .. إنها ابتسامة الشرق .. ابتسامة قارة آسيا .. مهبط الديانات السماوية وبلاد الأساطير والحكايات والألم، صديقتي باز ممرضة فلبينية هي بجانبي وأنا أهذي من تأثيرالمخدر في مستشفى جادو بالجبل الغربي، ذاك المستشفى الذي أجريت فيه عملية إجهاض توأم بسبب الركض وراء جنون زوجي المبدع ووراء ثقافة المجهودات الذاتية والخيرية وأنشطتها .
ماذا يا عزيزتي آمال .. أحكي لأختك باز عن ماء المطر التبروري .. في الفلبين مطر كثير لكن الهواء ساخن مافيش تبروري .. امال أحب تبروري كثيرا .. أضع منه حفنة بين نهدي فتبرد رغبتي في زوجي قليلا .. سنتين مافيش سفر للفلبين .. مافيش سكس حب .. تذكرة سفر غالية جدا .. أكملي أمال أرجوك قصة تبروري ليبي .. بعد تنقيع الوريقة في ماء التبروري أبيّتها تحت ضوء النجوم في طاسة الخلعة وهي أنيّة نحاسية منحوت عليها آية الكرسي تستعمل في تنقيع عشبة " يد أمنا مريم في ماء زمزم " ومن ثم يشرب منه المريض أو المفزوع ويرش علي وجهه في غفلة منه كنوع من علاج الصدمة بالصدمة .
بعد نقع ورقتي في ماء التبروري المبيت تحت النجوم نقعا خفيفا أضعها لتجففها الشمس لأجمع بها حبيبات شعير .. وحصيوات ملح .. وقطعة فحم .. وحلوي على أن تكون من النوع الذي يدعي " حب عزيز " .. مع قطعة قدّيد يكون قد مر عليها حول كامل .. وأقول هذه المقولة مرة واحدة على أن لا أخطئ ويجب ألا يراني أحد والوقت المناسب لذلك كما أعلمتنا جدتي هوالهزيع الأخير من الليل:
هاكم
شعير لخيلكم
ملح لزادكم
شحيمة
فواح طعامكم
فحيمة
أوقودوا ناركم
وحليوة
لخطّاركم "
وألف القرطاس جيدا وأرميه في مفترق طرق أو حتي طريق واحدة تكفي دون النبس ببنت شفة ثم أصيخ بسمعي فأسمع صوتا ينادي:
- محمد .. هذا ماسمعته .
أما أختي فسمعت صوت طيارة فكان زواجها أسرع مني بكثير وهناك من سمعت صوت سيارة سيكون زواجها علي مهل وأما نباح الكلب ففيه إشارة للرصيدة .. بعدين نحكيلك عليها يا سستر باز نحس في روحي دايخة توّا! انشوف فيك كبيرة ووجهك تغطيه سحابة بيضاء وصورة رجل قصير فوق جبينك يداوي في جرح فوق حاجبك .. هذا زوجي يا امال دائما امام عيوني .. دوختك ساهلة .. نقص في الجلوكوز ساغير الكيس الفارغ بكيس مملوء استأذن الدكتور اولا .
تخيلوا لو وجد الملح في المقابر وتشبعت به السجون التي لا نعرف الطريق إليها، فمن يدخلها حتما سيجد بانتظاره شبح التعذيب اللا إنساني المتربص بالسجناء وسيكون مع المرض والتجويع سبيلهم لسلك درب الآخرة التي لو خيروا الوصول إليها لسلكوا دروبا غيرها تفضي لذات الدرب وهم سعداء بما أختاروه!. ليس هناك أحد سيختار الموت تحت التعذيب .
نياط فؤادي يستوهم العذوبة .. ودالية الحلم متخمة بعناقيد المواجع . . وفيما أستظل من هول الآتي ...صرصر القلم زافرا آخر فيض آهاته ..
ماذا أسمع؟ التبس علي الأمر . . توتر العصب وانتصب الإحساس مهزهزا الطبلة فنقرت عرى دنست كل الطقوس الهامسة .. ضجيج يتزاحم لعبور الدهليز .. دنت مني أمي .. دامعة العينين .. تنبهني بصوتها المرتجف ويديها المرتعشتين:
نوضي .. نوضي . جاء خبر المحبسة عيال جيرانا القدم!
- اسم الله من اللي مات يا امي؟!
سالم ..عبدالهادي .. معتز .. رفيق ورضوان ..وحدين أخرين ما نعرفش اسمائهم ..
كانت وفاتهم منذ سنوات، خبر فقدانهم وصل بائتا كبرودة جدران سجنهم .. توفتهم المنية منذ سنوات وسنوات وطبيعي ظروف موتهم مختلفة أولها التعذيب والجوع والمرض ثم القتل بدون محاكمة داخل سجن بوسليم!!
أمي الجديدة تنشج باكية بحرقة
-ياناري عليكن ياجويرات قسامي
تصفق بيديها فيعانقها أبي مواسيا ولسان حاله ربما يقول: " الله غالب " البلاد ماتلقاش وين أدرّس سيارتك كلها خيام ياحويوا.. اللي ماجاه الخبر قاعد يرجي فيه.. والمصيبة مش واحد وإلا أثنين بالثلاثة والأربعة وفي اللي من عيلة وحده .. اللي ما ولده خوه .. واللي مش خوه بوه .. وإلا ولد عمه .. يا صاحبه .. ياجاره .. الحصيل الناس كلها متنكدة ووجوها مدخنة ..
- ياساتر كان ما تنقلب البلاد مرة وحدة
لا واللي يخبروه يقولوا لهله ماتعيطوش .. الناس قريب يطّربقوا خلاص!
- كيف الراي دبر علي مانيش عارفة نقسم روحي وين علي عربنا وإلا أنساباتنا وإلا جيرانا الجدد والا القدم
- توا امشي شوية لجيرانك الجدد وبعدين نعدوا لجيرانا لقدم وخشي على عيت بوشعالة أمهم مسكينة قالوا عقلها تبدل .. وماتنسيش عيت الفرجاني حمديلهم علي سلامة ولدهم رشاد طلعوه بعد سبع سنين حبس حلف ما حققوا معاه حتي مرة نين طلع .. وعيت الشاوش وأنت واقفة ولدهم طلع من الحبس لكن مريض بالسل قالوا تاعب واجد هذا من مرقدهم علي الستاك اللي يحبه ربي مايطيح بين ايديهم ..هاذوم مبلية مايخافوا ربي بكل!
- يجيرنا الله من جور الأيام
- وبعدها تعزي الزوايد وفي الليل نتوكلوا لأجدابيا غير خفي روحك ياحويوا
و باهي عيب يافروجة تخلي نسيبك حايس بروحه .. مسكين محمد .. ما يكساب أمغير ها الخي .. أرتزا فيه وقعد يطوطح بروحه ..
- صدقتي والله ماتجي توا نقعدوا معاهم نين أيجوا عرب الغرب وبعدين نتوكلوا لاجدابيا بيش نعزوا عيت الزوي باهي اللي ماتت فطيمة قبل لا يجي خبر ولدها عياد أستغفر الله وخلاص ..
- الله يرحمها ويرحم ساير أمة محمد أجمعين .
- والله عزوزتك الفزّانية هي اللي قعدت أتّلقي في الرعايش .. كل يوم جايها خبر واحد .. يا من ظناها .. يا ظنى ظناها .. مسكينة ها لعزوز ..شي يوم اطيح برضها وياخذوا ذنبها ..
- والله مايربحوا من دعاء الأمهات!
- هي .. هي .. ألبسي جلبابك وألحقيني مافيش وقت ياحويوا ..
فقدنا شبابا رائعين زينة شارع البريد ونوارة حي بوهديمة .. سالم ابن الجيران وهو بمثابة أخي الأكبر الذي كثيرا ما تصدى لأولاد الشوارع الأخرى الذين يشاكسون بنيات زنقتنا في نهاية دوام ما بعد الظهر عندما كنت بالصف الأول الأبتدائي أراه يقف أمام باب مدرسة التقدم كعسكري يحفظ النظام ويحافظ على الأخلاق، يؤدي دوره علي أكمل وجه وأذا ما حاول أحد الآشقياء نزع حقيبتي عن كتفي سريعا ما تأتيه ركلة قوية علي مؤخرته تطيحه أرضا .. أحببنا اللعب معه وكثير.. لاعبنا سمي بلاد والتصاوير والبطش وطقه وأركب عسكري، وأذكر في ليلة سطع فيها بدر التمام رأيت سالم يختبئ خلف محطة الكهرباء يلاعبنا " الوابيس " كعادته ولكنه هذه المرة كبر كثيرا وكبرنا معه فلم يستره جدار غرفة محطة الكهرباء، قبض عليه ليس من قبل ضحكاتنا التي تقفش مكان اختبائه نحن الأطفال أثناء لعبة الوابيس، بل من قبل رجال بوليس أجلاف غيبوه إلي الأبد فلم نحضي برؤيته ثانية إلا في ألبوم الصور عند أمه الحاجة سعيدة، حتي رفاته لم تعد إلى الشارع لنبكي ونصلي عليها وندفنها في مقبرة الهواري مع الأقارب والجيران، مات دون جنازة، قتل غيلة، وذكرياته معنا مازالت تتنفس، تقيم له في قلوبنا جنازة يومية تجعلنا نذرف الدمع .. كلما فتحت عمتي سعيدة شقة ابنها رضوان بالطابق الثاني لتنظفها من الغبار تنوح باكية
- يانا علي ياجنيني يلي مافرحت بعرستك!
فنهرع إلى بيت سي امراجع في منتصف شارعنا لنعانق والدته وأخواته أميرة .. مريم .. زينة والربيّع بود ومحبة وأسى مؤلم ..
كم تألمت عندما قرأت بالنت عن موت صديق الطفولة بهذه الطريقة البشعة التي لا تمت للأنسانية بوشيجة!! .
وكذا أخوته رضوان وعبد الهادي ومعتز وعمهم رفيق الذي ماتت أمه حسرة علي فقدانه هو ابنها الصغير الذي تحبه وتعتبره قرعتها من الدنيا و كل مالديها! .
الناجي الوحيد هو عمهم عبد النبي صديق عمي سعد الذي غير اسمه لعبد الرحمن بعد نضجه وتفقهه في الدين.. كان رحب الصدر ويجيب عن كل أسئلة أطفال الشارع الفضولية وكثيرا ماقرأ لنا القصص والمجلات وساعدنا على نطق الآيات القرآنية نطقا سليما مع تلقينه لنا لأحكام تجويد القرآن بصورة مبسطة وكان يكافئنا علي كل ذلك بابتسامة وبعض الحلوى وغرس بين أبناء الشارع روح التنافس فكان يجمعنا بباحة بيتهم الملاصق لبيتنا بعد كل صلاة عصر .. متناوبا مع ابنة أخيه أميرة ابنة عمي أمراجع .. أميرة التي أحبت أخي الصغير مجدي وكانت تعامله كم لو كان وليدها أثناء غياب والدتي ومكوثها الطويل بمستشفي الصدرية " الكويفية "، كنا نتلهف لوقت عودة أميرة من العمل فحالما تتوقف بها الحافلة نفتح لها الباب مادين أيدينا، فتستقبلنا بالأحضان والابتسامة وعمرها ماعادت أيدينا لجيوبنا وأفواهنا فارغة .. هذه الفتاة الحنون التي كثيرا ما رفعت عني أعباء شغل البيت عندما كنت صغيرة وأثناء مرض والدتي ومكوثها بالمستشفي .. كنا نتحولق حولها بحب فتلاعبنا صحبة جارتنا هدي علي صالح ألعابا مبتكرة من خيال مسرحي متقد .. وكانت الربيّع أخت أميرة الصغري تحب لبس القفاز الأبيض وفي أول فرصة نجتمع لنكون أوبرا إبداعية، قائدة الأوركسترا فيها ربيّع بينما بعد صلاة المغرب تتناوب هدي هي وأميرة لتحفيظنا الأناشيد وقصار السور مساعدة لآمهات الشارع، وفي البيت يكمل معي عمي سعد باقي المشوار التعليمي تاركا الكسور العشرية والقسمة المطولة والتحليل لأبي، واليوم تغيرت الأحوال، غادرت أمي قسامي الدنيا وغادرنا نحن حي بوهديمة وغادر أبناء جيراني الطيبين إلى أماكن جديدة، منها الدار الآخرة وعدة مدن وقرى وبلدان منتشرة على ظهر البسيطة.
آه عيناي .. فركتهما بشدة .. ذهبت أتخبط في ظلام خلته سديمي ورششتهما بالماء .. ولكنه ظلام .. ظلم وظلام ..ظلام وظلم ..!!
لا أدري إن كانت لعبة الليبرا ستستهوي ولدي أيضا!! .. الظلام يفجر فجره .. فينبثق خرير الضوء .. وإعصار برق يخرج من جب الذكرى تجره حبال شعور نحو دهليز مجهول .. شفاهها لا تحسن سوي رسم زوايا حادة ..
هل تندثر معالمها؟
ماذا تقصد؟
لوحة الزمن ..
خذ امسحها بألوان الأمل ..
لا.. لا.. للأمل الملون .. أمل الدماء ..
شدت وتيرة نسيجها شيئا فشيئا برق لهيب اللوحة .. زقزقت عصافيرها ..
قادته الدهاليز لبساتين معلومة راقصة في نخاع الحلم
ماذا عن الشفاه؟!
ألا تنفرج زواياها .. ها هي فراشة تتنقل عبر الدروب
وسط ضجيج حياة عابقة بالرتابة
ذاكرة فضّت أفكارها
ليست بالعاقر
يتوالى النسل تلو النسل
كم أحب إثراء مملكتي بالحب المجنون
بالنمل الذي لا يتوقف عن المسير
- هيا ادخلي
- أين سأضع كتبي؟
تطوف أرجاء المدينة .. تبحث عن لهب حقيقي .. تحاول جاهدة ..أن تجد محلات تبتاع منها سبيكة استقرار.. تري ربطات العنق .. تحلها بسؤال هل تحمل في طياتها سعادة أكيدة؟!
فماذا إذن عن الأحذية غير الملمعة.. سأتجاهل الأحذية الآن .. و أستفسر عن عجيني الذي نشف في طاحونة التجذر .. العجانات غاصة بدقيق اللا مبالاة .. تدور متلكئة كأيام أضاعت أسابيعها .. ترك زبائنه وخرج وسط دهشة غازية لملامحه ..
ما هذا؟!
مخلوقات لاهثة عبر الطرقات .. أفكارها كأقطاب متشابهة ..
هنيهة وصفق الرجل يمناه بيسراه ضاربا بكفه على جبينه المتغضن ..
فتح الباب لينغلق وراءه ..
قفف جوفاء لا تحتمل البين .. والمنتصب أمام الطوب الحراري الحافظ لعواطفنا الباردة يدفع برمايته المملوءة بأقراص العجين .. طوال الوقت يلظي ويتلظى غير آبه بالسعير.. حاوي العجين يتلذذ بمشيج المحتويات هافيا لتقديم المزيد من القرابين .. أكياس الطحين وفيّة للأنسكاب ..
بكم هذه؟!-
خذها ولن نختلف على السعر
حاسب الزبون على قناني الرحمة وعلب النقاء .. متجاهلا بعضا من صراخه الماضي..
حديد اسطواني .. محرقة .. خبّاز..انتزاع بائع .. آخرون ..
أترونهم مسؤولين عن تقلب رياح الهوى وانفصام عرى الود؟
الطاحونة تطحن والرائحة تفوح .. والمخلوقات أضناها الركض ..
الزبائن آه الزبائن .. فاتهم قراءة تواريخ الصلاحية.. وإن كان الخبز الذي كنا نعتقده طازجا وصحّيا ليس بالإمكان وضع ختم الصلاحية عليه .. لن أثق إلا في خبزة التنور التي ترميها جدتي البقوشية في تنور الطفلة .. سأهمّ في الذهاب لمأتم جيراني الطيبين في حي بوهديمة الذين لم أغفل يوما عن ذكرهم بالخير والترحم علي أبنائهم عبد الهادي ورضوان ومعتز وسالم وعمهم رفيق الشاب الطيب والدعاء لعمتي سعيدة وجارنا سي امراجع بالصبر على قد غلاهم ..
- ياوليدي كتبتش علي خوتك وضنا خوك المحبّسة في بوسليم شي كليمة في الجريدة، من اللى طول النهار اتخربش فيه؟!
- عندي شغل في الجريدة توا ياحاجة
- تعال هن .. مغير قرب جاي ..كل يوم وأنت تهز بهالشنطة وصلوعتك عرق تلصف و ماشي جاي ع الصحافة، ضنا عمك وكل صبايا القبيلة كلن وجهي، كنه ولدك مايكتب علي خوته وضنا خوه اللي راحوا في شربة أمية وينصفهم حتي بكليمة .. وحق سيدي سويكر نين كرهت اللمة والعرب، ياوليد أكتب خيرلك .. حياة جدك الله يرحمه .. عمره ماذل .. ماكان الا كتف بكتف مع اللي ناصروا سيدك " عمر المختار " وكان يكر في شوالات بوخط مليانات شعير عقبات الليول لجدتك العايشة .. نصه تحمسه وباقيه تخبزه في هذاك التنور اللي ماكسراته نار الأيام .. وكل مايخش يلقاها ترحي ومرات تكمّد في كتفها من الوجع ..
- وين صبايا النجع كنهن ماساعدن حياة جدتي في الرحي
- وقت الحرب الحال يعلم بيه الله ياوليدي وكان يلتمن يجيوا الطليان ويشيطوا في الشعير والنجع كله النار .. يفهموها علي طول أنه مونة سيدي أعمر المختار وخوته أصله وقت شر وكل يوم بقسمه ..والطليان يتمنوا جماعة سيدك عمر كلهم يموتوا بالجوع والعطش بعد ماقدروا يطالوهم بالبنادق والرشاشات .. لنقانهم تريس بحق .. نار مدافع الطليان مازادتهم إلا قوة بعون الله .. ديمة تقول عليهم حياة جدتك عرفوا ربهم في الرخاء عرفهم وقت البلاء .. أيام الله لا يعيدهن .. خلينا في سيرة جدك الله يرحمه علي قد ما عرفناه الله يسامحه على قد مابينا وبينه من تراب .. كان يصبّر فيها وين ماتوجع من كتفها مشجعا:
" ياليمنة ماتذليش
وأرمي عوين الفلاحة
يفرّج عليك الله
وبعد الشقا يجيك راحة "
ترد عليه متحمسة لرحي شعيرها:
" ياذراعي شندير بيك
كان مارحيتي الرزينة
لا نغسلك ولا نحنيك ..
وخسارت ..
المفكرن واسّوار فيك
وخسارتين
فيك النبيلة "
تحزمه جدتك العايشة ويشيله جدك سليمان بيش يسلمه مع باقي المونة للمجاهدين يقوتوا بيه أرواحهم!!
صدق اليّ قال البطن تجيب صباغ ودباغ ..
- - باهي ياحاجة باهي .. من الصبح وأنت نازلة فيا شورك حالمة بيا ليلة البارح ..
الساع نكتب في الوقت المناسب .. توا قتلك مش فاضي وراي زاوية في الجريدة الرسمية لازم نملاها .
- لا زاوية لا زوي أوقض لروحك هوه .. خوتك وظنا خوك زوا عليهم الفيل في رمشة عين .. شوره مرارتك لها سنين مفقوصة!
- كل حاجة في وقتهها تجي بطعمتها
- شنو دوتا الوقت المناسب .. كانك علي الوقت مات من فراق عويلتي وعويلة وليدي والطعمة زاد راحت معاهم أكتب .. أكتب
- قلنالك باهي
- وامتي عاد تريد تسخن قملتك أكتب يامنجوه وإلا خايف
- قلنالك باهي ياحاجة
- باهيّك هضا زعما إمتّه .. عام يززوا البقر وعام ينزح البحر.. اليوم لهم سطاشن عام وأنت تمشّي في بكلمة باهي راه نتبرا منك وحتي الثدي اللي رضعتك منه نقطعه منين مانبت .. اللي جابتهم ناجية صحيح رفيق وعبدالنبي إلا أنت ماني عارفة دوتك كيف؟!
- توا بالعقل غير أقعدي خلينا أنتفاهمو
- وياني قعدت .. رأس مالك تقطيف
- الحي أولى من الميت صحيح وإلا لا يا حاجة وكاني كاتب عليهم راه ماحصلتش ها الأربع سنين اللي قضيتهن في بلاد التانجو نقبض في الدولار ونبني في الفيلا ولا كسبت هالسيارة السمحة اللي توصلك للمقرون في نصف ساعة ..
- خارج ههه، كانك علي نا عندي اللي يلعبوا في الكورة في بلاد الغانجو خير منك أقل مافيه ايديروا في أقوال في الشبكة ويفرّحوا في الناس .. كلا أنت لا هذي ولا هاذيك عديت للبلاد البعيدة طقربت .. طقربت كيف ما حكيتلنا على الحصنة نين بطلت وبعدها جيت .
- طقربت صحيح .. كنا نساند شعوب امريكا اللاتينية من أجل تحرير جزرها من الاستعمار الانجليزي .
- لانقانه خسارة حليبي فيك وكان نقدر ناخذه ماتلقي بيش تنوض أنت حيلك بارد بارد
- كثر الله ماكثر لبن العريبات كل قلوني عندي فيه قرطوع
- أنزرف من قدام وجهي وأنت ماعندك غير الدوة الفاضية، أسع نكلم بنت جيرانا آمال تكتب عليهم، من صغرها تقول في الحق ماهيشي ذلالة! .
في أمسية قصصية أقيمت علي هامش معرض الكتاب بطرابلس كان هذا الذي لا يستطيع أن يكتب عن إخوته هو مديرها ريتي الدنيا يا سستر باز وكنت إحدى المشاركات في الأمسية، فعندما جاء دوري قدمني للجمهور بطريقة فاترة ومعالم وجهه تصرخ بالتهكم، وفي نهاية القائي للنصوص، قال لا أدري ما قرأته هذه .. و - توقف هنيهة يزم شفتيه قبل تكملته الجملة - الكاتبة أشعر أم قصة؟ .
وأقول له الذي أكتبه اليوم أيها العزيز صقع عليك، تحتاج إلى مليون عام كي تستمخه .. والعتب مش عليك على السخافة الهابطة التي وضعتك في منبر لتدير أمسية شعرية .
النص الذي قرأته وجعل الشاعر على صدقي عبدالقادر يقول متحمسا: " جميل جميل جميل" عنوانه طقطقة وبعد سنتين صدر لي كتابا أحتوي على هذا النص فأعجب به مدير الأمسية المتهكم آنفا وكلما قابل زوجي بعث معه السلام .
- " نبي نكتب عليه في الجريدة .. كتاب رمش العين عجبني واجد "
في تلك الأمسية قرأت ثلاثة نصوص وهذا ما أستفتحت به:
طق ..طق .. طق
طاق .. طاق
طقطق .. طقطق ..طقطق
طاق .. طاق .. طاق
طق .. طق
طقطقطق
نقرات تطرب السياح
فيهديهم بعض مما نقر
جذب انية نحاس
تاه فيها
جلبت له تاريخ صباه
(ايه .. ايه)
ناوله الصبى المطرقة
ناوله الشاكوش
فأخرج شاكوشه من جيبه
شاكوش صغير
عتيق .. عتيق
نزع عنه جواه
نفخ فيه ممررا أصابعه
كما يصنع محترفو التدخين
حال قبضهم على سيجارة معمرة بالكيف
طرق جمل مغمض العينين
يبرك بحمل هودجه ..
الذى ندعوه فى بلدى
(الكرمود)
جال فى السوق
ودع الأصدقاء
الذين كثيرا ما لعبوا الباصة والجلة
فى أوقات فراغهم
عاد أدراجه
شاكوشه فى جيبه
آنيته فى يده
ترك صوت
الطاق طق طقطقط طاق طق
خلفه
ورحل!
سأذهب لمأتم العريبات وعلي الأستعجال بتأمين الزيت والدقيق لصنع كمية أكبر نقدمها للمعزين كصدقة جارية جري النور في مضامير السماء .. سأضبط كمية الملح والخميرة في العجين كضبطي لدموعي عندما أنوي خنقها!! .
أجلس إلى جانب إلهام في مطار بنينة تواصل حديثها الذي بدأته قبل صفحات وانقطع لإتمام المتراكم من عملها:
- زوجك دائما مشغول بكتاباته أحيانا يحدثني وينصرف فجأة مكتفيا بتلويحة خجول أو ينزوي ليكتب غير مكترث بمن حوله بالمرة فقد يجلس علي مصطبة أو يقف يتأمل تحت المطر في حين يحتمي من بللها الجميع .
- بالنسبة لي هيئته وهندامه لم أرها فلقد تجاوزت مظهره قفزا لروحه وجوهره فأنعكس صفاءا علي وجهه الطيب الذي ما كنتم تطالعون منه سوي الغبرة واللحية الكثة وجبينه المتعرق والشرود والمداس البائد والحقيبة المهترئة، الزينة الخارجية ماهي إلا قشور نختبئ تحتها كما لو كنا بيضا، نحب الدفء لنحيا ونكره نار السلق والقلي والمضارب اليدوية والكهربائية، نار ومضارب تحولنا إلى سندوتشات ونكهات في حلويات الفترينة .
- لا أنكر هو صادق وطيب ويحب الخير للجميع لكني لا أملك صبرك لأصل إلي ماوصلتي إليه وأنت تكابدين .
- ماذا فعلت وكيف أسرتيه لتصبحي كل حياته ياأموّلة؟!
- إنه ما يسمى بالحب ياعزيزتي!
- هيا علينا المغادرة للحافلة الطويلة التي ستقلنا للطائرة .
أنصرفت إلهام بعد أن عرضت المساعدة في حمل جبير معاها فشكرناها بحب وخرجت من الباب وسبقتنا بالصعود للحافلة مبتسمة فلوح لها الصغيران بحرارة عبر زجاج الصالة المبرقش بلطخات من غبار بنينة والرجمة ..
أما صغيري جبير فقد أستحوذ علي اهتمام الفنان الفوتغرافي الكبير فتحي العريبي فألتقط له العديد من الصور، و هو في حضني ومع أبيه داخل الطائرة عابثا بأزرار الإنارة والتكييف غير عابئ بعتاب المضيفة، كان متألقا في بدلته الصيفية بلونها الأخضر الفاقع الممزوج بالأحمر القاني، أعجبتني كثيرا الصورة التي أعتبرها لوحة إبداعية وهي مقاربة بين أذن الطفل الصغيرة وأذن والده الكبيرة وما إن تطالع اللقطة حتي تجود عليك بتفسيرات وإيحاءات لاحصر لها! .
حطت بنا الطائرة في مطار طرابلس العالمي وانتظرنا بعض الوقت بعد أن تغير جدول الرحلة من قضاء ليلة بطرابلس إلي مواصلة الرحلة مباشرة ليلا إلى الرجبان .. حضرت الحافلات وتوكلنا إلي الرجبان مباشرة ولم نتوقف سوى مرة واحدة علي مطعم صغير ولازمت الحافلة فأنا لا أقوي علي تحمل رائحة السجائر خوفا علي حملي ولقد تقيأت مهجة فغسلت لها وجهها وبدلت لها ملابسها ورششت زخات من العطر على ملابسها وشرّعت نوافذ الحافلة فتجدد الهواء وتلطف الجو .
عاد زوجي يحمل كيسا به المناديل وقنينة ماء وعلب العصير وقطع من الشوكلا والبسكويت وبعض المكسرات وأنطلقنا مع صعود الجميع فلقد رافقنا المؤرخ الدكتور عبد السلام شلوف والفنان فتحي العريبي، ولن أنكر أن الطريق كانت صعبة بالنسبة لحامل بتوأم، فالطريق الجبلية بها ثلاثة عشر انعاطفة لنصل إلي الرجبان، الطريق ممتعة حقا خاصة مع الأستاذ عبد السلام الذي كان يتحفنا بمعلومات تاريخية واجتماعية عن كل منطقة نقترب منها مستشهدا بمواقف طريفة ووقائع شعبية حدثت فيها، يتحاور الركاب من أدباء بحماس جعل الحوار ثريا بالمعلومات القيّمة التي وددت المشاركة والخوض معهم في هذا الخضم الزاخر بالفائدة، لكن وضعي الصحي لا يسمح، كنت أشعر أن شيئا يهتز بداخلي كما لو كانت ذبذبات لا تنتهي مع كل إنعاطفة ولكن استحملت الألم و لم أندم علي حضوري وشد الرحال لهذا المهرجان الثقافي المسمى على اسم شاعر مبدع نحبه هو الجيلاني طريبشان .. شددت الرحال رغم وضعي الحرج حبا في الإبداع ومتوكلة على الله ولسان حالي يقول:
" اللي يخاف المحاذير شن بيدير
وإللي مايخافهن شن داير
اللي مصوره الله بيصير
مكتوب من رب صاير " .
سلمتني السستر باز ثلاث ورقات وقلم جاف أسود الحبر ورحت أخربش وأخربش وتخربشني الذكريات وهلوسات التخدير .. نضبت الأوراق .. فأحضرت لي رزمة من الوصفات التي لم تخربشها أقلام الأطباء لأواصل خربشاتي:
وين ريتهن يضحكلى
ضحكة حبيبك الدانى
وتريتهن يجهرلى
فى غارقات السوانى "
" ريتني والله ريت
نرجع نولي بنية
نلبس رفيفيدة الزيت
ونرقد لويلة هنية "
" يا ريت ماحنيت
ولا درت رأسي ضفاير ..
حسبت روحي تهنيت
جيت للنكد والشغاير"
"إن جاورت جاور مليحين
معاهم أتعيش حياتك
عفنين كيف الطوابين
أتقعمز تغنج عباتك "
" ما ملي بالجرد يهفّر
ينفخ والبوق خاوي
وماملي ولد ناس
مثيله مثيل الهلالي
* * *
كانت والدتي كلما ساعدت نساء أعمامي في تشبير خيط النيرة باليدين والأرجل بطريقة تجعل من تخضيب الحناء مقلما كما لوكان قطع من البقلاوة المحمرة وإذا ما تذمرت إحدي سلفاتها من أشتداد الخيط فتهوّن عليها:
- السماحة مش ساهلة .. واللي تبي الزين أتحمّل "
- هذا كله وانشاء لله يرضي ياقسومة .. أنت عارفة سلفك عينه فارغة
ومايعجبه عجب ولا صيام في رجب
- العين مايملاها إلا التراب .. " يبرم .. يبرم ومرجوعه لك ولعويلته "
وكانت كلما جاءتنا خالتي زهرة من مدينة البيضاء لتزورنا و لتبيت عندنا يوم أو يومين تخضبها أمي بالحناء بعد أن تنتف لها ساقيها وذراعيها البيضاويين الفاتنين بالحلاوة التي تعدها في بيتها من السكر والليمون وقطرات الزهر مع ماء الورد فتصير بشرتها ناعمة برّاقة .. وتحرقص لها حاجبيها وتصبغ لها شعرها الأسود بالمردومة وتظفره بعد أن تضمّخه بالقرنفل وماء الزهر والجدرة والعفص وشهدت مرة علي خالتي وهي تبكي وقد وقعت في حيرة من أمرها بين زوجها الذي لا يحب الحناء.. فلقد أصدر فرمانه بدءا بليلة العرس بشأن رفضه للحناء والتصوير .. وبين العرض المغري من أختها الكبيرة قسامي وخاصة أنها تشم رائحة الحناء التي عجنت على اسمها بعد حضورها بقليل .. والدتي قطعت عليها الطريق:
- أنا بنحنيك ونزينك وكان مش عاجبه خليه يردك لنا ماتخافيش ياهبلة توا تدعيلي! .
وما أن طرق الباب حتي رمت بقطعة السواك من فيهها فبدت شفتها السفلي وقد أصطبغت بلون الرطب ..
- من
- حلي يابنية عمك علي
سألني عن خالتي زهرة فخرجت لتقابله بالمربوعة أذكر أنه قد شرّع عينيه الزرقاوين فاتحا فمه وخبط بيده علي جبينه ودار حول نفسه حتي كاد يسقط من شدة دهشته وأستعجلها بالرحيل حتي أنهما تركا العشاء علي النار! .
والدتي محبة للحناء والزينة الطبيعية ووالدي بحكم طبيعة عمله ومأمورياته ودوراته العسكرية التي لا تنتهي كثير السفر والترحال .. فدائما تمازحنها جويراتها:
_ عطاك ربي ياقسومة ديمة بارمة علي رويحتك
- توا فرج مسافر وعليش محنّية ومكحلة
- نحني ونكحل لعمري! .
بخار كثيف يا باز انزعي الكمّامة عن وجهي، حرارة، بخار، أنا أين، سيارة الأجرة تجري، وأنا أقرى اللافتات التي نمر بها في الطريق، اجدابيا 160 كيلو متر، أعمال جارية، شعارات سياسية، دعاية بيبسي كولا وقطن نساء اولوز، مزين سيدات هذا ما كتب على لافتة المحل .. قف أيها السائق، سأدخل لأحني وأكحل لعمري، ملحق به حمام بخاري .. مساج .. مختبر تخسيس .. بالرياضة .. بالأعشاب .. بالإبر الصينية .. تجهيز عرائس .. معلن عن أزياء تراثية ليبية .. وهندية للتصوير.. المزين ملحق بمصوراتي أيضا .. التصوير تتولاه امرأة والتحميض والطبع رجل في أغلب الأحيان .. فهو من تسمح له ظروفه بالسهر حتي وقت متأخر في غير دوام المحل المكتظ بالزبائن صبحا ومساء .. تصوير لوثائق وإثبات هوية .. صورشخصية .. صور لجواز السفر والبطاقة وكتيب العائلة ومذكرات دراسية .. صور للذكري .. عرسان!
بعد الولوج إلي الداخل بمتر تقريبا تجد ستارة حاجبة لما بعدها .. شبيهة بالستارة التي بغرف الأسعاف والمناوبة بالمستشفيات والتي رأيتها كانت بنفس اللون أخضر.. لون ملابس غرفة العمليات التي يرتديها الأطباء وطقمهم المساعد، شردت قليلا ليأخذني إخضرار الستارة ذات العجلات المتحركة لأول حقنة " باسكوبان " تساعدني علي تهدئة ألم الحيض بعيادة الصابري ولكني رفضت تعاطيها بعد أن حضّرتها لي الممرضة الفلبينية بلدياتك يا باز هي تشبهك كثيرا لكن ليس بها خال في الوجنة ولا أثر جرح فوق الحاجب، ولهذا السبب لا أسمح لأي كان أن يرهب بناتي بالحقنة .. لكم أن تتخيلوا مدي خوف الشخصية الكرتونية " جازورا " من الحقنة .. كذا أنا .. دائمة الجدال مع عمة أولادي التي تفتح حقيبتها السوداء المنتفخة والتي لا تخلو من حقنة بأبرتها .. تهددهم بها أحيانا علي أتفه الأسباب.. رغم خوفي من الحقن ألا أني ألاعب أولادي لعبتهم المفضلة " المعاينة " كما كنت أفعل صغيرة أقلب المغطس البلاستيكي الأحمر بشكله البيضاوي وأجري فحوصاتي الطبية لأخوتي ولا أتوانى في إجراء العمليات وخلع الأسنان وصنع الكمادات والتقطير بالعيون والأذان فأخوتي هم حقل تجاربي الذي لم يجهض حلمي يوما فلولا الفيزياء والرياضيات لكنت اليوم طبيبة مشهورة لي عيادتي ومستشفاي الاستثماري الخاص!
هذا ولدي جبير يقبلني ونافسته ابنتي مهجة بقبلة طويلة أنقلبت لعناق تحثني متسائلة
- شى أديري ماما تكتبي .. باهي أكتبي .. أكتبي!
وأذا ما أخذا فاصل قصير يستريحان فيه فيمنحوه للقصة الشهيرة التي أحببناها صغارا "المعزة التي خدعها الذئب" .. ويبدآن في الترنم لتحفيزي علي مواصلة تلعيبهم:
- " مرة معيزة جاها الذيب
تسحابه بوها الحبيب
شافاته في ضيء القمرة
ماسك فيده قفة حمرة
قاللها .. حلي الباب
جايبلك من بوك جواب!!
والوصفة لكل التشخيصات عندهم لا تختلف فالحقنة بالنسبة لهم تمثل الشفاء..
- " جاك الفأر "
لا أدري ما المتعة التي نجنيها من ترهيب الأطفال .. وبعدها تشتكي الأمهات من التبول اللا إرادي وأهتزاز الشخصية وضعفها وقد يصل الأمر إلي أبعد من ذلك و يتجاوز العزلة والإكتئاب ما به الفأر؟.. أليس هو من تقوم عليه أبحاث العالم بأسره من أجل صالح البشرية جمعاء!
- جاك العبد
وبعدها نقف محرجين عند نطق أطفالنا الأبرياء لهذه الكلمة أمام سوداني أو إفريقي أو أي شخص ذي بشرة سمراء .. ياه .. ونعود لنصب جام غضبنا قامعينه بعنف:
- عيب أسكت ياوليد!
ما به الظلام؟ لولاه ما أستمتعنا بالنور ولا أحسسنا بقيمته .. لماذا لا نهتف عند إنقطاع التيار الكهربائي أمام أطفالنا؟: " هيا مرحي سنلعب بالشموع خيال الظل .. ونعيد عهد " الكاركوز " وسينما مسرح الألعاب البيتوتية التي يطرب الأطفال لها كثيرا رغم هذا الكم الزاخم من سيل التطورات التكنولوجية المبهرة فهذه الظلال قريبة من الطفل تلهب بصيرته وتنمي حسه الخيالي وخاصة إذا ما راقص دُماه وحركها بنفسه ليخلق بينها صراع وحوارات والتحامات حميمية لا تنتهي .. علي الأقل لن تجهد نظر الطفل ولن تشنج أعصابه ولن تصيبه بداء السمنة ولكم أعزائي أن تحصوا فوائدها بأنفسكم! .
لماذا لا نجعل من يسير في الظلام ولو قليلا مطمئنا ويحسن الوصول إلى هدفه حتى يصطدم بالجائزة؟، وإذا ما سقط طفل علي الأرض وبكي نحترم إحساسه فحتي الألم نعمة يفتقدها كثر، لا أحب ذاك الوصف المبالغ فيه " الراجل مايبكيش " لماذا جرد الرجل في لحظة من الإحساس .. قابلت وعشت مع رجال، أحساسهم المرهف وحنوهم يفوق مشاعر الأنثي التي طبيعتها مجبولة علي ذلك، لماذا لا نجعله يحمد الله أولا ومن ثم نحفزه علي الوقوف؟، كن شجاعا مثل الأبطال فهم يقعون في السباق عن دراجاتهم وسرعان ما يعودون لمواصلة سباق الدروب .
صار ولداي يحبان الغولا وينتظران هداياها .. فكلما سمعا من جدتهما جاتك الغولا يهرعان يودان مقابلتها مرددين
- عمتي الغولا فيش أديري
فأجيبهما مثلما كانت تلاعبني أمي قسامي رحمة الله عليها
- " قاعدة نلبس في شخشيري "
- " قاعدة نسنلكم في الموس " هي لا تسنه (تشحذه) من أجل ذبحهم كما يُرَى لهم لكنها ستذبح لهم من أجل إعداد وليمة من كل ما طاب ولذ لكل الصغار الذين أحبوها فهي كريمة ومضيافة وكفى .. مثلها مثل أم قطمبوا التي تظهر في موسم الجفاف وتناقص الأمطار بالفولكلور الليبي علي هيئة امرأة ترتدي رداء مثقل .. يزين جيدها " السخاب " وهو ذاك العقد الذي تتدلي منه حبيبات المحلب المعجون بروح الزهر بعد خلطه بمسحوق القرنفل والريحان مع حبيبات المسك الأصلي الذي تفرزه غدة نشطة بأعضاء الغزال التناسلية .. ويشكل علي هيئة قلوب ونجيمات وأهلة ويثقب من الوسط لتمريق السلك مع نقع حبيبات القرنفل بالزهر إلي أن تصبح رطبة ويسهل تمريق الإبرة الملظومة بالسلك وتصنع منه أشواطا ويطعّم حسب المقدرة والرغبة بالفيروز أو المرجان أو اللؤلؤ أو كلها مجتمعة وهذا العقد لا يفقد شذاه فمازلت أحتفظ بسخاب والدتي الذي أهدته لها أمها الفزّانية ليلة زفافها ومازال شذي الرائحة فائحا وقد مضي عليه أربعون عاما .. لكن أم قطمبو سخابها من المحلب والقرنفل فقط فعندما تعدّها نساء الشارع المجتمعات في بيت شيخ الحارة .. ويشتركن في تلبيس الخشبة وتزيينها ويحملها من حفظ أكبر جزء من القرآن من بين أطفال العاشرة فما فوق ويخرج هاتفا " وأولاد الحي قد تجمهروا من خلفه في موكب عظيم منشدين:
- " أم أقطمبوا بسخيّبها
رحمة ربي ماتخيّبها "
أم قطمبوا يالصغار
معانا تطلب في الأمطار
علينا حنن ياستّار "
جسدتها لابني بعد أن حكيت لهما عن أم قطمبوا وسمعا عن صلاة الإستسقاء واستفسرت ابنتي عن معناها وربطنا بينها وبين أم قطمبوا التي احتجت مهجة وبشدة عن نعتي لها هكذا دون كنية:
- مش هي أكبر منك قوليلها عمتي عيب ياماما؟!
تحصلت لهم علي خشبة .. نظفتها وجعلتهما يلطخونها بالألوان المائية كما يحبان والبسناها رداء جدتهما وسخابها ومنحتهما جدتهما لوالدهما ضفائر صوفية وعدّة شعرها المخضبة بألوان قوس قزح:
- هاك زيني بيها أم قطمبوا وخوذيها ذكرى هذي داستها من عرستي علي سيدك!
ولكن للأسف لا يوجد بيت تجتمع فيه نساء الحي كبيت شيخ الحارة أنفا .. ولا أستطيع السماح لأولادي بالنزول للشارع دون رقيب فابني لايزال صغيرا علي حمل أم أقطمبوا وابنتي لا تقوى علي حملها رغم أنها تحفظ من الفاتحة إلي سورة الضحي ..
من هم الأطفال الذين سيتجمهرون خلفهما؟!
فلربما أبناء هذا الجيل لا يعرفون عنها شيئا وهم ليسوا بالشارع الآن كأيام زمان .. تجدهم في مثل هذه الأوقات يطالعون المرناه ويجلسون أمام حواسيبهم وتتجمد أعصابهم وهم يلعبون البلي ستيشن والصوني التي كانت في وقتنا خفيفة الجرعة ونسميها أثاري ويتجلون داخل شبكات الانترنيت فحتي في عيد القنديل وهو الذي نحتفل به أحياءا لذكري المولد النبوي الشريف فتعمر المساجد بالذاكرين والمهللين صلاة وسلام علي الحبيب المصطفي .. لا يتركون لهوهم الإلكتروني هذا.
وإن تركوا لعبهم وخرجوا ليلة القنديل إلى الشارع فلا يخرجون للتقنديل وأنما لحرق العجلات التالفة .. وقذف الألعاب النارية المؤذية الشبيهة بالمتفجرات والتي ندعوها " خط ولوح " .. ما عاد الشارع أمن ولا سلام فيه حتي في الأعياد .. فلم تسلم من الناريات حتي مواكب الزوايا الصوفية: " العروسية والعيساوية وغيرهما أثناء مرورها ببعض شواراع البلاد أو بحي سيدي حسين أو بوزغيبة .. فتجد رائحة المفرقعات تطغى علي عبق الجاوي والبخور وماء النار يطغى علي ماء الورد .. و الوجف يطغي علي هيام الوجد والذكر.
في ليلة العيد .. غيرت ملابس أطفالي .. وألبستهم ملابس ليست بجديدة لكني قمت بمزجها مع ملبوسات كنت قد أخفيتها عنهما من عيد الفطر وطلبت منهما في تردد أن يحتفلا، فأضاءا قناديلهما وتأهبا للخروج ليقندلا مع صغار الشارع .. لكني تراجعت وخفت أن يتكرر مشهد العيد قبل الفائت الذي قضيناه بمدينة طرابلس، فبعد أن غادر موكب الزوي الساحة الخضراء ورافقناهم إلي منتصف شارع عمر المختار وقفلنا عائدين لنلبي حاجيات صغارنا، فمهجة قد جاعت، و تركنا زوجي في الحديقة المقابلة للمطعم ليجلب لنا شطائر وعصير فإذا بشاب يمرق من أمامنا مهرولا وعندما تجاوزنا قذف خلفه " الخط ولوح " فسريعا ما أحترق العشب ليصير أسودا قرب قدم مهجة التي كادت أن تحترق لولا فاعل خير كان يمشي قريبا فأنتشلها سريعا وأبعدها عن العشب المشتعل المتجه نحوها وهي ذاهلة وخائفة من صوت الفرقعة، لقد كانت تلهو ببراءة مستمتعة بجو العيد و لا تدري شيئا عن لسان اللهب الزاحف نحوها .
نام أولادي بملابسهم ليلة العيد فوالدهم قد سافر لحضور ندوة الرواية بتونس وعماتهم لم يحضرن ربما فضلن التقنديل عند عائلات أزواجهن، جدتهما شعرت بالأمر فجبرت خاطرهما وصنعت لهما شعلة الجريد، القنديل التقليدي المتكون من جريدة نخيل وخيوط كتان مضفورة مغطوسة في الزيت أودهن الشحم، فأخذت جريدة من نخلة حديقتها وشذبتها بالسكين وشطرت منتصفها دون أن تقطعها، خددتها فقط بجرح عميق حشته بشحمة صغيرة من آلية خروف العيد التي أدخرتها لهذه المناسبة وأشعلتها وصعدنا إلى السطح وأخذت تنشد لهما كما كنت وبنات جيراني نفعل في السبعينات ومنتصف الثمانينات من القرن العشرين، نلتحم بتؤدة وأيدينا علي أكتاف بعضنا البعض هاتفين بفرح فيما اليد الأخري تحمل القنديل وننشد بحب:
"هذا قنديل وقنديل
يضوي في ظلمات الليل "
"هذا قنديلك ياحوا
من البارح يشعل لتوّا "
"هذا قنديل وقنديل
فاطمة جابت علي "
"هذاقنديلك يا نبينا
جاباتك آمنة .. ورضعاتك حليمة "
"هذا قنديل أستبارك
واللي رضعتيه مبارك "
"هذا قنديل الرسول
فاطمة جابت منصور "
يصرخ جبير هاتفا بصوت مبحوح:
- عمتي الغولا فيش أديري
فتشمر أخته مهجة عن ساقها وتدعي أنها تلبس جوربها
وتجيبه بنبرة محتدة قليلا لا تخلو من التهديد
- " قاعدة نلبس في شخشيري"
- " قاعدة نسنلك في الموس "
أبنائي رسما للغولا صورة رائعة بذاكرتهم البريئة .. فهي بخيال مهجة وجبير وغيرهما تلبس رداء وشعرها مضمخ بالقرنفل مجدول وتضوع منها رائحة البخور بكفوف مخضبة بالحناء .. تمر علي البيوت نهارا والبيت الذي تجد غرفة أطفاله مرتبة ونظيفة وألعابهم ليست مبعثرة ولاهي في حالة فوضى .. تضع لهم الهدايا بأسرتهم أو غرفة ألعابهم .. بعد أن تخرجها من ردائها في غفلة منهم فهي لا تظهر إلا عندما يكبرون ويذهبوا بشهاداتهم لزيارتها في ذاك الكوخ الجميل! ..غولة لا ترعب إنما تصنع الفرح .
ولقد أقتنع أطفالي أنه ليس من المنطقي أن تهديهم كل يوم هدية حتي وإن حافظوا علي النظافة والترتيب فلديها أطفال يتامي وفقراء ومنظمين وبيوتات عدة تنتظر جبرة الخاطر وعليها تفريحها جميعا .. فمن المؤكد " من جبر خاطر الناس جبر الله خاطره ".
خرجت مع والدي بدون أن أتعاطي الحقنة فربت والدي علي كتفي تربيتة حنو وتشجيع
- فكيك منها تأخذي عليها معاش تخلصي يابنتي!
شردت عند رؤيتي للستارة فلم أنتبه إلا للسيدة التي تعود للخلف بكرسيها المتحرك وتقف عن مكتبها الفخم
- تفضلي يامدام!
"اللي يبي الزين أيتحمل .. والسماحة مش ساهلة "
انهماك وتيرته متصاعدة كبخار لألاء يتلاشى .. تشفطه الغيوم فينتعش من جديد ... خليط نساء .. طالبات .. موظفات .. أوانس .. ربات بيوت .. عجائز .. وافدات من شتى الأجناس والملل .. بنيات صغيرات حضرن مع أمهاتهن لقص شعورهن وصنع تسريحة ولا يخلو الأمر من وضع مكياج " بناتي " مكياج خفيف وإن كانت السموم سموم خفيفة أم ثقيلة ماهي إلا مسميات نطلقها للتخفيف من حدة الواقعة .. مشروبات روحية .. فعل الحب .. كالكذب لايوجد له ألوان .. وجوه تصرخ ملامحها بصفاء البشرة ونضارتها تخطف الأبصار لكنها ليست قانعة بما وهبتها الطبيعة .. هكذا هو البنى آدم لا يقنع بما وهب .. جحود ملول .. حتى الجمال الربّانى يعمد لتشويهه .. مع العلم أنه قد يخسره إلى الأبد ويعود نادما علي ما فعل.. دائما نجنح للمغامرة .. والمشكلة أن مقاييس الجمال لدى البشر نسبية غير ثابتة أي قد تصبح البشاعة جمالا وبالعكس وكثيرا من النساء خسرن طبيعتهن من أجل مجاراة الدارج فى موضة (هذا العام) فمنهن من تشوهت شفاهها من أجل نفخها .. منهن من تهدلت عجيزتها من أجل ابرازها .. ومنهن من فقدت بصرها من جرّاء تعرض العدسات اللاصقة إلى حرارة أو بخار سهوا والناجية من العمى لحقتها التهابات فى القرنية تحولت إلى قروح مؤلمة ومزعجة
ماله الأثمد الذى يجلى البصر ..!!
الكحل العربى الذى كانت تعده أمى من كحل الحجر مخلوط بسلك الذهب .. لا أدري أن كنت سأقلّد عمتي وأسحق سلك الذهب لأخلطه بماء غريب .. الخاص بمغص الأطفال قبل أن اتجاوز "الحفرة " أي الأربعين يوما من نفاسي هروبا من القيصريات التي هرأت بطني والبنج النصفي الذي كاد أن يشلني .. أو بذرة الديس بعد أول دورة أربعين تسف علي الريق لمدة ثلاثة أيام دون معاشرة .. وغيرها من الوصفات الشعبية المجربة .. وقضم أصابع الحنة وهذا لا تفعله إلا العروس فكل إصبع يؤخر عاما هكذا سمعت من جداتنا ولعلها أسطورة أو خرّافة .. لا أدري إن كانت ناجعة أم عن طريق الصدفة فلا ثقة لي بالودي وبويضاتي الأسيرة ولا أطمئنان إلا بانقطاع الطمث .. ربما أنا المرأة الوحيدة التي تنتظر هذه المرحلة بفارغ الصبر .. زوجي دائما يطالبني بالإنجاب..
- يبدو أني أخطأت الطريق .. لست مقتنعا إلا بما يخرج من هذا الرحم الدافيء الحنون .. إمنحيني طفلا آخرا حبيبتي وستلقي مني كل العناية والحنان .
يناشدني بحبه العميق فهو يعارض وبشدة .. عملية ربط المبيضين وتعاطي الأقراص المانعة للحمل وكل شيء يقف ضد الطبيعة حرصا منه علي صحتي وأنا لا أحب أن يزيد عدد أولادي عن أثنين!.. كيف ستعد والدتي الكحل؟ بطريقة سهلة يلزمها الحرص والصبر والنظافة شىء أكيد .. آه نسيت حكاية حقن شد الأثداء المرتخية التى نشرت الأورام الخبيثة فمن جرّاء التصدى للغريزة الفطرية ستحتشد جينات من الهرمونات المنتفخة بالمدافان أسوة بأثداء الراحلة هند رستم .. يحضرنى قول جدتى فى التعامل مع بشرتها:
- لايوجد أفضل من هذه الاقنعة للبشرة (مسحوق الحلبة .. الطفلة .. الحمص المرحى .. الحليب وماء الورد ..)
بعد النتف بالحلاوة طبعا .. تبلوطي وجهك بالحليب والحمص يظل الوجه تقول منارة .. أو تبلوطيه بمسحوق الفول المدشش والعدس والترمس مع قليل من الحلبة المرحية التي كانت تخلطها والدتي بماء الورد وتصنع منها قناعا لوجهها وتسترخي لمدة ربع ساعة ومن ثم تغسله بلين ولطف بماء فاتر .. فهذا القناع يجعل بشرة الوجه نضرة ويؤخر من ظهور التجاعيد .. واليوم تخسر الزبونة بمزين السيدات عشرة دنانير علي مثل هذا القناع وأقنعة أخري كالطماطم والخيار والبيض والعسل مع الزبادي .. مش عارفة شن نقول " بورة وإلاّ تنبلة " عموما خلينا مع كلام جديدتي اللي كله فايدة فتقول: قبل النوم ندهنوا بزيت الزيتون .. هكذا أخبرتني جدتي .. أنه بركة يصلب العظم .. يدفئ الصدر .. يروى عروق الرأس .. ينعّم البشرة ويؤخر ظهور التجاعيد .. وكل الحشرات لا تقترب من جلد دهن بزيت الزيتون خاصة البعوض .. و هذا ما أثبته العلم الحديث والطب البديل .
بداخل المزين قُصاصات شعر ميتة وجدائل حرمت الحياة عمدا، تتساقط بغزارة على البلاط متماوجة كتفل نصفه ملفوح و نصفه تغمره المياه .. وجوه ذابلة تنشد النضارة و أخرى سئمت انعكاس ذواتها فى المرآة فلجأت لإخفاء معالم سحناتها .. عيون مبحلقة تنتظر دورها وأفواه متثائبة .. شكاوى من غلاء المعيشة وضيق وقت ربة البيت فهي تنهب الألتفاتة لنفسها من بين أنياب الزمن لتأتي للمزين رغم أنف الطبيعة ضاربة بمشاغل البيت ومطالب الأولاد التي لا تنتهي عرض الحائط .. داخل المزين تسمع ترشيحات لأسماء أطباء لهم باعهم الطويل في هذا المجال.. جلدية .. قلب .. باطنة .. أسنان .. نساء وولادة .. عظام وعيون وانتقادات لاحصر لها لآخرين .. مقاطعات قد تتطور لمشادات كلامية حول المسلسلات الشاميّة والمصرية و الخليجية والمدبلجة من تركية ومكسيكية وكورية وغيرها وعن سير أحداثها .. وتباهي ومفاخرة عن تأثيث المنازل والفيلل وطريقة فرح فلان وعلان هذا ويشتكين من ضيق الوقت وضيق ذات اليد .. ثرثرات لا تنتهى عن موضة الموسم فى الأزياء والمجوهرات والمكياج .. البعض يتصفح المجلات الملقاة على منضدة صالون الانتظار .. منها قديمة ومنها جديدة الى حد ما لكنها ليست حديثة .. الحداثة تركت للفضائيات .. منهن زبونات جدد يتسآلن عن مهارة المزينات ويتسآلن عن بعض الأسعار .. منهن من تتعاقد مع الحنّاية السودانية .. أخريات مع الليبية .. منهن من فضل الحنّاية الهندية .. منهن من اكتفت بشراء الحناء واللصقة وستقوم بالباقى بنفسها فى البيت بعد نوم أطفالها وزوجها .. سأترك النقرهنيهة من أجل سبك القليل من حناء الورق المرحية التي قطفتها لي والدة زوجي من شجيرتها المظللة بحديقة منزلها الكائن بحي المحيشي .
- آمال هاك ياولية وريقات هالحناء حني بيهن كفوفك أنت وبنتك ومايسالش كان عطيتيني شوية حنيت بيها قصتي اللي رايحة تقول ملحة .
بالأمس سحنتها بالهاون بعد تجفيفها تحت أشعة الشمس كما أشارت علي " عميمة " والدة زوجي والآن سأقوم بعجنها بالماء والزهر مع قطرات الليمون وأخضب يدي صغيرتي التي تحب الحناء وتبكي عندما تبهت وتزول رائحتها، غدا سنحتفل بعيد المولد النبوي، كل العام وأنتم بخير .. أنتهيت من تخميرها الآن ..
آآآآآآ كم تنعشني رائحتها الزكية ذكرتني بأمي التي جعلت كل أيامها أعياد، رحمها الله وسائر المؤمنين، رحلت لتحمل نقوشها وعبق حنائها لحيوات لا يقوى الدود علي التهامها، شكرا للحناء، شكرا لابنتي مهجة فكليهما جعلاني أكتب وأستنشق عبير أمي الفوّاح وأتخيّل نقوشها الساحرة وهانذا بانتظار حلول الظلام من أجل تخضيب الحناء، فلنعد للمزين حيث القابعات بهدوء مبالغ فيه تسآلت في جوانيتي أليس لديهن ما يشغلهن؟!
وأخريات يعتبرن المحل كما لو كان بيتهن الثانى وترى جل سلوكياتهن مخجلة وداعية للريبة والنفور فمن الواضح أنهن ليس لديهن ما يقلقن عليه .
وجوه تمتد فى حركة شبه مستمرة أمام وجوه الزبونات لقصف شعر الوجه بالخيط وهو مايدعى (بالفتلة) وهى نفسها من تقوم بنمص الحواجب بالملقاط الذي تطور وصار به مصباح مشغل بالبطارية، أو رسمهما بالليزر ليدوم ستة أشهر ومن ترغب فى ثبوته وقتا طويلا ترسلها إلى مركز تجميل تابع للمزيّن ولها على كل عشر زبونات عمولة نسبة، فهى لا تغيّب جهدا فى الإقناع، والحاحاتها المستمرة جالبة للصداع!!.
كما يوجد جناح خاص ببيع قناني طلاء الأظافر بشتي الألوان بالرش الفضي والذهبي والملون وبدونهما ..ومزيله" الأستون " وملمعه ومقوي الأظافر كما يوجد قصاصة كرتونية مزخرفة بها أعلان عن وجود طلاء أظافر إسلامي وهو ما يزال بسهولة قبيل الوضوء .. كذا إعلان عن بطاقات رصيد للهواتف المحمولة ليبيانا والمدار وخدمة تحويل الرصيد.. بدء من دينار إلي أربع دنانير ونصف.. والأظافر الصناعية القصيرة والمبالغ في طولها كأظافر الشريرة التي قرأنا عنها في القصة العالمية " بيت الحلوي " لهنسل وغرتل "، نرى أيضا مشابك الشعر و وصلات إستطالة الشعر والضفائر والباروكات التي ظننتها تخص الممثلات فقط .. وبعض مستلزمات المكياج من ظلال للأجفان وأحمر شفاه وأقلام رسم شفاه و"أي لاينر" الرسم بألوانه السائح واللاصق الذي يعطي مساحة أكبر لحجم العين .. والمسكرة السوداء وألوان شتي بأمكانها فرد الأهذاب وألة يدوية بسيطة تطبق علي الرموش لتعطيها استطالة نسبية كما تعرض الأهذاب الصناعية بألوانها المتعددة .. فرشاة أحمر الخدود التى لا أطيق استعمالها .. بودرات للبشرة البيضاء والخمرية وشديدة السمرة .. وعدة تقليم الأظافر كالتي أهدتها لي رئيسة الكونترول بالمدرسة الصديقة مبروكة الشهيبي .. فهي لاتحب وضع المساحيق علي وجهها ولكم يعجبني صفاء بشرتها المنبثق من صفاء قلبها .. كثيرا ما حثتني علي مواصلة الكتابة رغم مايعترضني من ظروف .. فكانت كل صباح من صباحات اليوم الدراسي تنزوي بي في ركن من حجرة المعلمات لتستمع لنصوصي وعندما تزورني في بيت أهلي لاترتاح إلا في غرفتي المتخمة بفوضي الورق والجرائد والكتب والمجلات وأكوام الأوراق المنكمشة التي تنتظر طريقها لسلة المهملات .. هذه الصديقة الحنون مرهفة الحس عندما تفتح باب غرفتي لتستقبلها الفوضي تتنفس الصعداء ..
- أعشق فوضي الكتّاب وكم أتمني أن أقترن بأديب يعرف كيف يحافظ علي رهافتي بدلا من أن يكسرها!. لم أشأ تحبيطها وأحتفظت بما دار بيني وبين عقلي لنفسي وهو أنّ الأديب إنسان بالدرجة الأولي وليس منزّه من العيوب .. صمت ولسان عقلي يقول " خلي كورتك برّا مرمي الأدب خيرلك .. مالك ومال معاناتهم .. أنت وحظك ياتصيب .. ياتخيب!
كأن حدسها أوحي لها مادار بخلدي حادثتني بنبرة لا تخلو من الأسى
- بس وين نلقي واحد يستناني من ضوية الضي علي بلكّة في العجاج والمطر وتحرقه الشمس بس عشان يفرحني بجريدة ناشرتلي .. بالله خليها ساكتة ياميمي!
حتي عندما كانت رئيستي في الكونترول (قسم الامتحانات بالمدرسة) لم تتخذ ضدي أي أجراء أثناء تقاعصي وهروبي من حجرة الكونترول للصعود بعلية المدرسة حيث تقبع الفئران .
- علينا معاملتها بخصوصية
وتجيبها المعلمة الرائعة سمراء البشرة " غالية زيدان " .. أحب سمارها الشبيه بسمار أمي وجدتي الفزّانية .. هذه الرائعة بطيبتها وقلبها الكبير حباها الله بنعمة تفسير الأحلام .. تفسرها كما لو كانت واقعا ملموسا فهي من فسرت لي حلم حياتي من البداية .. لفرط حنانها تحاول أن تنزلني من العلية المغبرة والمليئة ببقايا الأدراج التي تحتاج لصيانة ..
- خايفة عليها من الفئران
- ثقي هذه مجنونة ولن تبالي أذا ما اجتمعت فئران العالم قبل أن تنتهي مما بدأت بكتابته
وتجيبها الرائعة نجية العرفي ..
- " حيث الفئران هناك ولادة نص جديد "
- هي تكتب ونحن نستمتع بالإستماع إليها .
صويحباتي احبهن بعمق ويحببن الإستماع لنصوصي حتي المجهضة منها .. أحيانا أشرد بفكرة ما لأجد الكشف الذي بين يدي كله أخطاء .. لم تحرجني رئيستي الرائعة قط .. ولم تجاملني علي حساب العمل .. تكشط الأخطاء ولن أنسي في كل مرة كانت تخبط يدها إلي صدرها أبلة غالية
- أنا ناخذه شغل أمولة كله .. وخلنها تكتب .. رأسها مش فاضي .. حرام عليكن .
وأخيرا أتفقنا علي أن أبقى ضيفة شرف لجماعة الكونترول وأعجبتني رحابة صدورهن وأخجلني كل هذا التقدير .. فكلما جاء لمقابلتي خطيبي لم تقطب حاجبيها قط ولم تمتعظ يوما .. بل تأتيني في غرفة الكونترول مسرعة لتستعجل خروجي ..
- سيبي اللي فيدك وأطلعي بسرعة أستاذ محمد " مقعمز علي المصطبة يرجي فيك برة " وتأتي الإدارية الطيبة نجية التي تتقبل أعذار الجميع وسرعان ما تنحدر دمعتها تعاطفا مع الكل أحبها بوجهها الملائكي .. ما أن يوصد في وجهك الدرب حتي تشرع لك أبواب قلبها التي لا توصدها في وجه أحد .. فور قدوم خطيبي تتقدمني مهرولة لتفتح باب الإدارة وتستقبله بحفاوة وتقدير بالغين وسرعان مايأتي الشاي والمرطبات وإن كانت قيلولة لا تبخل جماعة الكنترول علينا بالغداء!!
سأضغط علي زناد ذاكرتي
سأشدد زنارها لتعتصر خبيئتها
ها..ها .. مصاوع حنظل .. جبال علقم .. قوالب عليق ..
وليمة ذات ليلة شتوية محلولكة الوشاح .. بفج اللا مراحل وجدتني أمام مائدة تملاؤها أطباق صبر .. شموعها رذاذ سماوي .. جلست بين عبّار سبل ومدعوين مجهولي الهوية بأشكال لم أعهدها من ذي قبل يحفزهم تحليق الرذاذ .. لكن الطيّار مآله الإنحطاط ..
أفهمتني دواخلي أوهكذا حدسي أسعفني بالقنيع .. أشار أحدهم بسنبك سبابته .. ضغطت .. شددت .. فلاح أبي يعلمني ألا أتجاوب إلا بقلامة مشحوذة ..
كلانا يكره التشظي والتناثر
الطعم الململم أبتلع في القصيدة
الكل تجرثم .. تسرطن
الأسباخ تتوحم
المدعون ينتظرون تقيأ المرار
وعبّارو السبل تاهوا عن جسرهم .. فهدمه الطوفان
الناجي الوحيد هو القربان
سأرخي أصبعي عن الزناد
سأرخي الزنار العاصر
ها .. ها .. وأبكي ..
ياضفدع يلتهم فراشة روحي
سأنق وتنقي وتنقون مثلي
نصف في الماء ونصف في الطين
لأني أحبكم
أنتم أحبائي ..
أنتم الضياع اللذيذ
أنتم الجنون العاقل
أنتم الموت الشهي
أخرج من الحروف
ومن مأتم الغيمات أخرج
كلما خرجنا صحبة بعض تمتزج خطواتنا ..
تنصهر في بعضها ..
ليستحيل عليها المشي ..
ليستحيل عليها الركض ..
والشوك لن يجعلها تحبو
فنطير سوية لنري ما تحتنا
العالم كبير ..كبير .. كبير
فنشعر أننا لم نتسامى كفاية
فنعود إلي المعاشة ننفصل
كل يسرد قصصه وذكرياته
حساباتنا نراجعها في دفاتر الذكرى ..
نسجلها ونمتشق سيوف الإرادة
نمزق بها تفاهة المستحيل
سأعود إلى حيث كشوف درجات امتحانات التلاميذ المطروحة علي الطاولة الكبيرة بحجرة الكونترول بالمدرسة والشغل علي قدم وساق صبحا ومساء .. سأترك كشفي لتتولي رصد الدرجات عني صديقتي غالية السمراء الطويلة ولا أدري إن كانت بعد مرور سبع إعوام .. لا تزال نحيفة .. الذي أنا متأكدة منه أنها علي قدر كبير من الجمال .. تحييني كل صباح وتمسي علي قبل نومها ..هي لا تسكن معي ولكن أرواحنا تأوي إلي فراش واحد .. فراش الحنان والمودة والدفء.. من حلم منكم حلم فليبعثه إلى بريد روحي وأنا سأتكفل بالباقي .. أطلعها علي أحلامي فتفسرها صراحة فأقرأ المعوذتين لإبعاد الشر والسحر والحسد .. وإن كان شرا أتذرع إلي الله صبرا علي ماكتب لي وأزداد عنادا وتصميما علي الهروب من فضاءات لاتريح مشاغلي المفروضة علي .. غالية صديقة ودودة .. محبوبة لكل المعلمات والتلاميذ ..هي نحلة سمراء تواسيني .. تلسع الهموم فتذيبها وتجد للمشاكل العويصة حلولا صريحة ومرضية .
وبواجهة الفترينا بعض العطور الزيتية الخاصة بدهن الجسم، وكريمات لليدين، و المردومة الخلطة التونسية التي تساعد علي فرد الشعر المجعد وتجعله حالك السواد لمدة ستة أشهر، والحرقوص وهو مادة فاحمة السواد تدعي " الحديدة " يمرّر بطريقة التثبيت علي منطقة الحاجبين بعد أن تصبح هذه المادة ناعمة كالكحل ويقال أنه ممزوج ببعض قطرات من القطران المعالج ويخلط بمواد أخري أجهلها، بعد نمص الحاجبين أو أزالتهما كليا كما يفعلن بعض الفنانات يتم وضعه بحرص فهو شديد الإصطباغ ويحتاج لمهارة يدوية يصحبها توافق عصبي فائق وإلا تلطخت منطقة الحاجبين وماحولها بسواد لايزول لأشهر طويلة .. " الحرقوص " يشتهر به المغرب العربي وكثيرا ما أطلت به وردة الجزائرية في أغلب أغانيها .. وزيوت الشعر الهندي والخليجي التي يزعم أنها خلاصة أعشاب بحرية وكريمات الشعر الأفكادو هذه الثمرة خضراء اللون الفاكهة الأسيوية رائعة في علاج مرضى الغضروف " أو جفاف المادة اللزجة التي بين الفقرات أو بالركبة كما ينصح في هذه الحالة أن تدهن الركبة أو الفقرات بدهن سنام الجمل وبعد كل حمّام بخاري يدهن الغضروف أو الفقرة بخلطة من زيت الكافور والنعناع والحلبة مع شرب مرق أرجل الدجاج والبط تماما كاليابانيين والصينيين والمصريين ولا تتأففوا فمع البهارات يصير لهذه المخابش المقلية مذاقا رائعا خاصة بعد نزع الجلدة الصفراء التي تغطيها .. كما يعرض كريم جوز الهند وزيت الزيتون وغيرها من الماركات التجارية .. والعلب الكبيرة الحاوية لحمامات الزيوت كالعلبة التي بعثتها لي المزينة السورية أم لين زوج الكاتب السوري أحمد الحافظ دون سابق معرفة وعلق زوجي ضاحكا
- " مش عارف كيف عرفت أن زوجتي شعرها أكرد "
- " بالنية يافالح "
وقبالته الجهة الخاصة بتأجير حاجيات العروس من فستان الفرح والتاج أو الاكليل الذى يوضع فوق الرأس .. والعصي السحرية كالتي تظهر في يد العرّابة الطيبة التي ساعدت ساندريلا علي التقرب من الأمير .. ودبابيس التسريحة وباقات الورود الصناعية وأحذية وحقائب وفساتين سهرة ومشدّات الصدر المائية بالسليكون الممطط للأثداء وبدونهما .. وأكسسوارات للبيع وأخري للتأجير .. جوارب شفافة قصيرة وطويلة بلونيها الأسود والبيج وأشتقاقات ألوان شتي .. والمعاجين وفرشات الأسنان من " السنسوداين" ذاك المعجون الطبي وكلوز آب .. كرست و المسواك إلي السواك .. وخيط تنظيف الأسنان وكاشطة اللسان ومعطّرات الفم بأنواعها " البخاخ .. والشرائح المعطرة اللاصقة بسقف الفم .. والأقراص التي تمتص علي مهل لأمتصاص الروائح الكريهة من الفم بنكهات متنوعة فمنها " الفراولة والنعناع والليمون والبرتقال والقرنفل والتوت .. ولكنها حتما مؤقتة فهي لن تزيل بخرة الفم فلذلك أسباب كثيرة منها علي سبيل المثال لا الحصر: التهاب اللوزتين المزمن .. التهاب المعدة .. التهاب اللثة .. تسوس الأسنان .. التهاب الجيوب الأنفية والأذن الوسطي الخ . وكذلك أحمر الشفاه ما ندعوه اليوم "روج" وكانت تدعوه أمي "حمار".
بالاضافة إلى بعض الأشياء الخاصة ببعض العاملات بالمحل بصفة شخصية معروضة للبيع كأوشحة وملابس داخلية نسائية وملابس للسباحة .. وسراويل رياضية مبطنة طويلة وقصيرة .. وأجهزة رياضية خفيفة وأحزمة لشد الظهر والبطن .. وكورسيهات كاملة من أعلي الصدر وحتي الركبة وللبطن فقط ..وأخري حتي منتصف الفخذين .. ومنها متقنة الصنع ومنها المقلد وعينّة من أحدث الموديلات بهذا الشأن لكنها باهضة الثمن وعمل " الكورسي " لشد البطن والأرداف والأثداء " وكل سيدة حسب المنطقة المترهلة في جسمها وأن كان بأكمله فيوجد مشدا للجسم ذا خامة خفيفة وشبيه ببزة الغطس .
آه شعرت بالأختناق .. فلنذهب لنري الجهة المقابلة التي:
أرى بعض ألعاب الأطفال " المشي حالك " سريعة التلف لنبتاع غيرها والأطواق والكور البحرية ونايلوات الأطفال وعصاير وبعض قطع الشوكلا والحلوي ومن طالت بها ساعات الانتظار ومسها الجوع بأمكانها طلب وجبة خفيفة وستحضرها لها المشرفة علي الباب .. يبدو أنهن متعاونات مع المطعم المجاور.. و أبصر غرفة مغلقة لا تظهر منها سوي واجهة الثلاجة كالتي تعرض المشروبات بالمحلات وتبردها .. مليئة بالعصائر والفاكهة والخضروات .. حيث تنبعث رائحة طبخ مركزة تختلط أحيانا برائحة السيجارة المنفرة وقد أشتممت روائح لسجائر يبدو أنها عمّرت بالكيف كالتي كنت أشمها قرب نافذة ببيتي الضيق الذي كنا قد أستأجرناه بمنطقة الصابري .. المكان القريب من زحمة الشغل والإستشوار ساخن وعلي العكس تماما جهة المبيعات و حجرة القياس التي تطورت اليوم لتصبح بضغطة علي زر " الريموت كنترول ".. تقف المرأة أمام ما سميت بالمرآة السحرية فقط تشد بيدها البدلة أو الفستان الخ المراد قياسه وتضغط علي الزر لتري نفسها ترتديها وبأمكانها تغيير اللون الذي تحب تماما كالألعاب التي تلعبها أبنتي اليوم علي الحاسوب .. فهي تلبس " السنفورة " ملابسها وقبعتها وحذائها وأكسسواراتها كاملة وتناولها الفطر لتقبض عليه بيدها طبعا كل ذلك مع الموسيقي .. وكذا يفعل جبير مع تويتي ..كما ترتب منزلها الإلكتروني .. وتعد البيتزا والكعك وتنظم المائدة وتقف أمام المطعم لتضغط علي زر الخدمات .. وتحطم الأحذية .. وتختار المتطابق بلعبة سبيس تون ..تلعب وتلعب وماعادت تشاكس بنقع عرائسها في الماء وغسل شعورهن .. فلقد صار لديها حماما ألكترونيا وهذه اللعبة تطلق عليها اسما أرتجاليا " طفلة الحمام " .. تضع لها قطرات الشامبو علي فروة رأسها ومن ثم تفركه وتشطفه بالماء وتجففه بالمجفف وتختار لها لون الصبغة التي تحب والتسريحة المفضلة لديها هي ذات الضفائر .. فاللوايات والتي تجعل الشعر لولبي موجودة واليدان اللتان تضفره أيضا موجودتان بضغطة زر .. ولها أن تضع لها المكياج كاملا .. والعدسات المتماشية مع لون شعرها بعد أن تنتقي لها اللباس: سهرة .. مدرسة .. أو خاص بالنوم .. شتوي أو صيفي .. وكلما وجدت ملابس فوق السرة وطولها يناصف الفخذين تسألني
- " ياماما كنها مش ساتره روحها "!!
- ويعلق جبير صارخا " حي عورتها باينة "
- ياماما مش قتيلنا حرام وإلا لعبة ..
وأقع معهما في حيص بيص طويل لا ينتهي إلا برشوة حميدة من حلوى أو عصير أو مستكة .
المزين ضاج بالقهقهات والنكات وموسيقي الجوالات.. كل على هواه.. تسمع الطرب القديم .. الأدعية .. والأغاني الهابطة .. ومقاطع فيدو لأشياء غرائبية لا أدري أن كان يطلق عليها لفظة معجزة كالطفل الروسي الذي يدين والديه بالدين الإسلامي فهو لا ينام ليلتي الإثنين والخميس ويأتيه طفح جلدي أحمر وترتفع حرارته ومع بزوغ الفجر تظهر علي ساعده وفخذه آيات قرآنية ويزوره يوميا ألفا زائر هذا كما يظهر بالفيديو مدون رقم الزوار تحت صورة الطفل عند توقف الحركة .. وغير ذلك الكثير الكثير .. ومشاهد من مسرحيات وأفلام مشهورة .. وكونه مجمع نساء فكل مايستر خارجا مباح النظر اليه في الداخل كالردفين والسرة والأثداء التي أتوق لرؤيتها بفم وليد يمتص حليب النماء .
ناهيك عن أعشاب وكريمات يتم الترويج لها من أجل التخسيس .. والدفع حسب أقدمية الزبونة وعلاقتها بالعاملات أو صاحبة المحل فيكون فوق الحساب أوتحته .. كما توجد حجيرة لا يفصلها سوي ستار قد ينفرج لتدخل إحداهن لمساعدة الأولي في نتف جلد الزبونة من الشعر
بالأضافة للجهر بأرقام الهواتف المحمولة جراء التعارف والتقاط الصور أثناء المكياج والتسريحة والحناء لبعضهن البعض!! .
أعلانات شفهية وكتابية عن خادمات بيوت بالساعات ليومين فى الاسبوع .
أجواء المزين ذكرتني بالحاج عبد الجواد قريب والدي الذي رفض خروج ابنته العروس ضحى للمزين وأحضر لها المزينة الليبية " سالمة بوشعالة " في البيت فأخرجتها بصورة أرضت بها الزوج والمدعوين .. فيما أحيت الحفل فرقة الفنانة مريانة العريقة!.
مرايا كبيرة ومتنوعة فى الأعلى والأسفل تنتشر على وسع المحل تبرز أدق التفاصيل تشعرك بالارتباك تجعل الواحدة تتقن بخترة الأميرات.. أضواء مبهرة توجع العيون .. روائح مختلطة مابين العطور باهضة الثمن وملطف الجو سعر دينار وبين (رائحة الاستشوار) وكأنها رائحة رأس خروف العيد وهو يُصلَى على اللهب من أجل إزالة شعره بطريقة التشفشيف .. تماما كإزالة الشعر بالليزر .. أنا لا أتقن عمل الأستشوار وزوجي لا يطيقه، يحب شعري أكرد علي طبيعته بغجريته التي يراها فاتنة ..وكم مرة عدت من أهلي بشعر مفرود ففتح عليه دش الإستحمام ناظرا إلي نظرة شزرا كما لو قمت بفعل غريب .. على كل أراحني من هذا العبأ ..
- " عطيها كمشة سعد وأرميها في الكبّاسة "
- ألستي تتزينين لي؟
ويغرس يديه الحانيتين فاركا شعري كما لو أنه سيغسله بالشامبو .. وبعد عبثه يعانقني مبتسما
- أحبه هكذا دائما حرش يارمش العين .
رائحة الكيماويات والأصباغ مزعجة و هي تستعمل لطلاء الأظافر وأصباغ لتغيير لون الشعر الذى تجاوز الألوان الاعتيادية الدارجة كالأسود والأصفر والبنى والكستنائى ليصل الى الأحمر القانى والأخضر والأرجواني .. ناهيك عن رائحة الميش وهو مادة كيماوية تلون خصلات الشعر بالفضى والذهبى والفستقى اللامع ولن أخفيكم أن تأثيرها فاجع على الشعر فتجعل منه شعرا أشعث متهالكا مهما كانت درجة نعومته ..أحب أمى وجدتى فهما لا يضعان على رؤوسهما إلا كل طبيعى كالحناء المخلوطة بالعسل والبيض الوطني وزيت الزيتون واللبن وقليل من الخل والقرنفل بماء الزهر .. وحمّامات زيت الزيتون .. ومن ثم تعريضه للشمس والهواء النقى .. آه كم يؤرقنى هذا التطور .. أينك أمى فقدتك كثيرا .. كنت تعطين شعري وقتا كافيا من العناية والإهتمام رغم كثرة تذمري وأحتجاجاتي التي لا تنتهي عن التسريحات فكلما أحتد مزاجي وكثرت عربدتي و زاد وقوفي أمام المرأة معترضة علي التسريحة قمتي بتهدئتي وأخذي على مقاس عقلي، والآن جل تلك التصرفات تفعلها معي إبنتي مهجة مضافا اليها فك جدائلها أو التسريحة والعبث بخصلات شعرها الناعم في الروضة .. ففي كل يوم تعود بتسريحة مختلفة عن سابقتها متعللة أنها هي العروس في اللعبة .
- أحترميني ماما عاد هذي رغبتي أنا حرة في شعري يا ماما
أحيانا أعانقها مقهقة وأحيانا أحتد لكن والدتي ما من مرة ضاقت بي ذرعا .. كلما زادت عصبيتي وزاد دلالي وعنادي كلما زاد صدرها اتساعا وفاضت سحناتها حنانا .
فكانت دائما تشبهني ببنت رحيل:
- " غثيت بنت رحيل نهار تمشطه ما يصير رحيل "
كنت دائمة السؤال لصديقتي شيماء التي كانت تجلس بجواري في نفس المقعد بالصف الأول إعدادي وكان شعرها طويلا ناعما مسترسلا حتي أسفل ظهرها فكانت دائما تهمس لي بالخلطة التي جعلت من شعرها كما لوكان سبيبا مضفورا كثير اللمعان فقررت أن أحذو حذوها وأقتنصت فرصة غياب أمي عن البيت .
المدرسة قاربت علي فتح أبوابها ..والدتي تتطبب بمصحة الصدرية .. أحضرت زيت الزيتون وخلطت معه عبوة كوب صغير من الكيروسين ودلكت بها فروة رأسي وغطيته بكيس نايلون ثم ربطته بمحرمة شولاكي وتركته ساعة كاملة ولكني ما أن وضعت الغطاء علي رأسي حتي شعرت بالحرقان في جلدة رأسي وأعلي رقبتي فأحتملت إلي أن جاءت جارتنا عمتي فائزة ورأت ما رأت فحملوني علي عجل هي وزوجها الطيب عمي عوض بكار إلي المستشفي بعد أن غسلته لي بالماء الفاتر والشامبو بلطف .. لم يمض وقت طويل حتي تعفن شعري والتهبت جلدة رأسي التي غطاها الورش والقروح .
حلق لي والدي شعري ليدخل الهواء بين الحبوب وتعاطيت جرعة مكثفة من المضاد الحيوي
"أوماقتين" ودهان جلدي سكترين لونه أصفر برائحة شبيه بشحم السيارات وشامبو طبي
ومستحضر دوائي علي هيئة محلول شفاف كالماء ولكنه برائحة الكحول وكان يحرقني بشدة كلما وضعه لي أبي علي جلدة رأسي فله فعل ماء الهيدروجين أو المكركروم علي الجرح العميق أو الحروق وهدا كله مع تهويته والعناية بنظافته اليومية لتزاح القشور ومالاصقها من طفيليات ومن ذلك اليوم وأنا ممتنة لزيت الزيتون الذي ساعد على تخفيف حدة هذه المادة الكاوية وصرت أصاب بالغثيان أذا ما أشتممت رائحة الكروسين ولا أسمح بدخوله إلي بيتي تحت أي ظرف وصرت حذرة من تطبيق تجارب الغير علي نفسي! .
أمي الحبيبة قسامي تجلسنى على ركبتيها بكل حنو تحت ظل شجرة الزيتون بسانية جدي .. بعد أن تفكّ جدائلى المعقوصة وتفلينى و تغنيي لى بصوتها الدافئ العذب:
ياعيشة .. عيشة .. عيشة ..
ياعيشة بنت خليفة ..
ياجمّارة فى ليفة ..
شعرك داني .. داني ..
كيف سبيب الخيلانى ..
عطينى منا قضبة بيش نملّخ صباطى ..
صباطى عند القاضى ..
والقاضى ما هو راضى ..
صبحت عيلته حرجانة ..
على الششة والعصبانة ..
والششة وين بيلقوها ..
نقلب عينى على الحماس ..
يجونى سطاشن فراس ..
يافارس يا متعلي ..
ضبحلى على باباي ..
باباي شيخ مسمي ..
قطّايته مجليّة ..
بالذهب مكسيّة ..
كانت تخلط لي صفار البيض العربي الذي أحبه مسلوقا وكنت أجفف قشره وأسحقه ليصير بودرا ثم أخلطه مع العسل وأعطيه لأطفالي ملعقة علي الريق وملعقة صغيرة قبل النوم وهذه الوصفة تساعد في تغليظ المثانة لتصبح قادرة علي تركيز البول ليلا وبذلك يتلاشي التبول اللا إرادي إن كان سببه عضوي غير نفساني كالترهيب وغيرها وأذكرأن جدتي الفزانية عندما أنجبت والدتي أخي مجدي سحقت لها حبة مستكة عربية ووضعتها بكوب شاي وحلبت عليها أمي من لبن ثديها وخلطتها جدتي بنقطة عسل ومن ثم أخذت تضع بملعقة صغيرة جدا علي فم مجدي ليمطه ولهذه الطريقة مفعول قوي كسابقتها ..أما صفار البيض مع زيت الزيتون والعسل المذاب في الماء الدافيء مع قطرات ماء الزهر وقليل من الخل الذي كانت تضعه أمي على رأسي مساء كل خميس وتفرك لي بهذا الخليط فروة رأسي جيدا .. فمن شأن هذه الوصفة أن تجعل الشعر لامعا وتخلصه من القشرة وخاصة أذا ماشطف بعد غسله بصابون السوسي المذاب بمغلي أكليل الجبل الفاتر .. تلك الخلطة السابقة التي أستمرت والدتي في تحميم شعري بها سنوات وسنوات جعلت من ملمس شعري ناعما وسهل التصفيف تماما كمفعول البلسم هذه الأيام غير أن فائدة الخلطة أعظم فتمنع تساقطه وخاصة عندما كانت تحمم شعري بزيت الصبّار الطبيعي الذي يجلب أخي خالد عدة قحف مستطيلة مشوكة من مزرعة بوهديمة وتنقعه أمي في الماء مدة ثم تفتح عليه الماء الجاري إلي أن تزول الأشواك الرقيقة وبعدها تبسمل وتقشرها كما لو كانت خيارة وتغمرها بزيت الزيتون بعد أن تقطعها إلي شرائح رقيقة وتدعها إلي أن تتحلل وتذوب لتعطي عصيرا لزجا رائحته نفّاذة واليوم أصنعه لأبنتي في الخلاط وأستعمله فورا .. فعندما كانت تهتم والدتي بشعري لم أكن أفقد خمسين شعرة كما وصلت الأبحاث العلمية اليوم وأنما تتضاءل لعشرين وأقل وبأمكانكم تجربة ذلك بأنفسكم لتروا نتائجه المذهلة في الطول والغزر والنعومة ومنع التساقط!.
فرد الشعر المستحضر من مواد كيماوية بحتة .. فهو الآخر مؤذٍ لفروة الرأس وذو رائحة نتنة ومسمياته جلات .. ويلا ستريت .. ومركبات أخرى أمريكية وألمانية الصنع .. تتنافس عليها الشركات التجارية وتقلدها الشركات المصرية والخليجية والهندية .
بدى كير .. فتلة وتسريحة بس امتى يرد علي ..
- انجهزك فى ساعة، لكن احتياطى قوليلو يرجعلك بعد ثلاث ساعات
- معاى خمسة وثلاثين دينار .. لكن زبونة عندكم
- ماكاين مشكل .. تفضلى أوخيتى
نعّمت لها يباس القدمين و أزالت الجلد الميت حول الأظافر .. سنفرتها و دعتها للحمام!
- أنت عاجبتينى وما أنطلعك من اهناى إلا عروسة . . طلت لها أظافرها بالأحمر الفاقع فابتسمت و تراقصت كفراشة أبهرتها الأنوار .. نست غمغمات أمها وصارت تتنقل بين المغربيات، من يدين صليحة النامصة إلى المصففة وهيبة إلى بديعة التى اتقنت صنع التسريحة المناسبة لوجهها الفرسي الطويل .. بعدها طُلبت المزينة دفع الحساب المقدر بسبعين دينار فشهقت الزبونة شهقة وقالت لها:
من الأول قلت لك معي خمسة وثلاثين دينار فقط .
- عادى ما تنهميش يا حليوة نخلصوا بطريقتنا ورّدولك الباقى!.
- نحّى احوايجك الكل ياللا مابين احضرت قريطيس الصابون المصنوع من أعشاب طبيعية مخلوطة بزيت الزيتون .. يفتّحلك المسام وينعم بشرتك بالزاف ..
قبل أن تدهنها بالصابون لاصقتها بشهوانية وغنج و مسحت على أسفل ظهرها بحنو وبطء ياللا يازوينة لازم ننتفلك ونحكلك .
فى مطبخ البيت كانت الأم تنتف الصردوك الوطني وتخوزقه لتودعه الكوشة من دون بهارات .
نفد ورق الوصفات وأحضرت لي السستر الفلبينية باز أظرف صور الأشعة الكبيرة وصارت تمزقها لتجعل منها أوراقا عريضة تمدها لي وأنا أكتب عليها من الوجه والظهر بسرعة وببطء وبشعور وبلا شعور وتعبت كثيرا فشعرت أن حالي .. حال عطيب
حال اللي في الوطن غريب
وحال غنم فارعها ذيب
وهلها مامنهم لا والي
أني حالي حال الغربة
حال اللي مضروب بحربة
يبكي والدمعة شتوالي
حال الهانة ..حال الميت من الجبّانة
حال الي زرعوا فدانه
من الشبكة حصل حماري
لاريتوا كيف طرالي
حال كدر ماصار لوالي!!
ذات ليلة صيفية منعشة أنسامها .. كنت آتية من ناحية ميدان البلدية ببنغازي، متوغلة في شارع عمر المختار .. مررت بحديقة شبه مظلمة .. محصورة بين نصب زعيم سياسي ومبنى مؤسسة حكومية .. مال جذعي الأيمن صوب ظلام الحديقة فلا أدري إلا ويد زوجي تجذبني .!!.
أوه.. يا إلهي .. امرأة صامتة تفترسني .. ملامحها المصطبغة بالحسرة تفصح عن هم ما..
كيف لزهرة أن تـنتـّن عطرها المحبيَة به؟!
غريب ما تشهده أيامنا هذه .. النظر فاض من هول الرؤية .. والعصـب صارت تدغدغه المستجدّات.. فما عاد يعرف للوخز طريقا .. المشاعر ابتذلت .. راق لها الهوان فرقـّت لها النبائل الإنسانية .
الصامتة تنظر إلى أعلى .. حيث الطيور عائدة إلى أشجارها بعد يوم من الكدح .. هي كدحها يبدأ بعودة الطيور .. فجرها اليومي ظلام .. والناس تمر.. تساوم.. تحملق فيها .. تشم بعض من روائحها النفاذة .. القمر في السماء تخفيه الأشجار العالية الكثيفة والنجوم تطل من بين تشابك الأغصان .. صغيرة وترى... وقمر كبير يطل على مسؤولي رسميين حمقى يرشفون القهوة في مقهى فخم مشرف على الميدان..
أخُسفتْ أبصار المارين أم طُعنت الهمم؟! ..
أم اُستسهل تأسين الجمال والعبث بصفو المدينة والأنفس؟!..
حتى البغايا عرفن الاستقرار في مدينتي ..
وإلا كيف لفاجرة أن تلازم كرسي الحديقة الخرساني طيلة حزمة أعوام منصرمة؟!
أين سيجلس الأعـفـّاء؟!
ترتاد يوميا المزين وكل ثلاثة أيام الحمّام البخاري وتتبضع من أرقى محلات العطور والزينة .. والكرسي ذاته ينتظرها لا يبرح .. لن تجزع مادام هناك من يساندها .. "وراها كتوف كيف ما يقولوا"، العهر يمقت التقوقع .. بينهما عداوة عتيقة الأزل .. العهورة لم تكتف بأصطحاب اللعنات .. بل زادت الطين بلة .. وزجـّت بالبراءة في جبّ قمئ ما له من قرار .. تصطحب طفلتها ذات الأعوام الأربع معها إلى المزين والحمام البخاري .. زميلاتها منشغلات بحبك أجسادهن .. منهن من تنتف إبطيها ومنهن من تحلق عانتها وأخرى تبقيها مغففة حسب طلب الزبون دافع ثمن التهيؤ.
- الزبون أهوه ما يحبش المكياج..
- نهارك الاحرف تنحى الميك اب يهرب على قيس وجهه ..
- خلك من كلامها هذا دفيع وبعد تالي ما يجيك إلا متكيف مشي الجو اوخيته قداش ليك ما هزيتيش لمواليك الدراهم ياللا!!..
- شغلتنا اهيّه سوا سوا مع السحر والقتل تبي قوة قلب نسيتوا نصيحة اللا خناثة القنيطرية ..
يحتدم سوقهن .. فتضطر لاصطحاب طفلتها مجهولة النَسب في كل عملية تفعلها .. الصفاء الطازج شاهد عيان على التدني والإسفاف.
- ماما وين ماشيين؟
تشير بيدها
- آه آ ةآ ا أه غآ..
طوال الطريق والطفلة ناصبة سبابتها ناحية المارقين .. بابا عوض.. بابا مراجع.. بابا جمال .. بابا احسين .. بابا نادر ... أهّوه ... بابا!
إلى أن أدركها النُعاس ونظر كل منهما للآخر .. إبتسامتها باهتة، تحتانيتها هابزة، أجرة أمتطائها تقاضتها مقدما لمدة أسبوع .. سددت بها ديون البقال والقصّاب وحكيمة النساء والمزين والتقّازة .. زبونها الحالي استحوذت عليه بطريقة أو بأخرى تعرف جيدا في قرارة نفسها أنه لن ُيقصّر معها فزوجته مداومة السفر لأخوالها في سبها ولأجدادها في طبرق .. أختها في رأس جدير .. عرب يقربون لها في السلوم وهون والمرقب وأوجلة.... حتى المريخ
" بلكي يطلعولها أقارب تحصل منهم ورث ".. وإن مكثت داخل المدينة فهي خارج منزلها وتعود لتصب جام غضبها عليه.."سليفتي مغيرة دار النوم وموسعة الكويجينا ومكسية الحمام سيراميك للسقف .. وهذا كله خوك معتوق يحلف ما عنده فلوس وأنت بعت على سباه شاليه كنا نتبردوا فيه وقطعة وطا ودكانين في سوق العرب في جرّة اديونه .. وما يدق بابك إلا كان عنده فيك مصلحة وكان هاده ما يعرفك .. تعبك وراه راح في شربة أمّية .. يبزعق في الفلوس على المبلية يمين ويسار واحنا قاعدين في شق والشق ضيق بينا" .
يرد عليها مصطفى "لا يا حنّا وأنت الصادقة قولي قاعدين في كسبرة" ويضحك محاولا جذبها ناحيته.. لكنها تدفعه.. وتشخص نظرها إلى السقف اسمع ماتزلبحنيش بكلامك المعسول كيف كل مرة ..
- ياولية غير قوليلي منين ايجنك الاخبار أمس أنا ومعتوق خوي ما حكالي شيء ..
طبعا معتوق يحكي أي حاجة إلا الفلوس وتبزعيقهن مايحبش ايجيب طاريهن ..
فكّك من الكلام خوك شاري حافلة مشغل عليها نسيبه عبدالله.. سكري فمك ومن فضلك ما تخشيش بيني وبين خوي إن شاءلله نعطيه اشلاتيتي اهمّا" وأشار بيده إلى بيجامته البيضاء التي كان يرتديها .."ياخاش بين البصلة وقشرتها ما تنولك إلا صنّتها" .... تفهمي وإلا..لا .
الصامتة سعيدة لزبون دائم من هذا النوع زوجته دائما غير موجودة وإن وجدت فتنكد عليه معيشته ليغادرها إلى العاهرات .
تعرفي الدوّايات ايجن لعندي بلّوشي .. أخترتك أنت بالذات خاطري نفعل مرّة من غير صداع وبدون مقايضة (وحدة تشرع كرعيها وهي ساكتة)..(تروبوا الزاح) ..
حمحمت قابضة راحتيها .. رافعة الإبهامين نحو السماء تأييدا لقوله .. التقت دموعهما في نهر لذاذة بائتة .. كل يبكي على ليلاه .. هو تذكر زوجته السميراء.. التي ما ولج لسانها مبرأة قط .. أخذ يبكي "قولي شن سمّاك ربي" ماعليك من اسمي أنسيته مسميني الصامتة .. "سامحيني .. أنا مستعد ندفعلك اللي تطلبيه وفوقه هدية .. اللي ذكرتيني بالمرحومة الله يسامحها عشت معها عشرين عام.. خسارتي فيها كبيرة مّتعوضش بكل".. وأخذ يدق برأسه مبيض الفودين على الجدار بهستيرية .. بينما الصامتة توقفه بجذبه ناحيتها .. تذكر زيجاته ومغامراته وكل ما سببه لصابرة من هموم وشقاء وكانت في كل مغامرة أو زيجة تكافئه بالغفران .. ياريتها عاشتلي بسمارتها.. ياودّي الشعر الأصفر والبياضة وحتى العيون الخرش والخضر زادوني هم على همي ".. وينك يا صابرة تشبحي المبليات شن دارن في ولد عمك ..
- ماما.. ماما.. وين بابا اللي مبكري؟
أعطاها قطعة حلوة مصاصة .. الطفلة تلحسها وتردد ضاحكة .. ماما وحدة وبابا واجد!!
"اليوم يرّوح بابا أمجاور من السودان .. أنا يجيبلي لوزة قرد وأنت حناء وبخور" .. ماما لما ننجح في المدرسة أيّن بابا منهم يمشي معاي للحفلة ..؟!!
أجابها مصطفى شيليهم كلهم والجمتها أمها بضربة ووغوغت تشير إليها نامي .. هذه الصامتة مكتنزة قمحية اللون .. واسعة العينين عسليتهما ..صهباء السبيب .. دويرة الوجه .. دقيقة الأنف .. كثيرة النمش بوجنتيها .. منفوجة النهدين ... تحضن حقيبتها الحمراء أكثر من ابنتها .. التي رايتها ذات مساء بمطعم قريب من ميدان سوق الحوت .
جدائلها طويلة كرداء .. ضيقة العينين .. خطلاء الأنف .. مدببة الذقن .. لعلها تشبه أباها .. تتلاحق صحون المرتادين للمطعم .. هذا يعطيها كسرة خبز ناشفة وآخر شريحة طماطم مملحة .. وتخلب من ذاك نتشة دجاج محمرة وأمّها تتعهر على حالها .. " بالك تجي صداف شي كرزة سكران".
- ماما أوراق سقطت منك!
أشارت بأن هالوريقات هذي عندي خير من وجهك ألف مرة!!
أثارت فضول مصطفى أنْ يعرف مكنون الوريقات .. تنهد في عمق محّدثا نفسه لكل خصوصيته حتى ال ..ق .. ح ..ا ...ب ...!!!
لم يعرف شيئا وصرفها بعد تسديد الثمن .. توالت الأزمان وبعد غياب شهور عاد مصطفى ليجد الكرسي تعّمره أربعينية .. خمرية البشرة .. فارعة الطول.. ممشوقة القوام .. ترتدي جلبابا سمنيا .. تحّدث نفسها بينما مصطفى يقف مشدوها يتأملها ويجفف عرقه الغزير بمنديل .. يتخامن وجوانيته .. أغيرها الدهر أم أنها نكست رايتها الحمراء؟
أيعقل أنها تـزوجت؟
إن شاء الله ما تكونش مريضة؟
من نسأل عليها؟
ودنى صوب الجالسة فإذ بيد إمرأة مضمخة بعطر "رومبا" مخضبة بالحناء قد شحب لونها وهزل بدنها ربتت على كتفه ترشقه بنظرة تساورها الظنون ..
ترك الصامتة مستئذنا فرصة أخرى .. قطّبت جبينها منكسة سبابتها إشارة إلى الفورية
- وراي شغل تذكرت موعد مهم .
وانصرف ..
عاد مصطفى في العاشرة مساء للحديقة مصطحبا الصامتة لشقتة .. فزوجته تبيت عند أهلها أستعدادا لعرس أخيها، أغلق الباب وطوقها بذراعيه أهو الجسم والا بلاش أمشي يابطة قدامي متعيني بهزتك الحلوة وحدج مؤخرتها بنظرة شهوانية أخرج قنينة خمر "بلاك هورس"
قطع عليها اللذة المسترسلة وأتجه نحو الزجاجة
- "هيا أتسخْـنى "..
- أغلقي أنفك وهذه ملعقة الزبادي تنتظر هاتين الشفتين السكر
أبتسمت وأرتشفت ثالثا بمثل الطريقة الآنفة وطلبت منه سكب كأسا رابعة .. أخذ يحدثها " وهي تصب وتمد له دورين وتشرب دور" ..
أسمعي أنت تفهمي في الجو مش كيف القردة اللي عندي .. دائما أشتري زجاجات الخمر وما نشربش إلا الأصلي المكرشم .. خذيت على جو الصحراء والسفر .. تكلفني الزجاجة ثمن ثلاث قلالين قرابا وأخذ يقهقه تجي عمتك السنيورة مُنيوة تبزّعها في البالوعة بكل بساطة قريب أطلقت في سباها .. لا أطيق أنْ تعاندني امرأة عشان نأدّبها جبتلها ترمس بشيشمته نصب فيه في القرّابا وهذي الزجاجات الأصلية دايرها للأحباب "مسا" بالعربي مّنكدة يا لطيف توا هي منتلفة واخذ راحتي حتى دواء الضغط ما نخذش فيه شهادة لله طيبة لكن لسانها متبري منها طالعة فيها وديرتلي "من الحبّة قبّة" داكة خشمها في كل صغيرة وكبيرة خاشة حتى بين ظفري ولحمته وكان تكلمها توحل فيها يا سويدي من زبيبة تسكر .. وكان جوني اضيوف تغص بالزبدة، هي مكرونة جارية والا لقة بازين ترن جرس المربوعة ستين ألف مرة نين الضيف يقلق "وما يصحلهش الطلوع إلا وجماعة الكارطة عندي وليلتي حرفة كان اكرمت ضيوفي" اهه ..الفاكهه والمشروب ما يجن غير لجماعة الكارطة لكن الصبايا اللي يجن لمنيوة طبعا لا يا ريتها تقعد في الحوش ونجيبلها اللي تطلبه حتى اللي يجي ما يلقاها وكان مش أمها ميتة وظروفها سيئة وها البنية المعاقة ربي يشفيها متعلقة بيها راني مطلقها ومفتك منها .. يا ودي تبيلها راس من حديد وتبي تسّلط لكن كاسر لها اخشيمها واللي مدوختني جيب بس سيرة الطلوع من الحوش تنوض كيف الجن وعند الناس صاحة ما فيها بلاء وين ما اتخش الحوش تبدا دراما النكد لا ريحتني ليل لا نهار تبي تطلع وما تحبش حد ايجيها حتى اختي حليمة اللي كيف لبخة الحنّة وجّعتها، المشكلة تزور الناس في اي وقت دون مواعيد واذ اخبرها احد انه سيزورها لابد وان تؤجل مرتين ثلاثة بيش اللي جايها اطيرله ويلغي الجية حتى مع العزايز اللي ما يحبنش الزيارات المخطط لها تستعمل الأسلوب نفسه .. عندي راس ها البنت وين ما تنوض تمن عليّ بتربايتها ..أنا جيتها كوم لحم أنا عانيت أنا وكلت أنا شربت أنا كبّرت أنا زكّرت ..أنا وذّنت .. معيشة تقرف الكلب .. حسيبي ربي وين ما تفتح ها السيرة ستين جن ايجي بيني وبينها .. أف ..عندها ذاكرة يا سبحان الله تقول ما انخلقت غير لتسجيل البلاك ليست والفلاش باك حتى الجلسات الكهربائية مسحن اللي هناك .. ماخلّن غير السواد أعوذ بالله ما تعرفش شنوا اللي يرضيها تقول كلمة تشبط في رقبتك حتى سيارتي خاربة بالعاني مانيش شاري سيارة جديدة وكان فوّزت مالي إلا ركوب حافلات الربع بيش نفتك من الشيل والجيب وكاني مزوّقها أبيض وأسود وإلاّ معلّق في أنتليتها قطعة توبو حمراء كيف عرب طبرق مش خيرلي .. أنا ما انقيّل ما انقيّل.. عييت وأنا انساير فيها مافيش دكتور في طرابلس وبنغازي خليته يعتب علي، سافرت بيها مرة لمصر ومرة مشت مع خوها للأردن ومرتين مع عمها لتونس، الدولاب مليان صور أشعة وتخطيطات قلب وأوراق تحاليل وملّيت من المراجعة والروشيتات خلبطني ..الزنتاك عندها كيف ريقها .. وكيف ما يصحلها يوم تمشي ويوم تعنّز تقعد اتلاوي معها زي العيل الصغير.. فكنّيني منها ومن همها جايبك بيش ندوي عليها.
عدّل جلسته وهجم على الصامتة يمتص شفتيها بعمق كأنه سيزدردهما ..
فتأوهت الصامتة بصورة مغرية كامشة أصابع يدها كما لو كانت حزمة، رفعتها واخفضتها في هدوء واستسلام مسبلة العينين ..
- مازال ما نيش قاربك ..
تى قوليلى شن جابك الهطريق؟!
تنهدت بلوعة ونكست رأسها ثم هزهزته باكية وأسترسلت تحكي قصتها بالإشارات .. تفاعل معها مصطفى حسك شغلتيني هاك زيدي ها الدور وطلعي البلغم اللي في صدرك كله وأبكي غايتك نعجبك متخصص في مسح دموع الجميلات!! .
مش حرام السماحة هذي كلها تدوي بالتشيير .
عندما عمّ السكون .. أشعل سيجارة وتدارك نظراتها الطالبة فأشعل لها سيجارة أيضا نفثت منها وتجرعت كأسها من فوق الكوميدينو واستغرقت في إشاراتها ولغتها الخارسة المغموسة في مداد الدموع مفصحة بموسيقى ضحكاتها المتصاخبة وغمزها مصافحا يدها بإشارات تقول، لست صامتة من الولادة صمتت إثر صدمة نفسية، وأخذت تبكي مشيرة بيدها لرقبتها (العبرة خنقتها) وقفزت من السرير كالملدوغة ففتحت حقيبتها الحمراء وأخرجت وريقات ملفوفة مدتها له مشيرة له أن يقرأها .. أنت الوحيد من أطلعته عليها .. شعرت أنك قريب من نفسي ..
تعالي باباز الورق نفد أحتاج إلى ورق جديد وذاكرتي مشتعلة تقول لي باز لا ورق متوفر الآن أرسلت عامل النظافة إلى القرطاسية ووجدها مقفلة أقول لباز اريد ورق ضروري لابد أن اكتب هذا البوح تضع امامي حاسوبها المحمول الصغير وتضع في راحتى الماوس اشكرها لكن فيما بعد تسجلين ما اكتب في سي دي أو تسحبينه لي على الورق تشير لي برأسها مهزهزة علامة الموافقة أقول لها اه صرتي صامتة ايضا مثل صديقة مصطفى التي أروي حكايتها .. حروف الصامتة التي اقرأها وارقنها على شاشة حاسوب باز تقول أن طفولتي أمضيتها في دار الرعاية بصورة شبه طبيعية كأي طفل مجهول الأبوين أطفال الدار كنا أسرة واحدة .. يشعر كل منا بالآخر .. نتألم إذا جاءت عاقر لتتبنى أحدنا .. الكل يصلي من أجل تفسخ الطلب .. أذكر أنّ لي ثلاث أمهات يتبادلن على راحتي .. نذهب لفسح كثيرة داخل بنغازي وخارجها والمتفوقون في الدراسة والرياضة بأنوعها والمواهب تقام لهم رحلات إلى المدن الأثرية .. برزت في موهبة الغناء ومُنحت وسام الصدح الشجي .. كان صوتي يطرب جمهوري المتواضع واليوم صار اليأس مطربي المفضل .. إلى أنْ جاء اليوم المشؤوم .. بعد مهرجان طلابي كبير أقيم على مستوى مدن ليبيا وفزنا نحن طلبة الدار بالترتيب الأول ..أجتمع بنا مدير الدار الأستاذ فضل "أنتو بيضتوا وجهي قدام المسؤولين وخليتوني نرفع راسي بفخر.. وعليه سنودع في دفتر توفير كل واحد منكم خمسين دينار وتستحقون عن جدارة رحلة للشرق " .. تنزهنا في كل من شحّات .. سوسة وراس الهلال لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع أقفلنا عائدين لنخيّم على شاطئ طلميثة المبتلع لمدينة إغريقية قديمة، هذا الشاطئ كان مزدهرا في عهد الأمبراطورية الإغريقية والرومانية وهو من موانئ مدينة برقة و قورينا الجبلية .. توزّعنا مجموعات حسب أوامر المشرف العام وانقضى اليوم الأول ولم تغمض لنا جفون .. جرينا على الرمال وكتبنا أمانينا .. يا ترى هل يدعها الموج تنمو أم سيبتلعها كما ابتلع أحلام الفائتين!! .
غنّينا ومثلنا مسرحيتنا المرتجلة وامتعت المشرفات والبنات بالرقص الشرقي وكانن قد تحولقن حولي على حياء من المشرفين .. أرقص على ايقاع شرقي وتارة أرقص هندي على نور القمر .. وفي لحظة لا أدري إلا ويد المشرف تمسك بذراعي .. خررت ساجدة على ركبتي خجلا .. فإذا به يجذبني رافعا يدي إلى أعلى يحفزني على الرقص .. واصلي .. لمَ توقفتي يا غادة نحن هنا في رحلة استجمام "حسب تعليمات مدير الدار .. حرية .. انطلاق .. لا ضغوطات" علا الهتاف يعيش يعيش أحلى أستاذ والمشرفات يرددن أيضا في حدود الانضباط .
"لعبنا لعبة الكراسي الموسيقية ووابيس الاستغماءة .. اشترك معنا المشرفون أيضا في لعبة الليبرا وعندما امسكني المشرف مرة أخرى شعرت بشعور غريب .. اعترتني رجفة غريبة ومشاعر لم أكن أشعر بها من ذي قبل .. تركني وانزوى والمشرف الثاني خلف الخيمة .. ذهبنا إليهما أنا وأسماء وتوفيق لندعوهم للاشتراك في لعبة سمى بلاد.. وجدناهم يشفطون دخان النيرجيلا ذي الرائحة الغريبة و عيونهم حمراء .. سألتهم هل غطستم في الماء وعيونكم مفتوحة؟! .
أأحضر لكم مطهر عيون من أبلة ليلى؟
شكرا شكرا وقال المشرف الأول مازحا مازال بدري على الغطس!.
تهالكنا بنات ومشرفات في الخيام بعد أن قضينا وقتا طويلا في اللعب وانتظار حضور المشرفين دون جدوى .. مجموعتـنا تضحك وتتحاكى تغالب النعاس .. مشرفتنا أعازت بالنوم
- بنات ارقدن شوية عشان تقدرن اتقاومن بكرة مازال عندنا برنامج حافل غدا
- صح يا أبلة لنا يومين ما رقدنا ما نبوش نضيعوا أي لحظة حلوة .
غط الجميع في سبات عميق وفجأة انقطعت الكهرباء واختلطت الصرخات وتعالى الهرج .. وشعرت بجسم يهوي عليّ .. المشرف وليس غيره .. عرفته من رائحته ولحيته الكثة عضضت يده وخددت ساعده الأيمن بأظافري أثناء محاولته اغتصابي لكنّ الكيف عمّر رأسه بالدوخان فهوى ساقطا على الرمال ..استشعرت قدوم المشرف الآخر طار قلبي فرحا واطمئنانا .. رأيت فيه نجدتي .. سرعان ما أزاحه عن دربه بركلة ازدراء "ما يفتح الطريق إلا أنا" صرخت حينها صرخة اهتز لها العالم وتفلقت لها القبور وندت لها الأجبن الندية .. فقدت نطقي ووعيي ولم أفق إلا بعد ثلاثة أيام في مستشفى الجمهورية قسم الطوارئ وبجانبي الطبيب الشرعي والمحقق والمحللة النفسانية، إذن هم من تسببوا عمدا في إطفاء المولد الكهربائي تحفيزا لخستهم . بعد أيام أعادوني إلى سريري في الدار ولأزمتي اعفيت من تنظيف الغرفة والممر، صار الكل يتهامز عليّ .. ناجيت نفسي لمن أشكو مصيبتي .. الوحيدة التي تستجيب لي هي الاخصائية الاجتماعية الحاجة عزيزة قطعت عليّ مناجاتي
- وكّلي أمرك لله .
- ناجيت نفسي مرة أخرى، حسبي الله ونعم الوكيل ..اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ..
انهرت وصببت دموعي غيثا مهراقا .. حقنتني ممرضة الدار وفاء بحقنة "فاليوم"
- يا غادة وكلي أمرك لله
- هذي تو اتهديلك أعصابك
صرت حديث الدار .. و تعاطيت المهدئات كأقراص " الهالا دول" و " الأي أن "وشراب
"التربتزيول وتفاقمت حالتي من قلق وتوتر يصحبهما أرق تحول إلي كآبة مزمنة لتصبح أقراص "زاي بركسا" و "ليسم" لاتفارق حقيبتي وصارت تفاجئني نوبات هستيرية لا أخرج منها إلا بعد حقنة فاليوم في الوريد .. الكل خائف .. الوجوه منذ الحادثة واجمة والأيادي ترتجف لأبسط حركة وقت النوم .. صارت حادثتي كابوسا مروّعا وحتي وأنا نائمة يطاردني شبح الإغتصاب فأصرخ ثلاث صرخات قوية مثيلة لصرختي في الخيمة في تلك الليلة المشؤومة التي أوصلتني لهذا الدرب المسدود .. هذا مقتطف من أحاديث بنات الدار ليلا..
- باهي مش نحن محسوبين على المجتمع
- غادة شن ذنبها .. بكرة الدور علينا .. اللي اغتصبها طلقوه من الحبس بكفالة ..
- تستاهلها هي اللي ديمة تدكك شن تبي ماشيتلهم في الليل
- حرام على نيتها وبعدين معها توفيق وأسماء .. وهمّا اللي جوها في الخيمة ..
- اسمعن فكنا من يوم وغادي لا دخلنا بمسابقة ولا رحلة لا رحلات
- ايواه ومانسيبوش المشرفات
- اسمالله علينا وكانا منسوبين لباهاتنا راه ماهذا حالنا
بينما هن يتحاورن صرخت صرختي المعهودة ..
شن رايكن يا بنات انقدموا تقرير للهيئة المختصة بالدار بشأن إبعاد غادة عن حجرتنا .. تمّ إبعادي عن الدار بحجة صراخي المزعج وعصبيتي المتزايدة وكسري للأشياء .. نقلت إلى مصحة الأمراض النفسية .. وهناك تلقيت أقراصا شعرت معها بالهوس .. لا أحد يزورني أكثر من الحاجة عزيزة بمعدل كل ثلاث أسابيع مرة وتعرضت لعدة اغتصابات من نزيلات مسترجلات وغيرهن!
لم أجد أمامي سوى الهرب في أول فرصة، أثناء الزيارة تسللت عبر الأشجار وقفزت من فوق السور إلى الخارج، لا أدرى إلى أين سأذهب .. ليس أمامي سوى الدار ولكني إن ذهبت حتما سيعيدونني إلى المصحة .. أنا لست مجنونة ولكن إن بقيت أكثر في هذا المكان المقرف فعلا سأصاب بالجنون .. لا نظافة ولا حنان تفنيص وضرب واغتصاب .. سيارة حمراء أشار لي صاحبها بيده وكأنه يعرفني ابتسمت وأشرت إليه لكنه لم يفهمني .. اركبي وسكري الباب خلينا نطلعوا من ها الزحمة وبعدين انتفاهموا .. صعدت ولكنّ عقلي يدور أين سيذهب بي .. وجدت ورقة وقلم .. تذكرت وصف فوزية صديقتي التي خرجت من الدار بعد أن تزوجت وأعطتنا عنوانها قائلة: "الله ..الله.. في العشرة .. اللي تزوج ماتنساش خواتها في الدار وهذا عنواني بلكي اتفاجئني وحدة منكن بزيارة" .. دونت العنوان .. قرأه و أومأ برأسه حاضر
" ادللي وين ما تبي انشيلك " .. ونزل معى أمام الشقة لكنه انزوى في الردهة المقابلة للشقة وأخذ يراقبني .. فتحت فوزية الباب .. وعندما رأتني أغلقت في وجهي الباب مرددة
"الله يحن "
- ها شن صار
أجبته بالصمت .. ففهم أنني أبحثُ عن مأوى .
نقلني إلى مزرعة تبعد عشرات الكيلو مترات عن المدينة .. بابها كبير استقبلتنا كلاب الحراسة بنباحها.. ضغط منبه السيارة بالطريقة المتفق عليها.. فتح صديقاه الباب على مصرعيه .. أحدهم رحب بي وبيده سلسة طويلة مربوط بها عنق كلب سلوقي قائلا: لا تخافي "ماسكه بيدي" وقال صديقه الذي وراءه مقهقها وأنا ماسكه فيدي ..
والآخر أشار بيده إلى صديقه سائق السيارة بعدم إطفاء المركبة .. وبعثوه على بعض النواقص (دخان ولحم وخضروات).. دخلت ليستلمونني بالدور .
المكان موحش، والغرفة المقيمين بها مكيفة .. بها جهاز سي دي وأقراص إباحية، ديجيتل ومسجل .. بها كنبة عتيقة وثلاجة صغيرة.. انقضّوا علي فور دخولي، أرغمت على العيش معهم .. يعذبونني ويطلبون مني في كل ليلة طهي مكرونة مبكبكة، أسكروني وضاجعوني بطريقة بوهيمية، وتوالت الأيام على قهري .. كلما تعاطوا الكيف تارة يواقعونني وتارة يضربونني ضربا مبرحا .. تموّر جسمي من كي سجائرهم وتحول من جسد إلى منفضة أجبرها المرار على تجرع الألم .. بعد أن ملّوا مني صاروا يقوّدون علي ليشتروا بالثمن خمرهم وحشيشهم وأقراص منع حمل لي .. إلى أن نجحت دورية المكافحة في نصب كمينها وداهموا المزرعة ذات مساء فقبضوا على الاثنين والثالث الذي لم يثمل تلك الليلة نجح في الاختباء بي في هنقر الدجاج المهجور آخر المزرعة ومن ثم الهروب بالسيارة عبر طريق مظلم غير ممهد، وحال وصولنا المدينة أنزلني أمام الفندق البلدي واختفى قائلا لي لا نعرفك ولا تعرفيني أوينا باي باي .. ومن ذلك اليوم وحياتي تجري على نفس المنوال أجلس على ذاك الكرسي اليابس في الحديقة المظلمة.
توقف مصطفى عن قراءة الوريقات متنهدا "ماحد خالي من الهم" حتى الحوت في بطن البحر خايف من الصياد يرمي عليه الشبك!
ألبسها ملابسها ولبس جلابية بيضاء ثم أشعل سيجارة
- تعرفي يا غادة وأنا نقرأ في وريقاتك .. شعرت إنى نقرأ في قصة عظيمة .. تصلح اتجي فيلم ناجح أو مسلسل مرئي يتابعه الملايين .. أنظني يسمّو فيه ميلو دراما
رمقته بنظرة مأسوية وطأطأت رأسها مندسّة في اللحاف .
تخيلت أني قضيت أيامي أتسكع من مكان إلى مكان .. كثيرا ما وجدت عجوزا يأويني أو سائق شاحنة أبيت معه في قمرة القيادة وعندما لا أجد أحدا افترش كرتونة في الحديقة العامة وأنام عليها حتى الصباح.
الله بريء .. أمر الناس عبر كتبه المقدّسة بمساعدتي لكن الجميع يرى ويسمع ولا يحرك ساكنا . .. القلوب متحجرة وليت قسوة الزمان من حديد فالحديد على الأقل خلق ليلين .
ذات سكرة نسيت تناول أقراص الحمل التي اتعبتني مضاعفاتها فوقع المحذور وحبلت ليدركني المخاض بعد استواء الحمل .. فلا أدرى إلا وأنا على سرير الولادة في مستشفى الجمهورية أصدّر همي إلى طفلة بريئة تصاحبني طيلة الحياة .
اعتذر منها وقبّـل جبينها مكفكفا دموعها الّساحةّ التي لن يجففها صهد القبلي .
- يا وليّة أسكتى و أعطينى حبّة سكر وضغط .. إللى زى حالتى بالله عليك شن يدير!!
الفرتونه بلهون فى النساوين .. مش لازمه تغيير زيت .. طبعا واحد ديمة يبروط على رجليه .. مقاسه خمسة و أربعين .. طبيعى الزيت بسرعة ما ينحرق!!
- الجو حار .. سأخذ " دشا باردا " وأعود لأحلى زوجة سريعا .. جهزيلى مكعبات ثلج .. سلطة عربية كثريلها الثوم والبصل والفلفل الحمر المبطبط ..أسلقيلى فول خضر .. اشويلى سيخين لحيمة و طنية و قصيلى معاها طريف جبنة رومى، راك تنسي تحطي مع الحاجات حبيبات زيتون يوناني والخبزة حطيها فى الكوشة بيش تسخن يا كتــكـوتتى، وبعدها "وتيلى الهبيرة الحية أنت يا حلوة ".. دقائق و جايها، عانقها بلهفة هزهز خصرها و يسراه تتسلل لنزع مثبت نهديها.
- درق وجهك عني، بعد هالغياب تأتى لتواقعنى مخمورا برائحة الثوم والبصل . . لماذا كتب علي الشقاء؟!
- زوجي الأول بارد ومتحكمين فيه أهله .
والثاني كيف ماتشوفوا!
عمل فى الصحراء .. لا سفر كيف الناس ... لا بحر .. يكمل الربيع و ما نلاقوه
لا زردة .. لا.. لا..!!
ياما متحملة .. سكير وحشيش وخلينى ساكتة وحتي الشراميط خشن لحوشي وخذن جوهن وسط مربوعتي وبلكي حتى على سريري هضا وهذا كله بحجة العمل!!.. ماحد ايدق على المربوعة، لدينا جلسة عمل، صفقة كبيرة .. كل ما نركب سيارته نلقي عالقة فيه شعرة شكل مازلت بعقلي ..شعري أسود وغزير و بعد ما كان يخبط في ربلة ساقي قصيته .. ردة فعل سريعة .. كنت نمشط في شعري علي المرايا اللي مقابلته ومازلت ماسكرت عام من زيزتي .. قالي بهزوة أنتي ماشفتش الشعور وقصده شعر الشراميط اللي قعد يخلبط بيناتهن .. سلّيت الشعرة علي طولها من باكو المناديل .. شعرة حمراء ناعمة وطويلة ويحلف ويتقطع هذي شعرتك ياوليّة بس ملبزة بحنتك اشوية ..
مش ساد من أول ليلة جيتك عروس مطلع الحاسبة وتحسب على قولتك فى الخسارة اللي خسرتها في العرس .. من بختي جت واخذتك لي وقت الحصار .. وأنت واعى تنافق فيا انى.." انا اللي اهناك" ومفيش غيري وانا الكبيرة المكبرة .. ولمّا ترقد وياخذك النوم ما يغيب أسم شرموطة وماتنادي عليها " يرقد علي صدرك وينوي غدرك "
"قالتها حياة جدتي: " ماخوف إلا من الشراميط أمهات أربع شوارب أثنين فوق وأثنين لوطي "
وكل ماننهار تأخذنى للمصحة النفسانية.. حرام عليك شايلنى لطبيب صاحبك تتآمرعليّ بيش يطلعني غلطانة ويعطينى دواء يرضّـيني على فعايلك المعفّنة عطني دعوة إلأ هو بروحه يزرط في الأقراص .
- حرام عليك تشيلي في ذنوب فوق كتوفك خلي الراجل في حاله
- مش صاحبك أنت وجموعة خيّك ..ها مقضي نهار كامل في العيادة وبدال مايروّح لحوشه وعياله – أسمله عليها حتي هي عليك طيحة .. يسمع معاكم في دندنة العود علي البحر.. أنسجام يعني .. زعميتك ما يطنش فيها معاكم
- ياولية أستهدي بالله عيب منك
- بلاش .. توا نأخذولك موعد مع طبيب عراقى ما نعرفاش ولا عمري ريتلا قشرة وجه يعجبك الحال هكى!
- تفضلى يا أستاذة منى
إرتاحى على السرير الآن .. استرخي وخوذي نفس عميق .. أسمعى الموسيقى و حاولى أسترجاع ذكريات طفولتك بهدوء تام..:
عشت طفولة مفعمة بالحنو فى كنف أم طيبة و أ ب عطوف إلى أن أغتالني القدر على حين غرّة.. فسحب أمي من الوجود المرئي إلى الوجود السرمدي . . ليتباكى أبي أياما معدودات ثم ينشف دميعاته راضيا بقدره.
زوجة أبي تقول:
- خلى بطاطين النمر للضيوف وغطى عيالك ببطاطين الجيش و حتى معسكر البراعم جابوا بطاح معبى من الصبح!!
- غير جيبى بطاطينهم اللى كانوا يتغطوا بيهن وين طارن!!
- احبكت مايتغطوا إلا بالنمر الحوش مليان وعليش نبى نقطع روحى!!
بعد مرور أربعين يوم من وفاة والدتي، والدي طلق زوجته الثانية التى ساومته على البقاء معاها وترك أمور إخوتي الصغار، لأترك دراستي وأتولي شأنهم .
أقاربنا وجيراننا الطيبين في حي بوهديمة " عائلة الحمروش .. وبكار .. وحكومة .. والكرغلي ..والعريبي .. الهواري .. مابرحوا يواسوننا ويسألون عنا .... رغم حب أبي لها .. رغم طزاجتها وجمالها.. إلا أنه رجح كفتنا نحن أولاده .. رحلت ولشد ما ألمني فراق أخوتي الصغار هند ووائل .. طلقها أبي ولم يندم علي ذلك، حتي عندما كبرنا وهدأ غلها وغله حاولنا إصلاح ذات البين فرفض أن يرجعها:
- " عيالي مش مقصر معاهم وهي والله ما نكسبها امراة "
مافيش فى قلبها ذرة رحمة ياراجل، العيال فى مأتم أمهم مغطيهم كل واحد ببطانيته تقولى طلعهم يرقدوا في خيمة الضيوف وغطيهم ببطاطين عسكرية، العزاء مازال خضر و الناس مازالت تجي اتعزى، تمشى مع خوها لهلها وتسيّب العيال بروحهم و تخلينى مريض .. حلفت مانى جايب وليه وقعدت عليهم عام ونصف، وأخذ يضحك .. وخلك من برامج العيلة اللى ما يفضنش بكل، حتى اللى يزلق والا يشرق أو يعطس، امشرّق وإلا امغرّب أو حتى في زلة وفزان تعال شوفه يا مصطفى .. يا عليك طيحا .
- ياسيدى آنك عرفت الحوش وتفضل امتا ما تفضى ..
- عطيتك مواعيد تواجدى فى المصحة وعلى احسابك الحوش حوشك ماديرش غيبة
- ماشى ..زينة هي ..
- مع السلامة يامصطفي
.. باهى غيريلنا الجو
عاد مصطفي إلى بيته لتلقاه زوجته.
- اليوم عندي جلسة!
_ دمّرنى يادكتور كنت بعملى وقعني على توكيل و دارلى بمعرفته واسطة في نسبة عجز وقعد يصرف في قريشاتي فى غير طاعة الله
غير قولى شنوا اللى درته ليّه؟!
ودائما أسمعه يتهامس مع أخته التي كثيرا ما تأتي ألينا حرجانة فتشعل فتيل الحرب بيني وبين أخيها وتعود لبيتها وأولادها كأن لم يكن .. فأسمعه:
" كرهت طارى النساء وبعد المرحومة زوجتى الأولى ماكسبت ولية مسقمة ولا فى وحدة ينطلق عليها السلام "
والحمدلله لعيال كبروا شوية ودبروا روسهم اللى ركب عسكري ركب واللى لصقناه فى شغل اشتغل والبنات زوزتهن بدري تريحت عليهن وعشت أيام جميلة خالى البال نين قعدوا خوتى ايزنوا علي يا راجل خوذ مرأة تونسك واتمرسلك ظهرك اللى تشكي منا كل ساعة .. بيش نفتك من الهرجة وقبل لا يزرطوني في وحدة من العيلة خلاص بنات العيلة عسلهن صابرة مصيته وراح .. والباقى يكحلن بعشر ركايز مايجن فى ظفرها .. تزوجت على طريقتي هجالة من البيضاء وخلفت منها بنتين .. البنت الاولى معاقة وماتت عمرها سنتين والثانية مابانتش اعاقتها إلا بعد سنة وأمها ماسلمتـش من حمى النفاس فلحقت ببنيتها .
وانت راجل يادكتور وعارف منيش راسي متصدع .. حتى تشيلها رحلة بر أو بحر تقلبها عليك غم بعيد عنك النكد.. يكمل احتياطى النفط لكن نكدها كل يوم فى الزايد ما نظنى الا انجهز شنيطى ونهاجر لبلاد الله الواسعة نعيش حتى على السبيل انت راجل و عارف شنو اللي يخلي الراجل يغيب عن الحوش ويطفش .. وانا مقدر ظروفها و مراعيها فوق من اللزوم وان كان سبلتها فقد أمها حتى انا ما فتّحت لا فى بوي ولا أمي و كان على المهدئات ماعايشين إلاّ بيهن .. وانا قاعدين انتنفسوا ومازلنا انشيلوا .. ايسدك والا نزيدك يادكتور..
بالعكس قصتك شيّقة و العيادة تحت أمرك تفضل فى اى وقت يا استاذ مصطفى
- الواحد يطلع من الحوش خير
- قبل لا تطلع شيلنى لأهلى ..
- مربوحة الباب يفوت جمل .!
خليني شوية توا دايخة ومش قادرة نجمع ياسستر باز، أجلي التغذية والحقنة أشوي، تقول باز مش أكثر من ربع ساعة هذه أوامر الطبيب وهي مقدّسة:
زوجة ابى التى سكنت الطابق العلوى.. امى هي من تقدمت لخطبتها قبل وفاتها بسنوات بحجة انها مريضة مصابة بأزمة شعابية ولا تقوى على ممارسة واجباتها الشرعية على أكمل وجه بعد انْ انجبت أربع بنات ثلاثة منهن تزوجن في سن مبكرة والأولاد هجّوا بعد زواج أبي " اللي هذا خذا علي قيس وجهه " هذا الذائع فى الجلسات الرسمية و الشائع بين الناس و ما خفى كان أعظم " الراجل فقدته لمراته كيف خبطة المرفق مرات تخلى صاحبها يركع من قوّ الخبطة لكن بسرعة ما يزول الألم " يعزون الزوج بهذه الجملة التحريضية " يبدلك الله بفراش خير منها " وكأن ما افتقده الزوج هوالفراش وحسب ينسون سيرتها العطرة وحسن عشرتها.. قلة هم من يصونون العشرة ويحفظون المعروف .. تزوج أبى مرة أخرى من لعوب أغوته أمام المحكمة .. استحوذت على اهتمامه.. ظن أنه جذبها .. وأنه سيسيطر عليها ويجعلها عجينة بين يديه .. وسيقول له الزمان غير اعبا على هالراي .. الماء ما يروب ..والوشة ما توب .. وغني ..
كيد النسي كيد كيدين
وكيد الرجي كيد واحد
ماملي كونّه علي طاقته
غير جاحد
وللموال السابق قصة شهيرة في المأثور الشعبي يعرفها الناس الكبار جيدا ليس هنا مجال ذكرها، اهملنى و اهملتنى زوجته اللعوب أيضا .. صار بيتنا حكرا علي أقاربها، قطعت حبالنا المتوطدة بالجيران والأقارب التى ما انفكت امى تفتلها الى أن اختطفتها المقادير .
بعد أن طلق أبي زوجته الثانية التي خطبتها له أمي تحت بند " كيف مايجيك الزمان تعاله " يأخذنه الصبايا ولا تأخذه الدنيا " ومن وجه نظري تأخذه الدنيا وأعيش علي ذكراه أهون من أن أقتل مائة مرة في الدقيقة " أف الشر برا وبعيد " .
عندما كنت بالصف الأول الأعدادي وكانت تزورنا الهالكة زوجة أبي التي لم أطقها يوما هي وأمها الحاجة تبرة البارعة في تمريق الأسحار بطريقة ترضي شلواشها الذي ذاع صيته في خراب البيوت " محيور" فلن أنسي ماحييت كيف كان أبي يتسلل بعد عودته من العمل ليصعد دون أن نراه تاركا لنا ما أحضره من مصروف أمام باب شقتنا وإذا ما استقبلناه كذي قبل في الباب الرئيس لبيتنا ذي الطابقين فأنه ينزل أخوتي الصغار كما لو أنه ينفض عنه حشرات مزعجة قد علقت ببدلته العسكرية أو عندما كنا نتآمر لنسقط بعضا من ملابسها المغسولة التي تنشرها فوق السطح لتقع أرضا تشي بنا الهالكة لأبي فنتفق علي رد واحد رغم خلعه للسير العسكري وتهديده لنا بالضرب وأحيانا يفعل فتتدخل والدتي لتحول بينه وبيننا، تستحلفه بالعيش والملح مرددة:
- توا نغسله دبشها كله " كبر عقلك " " داير عقلك بعقل عويلة شلالهم في فراعيهم ياراجل " .
وذات مرة جلس أخي خالد بالمنور يلعب بالمقلاع ولكنه ترصد الهالكة فعندما تسهوكت له من نافذة الحمام في الطابق الثاني وهي تنشر منشفة علي حافته فلاحت سنها الملبسة بالذهب الأصفر تبرق بابتسامة صفراء كعادتها سدد أخي خالد بمقلاعه على هدفه سريعا ليكسر قطعة من سنها التي مازالت إلي اليوم مطبوع عليها تاريخ شقاوتنا ومشاكستنا لها فذهبت حرجانة مغتاضة لأهلها وأرتحنا منها شهر ونصف ليعود بها أخوها بولبا بعد مهاتفات توسلية من والدتها التي لايمر يوم دون أن تأتيها فيه! .
يبدو أن الدوار بدأ يلعب بذاكرتي ياسستر باز ..
سأكمل لك يادكتور:
كانت تجلس الهالكة في المنور قبل أن تخطبها والدتي لأبي بحجة إعطائي حصصا بالإنجليزية في حين هي تسترق النظرات إلي أبي ويتبادلان كلمات الغزل المشفّرة وابتسامات الفسق التي لم تفوت علي .. أكرهها لتمثيلها دور الأستحياء والخجل علي أشده أمام والدتي .. أمي طيبة لكنها ليست بغبية تعرف كل ما يدور حولها من نظرة وورثت هذا عنها " خزي علي مايتحشم " وتوطدت العلاقة في حفل ختان أخوي أحمد ومجدي فكانت كلما رمت عليها سعاد الشملة تقوم في غنج ولا تكثر هزهزة ردفيها إلا مع ترديد أغنية " خوذيلك ملازم خير أنت ياخزرة عين الطير " فتضحك لحد القهقهة .. والملازم أن ذاك عنده ست أولاد .. وسعاد هذه هي زوج البهلول العقيم وهي السبب في كل ماجري فهي من كانت تؤمن لهما المواعيد لشدة قرابتها من أبي وشوقها اللي راح فيه " كان مش عيسى موسي "وكانت تقطن الطابق الأول الذي أستأجرته من الحاجة تبرة أم الهالكة .
أمي ترى وتعيش كل شيء و ساكتة آملة في العيش والملح، ظلت ساكتة والسيل لاعب بيها، مهاتفات ليلية، زيارات صباحية يقتطعها من دوام عمله ليعود بمعدة ممتلئة من طعامها المسحور.
- كولوا صحة واكل مع الجماعة " كسيكسوا "
نحس في روحي دايخة يا دكتور باز يعني يا سستر باز وانشاءالله تصبحي دكتورة ..
بعد وفاة والدتي بشهر خيرت الهالكة أبي بينها وبيننا، أبي يعجبكم، عطاها وريقتها طبعا وعجبتني آخر كلمة منه قالها لها و كانت:
- كان تبي البلاط قلعيه
ولم تقصر الهالكة فحتي مازورات الدقيق والسكر شالتهن، واللعوب التي ألتقاها أمام المحكمة .. حوّلتنى من مدللة لا يرفض أبي لها طلب إلى خادمة صغيرة تمارس عليّ دكتاتوريتها .. دائما تضربنى .. تعضّنى فى ذراعى الأيمن صائحة فى و جهى سأصنع لك خالا من طراز آخر .. جعلت من وركي أقواس قزح متـقيحة .. ناهيك عن الركل والرفس و الصفع وبالطبع لا تـنـسى نصيب المرحومة أمى من الشتائم .. كسرت الإطار الحاوى صورة أمى .. مزقت صورتها الملونة أمام ناظرى هاذية كالمجنونة " أنا اسمح منها ألف مرة ".. الرعناء توهها غرورها عن منبع الجمال الحقيقى ..الكامن فى الروح الشفافة المتجددة كأمواج البحر الطاهرة و من ثم أحرقتها على لهب الموقد .. دون وعيى حاولت لملمة المزق فاحترق جزء من ساعد و ساحت علي أصابعي ملامح ودموع أمى تلومنى و توصينى بالصبر..
شمّرت عنى كم بلوزتي
- أهوه أثار الحرق يادكتور مازال يوجع فيّا من جوا ورفضت أجراء عملية تجميل عليه.. خليه وصمة عار لمرات باتى ..وصل بها المقت لدرجة أنها حتى عقد المرحومة امى لؤلؤ تتوسطه قطعة ذهبية مسكوكة على هيئة عصفورين ملتحمين بقفص لا يتسع لزفرة اتلفته ... ايه......ايه...... شن بن نخبرك لنخبرك .. كم عشقت المرحومة أمي البساطة فى كل شىء، مجوهراتها كانت بعيض قواقع بحرية .. لؤلؤ.. فيروز و مرجان .. ذهبها كله عطاته لسلفها اللي هو ولد عمها تزوج به .. أحتفظت بسنيبرة سنون جمال وقلادة الليرة الكبيرة المتدلية من حبل ذهبي مفتول وإسوارة الليرة قائلة خليتهن لكن أنتن البنات وعشان عندي فيهن ذكريات من أجمل أيام عمري مع بوكن " أيام الزهي " بعد ما نموت كل وحدة تأخذ حاجة وخلن المجارة لآمال عاد هذي أختكن الكبيرة ورد بالكن تفرطن فيهن! دائما تقول الثروة الحقيقية هى رضا الله ورضا الوالدين وحب الناس .. الأطفال يطرقون بابها من أجل الحلوى و البسكويت و قبلاتها الحانية و كان لديها فى خزانة غرفتها درج خاص بقطع شتى من ملابس أطفال جديدة متفاوتة الأعمار متأهبه للتفريح " تحب جبرة خاطر الصغير و الكبير " ديمة تقول اللى يحن فى صغره يلقى من يحن عليه فى كبره " أمى يا دكتور علمتنى الحن على القزون ما انحسابش ايجينى يوم و انتقزن .. حتى أنا كيفهم .
- كان تعبتى أؤجل الجلسة .
- لا يادكتور، كيف نحكى على المرحومة أمي نرتاح نفسيا ..-
..الأموات لا حرمة لهم هذا الزمن .. يضعون السحر فى أفواههم و يخيطونها، يبترون أطرافهم ويتاجرون بها لكلية الطب .. واليد الواحدة يدفعون مقابلها مبالغ طائلة فمن يشتريها ستذر عليه أرباحا وافرة "طاسة الكسكسى المشهور ببو عمايه بخمسين دينار واكيد ارتفع ثمنها فى طبرق والبيضاء و العجيلات وكل المدن .. فالطلب على هذا الأمر يجعل الأسعار لا تطيق الاستقرار على وتيرة ثابتة .. فى سالف الأزمان أشياء الميت يتبركون بها والميت يدفن حيث ادركته المنية فى أرض الله الواسعة ..أما هذه الأيام لابد من حراسة القبور و العياذ بالله .. معتوه من يغار من ميت .
كان لدى أمى صندوق أثرى متوسط الحجم بالجرس ترصعه نقوش نادرة داخله مرآة .. يحمل ذكرى عمر .. رافقها فى ترحالها من الشرق الى الغرب وكانت دائما تقول:
"هالصنيديق عندى كيف واحد من اعويلتى "خذاته زوجة بوي وعطاته لاختها لعبوا عليه صغارها وين ما تكسر حمت بيه التنور .. شفتها يادكتور بعيني هذي . . وماقدرت انقول كلمة حياة مينتي عاشت فى القهر و ماتت مقهورة .. بالله يادكتور..أخطر الأمراض التى لاتودي بحياة المرأة بقدر ما تقتلها هي الضرة .."الضر مر " و بالذّات لما تجى بالخونة .. نذكر عطتنى المرحومة أمى ورقة مطبوعة طلعتها من جيب معطف أبي العسكرى، مازلت وقتها فرحانة بتعلمى للقراءة .. أى ورقة اتجى قدامى نقراها حتى فى الشارع .. لافتات المناسبات الوطنية، لافتات الدكاكين، لوحات الاعلانات، خذتنى الدوة على فرحتى بسهولة القراية، نكمللكم على الورقة الى فى جيب باتى .. تفطنت أمى لمبالغة أبى فى اهتمامه بهذه الورقة و قالت لي عندما سألته عنها تلعثم و تغير لون وجهه .. أدخلتنى غرفة نومها مخترقة قانون نظامها الذي لا يسمح لغير الزوجين بدخولها ..امتنعت كعادتي عن الدخول لكنها سحبتنى من يدى .. فدائما تقول غرفة النوم لها حرمتها المقدسة و خصوصيتها .. ومدت يدها فى جيب معطف أبي المعلق في أذن المشجب و أخرجتها قائلة بحزم أقرى المكتوب فى الورقة سلم بنيتي و ما تكذبيش راه نعطيها لهويدا تقراها والا سالمين بنيات جاراتى .. كنت لا أفهم فى الحياة شيئا قرأت المطبوع فى الورقة دون فهم للمعنى كببغاء يردد ما يسمعه دون إدراك دارت مرتين حول نفسها كما لو كانت زغدة:
-"باهى ..الله ايسامحك يامصطفى .. مزوّر موافقتى و بعد هالّى تحملته كله نطلع مريضة و ما نقدرش على راحتك وعاجزة شرعيا عن واجباتي الزوجية و اللى فى بطنى كيف جاء ". قالتها بنت صويدق .. زيدى رقعيله يا مضحكة الفّراشات برداواتك وعلقى صورته وهو يكذب عليك عندى مأمورية يا نيّة موتيتيله شنطة الدبش .. حقه فتحي حكومة فى سوق الجريد يشرى فى قفاطين صبايا وفيلو بيزوج عليك يا طايحة السعد ..الكلام هذا في زواجه من الدرسية اللي جابها من البيضاء واللائي راودنها له عماته وأشتركنا في جريمة التستر سليفاتها ..بنيات عمها واقف .. أذكر يادكتور كم أرتعدت فرائسها عندما أبلغوها عن حادث سير تعرض له أبي وهو عائد من البيضاء وكيف هوت به السيارة من طريق وعر مرتفع ليسقط من سيارته علي كوز رملي ساعده علي النجاة فأنكسرت عظمة الترقوة وشج رأسه أثر تهشم زجاج السيارة الأمامي فوق رأسه مما أستدعي عملية جراحية لنزع الزجاج المنغرس بجمجمته وكانت حالته خطيرة وأذكر أن عمي عوض أبن عم والدي هو الذي أخبرها ليلا وحاول التهدئة من روعها .. أذكر كيف أزالت ربطات حنتها بسرعة جنونية فورما فتح أخي خالد الباب وسمعت صوت عمي عوض وسط الحوش ينادي:
- قسامي .. قسامي .. السلام عليكم ياعرب الحوش!
نقلونا إلي بيت خالي نصر بالزريعية لنجد جدتي الفزانية صابرة علي ماعطاها ربي وجامطة!
حاولت التخفيف عن ابنتها لكن عمتي سالمة لم تجحد خبر زواج أبي عن أمي .. في حين أن جدتي تهمز وتلمز ولكن دون جدوي
- خليها تعلم كلنا علمنا وهي غافلة
فأخذت أمي الطيبة تشد خصلات شعرها المضمخة بالقرنفل تولول:
"طويرة في عشها طش من يطشها " .
ودارت الأيام وطش ربي كل من كانت له يد في هدم عشها الذي كانت تحسبه أمنا وسلاما بدء من تفاحة التي ذهبت لتعيّد علي أهلها بمدينة إجدابيا فلا تدري إلا وسيارة تنزل كل مستحقاتها حتي غرفة نومها أمام بيت أهلها وأعلن عمي تطليقها وأدي ذلك لخلافات مستعصية أستشري داءها وكاد يفتك بجسد العائلة " الي يديره الحي يلقاه " " حتي العمي في عكوزه اللي يقود فيه" ومنيش مكملتلك يادكتور شن صار في عقابهن " المرض والموت وخراب البيوت مافشي شماتة " لكن أمي طيبة وربي عطاها علي قيس نيتها .. حتي بعد ماصح من الكسر وطلع من المستشفي أحضر عروسه الهجّالة الّدّرسية التي سبق لها وأن تزوجت بإثنين من قبله .. حضرن بصحبة أبي وعروسه سلفاتها اللائي أفتعلن صدمتهن بسماع الخبر ومثلن دور المواسيات علي أمي في حين أن صور " العقد والزفاف " أظهرت خلاف ذلك " وفتحية زوجة عمي ظهرت في إحدي صور الفرح تتقلد قلادة أمي " الليرة الكبيرة المفتولة حوافها بحبل مشبك كبيرة الحجم عيار واحد وعشرين التي مازلت أحتفظ بها شاهد طزاجة علي زيف البشرية وخداعها .. فلم أفكر في بيعها ولا حتي رهنها رغم ما واجهناه من عوز وفاقة .. المهم أستقبلتهن أمي وقدمت للعروس هدية وطبخت العشاء وبعد أن أطمئنوا أعمامي علي أستتباب الأمن أخذوا زوجاتهم وذهبوا .
من أين لأمي أن تسلك سلوكا مشينا أو أن تتصرف تصرفا غير لائق .. لوكنت مكانها لطردتهن شر طردة وسلمته أولاده وكل ما من الممكن أن يربطني به وطالبت بورقة طلاقي فورا .. لكن والدتي رضعت من جدتي الفزّانية حليب الصبر والحكمة كوالد تها التي ذاقت الأمرين من جدي فهو لم يدخل إلي غرفتها مدة ثلاثة أشهر بعد أن بني بها في الليلة الأولي مرغما .. وذلك لسمار لونها فوالدته " الحاجة مباركة " هي من أختارتها له والجميع رحلوا وتركوها معمرة بعقل ناضج وصحة جيدة ويد من حديد وتزوج عليها سبعة وكانت تحتويه كلما طلق وتبارك له في كل زواج جديد لأنها واثقة بأنها هي النخلة السمراء الراسخة بجذور الخير والرحمة في أعماق الحياة!.
القهر اللى شالاته امى ماتشيلاش الجبال وعلى ماشربت من مر لاهى روت ولا البير بخل بشرابه..
وأذا قلت لها دعى من تحت التراب بينهم بين بارئهم جنّ جنونها .. تشد شعرى وتلويه على يدها قائلة " أنعنك لحيقـت العفريتة أمك يا وجه الشر " ودائما توغرغمازاتى أشعر أنها ستثقب شدقى وفي شهوات ساديتها تكوي مؤخرتى بالملعقة المتجمرة فأبكى و أصرخ من آلام لا تحتمل لكن أخجل أنْ أطلع أبى أوعمتى أوأى كان على الأمر، أجد صعوبة في البقاءجالسة على مقعد الدراسة، لابد أن أتزحزح عنه قليلا ليخف ألم الكي، ترمقني المعلمة بنظرة مفادها .. ألزمي الهدوء وبلاش حركة .. أعالج الكي بطماطم الحكية أياما حتى يبرأ .
وفى قروصة البرد حين تشتد اصطفاقات الليالى البيض .. فى دستور عساكر زوجة ابى الغرفة التى أنام فيها صغيرة ولا تحتاج لمدفئة ووفقا لمزاجيتها وجورها المتفاقم تنقلب درجة حرارة الغرفة بقدرة قادر من دافئة شتاء الى باردة صيفا .. ياله من إجحاف ألا يمرض لسانها ..أمثال عساكر "شيطانة دون ثوب " تلعب على المكشوف طلب منها أبى أن تعطينى بطانية جديدة.. فكان قد اشترى لنا جميعا في بداية الشتاء بطاطين نمر من الحانوت العسكري واهدتنى عمتى سالمة بطانية لونها أخضر زاهى كقلبها المزهر ثقيلة الوزن وأرسل لى عمى الزروق بطانيتين "ضارب من يالاها النقص " .
أقفلت على البطاطين الجديدة بحجة الاحتفاظ بها للضيوف ورمت البطانية المهترئة على وجه أبى خذ اعزقلها " بطانية أمها أكيد توا أدفيها " .. وعندما أشتكي من البرد ترمي لي البطانية العسكرية الخشنة التي كنا نفرشها فوق السجادة ليأكلوا عليها أطفال العيلة في الولائم .. بطانية أمي كيف ستكون بعد أكثر من خمسة وأربعين عاما يادكتور .. بلغت المنافسة أشدها بين قرة العنز وبطانيتي المثقبة، لم أقو على احتمال الصقيع، ملابسى خفيفة والبرد يلسع جسمى النحيف و ينخر عظيماتى، أوقدت موقد فحم خلسة بعد انْ نامت، غريب لا أدرى ماذا جرى لعقلها لعل سيرة المرحومة أمى أنستها أنْ تغلق باب المطبخ بالمفتاح سبع طقات هذه الليلة، غلبنى النعاس، أفقت على رائحة شواء، يا لا بليتى و سوء حظى الحصير احترق والخوف من عساكر أنسانى تهوئة الغرفة و انقاذ نفسى من اختناق مؤكد و موت حتمي، المطر خيط من السماء وأنا فى السور نغسل فى الحصران و كأنى فالحة نحل فمى وندوى كلمة، بعد شوط شاق من الغسل و الدهك ارتميت متهالكة على الفراش لم استطع جمع جهد كفاية لتغيير ملابسى لقد جفت عليَ وها أنا أسعل بشدة وأبصق دما كأمي الله يرحمها عندما تفاجئها نوبة السعال .
- وعليك السلام ورحمة الله " أدخلي يا مني .
يادكتور كنت تمام وعندما تبولت ربيبتي فلا أعلم عن نفسي الاّ وأنا أطبع مؤخرتها بملعقة قد جمرها الموقد .. وأرش على الحرق حفنة ملح، علشان اتأدب وماترفعش عيونها فيا، وما اتحدانيش خاصة قدام بوها، يعني راجلي .
ابنى جبير عمره الآن 4 سنوات، عندما كنت حاملا به فى الشهر الثامن تعبت كثيرا وارتفع منسوب ماء الجنين لدرجة لم استطع معها التنفس ودخلت إلى المستشفى لأبقى تحت المتابعة وقريبة من الاكسجين، لكن لم احتمل أجواء المستشفى فخرجت منه على مسئوليتى رغم قلق زوجى علي لكنه أذعن لرغبتى شريطة أن أزور طبيبتى د حنان وذهبنا فورا الى العيادة الخاصة التى تطبب بها الطبيبة حنان يومين فى الأسبوع فدخلنا باكرا قبل وصولها بساعة نحمل التقرير وباقي أوراق العلاج .. ما إن وصلت ودخلت غرفة المعاينة حتى كتبت لها ورقة مددتها إلى الممرضة لتسلمها لها مفادها انى خرجت لتوى من المستشفى ومازلت متعبة وليس معى ثمن الحجز .. لم تفتح الورقة كما رأيتها بنفس ثنيتها موضوعة أمامها و صافحتنى بحرارة مبتسمة ابتسامة عريضة ثم طلبت من السكرتيرة بمكتب الاستقبال إدراج اسمى أول حالة وعوملت كحالة طارئة .. حبيبى جيبه خاوى إلا من دينارين مواصلات وبضعة دراهم فلقد استنفد حمادة كل نقوده فى الدواء و العصائر والوجبات المغذية.. والبحث عن متبرعين بالدم لكن اختى الأديبة ام العز الفارسى من جمعية الهلال الاحمر زيدها دم على دمها الخفيف سرعان ما حلّت المشكلة و قدمت له أكياس الدم طازجة بفصيلة دمي النادرة " أو بي - " سالبة فهي مركبة ولندرتها عند بني البشر ووجودها عند الحيوانات المسلية فهم يدعونها " فصيلة القردة " فور علمها بمرضي عن طريق ممرضة صديقة لها لديها عناوين متبرعين.
- اسمع يامحمد حتى اذا كان فى حالات أخري فصيلتهم نادرة وما حصلوش دم ..عادى رحمة الولدين مانقطعتش .. اتصل بي وسأتدبر لك الأمر .. دماء الخير والحياة لن تنضب .
أثناء مرضي وصحتي كل ما أشتهيه وما أطلبه لا يتأخر حماده فى إحضاره .. دائما يضرب رأسه في الحيط كما نقول ويحضره .
- ادللى ماتخلى فى خاطرك شىء اللى عندى نصرفه عليك غير صحيلى بس انا من غيرك نقصني كم مليون حاجة .. حتى الحوش والله ماعفسته .. منقدرش انخشه وانت مش فيه ..
لم يتركنى زوجى ولا لحظة، هو معى بقلبه .. بروحه .. بهاتفه.. وجيبه .. بفكره .. بكل ما يملك وبكل ما أوتى من قوة .. رغم ما يهمسون به فى أذنه أولاد الحرام .. وكان تزوجت من الأديبة " فلانة " خيرلك .. أحدهم يحلف له على سيجارة فيستبقيها ليخرجها انفا مرددا هاك اعزقيها حتى بصقتى خسارة فيها والآخر يدس له قطعة من الحشيش فيرميها فى المرحاض ..
- فكك منها .. ماني عارفة عليش بصلتهم منحرقة من يالاي
- عليش محنط روحك قدام المستشفى وقاضى ليلتك واقف فى النهاية مراة اللى جابنها يجيبن غيرها ..
- والله الا درويش وعلى نياتك ادورلها فى دم
- هلها ملزومين بيها ياراجل
- مش وصلتها المستشفى سيبها درت اللى عليك عليش حارق دمك
- مضيع وقتك ومخرّب جوك
- هذا كله حب أمرك غريب يالأصفر
- هيا تعال معانا غيّر جو خوذلك دوين والا ثلاثة قرابّا فلاش مية مية وكمل سهرتك معانا وبعدين انديروا بوردو على قهاوي محطة المصرية بلكي نلقوا شي قحبة مصرية والا مغربية نركبوها ما تشيلش هم انسلكوا عليك .
- خوذ الكلام وحرر نفسك من حبها .. راك تتعب يالأصفر .. قول ماقالها السيميائي اللي كلامه عدل ميه ميه!
طبيبتى حنان تجيد لغة القلوب وسرعان ماتترجم شفرة عيون مريضاتها فلا تحرج أحدا وتحب جبر الخاطر .. جبر الله خاطر هذه الانسانة الحق .. سرعان ما تقف لك إذا ما دخلت عليها مبتسمة ابتسامة باذخة نابعة من قلب القلب حتى إنها تكاد أن تقع من على الكرسى .. فى زيارتى الأولى لها نتيجة وقوفها سريعا فجأة علق طرف جلبابها السندسى برجل الكرسى فتعثرت واندمجت حينها البسملة والحمدلة الصادرة بصدق وعفوية من كلينا منها الحمدلة ومنى البسملة فاقتربت منها كثيرا لمساعدتها اذ بها ترفعنى شاكرة لتعانقنى بحميمية .
- لا يا ماما ما طبسيش انت حامل ..
فاضت حينها عيناى دمعا تمنيت لو أنام فى حضنها دهرا، شعرت بدفئها بشدو نبضها هى مثل أمى .. هذه طبيبتى التائهة .. هى ضالتى المنشودة .. تزاحمت مشاعرى وغاصت داخل سرادق روحى هل أشكو لها .. إنها تسالنى الآن ..
- لاباس يا امولة
ضاعت الشكوى وغادرالألم، ترى أتصدق الطبيبة حنان بوحى إن أسررت لها بمكنون خاطرى؟ .. ماذا أفعل ياربى هل أخرج لحمادة زوجى الذى ينتظرنى بشغف وينتظر الإجابة بفارغ الصبر .. زوجى الذى أخاف على وقته من مشاغل الحياة .. أخاف عليه ولن أخاف منه فى يوم من الأيام، أخاف على مشاعره المرهفة، أريده أن يتفرغ لشراميله الإبداعية .. وياناعلياته السردية .. وشكشوكاته اللذيذة .. حرام أن تضيع لحظة دون أن يبدع سطرا .. أشعر أن الإنسانية ستلومنى وضمير الابداع سيؤنبنى .. لكنه يصر على الإنجاب مني .
سستر باز أزاحت الرفادة القطنية الممتلئة بالدماء لتضع رفادة نظيفة بدلا منها أعلمتها بنظرة أن الورق فنش نفد فقالت لي " تن مينتس نيو بيبر كام " عشر دقائق وسيأتي ورق جديد، قلت سأكتب في ورق ذاكرتي قليلا إن بقى فيها ورق، تعود بي الحياة إلى بدايتي في عالم الكتابة، كنت وزوجي محمد نودع رسائل بها بعض المواد لمجلات وصحف داخلية و خارجية، كان ذلك قبل أن ينتشر النت، حيث وسيلة الاتصال كانت الفاكس او بريد الطوابع، قفلنا عائدين من البريد فألتقينا بالطريق الأديب المعروف بعدساته السميكة وبدلته الفاحمة ورباط عنقه المشحوذ إلي الخلف و الذي فتح لنا سريبا بلا فائدة ..عرفني محمد به
- سلمي عليه هذا الأديب " الفيتوري " ولد عمك خايف أطلعوني براني بيناتكم
- عيب ياراجل الزوايد خوالنا ..
صافحته ولكن نفسيا لم أرتح، صدقت حياة جدتي اللي قالت " وين دمك وين سمّك " .
رحب بي وطلب بعضا من كتاباتي فقدم له محمد نصين جديدين فشكرني وشجعني بأدب، هذا ما دار أمامي ولكن الكواليس الفيتورية سرعان ما أدارت دواليبها وبناديرها لتفضح نواياه .. فبدلا من أن يشيد بأسلوب كتاباتي الإبداعية الحداثوية المخلوطة بين الشعر والنثر والقصة والسيرة الذاتية ويشجعني ولو لسبب إني بنت عمه .. همس في أذن زوجي ضعيف السمع:
- " هذي يكتبلها راجل ياحميدا "
وأقول له: لا يوجد رجل أو امرأة يكتب مثل ما أكتبه يافيتوري .. خطاني خيريلك! وأنا ماعنديش ضنا عم! سأكتب مايحلو لي دون إقحام أو تصنّع تماما كما تطبخ جدتي الفزّ انية السمراء .. " رأسه في باطه " أو خوه علي بوه " وفي الآخر يطلع الطعام فايح وطعمه لذيذ بنكهة مميزة .. كل الأعمال علي النفس والنفس طويل وطيب الحمدلله!
لكن الإنسان الراقي الودود جدا والذي ليس ابن عمي غير أني سأعتبره أخي في الإبداع الأديب " سالم الكبتي " عندما التقيناه بمكتبة البستان بسيدي حسين وكان قد سلمه محمد بعض النصوص بخط يدي ضمنها نصي " هفيف النبض " و " نفض مجنون ".. فشجعني كثيرا، وقال لي واصلي الإبداع، كتاباتك رائعة وسأضمنها أرشيفي الخاص فأنا سعيد بحصولي على هذه النصوص بخط يد صاحبتها وسيأتي اليوم الذي تكون فيه قيمتها كبيرة أثق بذلك ونعول علي ماتبدعين ياآمال!.
أما أخي الأديب نوري الماقنّي الذي أحترم وقاره وهدوءه ففي أول زيارة لي لرابطة الأدباء وجدناه يجلس قبالة الشرفة الصغيرة المطلّة علي شارع عبد المنعم رياض، استقبلنا بحفاوة وقدم لنا القهوة وقال لزوجي محمد الذي يشجعني على الكتابة:
- رد بالك تطهق في الأول وبعدين تسكّر عليها يالأصفر مثل كثير من المبدعين تزوجوا كاتبات.
وعندما خرجنا من المكتب التقتنا السكرتيرة الرائعة " مريم " التي عرفني عليها زوجي فصافحتني بود وعانقتني بحرارة وتركنا خلفنا قهقهات أدريس المسماري رئيس فرع رابطة الكتاب آنذاك تنطلق معلقا:
- مش عارف كيف قدرت تسايري خطواته السريعة يا آمال أنا اللي راجل كان نسايره ندهش
فأجابه نوري الماقني:
- صحة لها!.. وصحتين لبوها اللى رباها على حب الثقافة .
علاقاتى بوالدى أعتز بها .. حواراته معى دائما هادئة وهادفة .. شفافة ومقنعة .. غير خجولة .. فهو دائم التحاور والمشورة معي .. ولا أخجل في مناقشه المواضيع بالغة الحساسية معه خاصة بعد وفاة أمي حيث صار أقرب إلى قلبي أكثر .. أطلب ما أحتاجه دون خجل .. عندما أكتب له في ورقة النواقص كلمة (قطن) كان يحتج بأن اللفظ غير محدد
- قطن شنو يابنتي!
أجيبه في خجل قطن نساء .. فيرفع رأسي:
- عليك أن تعلمى أني أبوك الأنثى وأمك الذكر فلا تخجلى فى المطالبة بحقوقك .. كل مرّة يحضر صندوق قطن نساء من الحانوت العسكرى .. لكنه سرعان ما ينفد لأنى لا أحتفظ به لنفسى .. أقوم بتوزيعه على بنات الجيران وبنات العائلة وأتبرع بمجموعة أكياس لمكتب الأخصائية الاجتماعية بمدرستي فهذا يعطيني شعورا بالسعادة لا يضاهيه شعور .. وعندما أعلمه أنه نفد .. يرفع يده اليمني بهدوئه المعهود الذي لم أرثه عنه ولم تستطع السنون أن تجعلني أكتسب حلمه واتزانه المغري الذي آمله لأولادي اليوم!
- يا بنتى الصندوق حلّه كمل ..أربعة وعشرين كيس .. مش شوية!
- وزعته على بنات الشارع وبنات العيلة
- ماشاء الله عليك كريمة والله .. الكرم والعناد راضعينه فى الحليب ياسي .. من يوم وغادى يجيبولك بالكيس بيش تعرفى قيمة الحاجة ..
ثقته بى لاحدود لها .. لم يهملنى بعد غياب والدتي الأبدى ولم يسمح لإخوتي بالتطاول علىّ .. لم يقيدنى فى زيارة صديقتى الوحيدة سامية .. التى أصبحت محامية متألقة وأنا فى شوق كبير اليها .. أبى يحبها كثيرا ودائما يعاملها على أنها أخت لى .. ويناديها .. بنتى .. ويخبر الحاج سليم والدها جبت بنت وحدة وربى أهداني الثانية!! .
- صديقتك ابنة الزليتنى خلوقة وأهلها ناس محترمين أبوها وإخوتها كلهم قدموا لى التعازى الحارة وكانوا حاضرين طيلة أيام العزاء والبنت لم تتركك لمدة أربعين يوما وهى معك كل مساء وساعدتنى فى عدم القلق عليك .. متى أردتى الذهاب اليها فلن أمنعك " ألبسى بس وما عليك فى الباقى " لايقيدنى فى أرتداء اللباس الذى أرغب خاصة على شاطىء البحر .. فهو يؤمن أن الأخلاق معاملة وسلوك ..(واللى ما ينهاه عقله ماينهوه الناس)، وكان كلما اصطحبنى إلى السوق لشراء ملابس جديدة لا يماكس وإن سألت البائع عن ثمن بدلة أو زي أعجبنى يبتلع ريقة ويزم شفتيه حتى يرف شاربه
- (مش شغلك أنت وازي اللى يعجبك خوذيه وأنا ندفع)
كنت أحملق في الملابس الداخلية ولا أستطيع أن أقترب منها حياءا وخجلا.. لكنه يقلب ماوضعته على البنك فلا يجدها بين ما اخترت فيحملني من يدي الى الأرفف التى تعرض الحمالات والتبابين والجوارب الرقيقة .. يطلق يدى
- على حسابك أختارى .. وكان ماعجبكش شيء المحلات واجدة وأنا فاضيلك ياأمولة ..
ولكنى خجلت كثيرا و رفضت في المرة الأولي فأنتقى لي أنواعا كثيرة وصار يحضر لى كل هذه الأشياء من الحانوت العسكرى دزازين .. حتى أنى لم أستطع أن أغير بعض العادات التى ألتصقت بطبعى فأنا مازلت أكره السؤال عن التسعيرة وأبغض المماكسة وإن كانت الحياة قد علمتنى أنّ السؤال ضروري لئلا يحرج الشخص أو يتعرض لإستغلال .. أقنع بالحد الأدنى من اللباس لكني نهمة فى اللباس الداخلي .. فلم يحرمني أبى من ملابس النوم وكان يحثنى على الأستحمام قبل النوم ولبسها وعدم الخروج بملابس النوم من الغرفة .. كان الله فى عونه أخذ عهدا على نفسه أن يكون الأبوين معا .. لم يرفض لى طلبا .. وكان واضحا معي رحب الصدر وغفر لي كل زلاتي فعلا هو أب حان وعطوف بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان جليلة ..
وعندما رسبت في الثانوية العامة بعد الملحق التكميلي وإعادة سنة بعده والإنتساب وكل هذا لم يجعلني أتحصل علي الشهادة الثانوية، فقررت الإنسحاب من مقاعد الدراسة نهائيا، لكن ذلك أقلقه وراح يبذل جهوده لإيجاد مجال يلائمني فهو محب للعلم والمتعلمين لكنه آنذاك كان هناك ضغط علي معاهد المعلمات ولايوجد فرع يستقبل متقدمات للمعاهد المتوسطة أي مايعادل ثالثة معهد سوي قسمي الفيزياء والرياضيات وأنا لن أستوعب الرياضيات والهندسة ولو حشروا دماغي داخل مثلث فيتاغورس العمر كله وبعد بحث وجهود مضنية تمكن من تسجيلي بمعهد المعلمات قسم لغة عربية .. أذكر أني تضايقت وبكيت .. صرخت ولطمت .. كيف لي أن أصبح
معلمة وأنا لا أطيق مهنة التدريس خلافا لأختي حنان التي كانت تلطخ دائما باب غرفتها غبرة الطباشير وكانت إذا ماهربوا عنها إخوتنا الصغار لشدة عنفها في استعمال العصي فتستبدلهم بكراسي تحاكيهم تعلمهم وتصرخ فيهم .. تشرح .. تسأل وتجيب وتفتش عن الواجب وأذا ما تخلف أحد عن أدائه بخيالها فأنها تعاقبه، تركل الكرسي الذي تراه تلميذا وتضربه بالعصا حتى تكاد تكسره ثم تطرده خارج الغرفة ولن يدخل إلا بعد أن يجلب ولي أمره معه وولي امره هو كرسي أكبر منه ادفع به أنا حتى باب غرفتها ويتعهد لها بواسطة لساني أن يكتب ابنه المرة القادمة الواجب ويحفظ كل جدول الضرب .
رأسي يكاد ينفجر والطبيب العراقي يطالبني بمواصلة الحكي كي يصرف لي وصفة الدواء النفسي:
- باهي تذكري الذي صار بذيتش الليلة عقب ماجت عروس أبوتش الله يسلمه حاولي تذكرين ..أرتاحي واحكي وأنت مغمضة عيونش ..أن زين .. يله و إلا تعبتي أستريحي نشمل بالجلسة الجاية ..
طرحت لهم أمي فراش سريرها بغرفة الجلوس وغطته بشرشف أبيض وكسته بلحاف مزركش ووضعت لهما وسادتين نظيفتين وغطاء قطني ناعم .. بخرت الغرفة وخرجت وأبي لا يدري أين يضع فرحته .. لكن " العروس الدرسية " تصرفت بلطافة مع والدتي مكسورة الخاطر ضحكت لها غامزة بطرف عينها الخضراء تلاعب خصلة شعرها الأشقر بجرأة نساءالشرق المعهودة .
- خلينا نتناصروا عليه الليلة .
نمت ولم أفطن إلا للعروس توقظني بكفيها المخضبتين بالحناء وقد جهزت سفرة الإفطار بالصالة وايقظت إخوتي الصغار وساعدتهم علي غسل وجوههم ومسحها مرددة
- من يوم وغادي كلنا نفطروا علي سفرة وحدة .
بصراحة كنّا ندّاعكوا علي التقعميزة في حضنها ونتعاركوا علي تلبية طلباتها البسيطة .. عمرها ما ظلمتنا وديمة تلتمس لشقاوتنا الأعذار التي تعرف بحذاقتها كيف تبرررها أمام أمي وأبي .. ومازاد من حبي لهذه المرأة التي أحتوت شقاوتنا كما لو كانت أم ثانية أحترامها الفائق وتقديرها لوالدتي ومراعاتها لشعورها في أدق التفاصيل مازلت ألاعب صغاري بلّعبة التي لاعبتنا بها صغارا أنا وأخوتي وهي أن تنبطح أرضا وكل مرة تحمل أثنين علي أن يضع كل واحد رجليه علي ظهرها فيكونان متقابلين ونمسك أيدينا ببعضنا في حين تقف ونردد قائلين " جمل عاشوراء " أمشي بينا " جمل عاشوراء ماتبرك " وتزحف بنا ونحن نقهقه محاولين المحافظة علي التوازان كي لا نسقط فمن يسقط يخرج من اللعبة والفائز يصعد مجددا مع مشارك آخر .. تدور بنا في وسط الحوش مترنّمة " قمح .. شعير " وأمي كثيرا ما أنزلتنا عن ظهرها مرددة ياوليّة نزليهم بالك عندك حاجة في بطنك راني بريّة من ذنبك قصدها " أنك حبلى "
- والله كانه ملصق بالوشق ماعنده عليش قاعد ياقسومة وكانه مقسوم مابيجي أعز من آمولة وخلودة "
صالحة مازارتش هلها نين خذت أمي وجدتي الفزّانية معاها .. مش كيف الهالكة اللي خطبتها أمي ومشت لأهلها أول زورة حتى قول ماقالت .. وماطقت شيء نين طالبت بحوش بروحها لكن صالحة الدّرسية حتي باب دارها ماتسكرش فيه علينا كان طلعت .. وأذكر عندما رفضت والدتي الذهاب معها للشرق لقضاء إجازة عند أهلها ورفضت أمي بحجة أنّ الأولاد سيربكونها ويسببون لأهلها الإزعاج تألمنا وبكينا كثيرا فأخذت زوجة أبي الطيبة ملابسنا ونظمتها في الحقيبة قائلة:
- والله مانمشي ولا تجيني نية نعدي من حذاكم والعويلة يتباكوا
- ياصلوحة امشي غيري جو وفضّي خاطرك بين مينتك وخواتك ..عارفتهم والله مايهنّوك بالذات أسامة .. خليهم يزيطوا عند خوالهم وهلك هم هلي ..
كم كانت زوجة أبي صالحة حنون ودافئة فلم تنهرنا يوما ولم تكد لأمي المكائد وشعرنا بالحزن لفراقها وكم تمنيت أن يرجعها أبي بعد وفاة والدتي وطلاق الهالكة .. لكنها رحلت لعالم الآخرة بسلام .. الله يسامحها وغفر الله لنا ولها ومحى كل ذنوبها إن كانت ثمة ذنوب تحملها!.
مع هواء السيارة المسرعة التي يقودها أبي أخذت نفسا متشربا بعطره الذي لم يغيره يوما .. البروت عطره المفضل .. عاد بى للسبعينات .. اذكر كم كنت انتظر زجاجة البروت الخضراء متى يتم عطرها لأضمها الواحدة تلو الأخرى للعبي بأحجامها المتعددة وتعجبني الميدالية الفضّية المتدلية من عنق الزجاجة وتوصيني قريناتي على زجاجات مثلها .
- باهى لما تفضى وحده أخرى جيبيها لي انا صاحبتك وأنا انجيبلك أقلام ومحّايات.. باتى ايجيبلنا فيهن واجد من المكتبة .
دائما جدى ينادينى بالحرّة يقول:
ـ"أنت صفرانية حرّة من الجهتين الأب والأم وعيّادية مقطرة مش مغشوشة "
ولهذا بيتنا بيت العيلة لأن أبى كبير إخوته وأمي حنون وحكيمة .. تحب جمع الشمل فهي ابنة شيخ القبيلة فجدنا سيدي مفتاح سواق الحجل .. تجتمع العائلة في بيتنا كل خميس وجمعة وطيلة المواسم وشهر رمضان وحوسة الأعراس في بيتنا والختان في بيتنا ومن يأتى من الشرق أو الغرب لتأدية عمل أو لمراجعة طبيب في المدينة فلن يجد بيتا مفتوحا أكثر من بيتنا .
أمى تحب الضيف وتمرض إذا قل توافد الضيوف، هي بمثابة الأم الكبيرة والصدر الكتوم الذى يستودعن فيه نساء العائلة كل أسرارهن وحتى شتائمهن ونقمتهن على أزواجهن وكل ما يسكب منهن في صدر أمي مدفون كما دفنت واندفن معها الحنان لغير رجعة ورثت عنها البشاشة وحسن استقبال الضيف عندما يأتينا ضيفا لا تكشر حتى وإن لا تملك ما تقدمه لضيف تبتسم وتقول:
"الضيف ايجى ورزقه ايجى امعاه المهم الواحد يطلق عبسته ويشد خبزته"
وتتفانى في خدمة الضيف من غسل للثياب وكيها وإعداد مائدة الطعام فكانوا يطلقون على بيتنا " حوش قسامي من اول ماتخشله اتصب الزيت وتلحسه " كناية عن نظافته وأيضا هناك من يقول حوش فرج تمشيله اتمنى ماتطلع منه يخدموك كبار وصغار زيك زى الأمير ..الصراحة فندق خمس نجوم ..فعندما يجتمعون يصيحون على آمال هاتى لعبك وأكثر لعبة يحبون استعارتها منى هي لعبة الصيّاد التي اشتراها لي أبي من عمّان الأردن وهى عبارة عن صندوق خشبي مثبّت عليه رحى بلاستيكية تدور كلما أشعلتها بعد شحن البطاريات ومن على جنبيه حوض يقابله حوض آخر عميق بعض الشيء ومعها شبكتين شبكة لكل فريق وعدد كبير من الأسماك والأخطبوطات وثعابين وقناديل وفئران وأسود وأفراس البحر البلاستيكية الموضوع بأسفلها قطعة حديدية صغيرة مستديرة ومثبت على كل حوض صنّارة تتدلى من خيطها "السباولو" المتين قطعة "كالميته "أي مغنطيس .. وتظل الرحى تدور بعد أن وضعت بها كمية الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى ..الرحى تدور وعلى المتسابقين أن يلتقطوا الأسماك الموجودة إلى أن تصبح الرحى فارغة نطفئ الرحى ويبدأ كل متبار بإخراج الأسماك التي علقت بشباكه والفوز لمن اصطاد العدد الأكبر.. ألعابي التي لست نادمة أنى منحتها لإخوتي الذين عبثوا بها وحطّموها، عبثوا بقطاري الكبير الذي جلبه لي أبي من بريطانيا أحببته كثيرا وحافظت عليه كثيرا كنت امسح سككه البلاستكية المتعرجة سوداء اللون وأضعها في حقيبة كبيرة قد أهداها لي عمى حسن رحمة الله عليه الملقب منذ صغره بالسمسار لنبوغه في التجارة وأما القطارات فأضعها في صندوق خشبي صغير كان قد أهداه لي العسكري جارنا عمى الزين زوج عمتي ناجية جارتنا أتخيل القطار الآن بعد أن كبرت أبنتي مهجة ولو أنه وقع بين يديها لفككته قطعة قطعة هي الأخرى مثلما فعل أخوالها ..عمى سعد كثيرا ما شاطرني اللعب يحبني كثيرا ويدللني في غياب عمى حسن لأن في وجوده يستبقيني معه بين السفرية والأخرى ولا يسمح أن يجلبني إلى بيت العيلة وتركه:
- هذى بنتى ..هذى امولة الغالية مسميها أمل حياتي
وإذا ما أتى أبى ليرجع بى إلي البيت فإنه يحتج دامعا:
- عشان أنا معنديش عيال تدلعوا على، الله غالب يا سيدي
- عيب ياراجل أمها اشتاحشتها وصويحباتها فى الشارع ينشدن عليها نحن ما جبنش سيرة الضنو بكل ياحسونة وبعدين معندكش عيال شنوا المشكلة .. هذا ربى وهذى حكمته .. وبينى وبينك هكي خيرلك، أنك حايس فيها سفر ماشاء الله ماتقعدش بكل مرة فى المانيا .. بريطانيا .. تركيا .. سويسرا .. خلينا من مصر وسوريا وتونس والمغرب اللى عندك فيهن شقق .
- وكان تعطيها لى نسجلها فى كتيب العائلة معاي حتى اللى يبيها يخطبها منى نا ونشرط عليه يسكّنها فوق منى ما يبعدش بيها .
واذكر بعد خطبتى ذاك الاحتفال العائلي الكبير الذي أقامه لي في مزرعته وجذبني على ركن ..
- تعرفى انا ذابح ها الكبش على شانك مش عشان انخطبتى .. لا .. عشان عرفتى تختارى.. تعرفى الأصفر راجل طيب وبحبوح و رازن ومثقف واجد .. بوك عاجبه واجد قال أول مرة نعطى بنت فى خمس دقائق .
واذكر كيف مازحنى هامسا:
- ها يا عمى استرينا مع الراجل وبيضى وجهى
- عيّادية بنت عيّادية نعجبك
- والله يا عمى الأصفر ما نقصني حاجة حتى الأشياء الخاصة التي من المفروض أن اشتريها لوحدى اشتراها لي .. قالولى تطلعى معاه في سيارته ياعفريتة ويقعد معاك فى المربوعة
- انت عارف باتى كويس
- لا..لا.. فرج خوى وعارفة كويس مايسمحش بانحلال والله كانه مش رزين وعاقل ما يخليك تخطي معاه خطوة .. عموما محظوظ اللى طاح فيك
- وانا امى داعيتلى اللى ربى جمعنى بيه .. هذا اللى من زمان اندور فيه
- تعرف ياعمي نحب علي يده ونمسحله في عرقه بحب قدام الناس كلها! .
- بصراحة ها الصفورى يستاهل .. صبرتى ونلتى
- امالا تبينى انصيم ونفطر على بصلة!!
- يابلعوطة خذيتينى في الدوة وما قلتيش لعمك شنوا الهدية اللي تبيها ..أنا عارفك الفلوس ما تحبيهنش من صغرك .
- مش مشكلة يا عمي انت كلك ذوق أي شيء منك جميل .
مر علي أبي في غياب عمي واخذني معه إلى السوق للتبضع .. قبل ان ندخل ميدان الفندق البلدي لنوقف السيارة بموقف السيارات العام .. أوقفنا شرطي المرور وسلّم والدي ورقة مخالفة بمبلغ عشرين دينار " السيارة غير مكلودة " ضحك أبي
- "ثمن زجاجة البروت طار" .
كنت ومازلت مهووسة بأنواع الصوابين والشامبوهات والمعطرات جو وحمام وأرضى وكنت أحضر الديتول ومطهر أرضى برائحة الزهر أسمه زهور ومازلت أذكر زجاجته الشبيهة بقنينة ماء الغريب وعليها زهور حمراء وصفراء موضوعة داخل صندوق ورقى صغير والفيم منظف الأحواض ومنظف موقد الغاز لا اذكر اسمه الآن لكنه المانى الصنع بقنينة صغيرة مضغوطة مرسوم عليها نسر أزرق وليفة المنيوم ناعمة موضوعة كل عشر قطع فى كيس وكل قطعة على حدة مغمورة بالصابون ما إن تضعها امى تحت الماء قليلا حتى تظهر منها رغوة الصابون التي تحبها ابنتى مهجة وتضحك كثيرا لتطاير الفقاعات فى الهواء .. وملمع الفضّة الشبيه فعله بالليمون الذى يصنع طبقة عازلة تمنع تأكسد المعدن مع النيتروجين كما رأيت ناجية زوجة العسكرى بوزين وهى تلمع له نسر الطاقية بعد أن تغسلها وتنشرها بتلبيسها لقعر كسكاس لتجف دون ان تنكمش وتكويها بنفس الوضعية وتلمع حذاءه العسكرى (العارضات) بمسحه بخرقة وتزيل من على حواشي نعله السفلي الغبار والتراب أو الطين العالق به بفرشاة حرشة ومن ثم تغمس الفرشاة الناعمة قليلا فى علبة البويّه السوداء وتبدأ بدعكه إلى أن يتشبّع بالبويّة ومن ثم تدعه ليجف قليلا ويتشّرب الجلد البويّه .. وتحضر كتّانة بيضاء أوقطعة قطن وتدعكه حتى يجف ويلمع وبعدها تمسحه بشاشة مع قطرة زيت وتدعكه جيدا الى أن يلمع فعندما شاهدتها ذات مرة تفعل ذلك .. قلت لها:
- من بكري وأنت تلمعى ساد
- لازم اتشوفى فيه وجهك
فلم أنسى تحوّل الحذاء بحسن تلميعه إلى مرآة حتى فى كبرى وخاصة عندما سمعت النكتة التى تقول:
سائق مكلف بتوصيل زوجة مرؤوسيه ..فليس من حقه أن يتكلم معها لكنه فى كل يوم يذكر لونا ..أحمر وفى اليوم الثانى أصفر .. فقررت السيدة أن لا ترتدي السليب فعندما انعكس فرجها على حذاءه الملمع صرخ
- حى كندرتى انشرطت أي (تمزق حذائى)
وكان أبى دائم الشجار مع أمى بخصوص هذه النقطة
- يافرج ماينفعش هكى .. عوّد عيالك على الشدة والرخا
- خليهم ايدقوا.. على من نجرى ونتعب
فكان حتى فى العيد يقلّنى وحدى لشراء كسوة العيد وخاصة فى عيد الفطر قبل العيد بعشرة أيام لأنه لا يطيق زحمة السوق .. فكنت اذا ما اعجبتنى بدلة وسألت عن سعرها يحتج بعينيه
- خوذى اللى يعجبك وحطيّه على بنك المحاسبة وسعره مش شورك
ولهذا كما قلت لا أجيد المماكسة حتى عندما كبرت .. أدفع مباشرة وحتى عندما اسأل عن أسعار المشتريات أشعر بالخجل .. وأذكر موقفا كان قد أحضر فيه أبى صندوق من الموز فاقترحت أمى علينا تأجيله بعد الغداء فسيحدّ من شهيتنا فشرع خالد فى الصراخ،
فخرج ابى من دورة المياه غاضبا وسكب صندوق الموز كله على الفرشة العجمية في وسط الصالة وصرخ:
- كول نين تعرفه موز وسكر ها الجعورة
هذا اللى خرّب العيال وفسّد طبعهم ..وبعدين قول العيال مدلعين ومش قادر انسيطر عليهم ..ارقن هذه الكلمات وظهرى ورقبتى تؤلمانى فجبير يشفط الكالسيوم من عمق العمق ..أرقن والقم ثدى لجبير واتتبع شقاوة مهجة وطلباتها التى لا تنتهى فلقد دخل زوجى الآن مبتسما
- اهلا بفرجينيا وولف العيّادي .
وقرأ بعضا مما نقرته .
- ماشاءلله انت تجاوزتى السبعين ورقة وأنا مازلت فى العشرين .. تعرفى كان تعطينى اللى كتبتيه اندير بيه جو غير عادى .. أنا لا أستطيع أن أغوص فى التفاصيل الدقيقة مثلك فانت طبيعتك الإجتماعية مكنتك من ذلك ويسّرت لك السبل أما عن تركيبتى النفسية فأميل الى الانطوائية وعدم مخالطة الناس حتى لا أفهمهم ولا أسمعهم .
- ولكنك ياحبيبى تغوص فى الكلمة وتعرف كيف تسبر أغوارها ..
فى كل صباح من صباحات أيام الجمع .. يستيقظ أبى باكرا يغسل ويتناول إفطاره الذي جهّزته أمي فهو يحب العصيدة بزيت الزيتون ورب التمر المربوب في تاورغاء .. نذهب معا لجلب الخبز وبعض الخضروات، أحمل مقطف السعف الذي بعثته لنا جدتي من فزّان ويحمل أبى في يده كيس كتّان أبيض متوسط الحجم قد غسلته أمي و أخاطت له أذنين بعد أن أفرغت منه الطحين بمازورة ألمنيوم كبيرة فحتى جوالات الأرز والسكّر واللوز المصنوعة من الخيش أو الخيوط البلاستيكية أمي لا ترميها تصنع من خيشها وخيوطها لوحات تزين بها حائط غرفتنا فهي ماهرة في التطريز وشغل التريكو والكاتفا، مازلت أحتفظ حتى الآن بشال وجورب من صنع يديها الماهرتين .. دائمة الشغل في ليالي الشتاء الباردة أمام مدفأة الكيروسين وفى مساءات الصيف الطويلة حتى عندما نذهب إلى البحر .. حقيبتها الجلدية التي تحوى كبب السلك الملونة وإبرتي التريكو لا تفارقها .. أت ي ذكر أصابعها السمراء الرقيقة .. تتحدث و تشتغل فهي تجيد شغلها حتى في الظلام .. أخذنا شقيقاتي عن أمي حرفتها بينما أنا عجزت عن تعلمي الصنعة وكانت دائما تردد لى هذا المثل " حرفة فى اليدين ولامال الجدّين " ولكنى لا أملك الرغبة الكاملة ولاسعة الصدر لإنجاز عمل يدوي قد يستغرق عدة أسابيع تمتد لأشهر طويلة .
لا أنكر أن إجادة مثل هذه الحرفة لربة البيت تبرز لمسة جمالية وتضفى على البيت جوا بهيجا دافئا يشعرك بالراحة والأمان والخصوصية لكن يظل الاستعداد لقبول التعلم شيئا مهما لا غنى عنه ..
يصطحبني أبى بسيارته الفولفا المتهالكة وطيلة الطريق يسألني عن أسبوعي الدراسي الفائت وكيف قضيته فهو لا يهتم بتحصيلي العلمي فقط وإنما دائم الاهتمام بى وبالسؤال عن علاقاتي بالزملاء والزميلات والمعلمين والمعلمات ومدى مشاركاتي في الأنشطة المدرسية وما الأشياء التي تضايقني وآخركتاب قرأته .. ويتابع أخباري السارّة ويشاركنى فرحى .. ويعزز ثقته في حيال دوري التربوي مع إخوتي الصغار .
- (الدنيا زحمة في فندق الخضرة خليك احذايا سلم بنتي راك تريحي) .
السوق كبيرة وغاصّة بالباعة ومحلات البقالة وشاحنات تقف في المكان المخصص لها بانتظار عقد صفقة لإفراغ حمولتها وعادة هذه الشاحنات تأتى من المنطقة الغربية محملة بمنتجات زراعية (كالبطاطا والبصل والبرتقال والكمّون والجزر والكاكاوية و في الصيف البطيخ (الدلاع) والشمّام .. كلها خضروات طازجة وبأسعار متاحة للجميع تختلف عن أسعار المحلات التي خارج الفندق .. والروائح في الفندق تتسابق في الدخول إلى الأنوف، النعناع الفائح المعطش ذو الورقة اليانعة قاتم الاخضرار تعرف فورا أنه جلب من سواني قمينس .. و الحبق والعطر و البردقوش والتوت والمشمش من درنة أما الخوخ الشبيه بالخوخ التركى فمن المرج .. والطماطم المستدير كبير الحجم ذو الطعم الحلو الناضج شديد الحمرة فستعرف حتما دون مناداة أنه " طماطم جالو " وإذا ما سمعت صياحا بصوت رقيق يكاد يثقب طبلة أذنك (المنجا عويسى .. التفاح الأحمر ..الأصفر .. محلاك يا موز .. لزيز يا برتقان .. طعمة يافراولة أخضر ياخيار .. أحمر يا طماطم .. زهر يا ليمون .. كرنبيت يامفتّح .. ملوكي ياملوخيا .. بانية ياباميا .. أوة ياقرقير .. قرّب وأشترى .. يلاّ ياعم .. يا شيخ .. يا باشا .. يافندي .. وإذا ما اقتربت منه أو حتى سرت من أمامه فأنه يحمل ثمرة و يراقصها أمامك ليلفت انتباهك .. فأعلم أنه بائع مصري .. الليبيون يخجلون من المناداة بهذه الطريقة الملحاحة، فشعارهم .. (الأرزاق على الله .. وقسمك يجيك.. وأجلك تمشيله) بضاعتهم معروضة ولا يحبّون التدليل بها وأن كانت بضاعة المصري تنفد سريعا .. أتفضّل يابيه .. طلاباتك يافندى .. لكنه لابد وأن ينال ثمن هذا التدليل بطريقته المعروفة! وهي قليل من الغش وكثير من البقشيش أو العكس .
- أمك تبي أدير براك نأخذولها كسبر ومعدنوس وشبت وبصل خضر وسلق وكرنب ..
تمر العديد من زيارات التسوّق من الفندق البلدي فمن الصيف ها نحن في الخريف .
- كيف حالكم انستوا .. امتى جيتوا من زليطن
- هذى الوصلة والله
أنقلب الغداء الى بازين على لحم قعود مع فلفل أخضر وليمون حسب رغبة الضيوف وطاسة شاهى خضرة بالنعناع!.
في المساء واصل الضيوف رحلتهم لإفراغ حمولتهم من المواشي إلى طبرق وفي أثناء عودتهم عرّجوا علينا محمّلين ببطيخ أصفر بعلي لذيذ اسمه الماصو، أهدونا منه عدة بطيخات مازالت حلاوة سكّرها عالقة في فمي حتى الآن، وصلوا إلينا بعد يومين من مغادرتهم، استحمّوا وتعشّوا وخرّفوا وشربوا الشاي بالنعناع وعند الفجر توكلوا على الله وغادروا .
لقد اشترى أبي من الفندق خمسة شكوك من النعناع، كانت كلما و ضعتها أمي فوق السطح جهة الظل غيرتها إلى مكان تسطع عليه الشمس وماكنت أعلم أن الظل يجفف هو الآخر ويجعل النعناع محتفظا باخضراره ورائحته الزكية أكثر وعندما جفت تماما قلمت الأعواد مع وريقاتها ووضعتها بسكريّة العدالة لتصير جاهزة للشاي وسلتت باقي الوريقات وسحقتها بين يديها واحتفظت بها داخل برطمان فخاري في مكان جاف داخل الدولاب كلما أعددت الشربة العربيّة أو العصبان والمحشي والبراك والحساء أو البيض مع المفروم ما ندعوه كيما .. تستخدمه، تنثر قليلا على الشربة فتضمحل روائح القرفة والحرارات ولحم الجدي والكسبر والمعدنوس والفلفل الأكحل وتظل رائحة نعناع قمينس هي الفائحة الطاغية .
- زيدنا شك نعنعاع نيبسوه، شهر رمضان قرّب يا فروجة
غيرت لي باز التغذية ووضعت كيس الدم الذي تبرّع به زوجي فعندما زال أثر الحقنة وأشتد الوجع بادرت بإعطائي حقنة باسكوبان بوريدي الذي لم يظنّها عناء البحث عنه أو خبط يدي أونفضها بأصبعيها كما لو كانت ستنثر شيئا قد علق بين أصبعيها .. يا له من دم يجري في أوردتي يعيد ما تقطع من حكاياتي الماضية، كانت دموعه تهطل والصامتة تكفكفها بأوراق مذكراتها وترميها في سلة بركن الزاوية .. ورقة تسقط في السلة وأخرى تسقط بجانبها فتبعدها رياح المروحة إلى وسط الغرفة تحضرها باز لي سريعا وتنظر من النافذة على باب المستشفى .. زوجك جاء .. يصل كيس كبير إلى باز تفتحه سريعا .. زوجك أحضر لنا زجاجة عصير عنب راوخ ودجاجة محمرة وتفاح وموز .. لكن انت امال مازال بنج.. مازال مافيش منجريّا .. باز تمسح جبهتي بمنديل معطر وتسحب مقياس الحرارة من تحت إبطي عاجزة عن الرد عليها فعقلي يواصل حكاياته ويدي أتخيلها تخربش على أكوام كبيرة من الورق إلى جانبي، الصامتة ومصطفى والمذكرات أصابني بالعدوة .. في بيتي الخمر حاضر أيضا .. ليلة من كل سنة أو سنة ونصف يعود زوجي مخمورا حتى الثمالة بنطاله ينصل عن خصره وقميصه منصرم .. حذائه داس عليه ليبدو" كبلغة تقليدية " .. نقوده بعثرها على ندمائه ..أوراقه وقصاصاته محفوظة كما هى والمفتاح لا يخطئ خرم الباب حتى وهو يترنح .. فواقه يسمع من عدة أمتار .. أول شئ يفعله بعد تفريغ مثانته مناداتى بصوت عال .. مرددا أجلسى قبالتى على المغطس .. دعينى أتأملك ويهتف صارخا " بحبك .. بحبك " وأحب أباك الذى وافق دون مماطلة على زواجنا وأمك المرحومة التى أنجبت لى هذه الحلاوة وجدّتك الفزّانية التى ورثتك هذا السمار الفاتن والشعر الأجعد الذى أحب أن أدس أناملى بين خصلاته الكثّة .. وأحب كل من تمت له صلة بأهلك .. بعد أن يشيح قميصه عن قبضة فمه .. يتجشأ ويحاول أن يتقيأ دون فائدة .. يعدّل جلسته على المرحاض ويعود للتحدث من جديد " حتى عندما أسكر يانعناعتى لا تأتى الأفكار والقصائد إلأ عنك ويسعدنى ذلك .. أنت سحرتينى بجمالك الداخلى " وتسعين بالمائة تزوجتك على صدقك " .. ويهذي ولكنه كلاما شعريا أتمنى ألا يداهمه النوم كى يواصل تغزّله بى وبكائه على صدرى نادما على سنين عمره التى أضاعها فى البحث عنى .. وكيف كنا نذرع شارع جمال عبد الناصر وعبدالمنعم رياض وعمر المختار وعمرو بن العاص ولم نلتق يوما .. أسلب بنطاله وقميصه وأبقى فقط على تبانه المناصف لساقيه المشعرتين .. يفتح ذراعيه المفتولتين ويطلب معانقتى مشافهة .. أفعل بسرعة حرصا ألا يقع ويوقعنى معه أرضا كما فعل ذات مرة .. أوأنّبه على فعلته لكنه يفحمنى .. لم أخنك قط يارمش العين لا فى الخيال ولا في الواقع .. تركت الشلّة فى الوقت المناسب .. سيكملون سهرتهم فى مزرعة صديق مع بنات الهوى .. حاولوا معى كثيرا لكنى أعتذرت وقفلت عائدا اليك .. حتى عندما حاولوا إغوائى بعاهرات أوروبيات وما يستطعن فعله من ألاعيب جنسية لذيذة .. أخبرتهم بأن حبيبتي هي كل قارات العالم و تنتظرنى الآن فى البيت .. هددته إن عاد إلى فعلته سأترك له البيت وأذهب إلى بيت أبى ..فلبس فستانى الفضفاض مازحا وراقصنى مترنحا وعندما أرتديت جلبابى غاضبة ورادعة لفعله كي لا يتكرر وهممت بالخروج .. نظر الى بعينين ناعستين ورجانى متوسلا .
- أنهون عليك أتشيلينى سكران لبوك .. وبعدين حتى باتك يسكر يارمش العين ..
- بلاش تلقيح كلام ..ودوة ملهش طعمة.. اسمع ماتهددنيش بوى يسكر حر فى حياته .. لكننا لم نتفق على ذلك قبل الزواج .. ولم أخدعك .. نشرت غسيلى أمامك قبل أن تخطبنى ..
- تخيلى الموقف ماذا سيقول أبيك لو ذهبنا اليه فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ..
- يابنتى الراجل غلط فيك .. نقّص فى حقّك ..
ستجيبينه حتما بلا ..
- باهى توا أخزى الشيطان .. خلى الراجل يرقد فى المربوعة .. وخشى أرقدى مع اختك جوا .. والصباح رباح!
على ما سكرنا عمرها أمك ما عدّت حرجانة!! .
- ولكنى حرة في حياتى ولن أسمح لأى كان أن يحدد مصيرى حتى وإن كان أبى .. أتفهم .. وإلا سأسكر مثلى مثلك ولنرى أتحتمل ذلك أم لا .
وفعلا عندما تصالحنا جلب من سوق الحشيش قرّّابا موضوعة فى كيس بلاستيكي أبيض معقود أعلاه بإحكام ملفوف بكيس أسود وجلب معه كورة جبنة فونك إيدام "الصلصال .. " وزبادى .. وزيتون أسود .. وبعض علب المشروبات الغازية " بيرا .. بيبسى .. بيتر سوداء .." وضع الأكياس فوق طاولة المطبخ ومد يده بداخل الكيس ليخرج كيس القرّابا ويناوله لى مبتسما يراقص حاجبيه ستنادمينى هذه الليلة ورّينى شطارتك ياوزّة وطلب مني تجهيز المزّة .. أقتسمت كرة الجبنة الحمراء مع والدته التي نسكن معها في شقة فوق بيتها .. ثم صعدت لشقتى وأول شيء فعلته هو ثقب كيس القرابا وجعلته يمطر فى عين المرحاض! .
تشاجر معي وقال لو أننا أعطيناه لابن عمك الأديب الفيتوري لكتب ديوان شعر يطيح بأزهار شر بودلير، بعدها هدأ، وتعشى شرمولة بالتن ونام حزينا على ما اعتقد، ونمت حزينة مثله، والمرحاض أكيد ضاجع البانيو الواسع و نام سعيدا بعد لتر القرابا الذي سكب فيه، وباز جاءت قاست حرارتي مجددا وحقنتني بمهدأ، والصامتة مازالت تحكي لمصطفى وأنا أحكي بأصابعي الناقرة للأزرار الكمبيوترية، واختلط في ذاكرتي الحابل بالنابل، أشعر بصداع، إنها الأحلام والوساوس تهاجمني الآن، ذراعي تحت رأسه، وقلبي يصيح، لقد سئمت زيف العالم بما فيه، وحلت ساعة لعنتى، لن أذهب لاطباء نفسانيين، لن اتعاطى حقن الفاليوم وشراب التربتيزول وأقراص الأرتان كلها تجعلنى مخدرة ومهلوسة، لن أخضع للجلسات الكهربائية مجددا، فلقد شوهت ذاكرتى وجعلتها مشوشة، تحمّلت مافيه الكفاية سأهرب من المصحة .. لقد ذقت ذرعا بتحاليل الباحثة الاجتماعية .. وبوصفها لى على أنى حالة ونست أنى إنسان مثلها والفرق إنى سبقنها فى تجرّع نسبة المرار التى قد تكون تنتظرها هى الأخرى .. لست وحدي حالة .. من منكم لا يشعر بقلق يعتريه ..أو رغبة فى الصراخ ..أو تحطيم كل ما يأتى أمامه ..أو تراوده رغبة بعدم الكلام .. قد لا يطيق حتى مشط شعره أو الاستحمام .. ألا يزعجكم الضوء أغلب الأحيان .. والصخب .. ألا تملون الروتين حتى وإن كان عملا ..ألا تشعرون بفتور فى أداء الشعائر الدينية ..وممارسة الحب .. بل وحتى الاستماع الى الموسيقى أحيانا ..ألا تشعرون بضيق وهكذا فجأة ودون سابق إنذار وهو مايدعونه تغير المزاج ..ألا تشعرون بالعدوانية حيال من هضموا حقوقكم .. أو بالرغبة فى البكاء المتواصل .. أو فى السير الى مالا نهاية ..وعدم التزحزح من علي شاطيء البحر؟؟، من لا يرغب فى التوقف عن مواصلة المشاركة في المناسبات الاجتماعية؟ .. وهذا النفاق الإجتماعى الذى أصبح مرض العصر .. من منكم لا يشعر يوما بجلد الذات؟ .. من منكم لا يبكى ويضحك فى ذات الآن؟ .. من منا لا يتكلم مع نفسه؟ .. من منا لا يتخيل كل ما يريد؟ .. ومثلما يريد .. دونما اكتراث للواقع وحقائقه التى قد تكون غير مرضية .. من منا لا يعيش في حالات متنوعة تحتاج إلى علاج أو تأمل؟ .. كل شعور أو فعل أو حلم هو حالة .. كل هذه الأشياء حالة: القلق ..الغضب .. التوتر.. الأرق ..الصمت .. اليائس .. رصد حركات الغير .. المجاملة .. الكتمان .. التكتّم .. التفريغ .. الوشاية.. الإفشاء .. كثرة النوم .. هوس النظافة .. كثرة الضحك .. حب الظهور .. كرهه .. الشح .. الاسراف .. الشبق .. البرود .. الغموض .. الوضوح .. الاشفاق .. اللامبالاة .. حب التسوّق ..الهرب منه .. حب الدوار.. رؤية الدم .. الاغماء .. تعاطى العقاقير ..الاضراب عن تعاطيها .. الصدق .. الكذب .. الخوف .. المبالغة فى التعطر .. انعدامه .. المبالغة فى التأنق .. الانفة .. انعدامها .. الجدّية .. الأستهتار .. الفضول .. عدم التدخل .. حب التجديد .. التمسك بالقديم .. العبث .. الالتزام .. التدّين .. التزمّت.. التصوّف .. الزهد .. التغنج .. الجفاف .. الارتواء.. الظمأ .. الوحدة .. الاجتماعية .. الحب .. الحلم .. الاحتلام .. الاستمناء .. الفراغ .. الفتّنة .. الرومانتيكية .. النيرفانا .. الطوباوية .. الفانتّازية ..النمطيّة ..الهارمونية .. الجرأة .. التمرد علي السطور .. أختراق سماء التابوهات .. التعري .. الأيروسيّة .. المازوخيّة .. الفيتشزم .. الساديّة .. المثلية .. الهيبو .. البوهيمية .. التياتروات .. الواقعية .. الانخراط .. العزلة .. الألم .. اللذة .. اللا نشوى .. السفر الدائم .. الاستقرار .. حب المستورد .. الغرور .. الغدر .. الوفاء .. الادمان .. الثقة الفائقة بالذات وباللآخرين .. الفاقة .. اليسر ..النهم .. النباتية .. النحافة .. البدانة .. العناد .. الطاعة العمياء ..النفاق .. التهكّم .. الاقتناء .. اللباقة .. المحافظة على النظام .. حب الفوضى .. قساوة الزوج أو أحد الوالدين .. الزوج الطيب .. الاكثار فى الذرية .. تقليصها .. التوحيد .. الالحاد.. الحرب .. الهدنة ..التشدّد .. التسيب .. الصداع .. السكر .. التعاطى .. الغيرة ..التمرد .. التحريض .. الاستعباد .. الانعتاق .. الاعتناق .. الكآبة .. قضم الاظافر .. فركها .. اللطم .. شق الثياب .. التحطيم .. الضرب .. الصبر .. الإيثار .. العض .. المسح على الشعر فى غير وضوء .. الطرق بالسبابة .. الاشارة بها .. الخبط على الجبين .. مرجحة الرجلين .. أو هزهزة احداهما .. هزهزة ابهام الرجل .. هزهزة الذيل .. تنكيس الرأس .. وضع المشط فيه .. فرك الرأس .. القبض على الأشياء .. البحث عنها فى ذات الآن .. التشتت الذهنى .. عدم إتمام الأشياء .. المداومة على حمل الحقيبة .. تدوير المفتاح بين الأصابع .. البصق ..التلصص ..الغمز ..التجاهل ..المجاملة ..المدح ..الذم ..الرفض .. القبول .. ردة الفعل .. الإعجاب .. الانبهار .. الذهول .. التخيّل .. الطفولة .. المراهقة .. الكهولة .. الزهايمر .. الهبوط .. الصعود .. الفقدان .. التيه .. الضياع ..الحرمان .. الدلال .. القيادة .. الانقياد .. التسول .. فقدان الشهية .. الافراط .. التفريط .. الخسة والاختلاس .. الانفصال .. الالتحام .. البعث .. الوجود .. العدم .. السأم .. الشرود .. الأفول .. العزوف .. الرغبة .. التحول .. التفاجئ .. التمكين .. التنازل .. الحصار .. الانهيار .. الانبهار .... الايثار .. السرد .. الشعر .. النثر .. الكتابة .. التأفف .. فرقعة الأصابع .. صرير الاسنان .. التثاءب .. الضغط على الشفاه .. عضعضتهما حالة .. تفتيش الحقائب .. تفتيش الجيوب .. نشلها .. الرضاعة .. الفطام .. الاضطراب .. التوازن .. الختان .. الطمث .. فض البكارة .. الولادة .. التخدير .. إجراء العملية .. صرخة المولود .. الهذيان .. القىء .. ازالة القسطرة .. نزع الضمادة .. فك الغرز .. التلوث .. الغياب .. التأخير .. الصراع ..التدخين ..الحرث .. الحصاد .. البذر .. الجني .. الاسلام .. الكفر .. التذمر.. فرك الأذن .. الاعتدال .. الوسط .. منطقة بين البينين .. الصعوبة .. المشقّة .. إقامة وزن للغير .. تهميشهم .. طز لا يساوون شىء .. كل فعل .. كل اسم حالة .. كل حرف حالة .. كل موت حالة .. كل حياة حالة .. كل ورقة حالة .. كل لغة حالة .. كل لغز حالة.. كل كلمة حالة .. وكان مش الحالة اللي أنا فيها راه ماكتبتش هذا النص .. الثرثرة أيضا حالة .. لكنها حالة دمها خفيف .
موضوع مألوف تناولته الكثير من الكتابات وعاشه ميدانيا الكثير من القراء لكن تجربتي في هذا المألوف تطل الآن كحالة لا تريدني أن اتجاوزها او أحذفها من نزفي هذا فذات حالة اصطحبتني أمي لفرح قريبة فى اجدابيا وكان عمرى آنذاك سبع سنوات واليوم أربعين عام ولم يُمسح ذاك المشهد الفظيع من ذاكرتى حتى أنه استيقظ من غفوة اللا وعى ليلة زفافى وجعلنى أبدو كطفلة صغيرة كنتها في الزمن الماضي حيث حضرت عرس وشفت العريس وهو يُنزل عروسته من الدور الثالث الى الدور الأول ولا يسمح بمرور أحد سوى أخت العروس أو عمتها أو خالتها وجدّتها كانهي صاحّة .. المهم امرأتان لا أدرى كيف تسلّلت معهما رغم تشديد الحراسة والعقاب الذى ينتظرنى إلا أنى أنفلت لأدخل الى هذا المحظور .. الذى يربك الحضور ويتغير فيه إيقاع الطبل الى صاخب وسريع ومرتبك كمن ينتظر نتيجة عسيرة .. العرق يتصبب من أهل العروسة وتلاحظ الارتباك باديا على أهل العروس الذين يكثرون من التغنى بهذه الأغانى بعد مغادرة العروس الى دار عريسها ..
- اجعل ليلتها ضاوية كيف طريق الزاوية ..
- اجعل ليلتها ضي في ضي وما يشمّت فيها حي ..
هذا فى الطابق الثالث على السطح قبل أن تنتشر القاعات المؤجرة للمناسبات فاليوم حتي أسبوع المولود واستقبال ضيوف حفلات التخرّج والحج صارت المشاركة الوجدانية تحتكرها الصالات بمواعيد منظّمة لا يتجاوزها حتي الجار المجاور الذي كان يشارك في كل شيء .. يتعالي رتم الأغاني فوق السطح .
- ياراقد القبور تهنا .. راهو عقبك صاير منه .
أما في الدور الأرضي حيث غرفة العروسين الأنوار مطفأة والعروس تعثرت فى ذيل فراشيتها حتى كادت تسقط على وجهها لولا أن تداركها العريس
- ياساتر ياقميرة قبل حوتهم رزونى فيك ..
العريس دخل ومجرد أن قفل الباب حتى تسمّر أخ العريس وابن عم العروسة قرب الباب وكل يحمل بندقيته الكلاشن كوف وكل قد سحب مجموعة الأقسام استعداد لإطلاق العيارات النارية .. خرجت من الغرفة حيث تجلس السيدتان اللتان على وجهيهما المتغضنين نعق البوم .. ما إن بنت للمحتشدين أمام الباب حتى صاح فى وجهى أحدهم ..
- تمنّوها .. تمنّوها .. شيلى الخروة غادى خليها تركب فوق .. وبعدين هذى شن نزلها هنا
- وين نندرى عليها انكان أرّكبها فوق إيقولوا غير انظر شن صاير لوطا خلّيها تقعد وخلاص عيّلة صغيرة شن تعرف .. وسع بالك ..
يطرق أخ العريس يده المكموشة بالأخرى
- غير كنا طوّل سى الهايك جوا
فيرد عليه ابن عمها
- قريب الواحد يدق عليه ويقوله عطينا المنديل واضبطّها براحتك .. طلع فصخة .. توا هذا وقته .. الليل طويل قدامه .. يحوس فيها كيف ما يبى ..
وتهمس تمنوها الأخت الكبرى للعريس فى أذن اخيها
- كنكم مستعجلين خلوهم براحتهم
- والناس اللى جايينك من عند الأبيار .. ومسّة .. امتى يبوا ايروحوا إن شاءلله!!
السيدتان اللتان جلستا في الغرفة أحضرت لهما الشابة " تمنّوها " كوبي عصير بارد فالطقس كان حارا ذاك اليوم .. لكن إحداهما رفضت و أشاحت بيدها إليك عنى الآن (والله ما خاطرى حتى فى العسل) والثانية رشفت رشفة سريعة على مضض.
- سامحينا يا خيتى عقولنا مشغولة على ها البنت اللى طولت .. قميرة راهى مازالت صغيرة ومن يومها ذلالة وكان شافت حد مجروح بسرعة مايغمى عليها .. مابالك!
فتح الباب وحدثت جلبة وخرج الذين كانوا يقفون على الباب ليطلقوا أعيرتهم النارية خارج البيت وازدحمت الغرفة الى إن اختفيت بين الأرجل وتصفيق الكفوف:
"نور وجهك نورتينا ما شمتى والى فينا "
"حل الباب على وسعيته وفروجه عنقر طاقيته "
وصلت بشق الأنفس إلى السرير حيث ترتمى العروس على وسادتها الوردية المطروزة بطاووس وانشغلت بتهجى ماكتب على الوسادتين من صباح الخير والأخرى مقلوبة فرفعتها لأرى ما كتب عليها فنهرتني عجوز بعكازها
- امشي يا بنية اظهرى من هنا لاحقة عليه هالخبر .
لكن توبيخها جعلني أركز لأرى مشهدا مروعا .. العروس تنزف والملاءة مليئة ببقع الدم الكبيرة التى أخذت فى التواصل والالتحام من شدة غزارة النزف .. صاحت العجوز .
- كلموا ها الثور الهايج الولية نزحت دم هذا موخبرش فتح!
وتقدمت أخت العروس تمسح رأسها وتحاول أن توقظها بشمّة كحول لتلبسها الجلباب فوق قميص النوم وتطلب من النساء الخروج سريعا فساندتها صديقتها أمد لله في ذلك
- هيا يا خواتى عطنها النفس و خلنها تستر روحها إن شاء لله ما يالاها سوْ
ليلة زفافى .. مازلت بالمزين .. فطرق الباب .. اعطتنى حسناء المزينة لحافا تلحفت به لأكلم حمادة زوجي من فتحة الباب المواربة .. إذ به يبتسم ويقدم لى تورتة صغيرة ..ومشروب .. وبعض الحلوى والفاكهة مع باقة ورد.. امنحي للمزينة التورتة هدية زفافنا .. وسأحمل تورتة أكبر منها لأهلك ولوح لى بيده وغادر .. ففتحت مساعدة المزينة فتيحة الطبق لتجد تورته قد كتب عليها بالكريم والشوكلا ..اطمئنوا مبروك علينا وعليكم .. فهم الجميع المغزى فى بيت أهلي وأعجبهم ذلك وزادوا من حبهم وتقديرهم لعريسي الذي كاد أن يتركني في بيت أهلي ليلة زفافي بعد أن خرج بي من صالة فيلتنا بحي شبنا مرورا بالجنان فشاهدت ابى يودعني بحياء من النافذة والدموع تنهمر من عينيه والأهل والجيران الذين احتشدوا خلفى باكين
- عدى مربوحة وزينة .. يلى عمرك ماوجعتينا
فعندما أقبلوا على إخوتى يعانقونى مودّعين لم احتمل الموقف وانهرت، اخى خالد انصرف بدموعه وأحمد أشاح بوجهه ليصعد باكيا إلى الطابق الثانى وتذكرت أخى اسامة الذى حرم من فرح أختي حنان واليوم من فرحي أيضا لشقاوته وتوقيفه لدى الشرطة و الذى دائما يقول:
- انشاء لله نتعب فى عرسك وربى مايحرمنى منّه فبكيت ففصل عريسي يده عنى بود وهدوء ليقابلنى ..
- بإمكانك ان تبيتى الليلة مع أهلك وسآتى غدا لحملك معى
فجحظت عيناي وشبكت يدي في يده
- ...... والله، توا نقولوله .
زفّتي كانت في سيارة واحدة يقودها عريسي ساعدنى حبيبى على رفع ذيل فستانى وأرخى كرسى السيارة للخلف ليؤمن لى جلسة مريحة ثم نزل ليعانق أبى ويقدّم له باقة زهور .. وبعدها ذهبنا الى مقبرة سيدى عبيد لم ندخل لكنا وقفنا قليلا بجانب سورها وترحمنا على روح أمى وأرواح جميع المؤمنين وقطع زوجي وعدا أمام المقبرة لروح أمى أن يصونني ويخلص لي لآخر العمر..وبعدها ذهبنا لمصوراتى دنيا في شارع عشرين لالتقاط صور تذكارية .. فوقفت أمام المرآة لأجد الدموع وقد هطلت انهارا على وجنتى مخربة مكياجي ..كنت سأقوم بإصلاحه رغم جهلي بأمور التزين ..إلا أن تعليق زوجي أراحني من فعل تلك المغامرة لقد قال لي: الدموع لا تفسد الجمال .. إنها لوحة رائعة .
وقفنا أمام الكاميرا .. المصور مصرى فاخذ يتحذلق
- عدل نفسك يابيه .. بصى في المراية يا عروسة وعدلي تاجك
فنظرت الى عينى حمادة .. عيونه مرآتي ورفضنا أن يلتقط لنا الصور التقليدية .. فالمنظر الأول لم نرض عنه وطلب منه حمادة أن يقف وينظر الينا ونحن نتحاور ثم يلتقط المشهد بعشوائية فالتقطنا وحمادة رافع سبابته فى وجهى .
- المهم خذيتك وماخذلتكش
والمنظر الآخر التقطنا ونحن نحطم زجاج الساعة الخشبية التى على هيئة مخطاف سفينة بمطرقة فضية .. كانت صورة جميلة ومميزة وفكرتها مجنونة .. ربما تعلن أننا قد حطمنا زمن الفراق إلى الأبد .
الفحم الصغير سريع الاشتعال المستعمل فى إشعال النيرجيلات بشكل منمق وفى علبة صفراء جميلة أشتراه لى زوجى هو والبخور من البائعات القابعات تحت أقواس الفندق البلدي ..
- انت حشيشتك البخور بخرى على هذا اسهلك ..اللى رافضة التبخير على المبخرة الكهربائية ..
- البخور سماحته على جميرات وفى كانون طفلة
المرور من أمام البائعات اللائى يفترشن الحصر الصغيرة وقطع الكرتون تحت أقواس الفندق البلدى ممتع وثري بالمشهديات اليومية الحية التي تجعل النفس مبتهجة، ترى الآراك المصنع على هيئة معجون الآتى من السعودية والآراك الطبيعى المشذب .. وطاولات تحاذيها تبيع العطور الرجالية والنسائية وأخرى تبيع المسك بأنواعه ..المسك الدرناوى الحب والمسحوق موضوع فى أكياس وعلب بلاستكية مستديرة وأسطوانية متنوعة الخلطات .. مسك وعمبر .. مسك وريحان .. مسك درناوى .. مسك وشبة .. والشبة التى كانت تصنعها أمى فى المنزل هى والكحل والبخور .. كانت تاخذ كتل الشبة الشبيه بالمياه المقطرة عندما تجمد بالفريزر بطريقة عشوائية .. يحضرها لها ابى من سوق الجريد فتطرح فوطة نظيفة على البساط وتحضر مطرقة صغيرة مسماة محليا نجامة أو قادومة ..وتطرق الكتل الكبيرة إلى أن تصبح كتل متوسطة الحجم ..تتسع لها الطاوة او الطاجين المحمى على النار آنفا وبعد أن تضع تلك القطع وإن كانت ستود به زوجات أعمامى فتحية وتفاحة وعماتى سعدة وسالمة وأحيانا الجارت المقربات تضاعف الكمية فتضطر لصنعها على مرحلتين أو ثلاث .. بعد قليل من على النار الهادئة يبدا يتفاور كما لو كان بركان يغلى يتغير لونه من الأبيض الشفاف إلى الأبيض الجيرى وتدعه على النار حتى ينضج على موقد الشاى غاز البريموس .. ثم تنزله لتفرغه على قطعة قماش من القطن وهلم جرا إلى أن تتم المقدار كله . . وكلما بردت كمية تضعها فى الهاون وتسحقها فيدخل عمى
- عيد والله عرس عبيد .. وين ماشيه بهذا كله والله عابيه توزعى كيف عادتك اسملة على خييى اللى فلوسة زايدات عليه .
ويخرج لسانه مقهقها
- راك تزعلى ياقسومة كان خليتينا شريناه من السوق جاهز خيرلك من ها التعب كله!
فيجيبه أبى الذى دخل صدفة ليملأ الإبريق بالماء ليسكبه فى الرديتورى ويغسل يديه من زيت السيارة المحترق ..
- لاياراجل تبى اتجيب اللى اتحبرك فيه اقسومة كيف متاع السوق اللى مشّي حالك، تحك بيه بيطانك لثانى يوم ماتشمش صنة عرق بكل ..
وبعد ان تسحقه تضعه فى غربال صغير كانت قد خصصته لمثل هذه الأشياء وتضيف اليه حبات المسك الدرناوى بعد سحقها والريحان المرحى وقليل من مسحوق البودرا وتضعه في علب المربى الزجاجية وقنانى الأطفال الخاصة بأطعمتهم المشهورة " الهاينز " ثم تبدأ فى إرسالى لأوزعها على الجارات بعد أن توصينى ..
- شدى كويس مش تحلى فمك يطيحن الفازوات ينكسرن منك
- تسلم عليك امى وقلتلك هاك فوحي بيه بالصحة عليك
واحدة تبعث معى قطعة قماش وأخرى رغيف خبز تنور واذكر أن خبزة التنور لا تصل لأمى منها سوى فتافيت.. أمشى وآكل .. الى أن أجده قد أصبح بقايا خبز أحيانا أخبرها وأحيانا أخرى تتفطن هى من بقاياه التى استقرت أسفل كيس الخيش الذى صنعته امي وطرزت على وسطه امرأة ترقص بزيها العربى واضعة على رأسها جرة مزخرفة بألوان زاهية وحواف الكيس كانت قد نسجتها بأسلاك ملونة على هيئة خطوط متعرجة ..وصنعت له يدين وسير مريح يوضع على الكتف ..والشبة أمى حواء تستعملها فى التلويد سبع مرات على مهجة وجبير خوفا عليهما من العين .. عين الودود غلبت عين الحسود وذلك بقراءة اية الكرسى مرة والمعوذتين ثلاث مرات والفاتحة والاخلاص مرة مرة وتمسح على الجسد الذى ترقيه بيديها الحانيتين من الرأس حتى القدمين متمتمة:
- على عويناته كانه حسدناهن ..على خشيمه ..على افويمه ..على احنيكه ..على اوذيناته ..على شديقاته ..على حويجباته ..وتبتسم قبل حوتنا انيسناهن ..على ايدياته ..على كريعاته ..ومن ثم تضع قطعة الشبة على النار وتدعها الى أن تبرد ثم تسقطها فى طست صغير وتهرسه قليلا بأقدام جبير ومن ثم تأمر أختى هاجر بأن تسكب عليه الماء وتعطيه لأخى شهاب ليرميه فى مفترق الطرق .. لكنه يجيبها معربدا بطفولة:
- فكينى يا أعزيز.. من جدك تبينى نبزعه بره شن منظرى وانا طالع بيه قدام الشباب .
وتتدخل أختى خولة مطلقة ضحكتها الرنانة
- يسحابوك داير سحر ان شاءالله يكفشوك .
فيحاول أن يمسك بتلابيبها فتأتى مسرعة لتختبئ خلفى
- عقيلة على ميمى .
فيحاول أن يطالها
- تحشم من أختك الكبيرة تو تزعل ميمى
وفى الأونة الأخيرة التهت أمى فى مرضها وفقد والدتها فصارت أختي جورى هى من تقوم بهذه المهمة عوضا عن أمى وخاصة إذا اجتمع ثلاثتنا حنان بأطفالها الثلاثة ود ومنصور ومحمد ..ورجاء بإبنها فرج ..وأنا بمهجة وجبير الذى لا يحدث صخبا يوقظونه فقط ليرضع ودائما تحتج أمى على تركى له نائما بهذه الصورة .
- حرام والله حرام فرتكيله قماطه حكحكيله تحت اوذيناته
فيعلقن مقهقهات رجاء وحنان
- الله يربحه ريحك
- قنوع طالع لباته
- فيدخل ابى بأكياس الموز والتفاح والجوافة
- توا يكبرلك ويوريك غير مازال دايخ!
وآه خطر علي خالي، كان في ريعان صباه يدخن سجائر الجفارة .. كان ومازال واسع البال حنونا لا يحب التدخل فى أمور الآخرين لو طلبته فى ثمن سيجارة فلن يتتردد فى إفراغ جيبه أمامك .. دائما مبتسم .. خالي محمود رغم أن الحياة تكشر عن أنيابها فى وجهه المرة تلو الأخرى لكنه متفائل ودائما يردد " الدنيا هكي" ولكن لابد وأن يبتسم ويشعرك أن هذه اللحظة آتية وقد ترى وتحس معه أنها فعلا قريبة .. أحاول تهجى ما كتب على العلبة جى فا .. فيحمسنى ضاحكا فأرة تأكل سنيناتك ..
كملى شاطرة ويمازحنى مدغدغا جنبى فارة تاكل سنيناتك .
- ياخالى ..كيف امى قالت
- لما نحذفوا السن المخلوعة فى عين الشمس بعد ما نرقدوها فى الملح ونحطوها تحت روسنا ونتمنوا قبل لا نرقدوا انوضوا فى الصبح بكرى ونلوحوها ونقولوا ياشمس يا شموسة خوذى سن حمار وعطينى سن غزال وربى يحققلى اللى شفته فى منامى وما يكلم حد .. أحلامه تتحقق .. صح يا خالى.
- الأحلام يا صغيرتى لا تتحقق فى يوم وليلة .. لكن على الإنسان أن يتعب من أجل نيل ما يريد وأهم من هذا ياصغيرتى أن لا ييأس إذا ما أخفق .. حتى الفشل علينا أن نشكره لأنه يعلمنا أشياء وأشياء وسيكون الدرجة الممهدة للصعود .. ليس عيبا أن يخطئ الإنسان المهم أن يتعلم من غلطته ..المهم هو الايمان بالشىء الذى تصنعينه ..وأن يستفيد المرء من تجارب وأخطاء الآخرين وعليك أن تخوضى تجاربك بنفسك لتتذوقى طعم الحياة بحلوها ومرها .. يا خالى مش عارف ليش نحكى معاك هكى
- انت عمرك صغير لكن عقلك كبير .. الكلام الذي قلتيه الآن أكيد قريتيه في الكتب، أشعر ان لديك شىء خاص كنت دوما أراك شيئا مميزا و أراهن عليك .. شلتى الهم بدرى وتحملتى مسئولية خوتك ..انت نسخة من اختى قسامى ..العيلة كلها تشكر فيك ..وأكثر حاجة رافعة راسى يشكروا فيك فى مواعيد الرجالة .. ويومتها واحد جاى من زليطن ماطلق نين قال مرا ولا الف راجل ربى يرزقنى بنت كيف امال بنت فرج اشهد بالله انه عرف يربى وانشاله تطلع بنتى هدى زيك ..انت عارفة مسميها على من؟
- على من؟
- على الحاجة هدى الله يذكرها بالخير مراة جدك سالم ..هى اللى شجعتنى على الزواج وحرضتنى على الإسراع لولاها بعد ربك راهو خالك مازال عازب وطوله طول عصاته.
تأتى أمى حيث نجلس قرب البئر لتملأ الدلو من ماء البئر المالح من أجل شطف ملابسنا فيستبقيها خالى ويخرج من جيبه علبة السجائر ويبرزها أمامى ودون أن يتكلم يرفع يديه ملوحا أمام وجهى .
- شوفى بنتك
فاتحرك زهوا واعتدادا بنفسى واقرأ جفارة، تبتسم امى وتقبلنى
- عارفتها شاطرة حتى ونحن جايين فى الطريق ترقد اشوية وتنوض تسأل مازلنا ما وصلنا اجدابيا وتقرا اللافتة التي نمر بها لتعرف القرية أوالمدينة وكم كيلو ينقص على الوصول لبيت جدى .
وأسال خالى:
- كيف جفارة يعنى شنوا ..
- انت مواليد مدينة الزاوية .. جفارة تعتبر برا لمسقط رأسك وتسمى بسهل جفارة فهى سهل زراعى خصب ومنطقة رعوية جيدة
الدخان تغيرت مسمياته وألوانه و أختفت السجائر المحلية ولم يعد منها سوى المسمى رياضي وفي الفندق البلدي يبيعون الباعة المالبوروا والونستون والروثمان والكنت والدنهل والبزنس والكليوباترا وغيرها ويبيعون القداحات بأشكالها التقليدية والغريبة المزينة بألوان مبهرة وكذلك يبيعون المتة والنفّة والمضغة ومساحيق التبغ السودانية والمعسل بأنواعه المختلفة سلوم وزغلول ومعسل نكهة التفاح وغيرها والمعاجين والبودرات الخاصة بإزالة رائحة الدخان التى أشمها نتنة إلا على أبى لا أدرى كيف تختلط رائحة سجائره الروثمان بعطره البروت .. فالروثمان هي سيجارته الوحيدة المفضلة التى ينفثها ولا يقبل سواها وكنت كلما دنوت منه أحاول إقناعه بترك التدخين وأضعف الإيمان التخفيف منه، والله يا ميمى ما يقتل الا العمر، حياة جدك علي الله يرحمه كان يرحى فى أربع قراطيس دخان فى اليوم خاطى ما تجيب العزومة، يعني السباسى اللى من هنا وهنا .. نسيتى مش يولع فى سبسى من سبسى ومات وعمره خمسة وتسعين سنة.
- الحمدلله ..انك طحتى فى راجل مايدخنش
باز اشم رائحة كريهة، غير محتملة، شبيهة بالنشادر، تمروح علي باز بمروحة صينية جميلة مزدانة برسوم التنانين وتفهمني بانجليزيتها وإشاراتها وقلبها أن هذه الرائحة من آثار التخدير، عندما تستيقظين تماما وتتناولين كوب عصير عنب ستختفي، الرائحة النتنة تهاجمني، أقاومها بروائح وعطور بلادي، بعوضة تلسع يدي، أدهن يدي بزيت الزيتون، زيت الزيتون المجلوب من مزرعة جدى بزليطن مقرقب ومعصور فى معصرة جدى العتيقة التى لم يطورها .. مازالت ببئرها المعلق بها ذاك الدلو العتيق ..وبميدتها و بجابيتها التى كنا نسبح فيها فى ايام الحر الشديد خلسة، لكن كثيرا ما انكشف امرنا وعوقبنا بصرامة من قبل جدي الذي يخاف علينا من الغرق والمرض .
بعد العقاب، ينظر كل منا للآخر مواسيا و فى أول فرصة نهرب من الباب الخلفى العتيق المعد لخروج النساء فهو اقرب مدخل للحوازة نمشوا نجروا هاتفين (طريحة وتبرد).
يامحلا ا لليالى الشتوية مع جدتي ليالى قرة العنز ..الليالى السود .. نجلس جميعا فى الدار الوسطية المعروفة بالدار الكبيرة او دار الحاجة حتى بعد موتها مازالت تنسب لها .. تلك الحجرة الواسعة .. بشباكها الكبير .. طويل القضبان الذى كثيرا ما نادتني جدتى الحاجة لأنشر لها محرمة أنفها البرتقالية التى تدعكها بنفسها جيدا متمتمة ببذاءة:
(اللى ما يغسل صرمه بيدة .. ما يغسلوه له عبيده)
مش نزلته ياحاجة من على حطب المثنان، كانوا غاسلينه وناشرينه
- ياودى (غسلت مادى في تينته)
وتنادى بقوة:
- هيه يابنت .. انتوا يا هوه
الأولى التى تجيبها .. تطلب منها إحضار طست الغسيل وهاتيلى صابون السوسي ..
اهى صابونتى فى حكية الحلوى الخضراء فى الصندوق وراك تبخى من البنة .. اللى ندزها لصندوقى تفش منها على بزازيلها نين كملتوها عليا راه والله نصكه ايمين ايمين مراه مش راجل ماعاد وحده فيكن لامساته .. وين ما نموت زيطن فيه ..
- باهى خليه توا نعاود غسلته من جديد ..غير ما تحرجيش
- العواد للدقيق
وتدعكه جيدا بالصابون السوسى وتقول مافيش خير من الصابون السوسي، اينظف الدبش الأبيض ويخليه تقول جغمة، أي قطعة من ملابسها تغسلها بالصابون السوسي المطبوخ بروح الزهر كما تحب وتشطفها بالزرقينا وقليل من الحمصية .. تعلمت طريقة تجراي صابون السوسي فكنت أشاهدها كيف تذيب قالب الصابون الأخضر " السوسي" الخالي من المواد الكيميائية السامة مع قليل من ماء المطر بعد أن يذوب على نار هادئة يحرك جيدا ويترك لدرجة الغليان وقبل أن يبرد يسكب فيه مغلي " شوش الورد والريحان مذابا فيه المسك الدرناوي مخلوطا بروح الفل والزهر والياسمين مع قليل من قطرات زيت القرنفل وتحركه جيدا ومن ثم تحفظه في أنية فخارية محكمة الغطاء لتحفظ رائحته العطرة أكبر وقتا ممكن .. " الزرقينا " تباع عند العطار أجهل كنههها ..كل ما أعرفه أنها مكعبات لازوردية اللون تسحق لتصبح ناعمة كالبودرة ويرش القليل منها في ماء شطف الملابس بعد غسلها ويقلب الماء بعناية وتشطف فيه قطعة ملابس من نفس لونها أولا على أن يكون قماشها ثابت الألوان لئلا تفسد الملابس البيضاء بتموجاتها الزرقاء .. فالزرقينا أو الحبة الزرقاء تساعد علي إعادة بريق الملابس البيضاء وتنصيع بياضها تماما كمفعول " الكلوركس " بل أفضل ومن ثم تنقعها فى الماء الممزوج بالحمصية ولها عمل معطرات وقتنا هذا والحمصية أساسها الحمص المذرور مع الريحان المسحوق والمسك الدرناوى والريحان والعمبرة والجدرة .. وثياب جدتي الحاجة تفردها لها جدتي لأمي بعد الغسيل بالمكواة العتيقة ثقيلة الوزن التى تسخن بالفحم مثلها مثل ثياب جدى - حمدا لله انى لم أكن ناضجة فى هذا الزمن والا لكسرت يداي من حمل المكواة وبرم الرحى - .. ودائما السجال قائم كيف أن عجائز الجيل الفائت أي جداتنا .. لا يعانين من الأمراض المنتشرة المسماة بأمراض العصر .. الضغط .. السكر .. الذبحة الصدرية .. انسداد الشرايين .. الأدران والاورام الخبيثة .. عافانا واياكم الله .. الأمر واضح وضوح الشمس!
قالت لي الممرضة الفلبينية باز صحبة الممرضة الليبية: التحاليل كلها سليمة، ليس فيك أي مرض، قلت لهما صليا على النبي، فصلتا وسلمتا عليه، لا أدري شيئا عن ديانة باز، هل هي مسلمة أم مسيحية، في رقبتها قلادة تتدلى من أسفلها وردة بيضاء، أصوات ذكر تنبعث من الجامع القريب، الآن الوقت مساء، ويخيل لي أنه هناك اضواء وامضة تخترق زجاج غرفتي في المستشفى وأناشيد أطفال، قلت لباز هل هناك احتفال، قالت لي عيد المولد النبوي .. عيد المولد النبوي كل عام أحضره في مدينة، العام الماضي حضرته في طرابلس .
في عيد المولد النبوي الشريف يبدأون بالذكر والصلاة على المصطفى الهادي في المساجد إلى حين وقت الصلاة وبعد انقضاء صلاة الظهر يجتمعون في الساحة من جديد بعد أن يكونوا قد مروا بشوارع وأزقة مدينة طرابلس القديمة المسماة بالحارة .. وفي كل شارع ينظم للموكب الأطفال والنساء ويشاركون فيه منشدين معهم الأناشيد والأوراد الدينية .. يضربون البنادير والدفوف التي تسلم لمن يرغب في المشاركة فى هذه التظاهرة الدينية المسماة " الحضرة " وفيها تتجمع كل الزوايا الصوفية .. كل زاوية على حدة لكنهم متتابعين في طابور واحد .. زوايا عديدة تشارك في الاحتفالية .. زاوية رفاعية .. عروسية .. عيساوية .. الخ........!!
تمر الحضرة من أمام بيت جدي الحاج سالم العيادي.. بالمدينة القديمة .. جدى مستلقٍ على فراشه نتيجة وعكة صحية .. يطلب منّا أن نفتح الباب على مصرعيه ..
- افتحي الباب كله
تجيبه زوجته الحاجة هدى
- يا ودّي ولدك معتوق تو ايحل فمه (خرارة)
- اشبح بالله .. تو اني صاحب الحوش وإلا معتوق، أفتحوا الباب، وين البناويت، كلميهن يطلعن .
تنادي الحاجة هدى: نجوى .. جيهان .. زودن كلمن بوكن
يقول جدي هيا اطلعن تفرجن على احتفال حضرة المصطفى وادعن لي انصح ونتعافى .
يخرج جدي متوكئا على عكازه يساعده ابنه عمر ويجلس على كرسي خشب أمام البيت .. بيت جدي يقع في شارع أربع عرصات وهو من شوارع طرابلس العتيقة الزاخر بالكثير من الأماكن الأثرية وخاصة البيت الذي يرتاده السيّاح يوميا وهو بيت القره مانلي المسمى أيضا ببيت الحريم لأنه كان مخصصا لحريم الأسرة القره مانلية سابقا .. يتكون البيت من دورين وفناء واسع به نافورة وغرف أثرية مازالت تحتفظ بعبق التاريخ حتى الآن .. فنجد دار المطبخ وبها أدوات طبخ ذلك الزمان من مواقد ومهاريس وأطباق وأباريق وأطسات وغيرها ونجد دار السدة المفروشة بالاكليمات والسجاجيد العتيقة وأيضا نجد دار السلاح المليئة بالسيوف والرماح والطبنجات والمدافع والدروع وأزياء الجنود والضباط .. وفناء البيت تشع عليه الشمس وتتوسطه نافورة وتحيطه جدران مغطاة بالقيشاني الملون ولن أنس ذكر الأعمدة الاسطوانية المنقوشة قمتها المنتشرة في زوايا الفناء وهي الدعامات الأساسية التى يرتفع عليها البيت .
في شارع أربع عرصات توجد عدة مساجد أثرية قديمة ودكاكين ظريفة جميلة تبيع الحلي الفضية العتيقة والهدايا التذكارية للسياح .. جغرافيته ضيقة نسبيا لكن هذا الضيق جعله دافئا وملأه بالحميمية .. معظم بيوته مطلية باللون الأبيض وسمى أربع عرصات لأن في بدايته توجد أربع دعائم تنتشر في زواياه الأربع .. دعائم مثل الأعمدة الأثرية منحوتة بمهارة من الصخر في قمتها تويجات مزخرفة تدل على العصر الذي نحتت فيه .. هذه العرصات مازالت صامدة حتى الآن في وجه الزمن وعوامل تعريته السافرة .. بعد أن سمح جدي لجدتي بفتح الباب اطللنا محتشمين نرتدي الجلابيب الطويلة والمحارم على رؤوسنا .. شاهدنا نوبة الحضرة المارة من أمامنا .. حضرة صباح الميلود .. لم يكن قد مضى وقتا طويلا على تناولنا عصيدة لذيذة عصدتها عمتي نجوى بالزبدة الوطنية و رب التمر الذي ربته عمتي هدى منذ أسابيع من محصول التمر اللذيذ الذي انتجته مزرعة جدّي بزليطن حيث مرقد الولي الصالح سيدي عبدالسلام الأسمر .. جلاب عسيلة من بر الروم .. كثيرا ما سمعت من جدي لأمي الحاج مصطفى الفيتوري يحكي قصة عسيلة التي وجدها الرومي تغسل الصوف على شاطئ البحر فخطفها .. واستغاثت بسيدي عبدالسلام فاستجاب لاستجارتها وحررها من هناك وأعادها إلى بلدتها المباركة .. كلنا بنات وأولاد نطل من فم البيت .. الحضرة تمر ومحمود المسمى على اسم جده لوالدته الشيخ محمود رحمة الله عليه يرش ماء الزهر على المشاركين في الحضرة من المرشة النحاسية الأثرية القديمة التي نتوارثها منذ جدنا الأول .. وكلما فرغت يعطينا إياها فنملأها من الداخل من جديد .. البخور يتضوّع وكتل الجاوي يهبها السكان للحضرة .. خوذوا الجاوي وادعولنا .. خلف الحضرة كان شاب يجر عربة برويطة تحمل موقد كبير تسخن عليه البنادير و ويزود المباخر بالجمر الأحمر النقي الذي لا يتعالى منه أي دخان سوى دخان العطر.
البنادير تدق بنغم جميل والدفوف تطرق و الأناشيد النبوية المباركة تنشدها الحناجر بحب .. وكلما علا مديح المصطفى عليه السلام .. صاح الجميع الصلاة عالنبي .. ورددنا معهم ذاكرين هذه اللازمة: اللهم صلي وسلم عليه .. فترمش الحاجة عينيها وتلكزني هامسة: ياربي اهدي محمود وخليه يبطل الوسخ اللي يشرب فيه كل يوم وتقصد البوخة الطرابلسية، فأجيبها وعيناي تغرورقان بالدموع .. آمين، وأضيف:
* * *
- ان شاء الله يا حاجة .. ربي يصلح الحال
وفي وسط الموكب يقوى الضرب على الدفوف صغيرة الحجم الشبيهة بكف اليد و والتي تطرق بواسطة جلدة غليظة مستطيلة .
البنادير ليست حكرا على جماعة الحضرة وإنما توزع على من يرغب في المشاركة من الجمهور وكلما مرت الحضرة من أمام بيت خرج الأطفال بكوانين صغيرة خالية من الجمر يملأونها من جمر الحضرة ويعطون أحد أعضاء الحضرة بعض البخور ليباركه ويضعه في الكانون ويدعو للأسرة بالبركة .
الحارة الآن لا يسكنها ليبيون فقط .. وإنما خليط من المغاربة والتوانسة والجزائريين والمصريين والأفارقة .. أذكر تلك المرأة الفلسطينية التي كانت قد استأجرت البيت المقابل لبيت جدي حديثا وتجهل مثل هذه الطقوس فأغرتها الدخاخين المتصاعدة وكررت ما سمعته:
اعطونا جاوي
الجاوي عليكم
لكنه جبر بخاطرها واعطاها كتلة كبيرة منه صائحا:
صلي على الهادي
وزادها قطعا من الفاسوخ
ادعيلنا بس
امتلأ شارع الأربع عرصات بنور المصطفى وفاض على بقية شوارع الحارة .. هذه الحارة المتعددة الأعراق منذ القدم سكانها خليط إنساني من الأجناس كافة يلتقون في هم واحد وهو البؤس والسعي لتوفير لقمة العيش الشريفة لهم ولأسرهم الطيبة .
في الحارة كل السلع رخيصة .. في الحارة تكثر المتاحف والكنائس والبيوت الأثرية .. وتعج بالمطاعم العتيقة كمطعم اعبيّة لوجبات الاسماك وفواكه البحر .. ومطعم برعي المتخصص في الأكلات الشعبية الليبية .. نرى السيّاح وهم يتجولون في هذه الحارة وأحيانا كثيرة يستأذنون الدخول لرؤية بيت جدي فتستقبلهم جدتي بروح مرحة وتريهم بعض الصور القديمة وسط جو حميمي وتعطيهم الهدايا البسيطة النابضة بروح ليبيا كالمشغولات المصنوعة من سعف النخيل مثل العمرة والطبق .. أو كسكاس وطنجرة من الطفلة الغريانية .. أو مبخرة من الطين الليبي المصهود .
أما جدي فيهديهم من سفر النحاس التي يطرقها بإزميله الواحدة تلو الأخرى في أوقات الفراغ مسببا ضوضاء جميلة في البيت .. يصنع هذه السفر ولا يبيعها لأنه يقول تعبت في نقشها ولن أمنحها إلا لمن يحبها ويقدرها ويعرف قيمتها والنقود طز، لا تهمني .
يلتقطون الصور تحت الأقواس التي تزين البيت وفوق الدرج الاثري وبجانب البئر التى مازالوا يستعملون ماءها في الغسل والشطف ويخرجونه بطريقة الدلو وليس المضخة .. يغادر السياح بيت جدي وعلى وجوههم ابتسامة راضية .. فمن عادة الحاجة هدى أن تجهز وجبة الغداء باكرا وتدعوهم لتناول الطعام الليبي وفي حالة الامتناع شاكرين يحلف لهم جدي يمينا بالطلاق ألا يغادروا دون غداء ويطلب منهم أن يتذوقوا الطعام فقط فيتورطون في لذته وحرارته التى تطلب لتنطفئ وتخف مزيدا من الملاعق .. فيتناولون معهم طبق رشدة الكسكاس أو العصبان أو الكسكسي بالبصلة والأكل يكون في قصعة العود الليبية تضعها الحاجة في منتصف الفناء على الحصير فيتجمّع حولها كل من في البيت ويلتهمون الطعام في حب وشهية تنيرهم الشمس الدافئة من فوق .
يعجب السياح بهذا الترابط وينبهرون بالحميمية فيشاركون الأسرة طعامها بحماس .
هذه الحارة حارة الحب والأمان تسكنها العائلات الليبية العريقة وتفتخر بالانتساب اليها .. هي قريبة من الميناء .. قريبة من الشمس .. كنّا قد غادرنا فندق السفينة الزرقاء واكترينا حجرة بفندق صغير جميل اسمه فندق ميدان الساعة لا يفصله عن برج الساعة المشيد في نهاية القرن التاسع عشر إلا سطر من الدكاكين .. نترك الفندق نهارا ونذهب الى بيت جدّي بشارع الأربع عرصات .. في بيت جدّي نشعر بالراحة ونستمتع بالطعام اللذيذ ونتسامر مع جدي سالم الذي يحكي لنا تاريخ الحارة الحقيقي ويصفق يدا على يد متأسفا
- لقد هجر الطرابلسية الأصليين الحارة وتركوها للإهمال
وتشاركه الحديث جدتي:
- الحارة هي مدينة طرابلس القديمة .. لو هدمت الحارة ستتغير ملامح المكان و لن نعرف طرابلس .
كانت محاطة بسور .. مازالت بعض أبوابه باقية حتى الآن .. باب الجديد .. باب الحرية .. والقلعة التي هي الآن متحف كانت من ضمن معمار الحارة .. حيث مقر الباشا والحكومة زمان .. الأسواق الجميلة .. كسوق المشير وسوق الترك والفنيدقة تغيرت عن شكلها القديم ورواجها النشط ضربه الكساد .. والفنادق القديمة تم تحديثها لتواكب العصر، فجلها جعلوها فنادق راقية ذات أربعة و خمسة نجوم مثل فندق زميت المطل على قوس الأمبراطور الروماني ماركوس اوريليوس .. في الحارة يوجد الكثير من تاريخ وآثار ليبيا.. عندما أتجول فيها أشعر بجذوري وأشعر أن بلادي ثرية ثراءا ليس عاديا .. وترابها ثمين .. خصب .. حي وحامي.
تمرالحضرة في الشارع الآن فنشم رائحة البخور ونستلذ بها .. نحن قبيلة الفواتير لا نحتمل الجاوي والبندير .. سرعان ما تدوخ رؤوسنا فنجدب في مكاننا:
الله حي .. الله حي
يا ربي صلي على الهاديْ
وكلما تبتعد الحضرة يخف التأثير ونشعر ببعض القلق والحزن .. دخل أحد الأولاد معربدا في تكتم خشية أن يراه الحاج فيقسم عليه ألا يبيت بالبيت
- سكري الباب هيا خيرلك، ماشاء الله ريت هاللي ما يستحن ويتحشمن .. خشي داخل بسرعة قلتلك
ويزعم أنه سيركل أحدنا برجله!
في يوم الميلود نتغدى الكسكسي بالقديد ونشرب الشاي الأخضر بالكشكوشة ." الرغوة"
وفي العشية تأتي الحضرة الأخرى فيتجدد نشاطنا متحدّين عربدة معتوق.. فيأتي محمود البحبوح واخذ جوّه ويجدنا نشاهد الحضرة من ثقب الباب الموارب فيفتحه
- شرّعي دين امه وكانهو معتوق ذكير يفتح فمه
- لا يا محمود.. فكنا من الهرجة
فيخرج جدى ويشرع الباب مرددا
- يا ودّي مازلت عايش أني.
وينحني جدّي ليفتح الباب فيقع مغشيا عليه من رائحة الجاوي وأوراد الحضرة والذكر فيدخل جزء من الحضرة إلى بيتنا ويصبح منزل جدّي كما لو كان زاوية صوفية.. فيغسلون وجه جدي بماء الورد المرقى بالقرآن ويشممونه الجاوي فينفض وجهه
- بوف .. بوف ..
ويقف منتصبا يجدب ويقسم لهم جدّي على العشاء
- اسمعوا عشاكم كلكم عندي
- يا بنت شنو خاصكم
- سقدي يا بنت بوك داير شكرانية على سلامته!
زيت الزيتون الذي يعصر فى بلادى بمعاصر يدوية مازالت تفوح بعبق الماضى الأصيل ومصانع تصنعه آليا بجودة عالية بنوعيه المكرر والأصلى الذى يفضلونه شيابينا وعزايزنا وماهرين فى اكتشاف الباهى والمغشوش منه، فمعدومى الضمير يغشون الزيت واللبن ويعلفون العجول بالطرونة لينتفخ لحمها والدجاج يخلطون له البوطاس والمضاد الحيوى ليبيض فى اليوم مرتين والتمر يدهنونه بالزيت ويرش بالماء والسكر .. وصناديق الخضروات مثل البطاطا والخيار والطماطم والكوسة وهى القرع الاخضر فتجد واجهة الصندوق مزينة (من برا هلا هلا ومن جوا يعلم الله) بالثمار الطازجة والباقى قد تجدها قد رمضت ولابد من أن تحتويها ثمار مضروبة (عشان تشيل بعضها) حتى الفحم يضعون الفحمات الكبيرة واللامعة فى الواجهة ويعقدون الشوال من فوقها بالتل وهو سلك معدنى رقيق وهذه الطريقة تجعلك لاتقاوم السلعة وتشترى فمن أدمن الغش وخاصة بعض الفلاحين والصعايدة المصاروة إن لم يتنفسه يوميا حتما سيمرض ولكن ليس معنى هذا أنه لا يوجد أناس ذوى ضمائر حية يعرضون سلعتهم والأكياس معلقة أمامك وانت من تختار وبالطريقة التى تعجبك وتجدهم ممن يوفون الكيل والميزان وإذا نقص مبلغ بسيط لا يكدرك ولابد وأن يضع لك شيئا هبة فدائما (الشين والزين فى كل مكان).
تداخلت الذكريات في رأسي، كتبت كثيرا وتذكرت كثيرا وتهلوست كثيرا وباز ترغمني على رشف رشفة من كوب مغلي الحلبة لكن لا شهية لي وأشعر بالتقيأ، فتناولني إصبع سائل بوفاس لأشمه،ولا ينفع معي البوفاس فتناولني عشبة نعناع طرية تعيد لمزاجي بعض توازنه وتأخذني رائحة البوفاس النفاذة واللاذعة للبشرة لهذيان حيث يتم بيعه على بسط من الحصير أو الورق المقوى تحت أقواس الفندق البلدي من قبل التشاديات والسودانيات والصوماليات اللواتي يبعن معه الكثير من الأشياء منها السواك بأنواعه خاصة سواك البطمة الذي يحتاج لعناية خاصة في طريقة حفظه، حتى أن أي رطوبة تسببها له قطرات ماء أو عرق تؤذيه، هذا النوع من السواك تجده معروضا أمام البائعات .. وهو على هيئة قرص محفوظ بنفس الطريقة التى تحفظ بها الأقراص الدوائية لونه بنى ذا رائحة نتنة إذا ما اشتريت قرصا تضعه لك البائعة فى مزقة ورقة وتوصيك مع التحذير بأصبعها المخضب بالحناء حالكة السواد!
- حوطيه فى الشوكارة طوالى عليك الله
وهذا النوع من السواك تستعمله النساء في صبغ شفاههن بلون الرطب فمن كانت على عجل يلائمها .. لكن الأغلبية لا تطيقه .. فله رائحة كالأدوية منتهية الصلاحية .. لا شئ يضاهى السواك الطبيعى الآراك ذي الأحجام والأطوال المختلفة فى الشكل والأسعار .. وسواك اللوزة المشتهرة به مدينة البيضاء باردة المناخ موطن البراعصة وسواك اللوزة شجرة ضخمة ثمارها بين البيضاوى والمستدير وهى مايسمى بعين الجمل و السواك الشرخ هكذا يدعى فى بلدى وهو عبارة عن لحاء شجرة اللوز الخزاينى وهناك المحلى والمستورد الآتى من المغرب والباكستان.
رائعة هي البائعة السودانية برائحة بخورها وعبق خمرتها وتسريحتها الضفائرية المميزة وثوبها السودانى الباعث للأمل وجاذب روح التفائل من تلابيبها .. المزركش بالأخضر لون سنابل قمح بلادى والبنى والزعفراني، كم أحبها مجتمعة هذه الألوان في ثوب واحد فهى تذكرنى بالثوب الحريرى الذى كانت ترتديه معلمتى فى الصف الاول الإعدادى" زكاوت البنجلاديشية " التي كنت أنفض لها غبرة الطباشير عن شعرها الأسود وأزيل قطع الطباشير عن طربوش معطفها شتاء .. فطالبات الشغب لايكففن عن ابتداع المقالب لها بتعليمها كلمات بذيئة باللهجة الليبية على أنها كلمات لطيفة ونبيلة وأنا أحبها كثيرا فأنبهها كلما تمكنت من ذلك .. فهي تثق بي في تفسير الكلمات المغلوطة من اللهجة التي قد تكون سوقية بعض الأحيان فهي ترددها عن جهل وقد طبعت بذهنها مرادفات مطابقة للمعتاد فترددها فرحة وسرعان ماتتعرض للحرج، حدث ذلك أكثر من مرة قبل أن تنشأ صداقتنا التي صارت تراجع لها كل كلمة تتعلمها لتعتمدها أو تلغيها من ذاكرتها .. ثوب السودانية بألوانه المتفائلة مازال حاضرا في ذاكرتي الملونة ففي منطقة الفندق البلدي ببنغازي تكثر البائعات السودانيات والتشاديات وقليل من العجائز الليبيات اللائى يفترشن قطع الورق المقوى .. تجد عندهن كل ما تطلب من مستلزماتك اليومية وبأسعار رخيصة نسبيا كمناديل الورق والأمشاط والمرايا وفرشات الشعر والأسنان ومعاجين الحلاقة وأدواتها من شفرات ومرايا جيب مكيّسة وأخرى بها حامل أعلى إطارها المستطيل والكبيرة بها قاعدة بلاستكية تسند أسفل إطارها المستدير كالتي أحضرتها لي زوجة الشيخ الشاعر البحبوح محمد المزوغى الذي كثيرا ما ساعدنا في ظروف قاسية مررنا بها وكان دائم السؤال عن مهجة فأتت زوجته الطيبة لزيارتى بالمستشفى وكان اللقاء الأول مبادرة منها وأحضرت معها المرآة وأشياء أخري أحتاجها فورما علمت بدخولي المفاجئ .. وتجد عندهن أشياء أخرى كالقّلامات صغيرة ومتوسطة الحجم وكبيرة وأكياس بلاستيكية متعددة الأشكال و الأحجام .. فهن يبعن لوازم النساء الدقيقة التي يعجز الرجال عن استذكارها فتلهمهم البائعات بما افترشن من بضاعة وبذلك يؤمّنون طلب زوجاتهم فيأمنون ألسنتهن!
سواك "البطمة " أعتبره مرضا فلا شئ أفضل من الطبيعة، تجد أمامهن أقراص الصداع البنادول والألجون و الاسبرين الذى يستعمله مرضى الضغط وهو ارتفاع ضغط الدم فهم لا يستغنون عن أقراص الأسبرين التي تقيهم تخثر الدم والجلطات عفانا واياكم الله .. وحتي " مسكن الصداع " النوفالجين " الذي انقرض من منتصف الثمانينات موجود لديهن .. وبعض الأدوية لا تجدها في الصيدليات لكنك تجدها عند الفراشين وفى السوق السوداء .. كيف يحدث ذلك لا ندرى .. بل ندري والمشكا للمولى كما يقولون.
تباع تحت أقواس الفندق البلدي من قبل العمالة الوافدة والإفريقيات أيضا الأقراص المسكنة لأوجاع العظام والروماتيزيوم كالفلتارين والبروفين الذى صودر من الصيدليات لما له من آثار وخيمة على العظام والمعدة فيصيب العظام بالهشاشة ويجعل المعدة حساسة لجميع أنواع الأدوية مما يجعل المريض يلجا لمعالجة معدتة بأقراص " الزنتاك " وهذا الدواء له مفعول قوى علي بيت الداء .. كذلك نجد الدهانات الخاصة بالبرد وندعوها فى بلدى مصادجو وأشهرها الرديان ويطلق عليه محليا " مصادجو الراجل العريان " و لا تغيب عن المعروضات كذلك أقراص مص وأقماع لتسريح المجارى التنفسية و ابر الخياطة والأسلاك بألوانها الخضراء والحمراء والبيضاء والصفراء والسوداء والبرتقالية والأزرار العادية والكبسولات نسمى هذا النوع من الازرار " بشطى بطى " والأمقاص باحجامها الثلاث والمتر البلاستيكى المستعمل فى أخذ قياسات الخياطة ومشابك الشعر بأنواعها المختلفة كالدبابيس المثبتة على الورق أو الموضوعة فى علبة نحيفة وغليظة بنقطة أوبدونها والمساسيك المقوسة والأخرى المصنوعة من الكتان المزينة بتنتنات من قماش ملون مشبك أو بقماش ذي حواشي على هيأة رؤوس مثلثات نسميه الزقزيقة وكذلك مساكات شعر مصنوعة من الجلد وأنواع جديدة من مشابك البنات الصغار بأشكال مختلفة فمنها على هيئة حروف وأرقام وطيور وفراشات كفراشة قلادتى الضائعة التي جلبها لي أبي من الأردن هدية حصولي على شهادة المرحلة الأبتدائية والتي ضاعت لاحقا بمنتزه بودزيرة عندما كنت بسنة التخرج من معهد المعلمات بكيت كثيرا وجندت صديقاتي من أجل مساعدتي في العثور عليها وكأنما فارقت عنقي عنوة لتفسح الطريق لطوق خطوبتي .. سألحمها إن وجدتها على الفور.
شتى أنواع الحيوانات ورسومات الأطفال الذائعة تجدها معرو ضة أمامهن بطريقة مغرية كالبيكمون وأبطال الديجتل وسبيد رمان وكونن والأخوات الثلاث التى لم نكن نعرفها صغارا .. ففى طفولتنا شاهدنا السندباد البحرى ومغامرات الفضاءومسلسل جراندايزر ورسوم الجائزة الكبرى الخاصة بعرض سباق السيارات والتى نترك لعب الحجلة النقيزا من أجل مشاهدتها
- هيا جاء دورى الآن
- لا مايخصنيش فيك نبى انخش قريب اتجى تاكاى تودوروكى ورسوم زينة وهى نحلة وصديقها نحول وفرفور وهو الجراد الأخضر الذي يتبني زينة توعويا طيلة الأربعين حلقة بدء من خروجها من الخلية لتكتشف العالم الخارجى ومواقفها والحشرات التى تلتقيها كلها دروس تعليمية ومواعظ وعبر تذكرنى بكتاب كليلة ودمنة لإبن المقفع وكلامه المرمز على لسان الحيوان والذي أودى بحياته .. تعجبنى هذه الرسوم الهادفة وما كان على شاكلتها من هايدى وصديقها بيتر راعى القطيع الى النسر الذهبى واللورادو عاصمة الذهب الحقيقى وافتح ياسمسم و بشارالذى يترك الخلية للبحث عن أمه دون يأس وفى كل حلقة ترشيد تربوى وماجد لعبة خشبية وفلونة الكرتونية وبرنامج جابر عثمان للأطفال والأغانى الوطنية والأناشيد الدينية والترفيهية والتعليمية فمازلت أحفظ من أغانى طفولتى بعضها مثل أغنية:
أمى وبوى الغالى
سهروا علي ليالى
ربونى وقرونى
والغلطة ورونى
انى بهم نتهنى والدنيا تحلالى
وأغنية شارعنا القديم
شارعنا زمان
ياما لعبنا فيه
عويلا وبنيات
قضينا فيه أجمل الاوقات
وكل واحد منا فرحان
وأغنية:
هات الشنطة
تعال ورينى
ايش خذيت اليوم يا حسين
عرفك شاطر وتهنينى
ديمة حافظ درسك زين
وأغنية:
بيت العيلة يا عالي
يامنور بالحب
يلى فيك اجتمعوا عيالي
على البسمة والود
وقصص الأنبياء بصورة ميسّرة تناسب استيعاب الأطفال وتشد انتباههم أما هذه الأيام فكثرت القنوات الفضائية وانتشر بينها عرض السئ والردئ ولكن فى مجملها لابأس بها وما عليك إلا الانتقاء الصحيح لك ولأطفالك.
الفضائيات كالكتب والهواتف المحمولة والوقت والصحة والمال والانترنت بإمكانك انتقاء الجيد والأفضل واستعمال هاتفك ووقتك فى شيء محمود يعود عليك بالخير والنفع .. ولدى البائعة التشادية أيضا أصابع الحمرة ومرطبات اليد والجلد والشفاه وخاصة الإفريقية كالفومات النيجيرى والدلكة وهى مزيج من أعشاب ودهون يدلك بها الجسم جيدا قبل الاستحمام فيظل ناعما رطبا محتفظا بنضارته .. وبعض مرطبات الشعر ككريم انتصار الليبى وكريم اليدين المسمى شروق وشامبوات لجين وهي صناعة محلية والفازلين و"الخمرة " اللائي يستعملنها بكثرة النسوة القاطنات بمدينة اجدابيا وخاصة نساء قبيلة زوية والمدن الواقعة جنوب ليبيا و القريبة من السودان وتشاد والنيجر كسبها والقطرون والكفرة وهي مزيج من أربعين عطر فما فوق وأنواع عدة من البودرا الخاصة بالجسم ذات الروائح الزكية والمرطبات الناعمة الفواحة كالقرنفل والزهر المتروكة عدة أيام لتتفاعل مع بعضها البعض وتتخمر فتصير هذا العطر ذو الرائحة القوية المركزة شريطة ألا تضع عليه أنفك لتشم فإذا مافعلت هذا الفعل أمام سودانية فإنها تتضايق للحد الذي تزجرك فيه صارخة تومي برأسها
-" آ آ " آ آ "
فمن شأن هذا الفعل أن يفسد الخليط ويجعل من رائحته تنقلب إلى الأسوأ ولهذا يحفظ في قناني صغيرة الحجم شبيهة بزجاجة قطرة الأطفال وكذا لغلاء ثمنه وتشم عن طريق سكب قطرة علي اليد ونفضها في الهواء ومن ثم شم اليد بهذه الطريقة يتم التحقق من جودتها .. وهذا العطر كثيرا ما أشمه فى بلادى فى الحافلات وفى الشوارع والأسواق والمستشفيات فالسوادنيات لدينا كثر وأذكر الحاجة الطيبة آمنة شويقى صديقة جدتى الفزّانية وجارة خالتى مريم التى اهدتنى قارورة خمرة ثمنها مائة دينار وعلبة زجاج متوسطة الحجم بخور صندل وعلبة صغيرة بها بخور الظفر وهو نوع من البخور الزكى الرائحة وباهض الثمن عبارة عن بخور على هيئة قشور تلمحها كأظفار مقلوعة لونها بني لامع معسلة .. كما علمتني آنفا كيف استعمل " الشيدهو" وهو عبارة عن عشبة جافة لا أدري ياباز ربما تشبه أي عشبة " الشيبة " لا أستطيع تذكر سوي لونها الأخضر الباهت تماما كلون البابونج " التّي " ياباز اللي نفوحوا به في الشاي .. فقطعا لا يخلو بيتا لسودانية من حفرة لتبخيــــر " الشيدهو " كما أخبرتني صديقتي بخيتة السودانية .. تماما كما لا يخلو بيت أغدامسي من " الكبّة " والكبّة ياباز بضم الواو .. تو نرسمهلك لما انوض .. نحس في يديا راقدات وجسمي كله مشلول مش قادرة نتحرك بكل .. عموما هي تشبه قبعة الحفلات التنكرية " الطربوش " عندما توضع أرضا كما لوكانت علي الرأس وهي مصنوعة من خامات محلية مئة بالمائة كالصوف وجريد النخيل والأكاليم .. يقوم بصنعها أهل العروس ويساعدهم الرجال في صنع أعمدتها وأما بقية أمور " الحياكة والتطريز وشغل النول فينجزنه نساء العروس المقربات ماعدا لحاف العروسين و" الشليف " الذي يوضع فوق السدة سيكون من صنع والدة العروس وأن كانت متوفية الله يرحمها كوالدتي ياباز فستنقشنه من يتولن أمرها .. فلكل لحاف وشليف نقش خاص لا يتكرر تماما كالبصمة .. ويحمل لبيت العريس .. فيقوم أهل العريس بغرسها وتثبيتها في مكان منزو من البيت وجل كسوة " الكبّة " باللون الأحمر الفاقع وهذا اللون ثابت لا يتغير كما هو سائد في الموروث الليبي عند أهل الجنوب .. كما أتمني أن تزوري هذه المدن ياباز لتتعرفي علي أهل الجنوب الكرماء الطيبين .. فهم محبين للسياح .. أبوابهم دائما مشرعة لا تغلق ولكل بيت خصوصيته رغم أن الأبواب مفتوحة إلا أن أحدا لا يدخل إليها دون استئذان و للنساء طرقتهن الخاصة الخفيفة التي تسمع فيها موسيقي حليهن فتخرج لاستقبالهن إمرأة .. وإن كانت صاحبة البيت خارجه فلا يفتح الرجل وستعرف الطارقة ذلك من طرقتها الثانية التي لم تسمع فيها صوتا يهلل ويرحب .. وإذ كان الزائر رجلا فسيطرق ثلاث طرقات قوية وينتظر قليلا إذا لم يجبه رب الأسرة أو أحد الأطفال بتفضل .. مرحبا .. فسيعرف الجواب وينسحب من تلقاء نفسه .. وسترين يا باز أشياء كثيرة جميلة.. الأبواب المخضبة بالمثلثات كناية عن حج صاحب الدار .. أزقتهم العتيقة ومساجدهم العتيقة .. بيوت الطوب الأثرية .. مخازن تموينهم السراديبية .. بساطة أناسهم .. ابتسامتهم العذبة النابعة من القلب .. وشمسهم المداوية لقروح الحياة وجراحها .. ستحبين كل شيء ياباز .. الفلاش بحقيبتي به صور لمدن الجنوب التقطها الفوتغرافي طارق الهوني بإمكانك نسخها علي حاسوبك والأستمتاع بها كلما أحسست بضيق .. والكبّة لا تدخلها المرأة إلا في ليلة يبني بها وفي كل ولادة حتى أنتهاء حالة النفاس وأذا ما توفي زوجها فستنهي عدتها في" الكّبة " و العشبة الجافة المسماه " بشيدهو" لها فوائد عدة للنساء المداومات علي استبخارها وذلك بوضع نصف طوبة محفورة الجوف ووقد أعواد الخيزران الجافة أو ماشابه وبعد أن تتجمر جيدا وتصبح نارها هادئة تكون قد تهيأت من ستستعملها بحمّام بخاري يفتّح مسامات جلدها تعقبه بطلية دهان متكون من مزيج زيت الزيتون مع الكريم النيجيري " الفومات " ومن ثم تجلس عارية تماما منفرجة الساقين علي طوبة قد جهزت بطريقة مائلة وتتغطي ببطانية فتبدو وكأنها خيمة صغيرة، تتغطى تماما بحيث لا يظهر منها سوي رأسها وذلك لمدة نصف ساعة أو قدر استطاعة تحمل جسمها للحرارة والدخان المتصاعد من الشيدهو .. ويحظر أن تكون السيدة لوحدها في المرات الأولي مخافة الدوخة أو الإغماء كما نبهتني صديقتي الرائعة الشاعرة مباركة الجارح .. التي استضافتني ببيتها ومارست علي والدتها الحاجة فطومة كل طقوس أهل سبها كما لو كنت عروسا فسر زوجي بذلك ووعدني بزيارة لاحقة .." الشيدهو" محظور علي البنات ياباز .. كي تحقق العشبة منافعها دون أدني ضرر تستعمل بعد كل ولادة ليست قيصرية طبعا .. ودعيني أخبرك أيضا عن فوائد سرية لهذه العشبة قد تفيدك في حياتك الزوجية، فمن شأن العشبة يا باز أن تضيق الرحم و تساهم في مساعدته على العودة لوضعه الطبيعي وهنا أتذكر جدتي وهي تمازح صويحباتها العزايز المرحات ويتغامزن فيما بينهن في دهاء حتى تتعالي القهقهات أثناء إعدادهن لشاهي العشية فتقول لهن جدتي:
"يارب أجعله يضياق
في فراشي كيف فمي
وفي زحرتي يوساع
كيف كمي "
و"الشيدهو " يصلب الظهر ويخلصه من ألام الحيض والنفاس ويخلّص المهبل من الإفرازات المقززة الناجمة عن التلوث بالبكتريا التي غالبا ما تقضي المضادات الحيوية علي البكتريا النافعة لتفسح الطريق أمام البكتريا الضارة لتتكاثر الفطريات مسببة حكة شديدة وتهيج المنطقة فهذا يعطي شعورا بالحرقان أثناء المجامعة مع الإفرازات المنفرة التي لها لون الأناناس ورائحة اللاقبي المتخمر وتسبب قلقا لا ينتهي مصحوبا بالألم النفسي .. ولربما أدي بصاحبته لوسواس النظافة القهري.. والتهرب من فعل الحب .. خلصتني هذه العشبة مع الشطف بالماء والملح المضاف اليه قطرات الخل أو بودرة الكربونات بالإضافة للتحميلات والكريم المهبلي " ديكترين " المضاد للفطريات الذي وصفته لي طبيبتي حنان الفيتوري فشفيت تماما وصرت أستعمل " الشيدهو" فقط لطرد البرد وتفتيح مسيمات جلدي وتعطيره .. فبعد كل تبخيرة آخذ حماما دافئا وألتف بلحافي الأبيض فيعتريني شعور " بالغوطسة " حكت لي خالتي فتحية الجهاني التي عاشت زمنا بحارة اليهود " بدرنة " عن طقوس اليهوديات اللائي يغتسلن بالماءالمبارك من قبل حاخاماتهم ومازحتني خالتي ذات عشية عندما ذرعنا شارع " وسع بالك " متجهين لشارع الجيش مرورا بكنيسة " السيدة مريم " ذكور اليهود يعمّدون مرة واحدة .. والنساء في كل شهر تعميدة وتغمزني زايطات ياعوينهن " فعقب كل غسل من الدورة الشهرية تنزل لتغطس بالماء المبارك وعندما تتم طقوسها تعود لبيتها بأبهي حلة وكامل الزينة متلفعة بلحاف أبيض غليظ .. محرم عليها النظر وحرام النظر اليها .. توصلها إحدي المرافقات إلي أن تدخل بيتها بسلام .. وأذا ماحصل وأنكشفت على أحد نتيجة تعثرها أو طاريء ما .. فلابد وأن تتغوطس مرة جديدة قبل أن يمسها زوجها .. بعد اغتسالي من دخان "الشيدهو" لا أتعرض لتيار بارد وأشرب كأسا من مغلي المريمية الساخن و أهجع للنوم ساعة علي الأقل .. باز تسألني عن عشبة " القرض" الآن .. سمعت أنّ لها مفعول " الشيدهو " في تضيق الرحم ولكني جربته في التخفيف من حدة ألم الدوالي أشعرني بالإرتياح فعندما أطيل الوقوف أسترخي لأرفع أرجلي علي وسادتين من أجل تفريغ الأوردة من الدماء المحتقنة التي تسبب ألأما مبّرحة ومن ثم أسكب مغلي القرض الفاتر في مغطس عميق وابدأ بدلكهما برفق شديد لغرض تغلغل ماء العشبة تحت الجلد وأجففهما وأدلكهما بمرهم لا يحضرني اسمه الآن يساعد علي اتساع الأوردة ويحد من تمزق الشعيرات الدموية فأنا أكره لبس الجورب الطبي والقفاز وربطة العنق والمعاطف وكل ماهو خانق .. سستر باز أشعر بالأختناق هواء .. فراغ فراغ فراغ، نصف رأسي تعود إلي، كأني لعبة يركبها ابني جبير، يضع النصف الأعلى على الأسفل، يضع لها العينين والأنف والفم والأذنين، تأتي مهجة فتفكها، ينطلق نصف رأسي من جديد في رحلات أخري، جبير يبكي ويحاول أن يعيدني مهجة تمنعه وكلما نجح فكتني من جديد، تقول لي ا باز ماما احكي أخرى، حكاياتك جميلة، جبير يحب الحكايات، يترك رأسي يرحل، ينصت إلى سردي، أخيرا يبتسم وينام .
أزاحت باز نفّاسة الأوكسجين من علي فمي وأنفي مؤكدة علي سؤالها بخصوص عشبة " القرض " والاستنجاء" بالشبّة " كونها لا زمت طبيبة نساء طيلة عشر سنوات فكانت تأتيهم مثل هذه الحالات الحرجة طبيا .. فقلت لها الجميل أنا وأنت وكل من أنجبت بقيصرية لنهاية المطاف ستهيم بحثا عن اتساع مدي يوصل كل منا لعوالم أرحب من عالمنا الضيق .. عليش كنا نحكوا ياباز قبل أن تسألينني عن القرض دوختك ودوختني وأنا دايخة بروحي وزادة عركة مهجة وجبير على قحف رأسي الطائر دوختني وصدعتني .. آه تذكرت " الشيدهو " أقوم بذلك مرتين كل أسبوع وأحيانا كل شهر وبعد أن كبر أولادي كلما سنحت لي الظروف .. سأجعلك تجربينه ياباز عندما تزورينني ببنغازي سترين النتائج بنفسك ولك الحكم!
أرسلت لى صديقة جدتي آمنة شويقي رسالة شفهية مع هديتها:
- خليك كيف امك قسامي الله يرحمها ماتت وما شمّينا عليها غير البنّة الطيبة.
وتبيع من على طاولتها البخور بالطاسة الطاسة بجنيه والبخور الهندى والباكستانى والسعودى بحجميه الطويل والمتوسط داخل اسطوانات ورقية رقيقة منقوشة برسومات أدغال وأفيال، وهناك البخور المعد على الطريقة الليبية الذى تصنعه أمى بيديها وأحيانا هى وجدتى مبروكة الفزّانية ..وكنت أساعدها فى تكسير القمارى الذى يشبه الخشب فى شكله وله رائحة زكية والشرغدان بعد تحميسه يسهل دقه فى الهاون النحاسى الذى المنى فقده وبعد هروشة القمارى والشرغدان تضيف اليهما مستكة البخور وتدلق أمى قنانى روح الزهر ورائحة البارزيتى وعطور زيتية خاصة بصنع البخور وروائح أخرى لا تحضرنى اسمائها اتذكر شكلها فقط وعلى الأرجح أنها سودانية أوأفريقية لما تحمل من صور علي قاروراتها لنساء سمراوات كسمار جدتى ورغيفى المفضل خبزة التنور محروقة الحواف، شعرهن مجدول بضفائر كثيرة ودقيقة ولباسهن ذي الوان فاقعة، بعد الدلق والتقليب تأمرها جدتي بان تنشره فى الظل و أحيانا تغير رأيها سريعا قائلة:
- وإلا اسمعى يا بنيّة انشريه تحت سريرك خير يخلى بنّة دارك فايحة
وعندما يجف تبعثنى امى الى الجارات
- تعالن هدرزن فى العشية جايتنا جدتي من اجدابيا
وبعد صلاة العصر تبدأ الجارات بالوصول إلى بيتنا الواحدة تلو الأخرى وكل واحدة تحمل فى ردنها او شلامتها هدية لجدتى .. واحدة زجاجة عطر والأخرى " مروّن " وواحدة قنينة زيت زيتون .. وحدة قريطيس حناء ..
- أصبغ به شيب قصتك ..
وأخرى رداء مثقل وتخبرها أن عمره طويل وهو ذكرى من والدتها ومازال جديد قاعد بطباقه..
- وديتك بيه وديدة ياحاجة كأنى لبسته ..
- قطعة جاوى وقطعة قماش خوذيهن ياحاجة بركية من سيدى عبدالسلام الأسمر.. نا عندى عقيدة فيه .
وحدة ثمن زميتة .. وحدة حويرة دحي وطني من دجاجاتها .. والأخرى تعتذر عن مجيئها خالية الوفاض.
- سامحينا فى ها الجية يا حاجة سمعتك قاعدة جيت نجرى ايديا فاضيات عليك حشمة
- الحشمة لعدوك يا حنة وبعدين جيتك عندى بالدنيا
- يعلم الله بمعزتك ياحاجة عندى كيف امى
- عزك عند خالقك القلوب عند بعضها
لا ندري إلا ودخلت علينا قفة سعف فارغة من جيراننا عائلة الشريدي حاملتها الحاجة ذهيبة
- القفة اشتغلتها بسعف نخيلاتي وأنتن جويراتي عليكن تملنها .. فرح بنتي عسيلة الشهر الجاي
- ماشاء الله .. ماشا ء الله ..
- ربي يتمم بالخير
- كل شئ على البركة
- من امتا ها الخبر جاحدتيه ياذهيبة!!
وسط جو حميمي يتفقن الجارات ويقتسمن المطلوب تأمينه من حاجيات " العلاقة أو القفة "
من سواك ولوبان .. حناء ..قرنفل .جدرة وبخور ..مراية وصباط .. فاصوخ ..جاوي .. وشق وحلتيت .. مسك وبودرة وشوش ورد .. عمبرة ..ريحان ..عفص .. زهر وعطر .. حلوة بطش وشكار .. تمر .. سكر نبات وعسل .. زيت زيتون .. أيباري وسلوك ..قصصاصات امشاط وخلالات ..وعطور وكريمات ..و... و ... و ... و.. و ... و... و ... و ... و... و .... و ... و... و ... و ... و... و... و... و... و ... وفكّنا من سواك البطمة اللي طالعة موضته هالايام!!.
كل شي سنجده في سوق الجريد وسوق الظلام وعند السودانيات اللاتي يفرشن تحت أقواس الفندق البلدي.
آه الألم يفتك بجرح مشيمتي، الإجهاض ليس سهلا، أمي بعيدة، انقطعت من عقد عائلتي، أطفالي من دون جدة، أنا أمهما وجدتهما .
- قلادتي أود لحمها
- بكم هذه الإسورة
في سوق الجريد المسمى هكذا، لأنه مسقوف بجريد النخيل وهو من الأسواق العتيقة المشتهرة بها مدينة بنغازي .. به دكاكين تبيع الفرامل ومفردها فرملة أو كردية وهى الصدرية منسوجة من خيوط الفضّة مفلوقة من جهة الصدر إلى شقين .. الشق الأيمن تتدلى منه ثلاثة أزرار على هيئة نواقيس من الفضة الخالصة مشبكة تجويفها فارغ ومقفلة من الأسفل والشق الأيسر نجد فيه عرى أو فتحات لهذه النواقيس لغرض قفل الكردية .. والفرملة او الكردية مبطنة من الداخل بقماشة" الستان " وتوجد في السوق بألوان مختلفة كالأزرق الغامق و السماوي الفاتح والوردي و أشهرها الفضية وهي أبهضها ثمنا ..تلبس الكردية فوق الرداء للعرائس وحديثات الزواج وهذا في المنطقة الشرقية من بلادي " بنغازي .. المرج .. درنة .. البيضاء .. شحات .. طبرق .. أما في المنطقة الغربية "كطرابلس وسرت .. مصراتة .. صرمان .. ونالوت .. فتلبس فوق القمجة وتحت الرداء.
ذات مرّة أفسدت رداء أمي " الحصيري" بالعطر و" الحصيري " عبارة عن رداء كبير فى المنطقة الشرقية تلبسه العروس يوم الصباحية " التسندير " وهو اليوم التالي لليلة الزفاف أما في المنطقة الغربية فتلبسه كل امرأة متزوجة لم تناهز الخمسين في الأفراح مع القمجة الثقيلة المحاكة بأسلاك الفضّة والمطرزة بنقوش فضيّة ويلبس معها السروال العربى الطويل المصنوع من قماشة الستان الذهبي .. ومن ترتدي الزي التقليدي لابد وأن تكون في كامل زينتها كبدر ليلة اكتماله من الكحل العربي إلي سواك اللوزة والحناء وتشتهر بلادي بنقوش الحناء " الخطيفة " وتكون بخيط النيرة وفي الأفراح تحني العروس ليلة عرسها أي اليوم السابق ذهابها لبيت الزوجية وهناك أسطورة ترويها جداتنا لابد لمن تضع لها خيط النيرة وتعقده على رجليها وكفيها أن تكون من المقّربات اللائى عقد عليها مرة واحدة لا أكثر وذلك تيمنا بهناء العروس ويشترط فيها أن تكون من المخضرمات في هذا الشأن ويشهد لها بصفاء النية وطيبة القلب والمداومة على الصلاة فلابد من كثرة البسملة والدعاء وذكر " ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. تبارك الله فيما خلق " في كل دقيقة لدرأ العين .. وحكت لي أمي حواء زوجة والدي الطيبة أن سيدة مسنة سألتها ليلة حناءها في عرسها علي أبي
- هل اشتد عليك الخيط " انقنط "
- لا .. أشعر أنه مريح للغاية
فابتسمت العجوز الجهانية وعانقتها بحرارة هاتفة:
- ما شاء الله عليك " سعدك زين بنيتى " اللى طحتي فى الصفران " تستور ترابهم حامى ".
ردي بالك من ضنيّه بنيتى وقد ما يديروا راهم مرابطين جدودنا الأولين يقولوا:
"لا أدير ما يديروا ولا تنهاهم علي ما يديروا " جدهم سيدي عبد السلام الأسمر بريكته معانا ودعوته تخطانا " وتحسست خرقة خضراء معصوبة بعقدة تكاميتها وبعد أن أتمت تمتمتها رفعت يدها اليمنى مقبلة أصابعها الثلاث السبابة والوسطى والإبهام داعية لها براحة البال
- إنشاء لله تعمري و تثمري بنيتى
دخلت الحاجة فجرية التي كثيرا مادعت لي كلما أعنتها في شيء ما استعصى عليها القيام به فتدعو لي هذا الدعاء الذي أحببت سماعه وها أنذا أدعو به لأبنتي
"أنهض غلبتك .. وفرّج كربتك .. وأجعل خدّامك من حزامك ..واللي قدامك يعقب وراك"
دخلت أم العروس مزغردة .. تمسح دموع فرحها بطرف ردائها، شنوا الخيط بنيتي مرخي والله قانط عليك أصدقي!.
كان خيطها مريح أي سيكون زوجها سهل المراس حلو الطباع و المعشر ..وإن كان العكس أي شعرت بالضيق واشتد عليها خيط النيرة ففي معتقدات جداتنا أن الزوج مراسه صعب ..هذا بالنسبة لشوبرة الأرجل أما اليدين إذا شعرت العروس براحة بعد تشبيرها بالحناء مما يدل دلالة واضحة علي سخاء العروس أما إذا تكرب خيط النيرة سيظهر حتما على وجهها وستكون عروسا شحيحة " ما يهون عليها حتى بولها".
وبعد ارتدائها للفرملة والقمجة والرداء والسروال العربي تتزين بالسواك والكحل ..وتوشح رقبتها بالمريول وهو قطعة قماش علي هيئة ياقة مفرفرة التعاريج مطرزة بالعقيق واللولي " اللؤلؤ " تعطي منظرا بهيا مع " عقد اللبة ..الشعرية ..الحوافر ..السنيبرة ثلاث أشواط ..وتزين يدها بالدملج أو المفكرن أو السوار .. وخواتم كبيرة وقد تكتفي بلبس واحد في كل يد لضخامته فهو يغطي أصابع اليد الأربعة ماعدا الإبهام وما يوضع فوق الرأس عوض عن التاج " الشمبير والبغمة ..والصوالح أو الخرص كلها من الفضة الخالصة تتدلى من فوق الأذنين مثبتة أعلي الرأس وبنات اليوم يلبسن " الشناقيل " من الذهب عوضا عنها فهن لا يقوين على حمل الأولي والتكليلة وهى حلق دائري كبير يلبس أعلى الأذن بعد ثقبها .. وأني لمن اشد المعجبين بالحلي التقليدية المصنوعة من الفضة الخالصة وخاصة تلك التي تتزين به نساء هون .. كيف لي أن أتزين به و أنا لا أملك بيتا أضع في غرفة نومه دولابا أحفظ فيه مثل هذه الحلي الثمينة والملابس الليبية الرائعة، فلباس أهل هون ومنطقة الجنوب صناعة يدوية وبالتوصية فقط وهو من الحرير الخالص المشغول بنقوش مستوحاة من خصوصياتنا الليبية الأصيلة و كلفته المالية باهظة فهم يحيكون للبنت إذا ما بلغت الزي كاملا قطعة بقطعة من سلوك صوفية ملونة تشي بشاعرية راقية وعشق آخاذ لمبلبوسات بلادنا العريقة .. والبنت بالجنوب وخاصة بمدينة هون يصكون لها الحلي حتى إذا ما عقد عليها تكون مبتتة وأشياءها جاهزة .. أنا لم أخرج ببتات كسائر العرائس الليبيات .. الذي تركته لي أمي رحمة الله عليها أهديته لبنت خالى التي جاء عرسها فجأة ولا تسمح ظروفها إلا بشراء الضروري فوهبتها الأطقم والذهب والأرواب وجميع الملابس الداخلية التي جلبتها لي أمى من رحلة علاجها في بريطانيا وايطاليا ..ولكني خرجت بأثمن شيئين من بيت أهلي هما سريري وخزانتي المليئة بالكتب القيمة الفريدة ..و خطيبي جبّار خواطر لم يدع شيئا إلا واشتراه.. وأذكر عندما اشترى أشياء من المفترض أن تشتريها الأم لابنتها بكيت كثيرا فمسح دموعي
- ابتسمي حبيبتي أنا أمك الذكر ..
سرحت كثيرا .. من ترتدي الزي التقليدي تعامل معاملة الأميرات تمشي الهوينى لما تتقلده من حلي ومجوهرات ثقيلة .. يتم استقبالها وتفضيلها في صف يدعي صف الصدرات وتشتهر بذلك طرابلس العاصمة.
وما يزال حاضرا إلي يومنا هذا من يشجع الصناعات التقليدية، مثل الحاج مبارك الفطيسي .. التقيته وهو يشتغل على نوله العتيق فهو يرفض رفضا باتا التطوير في النول أو التغيير فيه أو تحديثه بجعله يعمل آليا كهربائيا .
- هادا أصلى ماتلقيش زيه أني وارثه عن بوي و جدي
" لو تركنا النول ستشل إيدينا ورجلينا
- الم تحاول احتراف مهنة أخري .. هذه حرفة جدي.." حرفة في اليدين ولا ورث الجدين "
- المهنة صعبة والشغل هلبة وميخلصش تعبه بكل ..
محل وحيد في السوق الكبيرة يستمتع أصحابه بمهنة " التسدية " حرفة أجدادهم التي تكاد تنقرض في وقتنا هذا!!، الحاج أمبارك أحب صنعته فأحبته ودرت عليه ربحا وفيرا قبل أن تكسد تجارته لكنها لا تعرف البوار لأنها تنشط في فصل الصيف حيث تكثر مناسبات الأفراح .. على مر اسنين استطاع أن يكون له زبائنه الخاصين الذين يحاكونه ويمازحونه مشجعين على محافظته على الصنعة:
- اه يا حاج مازلت ماتعبتش من تعفيس اللوح وشك الخيوط بلكشي انجيبولك ماكينة من ايطاليا اتريحك اشوي .
فيجيبهم ..:
- تبور شلاتيت المواكين أما صنعة يدي فلا!
حرص علي تعليم حرفة النول لأولاده ونقلوها لبعض الأحفاد الشغوفين بتشرب الأصالة من نبعها .. مررنا أمام محله ورأيناه بوجهه المنقوش بخطوط الدهر .. بلحيته الكثة المشتعلة شيبا والمجعدة قليلا .. بقامته القصيرة وبشرته السمراء كأخوالي وبعكازه الخشبي المعكوف الذي يسانده ..عندما اقتربنا منه أفشي والدي السلام طالبا مني مصافحته
- سلمي يا بنت علي جدك " هذا من زليتن " جار جدك سالم
هذي هي المسدة اللى تصنع في الرداوات والعبي، خلاص عرفتيها يادادا.
وسرعان ما صفقت بكفي علي جبهتي الواسعة مبتسمة .. أواه .. تذكرت كالتي في بيت جدي الحاج مصطفي ووعيت لوالدة جدي لأمي الحاجة مباركة التي أزين أرجاء بيتي المؤجر بقطع من أكليماتها " الشليف " بعد وفاة والدتي بخمسة أعوام نادتني جارتنا العريبية الطيبة أنا وبنات جيراننا العازبات اليتيمات اللائي تأخرن في الزواج وكان عددنا خمسة تتراوح أعمارهن بين الثلاثين والخمسة والثلاثين وكان عمري أن ذاك ثلاثة وعشرين عاما .. قاست عمتي حليمة خيط النيرة على طول كل واحدة منا رغم رفضنا الشديد إلا إنها أصّرت بدافع حبّها وحرصها علي مستقبلنا فطاوعناها جبرة خاطر..أخذت خيط النيرة علي طولي من قبوعة رأسي حتى صبعي الكبير وعقدته ثلاث عقد وأعطته لأخت زوجها مسعودة التي نوت حج بيت الله طالبة منها فتح العقد هناك في الأراضي المقدسة والدعاء لنا بصلاح الحال .. خطيبي اليوم لست بالزوجة الأولي في حياته فلقد سبقتني إليه ابنة عمه بينما كنت طالبة في مرحلتي الإعدادية أستمر معها سنوات عدة انجب منها أطفالا ولكن دون وفاق .. لكنه دائم التفاؤل بالوئام ..استمر معها وانشغل بالتجارة عنها إلي أن جاءت لحظة التفجر .. لحظة خف العيش والملح، فافترقا في سلام.
فلامه والده كثيرا مرددا هذه العبارة
- " أني قتلك ياولد فكني من خلطة عيت عمك ماسمعتش الكلام "، " هي احصد ما زرعت باهي ".
حدثني والد زوجي الحاج مفتاح الطايع رحمة الله عليه أن صديقا لزوجي يقطن مدينة مصراتة كان صديقا له في أثناء دراسته تمني مصاهرته علنا ..واخت هذا الشاب أهدت والد زوجي جرد جربي ..فكان يزيح البطانية من علي جسده حتى وهو في أوج مرضه ..هاتولي جرد المصراتية الحرة يدفيني ..وأوصي أن يغطي جثمانه بهذا الجرد الذي نحتفظ به ليتلحف به جبير عندما يكبر!
أخت صديقه " الشهلة " فاتنة الجمال وطيبة القلب من عائلة محافظة فقد نسجت له عباءة على اسمه وارسلتها مع أخيها .
"هذي منسوجة علي اسمك يعني من قسمك "
في كل شتاء أضعها على كتفيى حبيبي وأهمس له مازحة " البس عباة اللي ماطالاتك فنقههههه ويعانقني فيطالني الدفء وأشعر بوهج في أصابعي يحملني للمسدة ودفء خيط النيرة الناعم فتذهب رجفتي من " عيت حنا إلي غير رجعة!!.
كنت أود لحم قلادتي .. لكن المحلات أقفلت!.. وباز لحمت يقظتي الوشيكة التي ليست في صالحي بحقنة استمرار، شكرا سستر باز، لكن لا شكر ولا عم يحزنون .. فراغ .. فراغ .. جبير يهرب بنصف رأسي، مهجة تجري خلفه، يخرج من باب البيت، يركض بمحاذاة الجدار وحاجز الشرفة الحديدي الواطئ، يقفز إلى خشب سدة الدالية، مهجة تصرخ، جبير طاح من الدور الثاني، تفك منه نصف راسي، تعيد تركيبه فوق نصفه الأسفل، أنطلق بسرعة الريح إلى حيث اشارت أنتشل جبير من نزيف الموت، انفه دم، جبينه دم، دم، دم دمدمدمدمدمدمدمممممم .. فراغ .. فراغ .. فراغ .. توأمي أجهض في جادو، ذهبت إلى مهرجان به متشاعرين فأجهضت كلماتهم حملي .. لو كان الجيلاني طريبشان حي لأوقفهم ولمنعهم من الحضور ولظل حملي سائرا في طريقه الطبيعي، لكن غاب القط فالعب يا فار،الشعر الوضيع اجهض توأمي في جادو وعصافيري في بيتي نسيتها من دون ماء، هي ليست لها سنام .. هي عصافير في قفص مغلق فيافيه ضيقة، صهريج القفص الاسطواني به شق غادر يسرب الماء، نسيت أن أضع كمية أكبر من الماء، نسيت أن أوصي عمتي بسكب الماء في الأنبوب كل صباح،كم أنا مجرمة، كم هو مجرم نسياني، زوجي غضب كثيرا، كاد ان يطلقني بسبب موت عصفورين، لم يغضب هذا الغضب لإجهاض التوأم في جادو، قال إنها إرادة الله، أما موت العصفورين عطشا فمع إرادة الله سأضيف أنك السبب، أنا السبب، انا حزينة، حزينة جدا الآن، لقد دفنا العصفورين في أص الزهور وفق مراسم جنازة من خيالنا، مهجة تبكي جبير يبكي أنا ابكي وزوجي ساهم وحزين، لم نقرا نصوصا مقدسة أو أدعية مألوفة، لم نتفوه بكلمة أثناء دفن العصفورين، كنا نتكلم بلغة الدموع، بلسان الدفء والملح، كل صباح نزور أص الزهور، نزور قبر العصفورين، اللذان عاشا مع بعضهما البعض ولم يبيضا ابدا، شككنا أنهما من جنس واحد، ذكرين أو أنثيين، كانا سعداء، يزقزقان كل صباح، تزداد زقزقتهما مع شروق الشمس وسقوط أشعتها على ريشهم الناعم، يقفزان هنا وهناك داخل القفص، يمرحان في الحيز الضيق، يشربان الماء، ينقران القصب، كل صباح نضيف لهما الماء والحب، كانت قنينة الماء مشقوقة شقا غير مرئي، كانت تسرب الماء دون أن ندري، وعندما غادرنا البيت ملأناها، وعندما عدنا بعد أيام قليلة وجدناها فارغة ولم نــــرَ العصفورين يمرحان في القفص وهو مغلق، فتحنا بيت نومهما الخشبي الملحق بالقفص فوجدناهما منطرحين ميتين، كم هو مؤلم المشهد، أين أنت يا باز، أين أنت يا دكتور المصري، النجدة، النجدة، اقتلوني أنا وأحيوا عصافيري، كل صباح نزور أص الزهور أو أص القبور، نغمره بالماء ونضعه في الشمس، بعد اربعين يوما تحولت ازهار الأص إلى عصافير لا تعتمد على شرب أمواهنا وتكتفي ذاتيا بارتشاف ندى الفجر، لو تركنا باب القفص مفتوحا لفعلت العصافير الميتة مثل الأزهار ولنهلت من ندى الفجر ومن نوره الدائم الذي لا يخلف وعده.
أحب أن أحكي المزيد ياباز، حقنة أخرى لتخفف عني وطأة ألم العصافير، لا أدري أي عصفور مات الأول أم أنهما يحبان بعضهما فماتا في نفس اللحظة، يهبان بعضهما ماتا سوا سوا هكذا قالت باز وواصلت حديثها الذي أشعر أنه غير مترابط، أشعر أن رأسها انفصل أيضا، صارت تحكي عن الفلبين وعن قنابل وحرب، وطيور تموت، أنا أمال ما احبش الموت، ما احبش الحرب، أحب البيس السلام، أخي مات في الحرب، في مندناو هناك حرب بين فلبين وفلبين فلبين مسيحيين وفلبين مسلمين، محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام أخوة براضار مافيش حرب بينهم، كيف فيه حرب بين اتباعهم، أخي مسيهي مات في الحرب وزوج أختي مسلمان مات في الحرب وزوجي وانخرطت في بكاء مؤلم ساقوه إلى الحرب وهرب من الجيش وقبضوا عليه وساقوه مجددا وعفس في الغابة على لغم بتر رجليه وأسعفه المسلمون وعالجته طبيبة باز أخرى مثلي وهي مسلمة والمسلمون جبهة مورو لم يقتلوه عالجوه وأطلقوا سراحه لأنه يهرب من الحرب وجاء الحرب غصبن عنه زوجي الآن على كرسي متحرك ووحدة من عينيه ما تشوفش هو يشوفني بعين واحدة وطبعا بقلبه الكبير بس حرام زوجي بدون رجلين كنا دائما نتفسح في حديقة مع اولاد ونعوم في النهر ونركض في الغابة والمطر يصب، خلاص امال زوجي مافي يجري ما يقدر يتسلق شجرة يحضر لي منها جوز هند وجوافة ومانجا وكمثرى، نار قطعت رجليه، مافي بنج مخدر، فيه ألم فضيع وصراخ قوي، فليبين جميلة بس الحرب دمرتها، حرب بين أخوة، سألتها في لحظة عاد نصف رأسي لينطبق على نصفه الأسفل، لماذا الحرب بين الأخوة ولماذا لا يحاربون الأعداء؟ قالت باز زمان كان فيه استعمار في الفلبين، كل الفلبين حاربت الاستعمار كان لدينا زعيم وبطل كبير اسمه لابو لابو، لابو لابو هذا قتل المستعمر فرناندو ماجلان ذلك البرتغالي الذي يعمل لمصلحة ملك اسبانيا يحتل باسمه الجزر ويقتل الناس الأبرياء وينصرهم عنوة، أول دين دخل الفلبين بالتي هي أحسن وعبر التجارة والأخوة هو الإسلام، كان العرب لديهم خط تجاري بحري إلى الفلبين ينطلقون من مؤانئ الخليج العربي، حتى قبل ظهور الإسلام، لكن ماجلان جاء وقتل كثير من الفلبين، فلبين استقبلوا سفنه بالطعام والماء والفواكه لكن هو وجنوده استقبلوا الفلبينيين بالسلاح والنار، شعب فلبين هزم اسبانيا وامريكا واليابان والصين وهولندا وكل المستعمرين بسلاح صغير اسمه سهم البامبو، البامبو شجرة عظيمة في الفلبين، يصنع منها الفلبينيون سهام نحيفة حادة يغطسونها في السم وينفخونها من خلال قصبة، فيه في جزيرة ماكان بالفلبين تمثال للبطل الفلبيني القومي لابو لابو الذي قتل ماجلان عندما واجهه مباشرة الند بالند، ماجلان بأسلحته الثقيلة وذروعه و لابو لابو بسهام البامبو وبصدره العاري، لابو لابو مثل عمر المختار لديكم، كل شعب فلبين يحب لابو لابو، سمك الهامور المعروف في الفلبين يسمونه لابو لابو وهذا السمك فمه كبير واسع وأسنانه حادة تعرفي علاش يا أمال سموه لابو لابو وليش فمه كبير وأسنانه حادة علشان كان جاء ماجلان من جديد يأكلوا ويبتلعوا بصواريخه وقنبلته الذرية.
بس يا باز ماجلان قرأناه في الجغرافيا أنه مستكشف جغرافي ودار حول الرجاء الصالح وأثبت أن الأرض كروية، تقول باز هذا مجرم مجرم كبير، كذب كلام الجغرافيا، العرب داروا على رأس الرجاء الصالح، العرب بحارة من قديم الزمن، ماجلان لا يحب العرب والمسلمين يقتلهم أو يحولهم إلى الديانة النصرانية بالقوة، هو برتغالي من المرتزقة، يعبد ذهب وخمر ويقتل بحارة معاه في السفينة، بحارة طيبين لا يرغبون في اقتراف جرائم.
فيلبين سيم سيم ليبيا مجاهدة ومناضلة ضد الاستعمار، نحن أيضا حاربنا الأمريكان وحاربنا يابان استعمار واسبانيا استعمار، بس عرب ونحن أصدقاء، لازم فيه صلح بين حكومة فلبينية وجبهة تحرير مورو اسلامية، فيه ليبيا دائما تعمل وساطة سلام بين الاثنين، نحن نحب ليبيا سيف اسلام معمر القائد كل ليبيا نحبها ونخدمها بالقلب، نحن ممرضات فليبين نحب أطفال ليبيا، مافيش خيانة مافيش جريمة حقن إيدز أطفال مثل بلغار .. اطفال ليبيا مثل أطفالنا فيه ديمة ممرضات فلبينيات في مستشفى الجماهيرية والجلاء للولادة يقطعن سرة طفل ليبي بهدوء وطفل ليبي جائع يعيط ممرضة فلبينية تعطيه ثديها يرضع بس لازم يكون ممرض رجل أو طبيب برّة غرفة عيب يطلع ثدي من ستيان قدام راجل.
تعرفي عندما جاء ماجلان الى فليبين وقال لزعيمنا لابو لابو سلم لنا البلاد باسم المسيح فنحن العرق الأبيض أصحاب حضارة أولى منكم بزعامة الفلبين، أجابه لابو لابو إن الدين لله وإن الإله الذي نعبده هو إله كل البشر على اختلاف ألوانهم.
وليش يا باز الاسلام وصل فليبين قبل الإسبان ومسيحيتهم لكن ليس كل فليبين مسلمين، اجابت باز السبب أن الفلبين ارخبيل كبير من الجزر، ليست مكان واحد، فليبين أكثر من 7000 جزيرة منفصلة عن بعضها، فيه جزر وصلها إسلام فيه جزر لم يصلها، الإسلام وصل حتى جزيرة العاصمة مانيلا وكان مسلمين يسمون مانيلا والمناطق القريبة منها أمان الله، والفلبين كلها يسمونها جزر المهراج، فيه كتاب قديم اسمه مروج ذهب للمسعودي فيه كلام هذا.
وتواصل حديث باز الشيق عن الفلبين واشجارها وزهورها وأسماكها وحيواناتها وحشراته و فنها وأدبها و سحرها البهيج، ولم تنس أن تقول لي أن اسم زعيمهم لابو لابو قريب من اسم ليبيا وقبائل ليبو في التاريخ القديم، يا ريت خشيم دكتور أشوفه في تلفزيون في شهر رمضان بمزبوط اسمه علي فهمي خشيم برفيسور في لغات كثيرة عربية وانجليزية وعالمية ياريت يشوف في الكاموس أصل كلام ومعنى كلام فلبيني لابو لابو، كنت أود أن أرد على كلامها، لكن في هذه الأثناء يأتي إلى مسامعنا صوت أذان الصلاة من المسجد العتيق بجادو ويختلط مع صوت الأذان الذي يبث من تلفاز الجماهيرية وإذاعاتها المختلفة التي يحب المريض سماعها، لم تواصل باز الكلام، هناك عجوز ليبية في الغرفة المجاورة ستساعدها في إتمام وضوء الصلاة، ستحضر لها إبريق الماء الدافئ وتصب عليها بمهل وتنشف لها يديها ووجهها بالمنشفة.
قلادة مائي انفرطت، قلادة طيني انفرطت، قلادة ناري انفرطت، قلادة حبري انفرطت، قلادة ريشي انفرطت، كنت أود لحم قلادتي كما قلت لكن المحلات أقفلت، باز تحقنني مجددا و لا أرى أي محلات مفتوحة يمكنها أن تلحم قلادتي، لا أرى إلا محلات الغناء، محلات تبيع الكاسيتات تنطلق منها شتاوات شعبية شجية تعبر عن ألم مثل ألمي أذكر أني سمعتها في عرس لجارتنا منذ أمد قصير، كانوا جيراننا واستعاروا منا الطابق السفلي من البيت للطبخ وبقية الحوسة، كنت في الطابق العلوي و اسمع بشدة الآن صخبا في طابقنا السفلي الذي تسكنه عمتي ام زوجي، صخب قض مضجعي وافسد نقاهتي، لولا صوت عجوز مألوف يخفف عني شجني شجعني أن أتحامل على نفسي وأقف لأطل من نافذتي على منور الطبخ بالأسفل .. هرج .. ضجيج .. أصوات نسائية عالية .. بكاء أطفال .. صراخ مواليد .. زغاريد .. تصفيق (كشكك) تطبيل مراهقات رتمه سريع .. كل هذه الجلبة لم تخف نبرة الأسى المنبعثة من صوت تلك العجوز الطباخة المحمس أثناء تحفيزها لمن تطوعن لمساعدتها من النساء المقربات لأهل العرس:
(نا عينى ويش انديرلها .. نص مواجعها من هلها)
(مخازن قلبى مليانات .. مواجع ومعاهن سيات)
(هابة ياما شايل عقلى .. غير وطيت عليه بثـقـلى)
امرأتان واقفتان في ركن المنور يفتحن أكياس الأرز وينكثـنها فى قصاع كبيرة مصنوعة من الخشب لتنقيته من الشوائب .. وفتاة تغسل الطناجر التى ستستعملها الطباخة بالماء و الليفة والصابون وتباهت أمام الطباخة والأخريات بأنها وحدها من قامت بجلى الطناجر والقصع والسخاخين ولقامات الشاى الكبيرة قبل أسبوعين من الفرح ووضعتها فى أكياس بلاستيكية لحفظها من الغبار والغبش .. فهذه العائلة لديها أشياء تعد قديمة نسبيا كالسفر والقصع ولقاقيم الألمونيوم التى يستعملون الناس أوانى الستانستيل وأطباق الزجاج عوضا عنها فهي لا تحتاج إلى مجهود كبير ليعود إليها بريقها اللامع .. لكن أمها الحاجة منبيّة أصّرت على عدم استبدال أوانيها القديمة وترفض التفريط فيها
- هذه الأوانى عزيزة على نفسى واعتبرها (قرارى)
وكم حرمت نفسى من قطع الحلى التى كنت اتحصل عليها من خواتم وأساور لأشترى بها الطناجر والمغارف والأباريق والسفر الكبيرة وكل مستلزمات المناسبة ولم أشتريها رخيصة لأفرط بها بسهولة .. فقد كنت أشتريها بالغلاء والكواء من الباعة المصريين الذين يذرعون الشوارع صباحا ومساء .. يصيحون ..
- معانا .. معانا ..
فأخرج ما معى من أجل الشراء وغالبا ما أعجز عن سداد المبلغ دفعة واحدة فيقسطه لى البائع الجوال على دفعات وأحيانا أقايضه بالتموين (الشاى والزيت والسكر) أو بطانية عندما كان التموين متوفرا فى الأسواق والحوانيت والجمعيات .. كثيرا ما عرضنى ذلك لشجارات مع أبيك وهذه الطعجة التى تجلينها الآن هى نتاج توتر ونوبة غضب جارفة أفضت به إلى رفع الطنجرة وهي تبكبك بالمكرونة بكلتا يديه ورميها بقوة لترتطم بالجدار الذى أقسم أن لا يرمم أو يطلى من بقع الدهن والدوائر الصغيرة التي سببتها حبيبات المكرونة المبكبكة وبقى على حاله سنوات الى أن ذهب أبيك إلى الحج فأصلحناه وطليناه فرحا بحجه وعودته سالما بهدايا الحج وماء زمزم .
- ما شاءلله عليك .. جاليتهن جلية نصح ..
- تحقى فيهن وجهك .. عطيك الصحة ..
- آه منعمين الرجالة!!
- مايحقوا غير فى هلى يتباقسن أقدامهم .. متاعات الأحمر والأخضر .. ويتلون رايحات جايات تقول مستكة!
أشعلت الطباخة ثلاث مواقد للغاز وملأت أنصاف الطناجر بالماء ووضعت بها شرائح البصل والطماطم الأخضر والفلفل الأخضر والملح والتوابل الجافة غير المرحية مثل الشيبة .. حبيبات الفلفل الأسود ..أعواد القرفة .. الزنجبيل .. حب الهال .. كعيب الطيب ..شوش الورد .. عود اللحم ..ورق الغار ..وبهارات كثيرة بروائح مختلفة تسيل اللعاب أعرف شكلها ولا أحصى أسمائها وبعد أن تفاور الماء بما حوي بدأت بوضع قطع اللحم المغسول والمقطّع الى قطع ليست كبيرة .
بينما كانت الطباخة تسكب الزيت والملح إذا بعجوز خرجت لتوها من الوضوء ماسحة بكفها نقاط المياه المتبقية علي وجهها هي أم العروس بالتأكيد، صرخت في الطباخة والبنات المساعدات:
- ساعدن شوية عليك بقبقة فى الزيت
- زيت جمعية رخيص ياحاجة .
- ياك الا زيت جمعية، والله شاريته من السوق السوداء بالغلاء والكواء.
نضج الأرز وبدأن المدعوات بالحضور واستعدت الفتيات لتقديم العشاء مع المشروب والفاكهة و الحلويات للحضور .. وصلني طبق من الأرز وقطعة لحم عجل صغيرة وقليل من حبيبات اللوز المشطورة إلى أربعة أجزاء الواحدة لا تساوي حجم الصنوبرة وقطع الكبدة انكمشت تكاد لا ترى وسط هذا الكم الهائل من الأرز الذي لا تدل رائحته على شكله تماما .. أقفلت على بابي .. أخذت الملعقة وتذوقته .. كان طعمه رائعا لما بذل فيه من جهد ومهارة وليس ذنب الطباخة قلة الإمكانيات .. أعطي للداقرة تعطيك .
أم العروس نبهت الطباخة عني:
- راكبة نازلة بلكى مدت يدها في حاجة
- لكن حرام شافاته و شماته اعتبروه صدقة
هذا كان مدخلا لتتحايل عليها في إنقاص أجرتها المتفق عليها والغريب أنها أتمت توزيع الطعام إلى آخر حبة أرز دون أن يطلب منها عزل قصعة لأولادها كما جرت العادة .. تعالى الصياح وما أثارني هو بكاء الطباخة وهى تقول أنا طبخت وتعبت وسترتكم مع الناس والضيوف حتى وان كان حاجتكم شوية لكن درت جهدي .. عطيتونى حقي كامل باهى ماعطيتونيش أنا موكلة ربى حتى أنا نربى في أيتام .. و حالي يعلم بيه ربى .. بعض الجارات تعاطفن معها بعد أن تركتها أم العروس في المنور تبكى بعبرتها وخرجت.
- هذا اللى عندي نص المبلغ كان عاجبك!!
قدمت لها إحدى الجارات كأس ماء وأخذت تواسيها بينما المراهقات اللائي شبعن من الأرز واللحم وبالطبع العصبان أرتفع رتم شتاوتهن غير عابئات بالذي حدث:
يرن عليا بصوت اطوير .. بعد كان ايشير تشيير.
لكن طوير المراهقات حر ليس في قفص يشرب الماء من كل الأمكنة، عصفور حي غير ميت مثل عصفوري اللذين نسيت أن ازودها بالماء فماتا عطشا.
مرة أخرى قلادتى أود لحمها، خذيني يا باز على سوق الجريد، محلات كثيرة هناك تحترف لحم القلائد ولظمها، قلادتي أود لحمها:
- بكم هذه الإسورة؟
مرة أخرى فى سوق الجريد المسمى هكذا لأنه مسقوف بجريد النخيل وهو من الأسواق العتيقة المشتهرة بها مدينة بنغازى . والذي تباع فيه الأزياء التقليدية من أردية حريرية ولوازمها من سراويل عربية وقماجّات ومحارم وأحذية وحقائب و مصنوعات تقليدية كالعِدَدْ التى تصنعها جدتى بمهارة وتسوقها لمحلات مشهورة تتعامل معها بسوق الجريد العدد بكسر العين على وزن " عنب " جمع عدّة والعدة باللهجة البنغازية خيوط سمراء تساعد في استطالة الشعر .. فتعطي للشعر الخفيف القصيرجمالية رائعة .. وتجعله يبدو غزيرا وتجعل للشعر المجعد سوالف مسترسلة خاصة بعد مشطه بخليط المروّن المكون من ماء الزهر والزعفران والقرنفل المسحوق .. فعند إتمام المشط تنسدل الضفائر على الظهر مطلقة رائحة زكيّة منعشة.
السوق الآن مكتظة بالدكاكين التي تبيع الأردية الحريرية ولوازمها من العدد التي تتزين بها المرأة الليبية الأصيلة وهى عبارة عن نسيج من خيوط الصوف المجزوء من خراف الضأن الوطني التي لا تصح مائدة إفطار رمضان إلا بالشربة العربية الخاثرة المعدة من لحومها وتفوّح بالكسبر الأخضر والنعناع الجاف بعد نضجها.
ويوم الجز يكون في فصل الصيف وتقام بهذه المناسبة " الجلامة " وهي احتفالية كبيرة تعد على شرفها الولائم الشهية و يلتقي فيها الأحباب من كل حدب وصوب ويفرح الأهل والجيران حتى الذين ضاق بهم شظف العيش و قست عليهم السنون ورمتهم الحياة على قارعة الألم، في أيام الجلامة سيكونوا سعداء، ستمتلئ قلوبهم بالغبطة وسيعودون إلى خيامهم وأكواخهم محملين بالرؤوس غير المسلوخة وبطون الخراف بفرثها الذي على حاله بأخر ما تناولت البهائم من شعير لم يكتمل هضمه وفوق هذا كله تكون بطونهم ملأى من لحم الضأن الذي تناولوه أثناء مساعدتهم في الجز ومن الشوايات وفطور القلايا والشاي الأحمر اللذيذ المنعش .. وليس هذا فقط فكثير ما صاحبت عمليات الجلامة أغاني علم وشتاوات ومجاريد ممتعة تروّح عن أنفس هؤلاء المكدودين الفقراء خاصة إن اختتمت أيام الجلامة بحفلة كشك كبيرة وهى حفلة شعبية بها شتاوات ومجاريد تصاحبهما رقصات من حجالات محترفات أو من هاويات من بنات العائلة العارضات جمالهن ورشاقتهن في عفة تنتهي دائما بالزواج من أحد أبناء القبيلة الحاضرين، وحفلة الكشك دائما يتهيئون لها قبل بدء موسم الجز بأسابيع .. والكشك ليس رقصة فحسب .. بل هو لفظة تطلق على اللبن المجفف على هيئة هريمات .. فلقد رأيت نساء يبعنه فى سوق " القزاز " بطبرق .. كنت أجهله لكن البائعة أعطتني نبذة وافية عنه .
- نستعمله في إعداد وجبة الأرز والمقطع الأبيض بالرب المخثر باللبن و المفوح بالزبدة الوطنية ..وابتسمت ابتسامة ساخرة محدثة صوت فرقعة بفمها ....آ... و انتى أيش عرفك يا يام بها الخبر .. الربيع من فم الحوش يبان!
والشيء بالشيء يذكر .. في تلك الحقبة كان هناك شيخ مشهور اسمه على كل الألسن وأشرطته رائجة في محلات الكاسيت .. يتبادلها الناس خلسة لكثرة ما فيها من خطب جريئة تهاجم الحكام العرب بحدة تلك الفترة، اسمه الشيخ عبد الحميد كشك الله يرحمه، و الحجالة هي الراقصة الشعبية وتعتبر من مقومات الكشك، فلا كشك بدون حجالات، ونراها غالبا ترتدي زيا مؤلفا من رداء بسيط جدا، وتفصيلة وهى ثوب نسائي واسع الأكمام و قصير يشف الأذرع والرداء تحت ركبتيها بقليل وأحيانا فوقهما كتحزيمة " الفونشة " مطربة شعبية كبيرة من مدينة بنغازي ويكون مموجا " مجلول " كآلة الأوكرديون، تحته سروال عربي من قماش لامع " معجون بالسمنطو " يظهر واضحا عندما تدور دورات سريعة رافعة يديها بالعصا وتستر ساقيها بجورب تركي أسود اللون مثقب بفراغات تبرز لحم الساق وبنيته بطريقة مغرية على هيئة ورود وفراشات ولكي لا يسقط من فرط هزهزتها مع طرق العصا و قدميها على الأرض كما لو كانت ستسحق شيئا تحت قدميها ..فتثبته تحت حاشية البنطلون المدككة بالأستيك "السلك المرن".
بلغتها من جلد لونه دم غزال وطويلة العنق وبعد نقص هذا النوع من الأحذية الذي يصنعه الخرازون يدويا ومحليا فغالبا ما يكون حذائها الآن خفيفا مريحا مصنوعا من الجلد الناعم أو البلاستيك .. تسدل على وجهها غطاء أسود اللون أو أحمر، يكون شفافا كمحارم رمش العيش وذلك حتى لا يخفى ابتسامة الغنج و لا غمزة الاشتهاء من عينيها " المغرغزات بالكحل العربي، ولا الشفتين المبالغ في تسويكهما بسواك اللوزة المجلوب من مدينة البيضاء.
- بلا .. عليك شوارب تقول رطب يا!
- يا نا علي هذا السواك والا بلاش!
تزداد الغمزات والابتسامات العريضة المبطّنة كلما لامست عصاها إحدى حضور الكشك " الكشاكون " يغطى الغطاء الشفاف الوجه نازلا أسفل ذقنها ملفوفا حول عنقها، تربطه بعقدة خفيفة مهددة بالانفلات بين الهزة والطرقة تتكئ على عصاتها في غنج وفجور مبرزة عجيزتها إلى أن يتم مطلع الغناوة ومن ثم تنطلق راقصة شارعة في الهز والتمايل مع غناوي الشتاوة وليست الأغاني محصورة على الجز بل لا تخلو من صوب خليل و غناوي المرهون:
"اللى لى خلّيطة فيها .... ما تقدر يا ذيب اتجيها"
"صارت فيه الراعى ليلة ... يرقد ياذيب تعويله"
"بلهون الراعى وكلابه .. ماداروا للذيب أحسابه "
مانبقوش عطاشة ديمة .... بإذن الله تجينا غيمة"
ومن تأتى الشتاوة على فاهقه .. أي ملائمة لجرحه ومعاناته على الصوب وهو الحب بلوعته واشتياقه وجنونه وعذاباته ..أو هموم الدنيا وضيق ذات اليد وشتى متقلبات الحياة.
فمن تلاؤمه الشتاوة يقفز لا شعوريا صارخا
- أي .. يا .. اها .. اه .آه.
واللازمة المتكررة ..ها ..ها ..ها ..آه ..ها.
ويحق لمن لامسته العصا الدخول وسط الدائرة ومراقصتها بحماسة فيسيل لعاب من يسيل ويشتد الصراخ وتتورم الأيادي من شدة الهيجان والتصفيق .. فكلما قاربت صفا عضعضوا شفاهم ولعقوا ألسنتهم وتوترت أيورهم شبقا من لذاذة المشهد الذي لا يقاوم كخابية نبيذ شربت بجنون في نخب أفروديت .
يراقصها أحد الكشاكة فيتحفزون لتقوية الكف أكثر فأكثر لا شعوريا إلى حد طقطقة الأذان و تسايل العرق فتتمزق الجلاليب من كثرة تشريع الأرجل وتقديم يسراها على يمناها، سعيد الحظ من ارتدى بدلة عربية ذات السورية القصيرة والسروال العربي واسع الحجر، الحماسة و الهيجان تؤججان الشهوة فتطول الرقصة ويشعرون بخلود الزهوة .
قبيل انتهاء الكشك تبدأ التربيطات مع الحجالة المحترفة التي ليست من الهاويات بنات عائلة العرس فترافق من تتفق معه في سيارته القلع " نصف نقل " وكثيرا ما تنشب الشجارات بسبب المنافسة في استمالة الحجالة وقد تصل إلى إبراز المدى والسيوف وبنادق الصيد " الخرطوش " التي يخبئونها تحت كراسي سياراتهم تحسبا لأي طارئ، لكن إن كان الكشك منظما وخارج المدينة، أي في إحدى النجوع، حيث كل الحاضرين من قبيلة واحدة أو من قبائل متجاورة تربطها صلات مصاهرة وأخوّة قوية مع بعضها البعض ويشتركون في امتلاك الأرض التي يعيشون عليها فلا تحدث مشاكل البتة من هذا القبيل.
وفى معظم الأحيان تكون الحجالة معروفة ومن بنات القبيلة أو نسائها المحترمات فيبتهج جميع المكشكين دون أن يحدث من أحدهم أي تجاوز أو تهور وهكذا تمر الحفلة بسلام وسط انبساط كافة الحضور من ضيوف وأهل بيت وهذا الحفل يقام في الأرياف والمدن أيضا بنسب قليلة حيث ينصبون في الباحة التي أمام البيت بيت شعر مزركش بأنامل جداتنا الليبيات وهناك شابات تعلمن حرفة حياكة البيوت من أمهاتهن وجداتهن و أتقنها جيدا كما زوجة جدي مصطفى الحاجة أخويرة البقوشية والتي كان ترتيبها السابع والأخير في زوجات جدي، كانت تنجز البيوت من خيش أشولة الأرز والسكر وتكسيها بالملابس الزائدة والأردية العتيقة والملابس القديمة التي يبعث بها الأهل والجيران وأمي أيضا كانت تجمع لها الثياب التي لا حاجة لنا بها بعد أن تهب غير المدعوكة للمحتاجين وما باد منها تجمعه في كت عسكري لاحاجة لعمي به بعد أن تخرج من الكلية العسكرية برتبة ملازم وطرد لسكره وعربدته، تحمله معها في كل زيارة لإجدابيا حيث بيت جدي في ضاحية من ضواحيها، فتعطيه لجدتي اخويرة التي تفرح به كثيرا فكلما كثرت الملابس واختلفت أماكنها كلما كانت الفرصة موالية لانجاز البيت سريعا ويجعلها تبدع وتتفنن بازدياد ألوانه وتبدأ صنعه بجمع الملابس من بقايا الأقمشة والسراويل و السواري والمعاطف التي تمزقت واستغنى أصحابها عنها فهي لم تعد صالحة لرتقها من جديد، تجمعها أمامها " ما ينفع في البايد ترقيع ولا في صاحب السو اسكات " ثم تعالج الملابس التي صنفتها .. تزيل منها الأزرار والكبسولات والعقيق، وتحيلها كلها بمقصها الذي شحذته على زجاجة عسل فارغة لتجعله حادا كلما غص بالقماش فيعود ليلتهم بلسان حاد كل ما وضع بين فكيه الحادتين من ملابس ممزقة لتصنع منها مسطحات قماشية مزخرفة غير أبهة بتنسيق الألوان وأنواع الأقمشة حيث ستتدبر العشوائية اللونية التشكيلية نفسها لتصنع جمالها الخاص والفريد، تحيكها بإبرة طويلة وغليظة تدعى المخيط .. الميبر أو المشفا وتستعمل ذاتها في خرز الأحذية، تمرر من ثقب المخيط قماشة من الكتّان الأبيض بعد أن مزقتها وبرمتها بطريقة مبهرة، وقد تضفر عددا من هذه القماشة إن أرادت خيطا أقوى لتدعيم إحدى العروات، تلفها قطعة القماش على إصبع رجلها الإبهام وتجذبه إلى أعلى صدرها وتبرمه بكفى يديها إلى أن ينفتل وهلم جرا....... فيصبح جاهزا على هيئة خيوط غليظة ومتينة جاهزة لتخيط بها القطع فوق الخيش جنب بعضها في الجهة الداخلية من البيوت ومن أروقته و في النهاية عندما يرتفع البيت تظهر لنا القطع المرتقة بألوانها و نقوشاتها الجميلة منظرا بديعا زاهي الألوان: مزرق ..محمر ..مصفر .. مخضر .. يبعث في النفس التفاؤل ومبهج للحد الذي تتخيل معه قوس قزح الذي كثيرا ما هللنا فرحين لرؤيته صغارا في ضحى الشتاء، يتعالى صخبنا فنتلوا أمانينا عند مشاهداته:
- أنت شن تمنيت
- لا قول أنت قبل
هناك من تمنى في سره وهناك من دعا ولا ترى سوى يديه المرفوعتين إلى السماء بشفة متمتمة!
وهناك من تمنى في صخب وعبث طفولي إذا ما حاولت التنصت عليه فلا تفقه منه شيئا ومازالت تختزل ذاكرتي مشهد ابن الشيخ سليم الزليتني المسئول عن تنظيم الحضاري وخاصة احتفالية عيد المولد النبوي، كان يدعو في تذرّع:
-ربى وربك الله مرددا يقول هذا قوس الله وليس قوس قزح، قزح اسم من أسماء الشيطان والعياذ بالله البعض يشعر بالخوف والبعض يفكر فيما سمع والبعض الآخر يضحك في لامبالاة، يشيرون له بأيديهم إلى أسفل، بعد وضع أكفهم على أفواههم وفى فم واحد يلفظون متهكمين.
- ... با ... با ..!!
ويقصدون أنهم لا يهتمون لكلامه وسيفعلون ما تمليه عليهم أدمغتهم.
وولد بوبكر الكزة الذي كان يرمي العشرة قروش صارخا سأسكب أضعاف أضعافها إذا ما لامس النسر وجه العملة ألوان القوس .. سأصبح غنيا كوالدي و جدي .. ويقهقه كأنما السماء ستمطر ذهبا.
- مرة ثالثة قلادتي أود لحمها
- بكم هذه الأسورة؟!
والعدة خيوط صوفها غليظة ملونة بألوان شعر نساؤنا العربيات الأسود ..الكستنائى ..الأشهب .. الذي غزاه الشيب الفضي كسبيب خيولنا الأصيلة وتكون على هيئة ثلاث خيوط متدلية يتدحرج من نهاية كل خيط قطعة صوف ملونة تلون تعاسة الحياة بشفافية الفرح.
حمد الله ..غسل يديه . .ضم اليه ابنته مهجة فنامت على ذراعه كما كنت اتوسد ذراع ابى
غطا فى نوم عميق .. استيقظا .. الطفلة تقبّل أباها مبتهجة (صخبيل بابا)اى صباح الخير .. أخذ حماما باردا ارتدى تيشرته الأبيض أقسم على ذلك سيبر بقسمه الى ان تنتهى روايته عسل الناس (الخميسة .. الحويتة .. القرين).
الخميسة كالتى اهداها لجدتى فى عيد الميلود من أجل انارة الشموع، الحويتة كالتى أحضرتها ابنته من سوق الحوت فرحة .. بها حوتة سمحة عطاها لك عمك الراجل ولم تكتف بواحدة فهى كأمها تحب المزاوجة بين الأشياء أطلق عليها جدها لقب أمها (ام اثنين) لا تحب وحيد القرن، تحب قرون الغزال ..اعطتنى ام زوجى قرن غزال ضاحكة:
- اليوم صار من حقك الاحتفاظ بالقرن وسرّته! (سّرة زوجي محمد تحتفظ بها امه منذ ولادته)
القرين كنت أعلقه فى عصابة رأسه صغيرا لدرأ العين عنه وجهه تقول بنارة وشدوقه تقول فلفل مبطبط، قديماته سعد .. جانه وجاب الرزق معاه .. حتى بوه مايقوله إلاّ ياوجيه الخير ودلعه دلع نين فسده، من دون صغار العيلة مايخليه ايمس حاجة واهو كبر .. وقاعد لنهار اليوم كل شىء بالفلوس، لا يعرف يصيّن حاجة .. لا يرادع حاجة .. يبى كان القراية والكتيبة ..لا يحب اللمّة .. لا يحب ايخالط الناس بكل .. والله ياحاجة ..انى بنت ناس .. الحمدلله شبحتى أهلى بعينك .. حوشنا كبير .. وطالعة من عيلة.. بوي شيخ قبيلة من قبل لا يتم الخمسة وثلاثين عام من دون رجالة العيلة ..اعمامه من قبل لايموتوا سلموه والمشيخة ومعاها صندوق العيلة ما سد عمله المتعب و منصبه الحساس.. ماسد موت أمى اللي كانتله سند .. ماسد خوتى الخايبين من كثرة الدلال.. ما سد عنده (من كل دار حوار) لكن اثبت جدارته وصل اعلى المراتب فى عمله، اسمه صار معروفا يحبه الناس لتفانيه في مساعدتهم دون مقابل (لوجه الله)وأصبح رجال العيلة لا يستغنون عنه اذا خطبت فتاة لابد وان يؤخذ رأيه وموافقته أمر ضرورى .. الشروط شوره .. وإذا قرر أحد شباب العائلة الارتباط فوالدى هو من يتكفل بفتح الحديث ومتابعة الأمر الى أن يتم عقد القران وقد يعود الزمن فاتسلل قرب غرفة العريس لرؤية المشهد فور خروجه.
الزفاف .. الزفاف .. قرينالكم الفاتحة لكن سقدوا ارواحكم، دائما يردد:
(مراتك وصلاتك .. مربوحة وزينة).
في خمس دقائق اتفق محمد مع أبي وتزوجني، رأسي متصدعة الآن، الآن دخلت الممرضة باز للغرفة لتتفقد حالتي من جديد فوجدتني قد توقفت عن الرقن وبدأت ارقن في رأسي الذي عاد من رحلة طيرانه، رأتني وحيدة أتأمل الحيطان وأقلب عيني في بقع السقف وتخطيطاته وبعضا من قشوره التي صنعت ظلالا للوحات ساحرة كسحر سفوح الرجبان.
- آمال فرج " سلام عليكم " وبلهجتها المكسرة حمدت الله علي سلامتي وواستني عن فقدي للتوأمين وأخبرتني بأنهما ذكر وأنثي فبكيت وأطلقت عليهما في خاطري اسمي "زهور وزهير" .. مثل اسمي العصفورين الميتين عطشا، أناخت باز بشعرها الحريري الفاحم ورفعت قصتها بحركة سريعة إلي الخلف تواسيني مربتة علي يدي بحنو وأخرجت منديلا من صندوق المناديل الموضوع فوق الخزانة الملاصقة لسريري ومسحت بهدوء دموعي المتهاطلة فسرعان ماعادت خصيلاتها الناعمة تشاكس جبينها الأسمر .. ابتسمت ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان بيضاء وخاطبتني:
- تعال .. تعال .. شوية أهكي ..أنت ..أنا ..مكتب سوا .. سوا "
" بليز كم هير فايف منت آي آند يو"
- يالا امال تعالي مهى للمكتب اهكي كل شيء .. غيري المكان قليلا
وأخذتني من يدي تسندني على كتفها ونسير ببطء ناحية مكتبها القريب.
فرحت لاهتمامها فتبعتها متأملة في هذه الحياة وعندما دخلنا الغرفة تركتنى والتفتت إلى الجهة الأخرى لتفتح النافذة فالتمعا قرطاها الذهبيان المرصعان بفصوص برّاقة بيضاء وصغيرة .. صوتها رقيق عذب دافيء، تتكلم بروحها الدافئة، ترتدي مداسا خفيفا يصدر طقطقات موسيقاها تهتز لها أوتار القلب ولا تزعج المرضى، وحتي القويقعات التي زين بها المداس تشعرك بأنها نابضة بالحياة ومنفتحة عليها!
- "أوقهد .. أستريح .. هنا بعيدا عن التيار"
"سداون ......."
سكبت لي كوبا من الشاي وقدمت لي معه قطعة جاتوه ثم تجاذبنا أطراف الحديث
- أنت في كلام مش من هنا – أي لهجتي مختلفة عن أهل الرجبان وجادو والجبل الغربي
- بنغازي
- بنغازي مش فيه زيارة .. ترانزيت بس سنة 2002 بس أنت قلطان .. مسافة بإيدا هلبة
وأخذت توضح لي بهدوء وحميمية مضار السفر وخطورته في أشهر الحمل الأولي وتعاطفت معي وشددت من أزري
- "الله قالب .. من الله ماما"
وفرحت كثيرا عندما أعلمتها أن لدي طفل وطفلة رائعين!
- ماذا عنك باز؟! كيف حال أسرتك؟!
فأجابت والحنين يعتصر فؤادها وبعد أن عانقتها مواسية بالمشاعر دونما كلام فأخبرتني:
- أهلي لم أرهم منذ خمس سنوات، أمي أبي زوجي وكذلك أطفالي الولد والبنت اللذان كبرا في غيابي وأنا أتحرق شوقا إليهما بسبب أنتظار تذاكر الدولة .. فعلي حسابي الشخصي ستكلفني التذكرة ألف وثمان مائة دينار ليبي .. أنا هلبة ازينة صديكتي امال.
- أبنتي كاترينا كبرت بعيدا عن حضني فهي تنادي والدتي أى جدتها "ماما" وأنا تناديني عبر الهاتف باز فقط .. أتحرق غيرة ولهفة لأحتضانها وتقبيلها .. فهي دائمة التقبيل والعناق والهمس لوالدتي .. أما عني فهي تفرح بما ارسله لها من حاجيات وهدايا أما عن المال الذي أغترب وأحتمل الوحدة وأمور عدة من أجل تأمين عيش كريم لها وأخيها يمكنهما من مواصلة تعليمهما فأحوله لهما أول بأول ولا أبقي إلا علي مبلغ بسيط يلبي حاجياتي المتواضعة فالسكن والمواصلات مجانا و الناس كلهم طيبون وهذا ما جعلني أدخر مبلغا أكبر!
فتحت حقيبتي وأخرجت منها عطري المفضل " بلو ليدي " فرفعت يدها معتذرة بأنها تطبق طقوس المنطقة التي تعيش فيها فنسائها لا يتعطرن أثناء الدوام .. أهديته لها بعد أن أعلمتني أنها تستعمل العطر ذاته .. لقناعتي وإيماني الراسخين بقوة سحر العطر والموسيقي علي إيقاض الذاكرة ومنح القوة والانتعاش .. وتحاورنا حول جفاء ابنتها فحاولت أن أفهمها أن الأمر موضوعي فالبنت غير ملامة فهي نشأت في حضن جدتها والجدة هي من تحتويها .. تعلمها .. تستقبلها .. تسمعها .. تفرح لفرحها في ذات اللحظة وتواسيها إذا مالزم الأمر .. أما عن باز .. فما هي إلا بعيض مهاتفات لدقائق كل أسبوع ورسالة تصلها منتصف كل شهر ليس كاليوم في أنتشار الإنترنت .. فأقترحت عليها شراء العطر المفضل لإبنتها ورش ورقة الرسالة والظرف قبل الكتابة فيهما مع الأستفاضة في شرح المشاعر الأمومية والأحانين مع ربطهما بجمل من الموسيقي المتضمنة لبعض المقاطع من الأغاني التي تشد أنتباه أبنتها .. مع إرسال الزهور المجففة وفق الزهر المقرب لنفسها .. عانقتني باز يبدو أن الإقتراح راق له ووعدتني أنها ستفعل حالما تعود للبيت وستطلعني بالنتائج عبر بريدي الألكتروني ووعدتني بزيارة لبنغازي في أول إجازة لها!
أجهضت التوأم وأجريت العملية بمدينة جادو الكريمة التي جادت علي بالحياة .. لو تأخر زوجي دقيقة واحدة عن حملي للمستشفى لأقفلت حجرة العمليات وصار لزاما نقلي لمشفي في طرابلس التي تبعد مائة وسبعين كم وأنا في حالة نزف شديد فجادوا تبعد خمس كيلو مترات فقط عن مدينة الرجبان الجبلية التي ذهبنا اليها للمشاركة بمهرجان الجيلاني طريبيشان " مدينة الرجبان المزدانة بأصالة ناسها الطيبين الذين فتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم وأنفقوا من جيوبهم على المهرجان .. ولن أنسي الأسرة الطيبة وكبيرة عائلتهم " الحاجة شعلاء " التي ساهمت في أنقاذ حياتي بتفطنها لتغير لون وجهي وأنقباضاتي المفاجأة من شدة الألم.
- "وجهك أصفر وخاشة طالعة علي الحمام"
عندما أستشرتها بحياء عن قطرات الدم التي أجهل سبب نزولها أثناء حملي .. فأنا لست من ذوات الحمل الغزلاني أى تأتيني الدورة أثناء أشهر الحمل و لم أجرب المخاض ولا الولادة الطبيعية من قبل كنت أسمع وأقرأ عنها في الكتب والمجلات أو أطالعها في البرامج العلمية الموثقة فقط ليس إلا افهمها.
لا أستطيع وصف الألم الذي كاد يقتلني سوي بأنه كرمح ثقب سرتي وجاء أحدهم يلويه ذات اليمين وذات الشمال .. وتكتمت علي الألم من الليلة الفائتة لأمور كثيرة ومنها ألا أنكد علي أصحاب البيت الذين طاروا فرحا بنا ومنها أن زوجي لايبيت بنفس البيت الذي أبيت فيه أنا وصغيري صحبة أناس طيبين وإنما بمضافة الرجال وتبعد عن بيت الكيش مسافة لابأس بها وأولها وآخرها حياء فسينتشر أمري بين حشد الأدباء والأديبات الذين جاءوا من كل أصقاع بلادي الحبيبة ومن بينهم ضيوف حضروا من دول شقيقة للمشاركة في أحياء هذه الذكري الرائعة لعاشق الشعر جيلاني طريبشان مازلت أحفظ أبياتا من إحدى قصائده:
أخاف .. أخاف
أخاف الليل أذا ماجن
والنار إذا أكلت جسدي
وأخاف المرأة
والأشجار المصلوبة في عرض الشارع
وأخاف الناس
ويحي
وأخاف تواريخي المتواجدة في الظل
ماذا يمكن أن تعطي الأشجار
أخاف .. أخاف ..
الأزهار
والنيران إذا ما ألتهمت وردة
شجرة
امرأة
أخاف
أخاف المرأة َ!
ففي الليل وبينما أنزويت في الغرفة أتألم بحجة تنويم أطفالي أذ بهم ينادونني وحضرت إلي شخصيا العروس الجديدة الطيبة خيرية زوجة الشاعر المعروف أدريس الطيب التي فتحت حاسوبها علي شريط وثائقي سيعرض ليلتي حنائها وزفافها بالطقوس الليبية الأصيلة فأضطررت لمشاركتهم والله وحده يعلم بحالتي وأنسحبت قبل أن أكمل الشريط فالألم أشتد علي وتظاهرت بالنعاس .. خف الوجع قليلا بعد أن تعاطفت معي أبنتهم نعيمة وغلت لي قليلا من اليانسون والنعناع مع المرمية وأكليل الجبل ويبدو أنها غطتني ونومت أولادي ودعتني أستغرق في النوم لتوقظني في هزيع الليل أبنتهم لطيفة وكنتهم أمولة باللصقة والحناء ولوازمها من كوب الماء الذي ستغمس فيه إصبعها لتوظيب الحناء وجرها علي الكفين وباطن الأرجل وتتبع اللصقة خارجهما إلي الخرق التي ستلف بها أرجلي ويدي، أعتذرت كثيرا لكنها أحضرت لي الحاجة شعلاء لتقسم علي أن أحنّي .. فراغ .. فراغ .. فراغ .. نصف رأسي العلوي انفصل وطار بعيدا، صرخت فجاءت باز راكضة من جهة الصيدلية ومعها قنينة بخاخ، بخت منها على وجهي ونومتني على السرير الموجود في غرفتها فأحسست أني قد عدت إلى بيت الكيش أواصل مشاهدة مراسم عرس ابن الطيب التي تبثها لنا زوجته الكريم.
ومع الألم قطعت مشاهدتي ودخلت إلى الغرفة وبعد راحة قليلة جاءتنا الحاجة وقالت لي تعالي بيش انحنوك ففي العرف الليبي أذا مازارتهم عروس أو إمرأة لأول مرة فلابد وأن تخرج مخضبة بحنائها وتحمل هديتها بعد أن يذبحوا لها ويجتمع المقربون من العائلة والجيران وإلا أعتبر فألا غير حسن .. رضخت لرغبة الحاجة فعيب أن لايقدر الصغير الكبير .. وغادرني الوجع وأتموا لي الحناء التي ذهبت بها للمستشفي لأجري عمليتي دون أن أغسلها فيما بعد .. أدين بحياتي للحاجة التي أصرت علي ذهابي للمستشفي.
- يالطيف شكلك بتغيري "تجهضي" بنيتي أنشاءلله من قسمك وخشيتي علينا بالخير .. كثيرا ماسمعت من عمتي " " كملي حشو بطنك وحتي كل عام تضني اثنين ولا تغيري مرة في عمرك كله " أي تنجب المرأة لحد انقطاع طمثها ولو تنجب في العام الواحد توأمين أسهل بكثير من أن تجهض في عمرها مرة واحدة فالأجهاض قد يؤدي بالحياة للتهلكة لما فيه من فجائية ونزف خطير فيحتاج لأسعاف مبكر وإلا فارقت المجهضة حياتها ..
"أسأل مجرب .. ولا تسأل طبيب" .
أدين للحاجة والطبيب المصري عوض الذي حاول جاهدا أن يوقف النزف ويحافظ علي الحمل وتكدر خاصة عندما رأي نبض التوأم عبر جهاز الموجات الصوتية وعاتبني ممتعظا علي مجازفتي في الحضور لمدينة جبلية وأنا حامل
- أيه اللي جابك للجبل وأنت حامل والله حرام عليك.
- مهرجان الشاعر الراحل
- مين يا اختي؟
- الجيلاني طريبشان
- ماتخافيش ياستي .. حعمل اللي عليا والباقي علي الله ..
لكنه ما أن أجري الكشف المهبلي المعتاد حتي ضغط زرا قرب الطاولة فحضر فورا أخصائي التخدير الذي أذكر أنه أبتسم في وجهي بأسنانه البيضاء وهو يدخل جهاز تثبيت التغذية.
- ماتخافيش يامدام سنجري لك عملية وأنت واعية فهي بسيطة جدا
هذا ما أذكره فلقد غبت عن الوعي ولم أنتبه إلا والممرضة بسمة تناولني الموبايل الذي سريعا ماسقط من يدي وغبت مجددا عن الوعي .. فعندما أفقت أخبرتني الممرضة أنني توسلت إليها لتتصل بأبي وتطمئنه علي سلامتي فبكيت عندما سمعت صوته وسقط الجوال لتلتقطه الممرضة وتطمئن أبي الذي توقع أنها عملية جراحية نتيجة حادث سير!.
أدين لأخصائي التخدير السوداني الطيب الذي لا يحضرني أسمه الأن والممرضة الليبية المتمكنة من مهنتها التي عجلت بأجراء التحاليل قبل أن يفحصني الطبيب فلقد كان يجري آخر عملية في جدول اليوم والممرضة الفلبينية "باز " بتفيخم الباء فهي تكتب بثلاث نقاط وليس واحدة والاستاذ محمود الكيش المشرف علي المهرجان الذي ما أن هاتفه زوجي حتي جاء بسيارته وقدم المساعدة .. ممتنة لزوجي الحبيب الطيب الذي قلق علي حياتي ولكل من سخره الله لأنقاذ حياتي .. لم تتركني اسرة " الكيش " الطيبة فنحن لسنا من سكان الرجبان ونجهل طرقاتها ولا توجد لديهم سيارات أجرة داخل القرية ولا ضواحيها فهم متأزرون والكل يساعد بعضه البعض .. جاءوني في الزيارة بالملابس الجديدة وقفة بها شربة الخضار والعصائر ومغلي الحلبة وأعتنوا بأطفالي ورافقتني كنتهم الحنون آمال ليوم كامل وسهرت علي راحتي .. كما لا أنسي الإنسانة الرائعة الباحثة التاريخية خيرية زوج الشاعر المبدع " أدريس الطيب " التي شطفت كل غياراتي وأزالت بقع الدم وعانتني كأني أختها.
أشم رائحة بحر يا باز وجادو مدينة في الجبل الغربي، لا بحر ولا نهر، ذاكرتي تشم الصابري، وهي منطقة على البحر بمدينة بنغازي، تكثر بها أشجار النخيل وخاصة منطقة الزريعية لقربها من منطقة اللثامة التى تشتهر بتربتها الرملية الخصبة وبفواكهها وخضرواتها الطازجة ذات المذاق الحلو فى فصل الصيف أذهب مع أبى لنحضر العنب الأصفر الكبير الشبيه بأثداء الكلبة هكذا لقبه الشعبى وفى الشتاء نحضر اللفت والجزر والبصل الأخضر و في الخريف نحضر التين (الكرموس) والبلح والرمان.
سكان الصابرى وخاصة مراهقى منطقة الزريعية أوان الأصيل يعبثون بالحدائق القليلة فيقومون بحرق النجيلة لترى دخانها المتصاعد الى عنان السماء يلوث النسيم القادم من البحر .. تقريبا لايخلو حي فى منطقة الصابري إلا وتوسطته حديقة.. لكن مع الأسف تجد كراسيها قد حطمت وإن بقى كرسي أو اثنين صالحين للجلوس تجدهما قد لطخا بزيت السيارات المحترق .. أصحاب البيوت المطلة على الحديقة لا يرغبون في جلوس الناس، مخافة التأمل في شرفاتهم وأبوابهم ومعاكسة بناتهم، النجيلا أو العشب فى كل البلاد شديد الأخضرار ماعدا نجيلة وعشب الصابرى إن لم تجدها سوداء فهى بلا شك صفراء اللهم إلا حديقتين أو ثلاثة ناجيات من الترمد والذبول وهن مهجورات إلا من الفريق الذى اعتاد أن يلعب بهذه الحديقة .. وبعضها تحولت لمعارض خاصة بالمداسات التالفة والعتيقة لجميع الأعمار وكل المقاسات وبعض المخلّفات كخشب خزانات عتيقة كانت تستعمل لحفظ الخبز أمام المتاجر وخرق بالية وأكياس بلاستيك ألصقتها الرياح العاتية بغصون الشجيرات، وبقايا مواسير ونفايات غير عضوية وعلب صفيح فارغة، كراتين أستعملها الأطفال للجلوس عليها وكنبة عتيقة غرسوا بجانبها عصى مكانس ومراتك خشب وقطعة من رداء بال نصبوه كعشة يلعبون فيها ويستظلون بها من وهج الشمس، وبعض الأشجار مازالت باسقة جذورها وصلت إلى الأعماق فتغذت جيد فواصلت مقاومة عبث العابثين، كلما مررنا بالقرب من الحديقة المطلة على البحر تلحّ علي صغيرتى مهجة بالسؤال:
- ماما من حرق العشب؟ عليش ماما يشيطوا فى النار؟
أخجل من تجاهل تساؤلاتها البكر والإجابة تؤلمني، حتى عندما غيرنا الطريق ظلت تطرح نفس السؤال بإلحاح و فى كل مشوار نخرج فيه أثناء العودة تحضر معها فردة شبشب أو حذاء وتصره لصدرها.
- هذا امتاعى وأنا صغيرة ماما ..
وكنت أزجرها بعض الأحيان وأحيانا أخرى أحترم ذوقها واختياراتها وأراه كما تراه تحفة فنية نادرة أما والدها فكان دائما يشجعها على فعل كل ماتحب وترغب وفى كل مرة أستسلم لرغبتها وبعد الوصول إلى المنزل لا ترميه بل تتشبث به وما جمعته من الحديقة الخربة حتى الآن من الأحذية البالية يكفى لإقامة معرض .. لا تكتفى مهجة بجلب المداسات أو ركنها ففى أول مرة توقعت أنى سأتخلص مما جلبت بعد أن تنسى أمره لكنها تضعه أمامها وتمحّص النظر بالفردة تلو الأخرى وتبدأ بإطلاق تساؤلاتها التى لا تنتهى
- ماما ....؟
....؟
ترى كيف يفكر الإسكافى عندما تهمل المداسات وتتكدس لديه!؟
أستفهاماتها دائما توقد فتيل تخيلاتى عن أصحاب هذه المداسات اينهم اليوم والى أين حملتهم وكيف جوز المداس عند شرائه واستعماله اثنين لا يفترقا وأذا ما انقطع أحدهما أما يرمى ويفترقا إلى الأبد أو يوخز المنقطع بالابر ليستطيع مواكبة أخيه السليم وما أشد وخز الإبر وخاصة الإبر التى تـُحمى رؤوسها لتخترق جسد المداس بسهولة، حتى أجسادنا تخترقها الإبر والأسلاك، أذكر جدتى لأبى بمدينة العجيلات كيف كانت تعالج أمى بالطب الشعبى وهذه الطريقة تسمى (الخرت) وهى إبرة كبيرة معقوفة الذيل تحمى للتعقيم ويمرر بها سلك شبيه بسلك الغرز بالمستشفيات، شبيهة بإبرة ثقب الأذنين، وعملية ثقب الأذنين لم تنجح مع ابنتى مهجة ثلاث مرات والرابعة سنجريها بالهلال الأحمر بنغازي حيث ختن أخوها جبير فالأولي كانت في إجدابيا بإبرة خياطة رفيعة عند ابنة عمتي آمال التي ثقبت معظم أذان الجيل الجديد بمهارة ونجاح وكان ذلك في زيارتي الأولي لجدتي الفزانية التي أهدتها الآقراط والثانية بدرنة بإبرة طبية معقوفة يوم السبت عند الراهبات والثالثة بطرابلس بمثقب طبي " المسدس " عند الذهابة وللأسف كل المحاولات بأت بالفشل، ربما ورثت ذلك من خالاتها وخالاتي فهن لايحتملن ثقب الأذان ويعانن من الحساسية ضد الذهب!
والعلاج بطريقة الخرت يكون بإجراء نقبتين تسمحان بمرور السلك الممرر بهما فى حجم دائرة صغيرة تربط الدائرة من نهاية الطرف بإحكام ولاتجرى هذه الطريقة لمرضى السكري ومكانها عضلة الكتف الأيمن، وتأخذ فترة طويلة قد تستغرق من شهر إلى ثلاثة أشهر حسبما أذكر، علامة الشفاء هى توقف خروج الإفرازات من الخرمين وللوصول إلى هذه المرحلة كنت أنظف جرح أمى يوميا ولا أنكر أنها عملية مؤلمة للطرفين المريض والمعالج، كنت أبدأ بمسح الجرح بقطنة مغموسة بزيت الزيتون الدافىء إلى أن يسترطب السلك والمرحلة الثانية أبدأ بتحريك السلك وسحبه فى الأتجاهين الأعلى والأسفل مرات عديدة، يقال أنها طريقة مجدية فى تخليص الجسم من الألتهابات والأفرازات المؤذية، وبالطبع بإذن الله وقدرته وعظمته.
ونحن عائدين إلى المنزل زمان مع أبي لم تصادفني في الطريق أحذية ممزقة أو بالية، لم أكن بالأساس أنظر كثيرا إلى الأرض مثل ابنتي مهجة الآن، وإن نظرت لا ألتقط منها شيئا، أحيانا أجد أمامي قشرة موز فأرفعها وأضعها في سلة المهملات، كنا نأتي للصابري من أجل شراء الخضروات الطبيعية من اللثامة أو التصييف في المصيف المخصص للضباط، والآن نسكن في الصابري في بيت مؤجر وكل عشية نذهب راجلين إلى البحر القريب وأثناء العودة نمر على حديقة مظلمة مهجورة تتوسطها نخلة مائلة راقصة بفعل الريح تلتقط منها مهجة خردة مختلفة قديمة، تدافع عنها بصخب حتى تدخلها إلى غرفتها وتضعها جنب سريرها، ويا ويل من يمسها أو يحاول رميها، لم أفهم لماذا تفعل ابنتي ذلك، لكن عندما أرى ماجمعته وأحاول أن اربط بين فردة حذاء وزجاجة بلاستيك وقطعة خرطوم وفك خروف وغطاءات علب وأصداف وغيرها من الأشياء المهملة يبتسم خيالي وأنام راضية على هذه البنت اللطيفة التي تنسج مما يقذفه بحر الحياة حيوات مفترضة جديدة لايراها إلا خيال طفل نقي من الأذواقس الفاسدة.
باع باع باع باء مو مو مو كتف يا ولد الذروي امسك الكبش واركنه في الزريبة خلاص راه انباع، " سوق السعي (المواشي) مزدحمة فلديها استقلالية تامة وأسواقها رائجة فى كل أوان .. خاصة في عيد الأضحى و كل أيام موسم الحج و في شهررمضان وفي موسم الأعراس في الصيف وأيضا فى أيام القرّاية والقرّاية تقام بمناسبة ختمة للقران الكريم وتقام بمناسبة طلب المغفرة للأموات حيث يقرا فيها القران ترحما على روح الميت خاصة فى ليلة القدر من كل عام وهناك من يجعلها ليلة الاربعين وإن كانت مكروهة " لسنا بصدد التشريع والتحريم " بامكان أهل الميت فعلها متى أحبوا ذلك وفى هذه المناسبة تقام الولائم بعد الانتهاء من ختم القرآن والدعاء للميت بالمغفرة والرحمة .
أشم رائحة طعام، أرى لحم الضأن وقد قطع إلى قطع صغيرة وكبيرة ليشارك في صنع شربة رمضان وفي حشوةالعصبان وفي وجبات الأرز بالخلطة والكسيكسو بالخضرة والمكرونة المبوخة، كل تلك الأكلات تعتمد على لحم الخروف لتكتمل نكهتها وفى الصيف خاصة حيث تكثر الأعراس والمناسبات من ختان وحفلات تخرج وأسابيع ميلاد يكثر استهلاك هذا اللحم وأهل المناطق الشرقية وأرياف المنطقة الغربية هم أكثر إسرافا من أهل المدن فى تناول لحم الضأن، فعاداتهم لم تندثر بعد ولم يغيروا فيها، جرت العادة بأن يسبق دخول العروس الى بيت الزوجية تسييل الدم ويكون بذبح خروف تحت قدمى العروس على عتبة باب بيتها أو بيت أهل زوجها إن كانت ستقيم معهم ويسبق ذلك دوسها على كيس به بيضتين وكل منطقة وسبرها أى عادتها ففى مناطق أخرى يكسر البيض على باب الغرفة وأخرى فوق الجدار الموازى للغرفة وهذا لدرء العين وصد السحر وذلك لتكون دخلتها سهلة وسريعة كسهولة كسر البيض هذا إن لم تكن مصفّحة والتصفيح يعنى حماية بكارة الفتاة من الافتضاض تحت اى ظرف حتى وإن تعرضت للخطف والاغتصاب فلن يحدث لبكارتها شىء وهذه العادة انتقلت لنا من تونس والمغرب وتكاد تنقرض هذه الأيام لانتشار الوعى الصحي والتربوي و الدينى عن طريق الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى، فصدرت فتاوى تحرم التصفيح لما فى تلك العادة من اذى يتهدد العروسين و يؤخر فض بكارتها فتصبح العروس وأهلها فى ماّزق وقد يصلوا الى طريق مسدود رغم تكرار المحاولة فيترتب على ذلك خراب البيوت ويقع مالا يحمد عقباه اذ ما تعذرت عملية الفض ولها تاثيراتها أيضا على الانجاب فيقال: والله أعلم " أن هذه العملية تعد ضربا من السحر لأن الجان هو من يسد الرحم " تصفح الفتاة وهى صغيرة لأسباب عدة منها حرصا عليها من السقوط على أشياء قد تؤذى بكارتها أو سقوطها فى هاوية الانحراف والانقياد للشهوات فى مراهقتها، وأذكر المغربية التى صفحت ابنة سهام الجزائرية فى زنقة الريح بالمدينة القديمة وكان عذر والدتها انها تشتغل نادلة بصالة أفراح ليلا من أجل تأمين لقمة العيش الشريفة والتونسية قالت سأصفحها ضرورى .
- نخلى الطفلة هكا زيها زى العّظم لاباس شكون يضمنها وهى حتى باباها يشرب خمر، مازالت تلتصق بقايا من جمل رددوها أمامي وأنا صغيرة مصحوبة بالأفعال الآتية، تجرح المصفحة وهى المرأة التى ستقوم بهذا الفعل ركبة الفتاة سبع جروح صغيرة شريطة ان يخرج الدم من كل جرح وتغمس فى كل جرح حبة زبيب وتأكلها البنت مرددة:
"يادم ركيبتى .. خليلي انقيبتى حيط .. وذكر الراجل خيط".
وتكرر العملية بنفس الطريقة مع الحرص على عدم الأخطاء لا في الفعل ولا القول إلى أن تنتهى السبع زبيبات .. أما بنت خالتى فطومة فصفحتها جداى عيشة بمنطقة العجيلات على صندوق الرنّة وهذا الصندوق مصنوع من خشب متين ومزخرف من الخارج بنقوش جميلة بقطع نحاسية رهيفة ذات ألوان زاهية وبه جرس يصدر صوتا عذبا كلما فتح الصندوق ترن .. ترن .. وكنا دائما نتشاقى ونعبث بصندوق حنيّ الحاجة امباركة وهى والدة جدى لوالدتى الحاج مصطفى الفيتورى الملقب بالفقي بمدينة إجدابيا لكنها سرعان ما تفطن بنا منهالة علينا بشتائمها:
- امشوا خلوا صنيديقى يا ضنا الكلب
فنتقافز من فوق عتبة غرفتها هاربين فتلحق بنا مهددة بطقرات من عكازها الذى كثيرا ما تفاخرت به أمام أولادها وأحفادها.
- اللى ايذوق طقرة من ها " الزقّة " ماعاد يقرّب شورى والزقّة هي العكاز الذي يساند المسن وله عدة مسميات " العكوز .. الباكور .. الزقة"
كانت في الغابر تقـتـنى مثل هذا الصندوق العرائس فقط، فيحملن فيه ملابسهن وأرديتهن وحليهن المصنوعة من الفجرة أي الفضّة إلى بيت الزوجية، ومن تصفح على الصندوق لابد من فتحها على صندوق، وإن كان التطور الدماغي لهذا الجيل مكنهم من معالجة هذه المشكلة التي تعترض طريق المهوسين بممارسة فعل الحب قبل أوانه بالدوران حول السيارة .. سمعت جدتى الحاجة مبروكة الفزّانية تقول يوم عرضت عليها والدتى موضوعى الوشم والتصفيح بشأنى .. فى الأول رفض ابي فكرة الوشم رفضا صارما .. أما الثانية فتراجعت والدتى خشية ان يطلقها ابى فحضنتنى مرددة
- يانا على بنيتى لا..لا.. ما نديرها بكل الدنيا فيها طرا وجرا ..
- يستر الله ..
- فكيك فكى احرصى بنتك وعسى عليها بروحك تربحى بنيتى وبلا شغل الجنون
- وين بالله وانا يوم فى بريطانيا وشهر فى مصحة الكويفية
" رانا ما نعرفوا غير الميّة والدقيق وربى ايجيبلنا الطريق " وحاجة اخرى كانك صفحتى بنتك لازم تعلمى كبار العيلة وحدة تقول لوحدة من خوف حد ينسى كيفها كيف الرضاعة مسؤولية وحاجة مهيش ساهلة، ما كانت تخشاه والدتي أوقعني القدر فيه وصار لأبني جبير أخوات في الرضاع من ابنة عم والدي وهن شيماء وشهد .. واللى يسكروها على الصندوق لابد وأن تعتليه فيحرق لها خيط النيره بعد أن يؤخذ علي طول قامتها .. وتوضع في كف الفتاة ويوضع فوقها قليل من الرب أو العسل أو زيت الزيتون وتلعق الفتاة باطن كفها مع تكرار نفس الجمل السابقة " أنا خيط والراجل حيط " لم أحفظها جيدا لأن جدتى كانت ترددها بسرعة مخافة أن نحفظها فنرددها أمام أبائنا وهذا طبعا عيب وفى يوم الزورة وهوالزيارة الأولى التى تقوم بها لأهلها تجلب معها خروفا يصيح ويسمى " ضيفة " وإلا كانت فضيحة " جابت اللى تصيّح وإلا جت تهز " حتى وإن لم يكن لديه يستلف ثمن الشاة ولن يخسر لأن أهلها سيردون لها خروفا آخر بدل الأول فلا تخرج إلا وهو موضوع فى صندوق الكرهبة الخلفي اى السيارة وهكذا تمر الزيارات على هذه الشاكلة إلى أن تنهى زيارة جميع أقاربها، الجد والأخوة والأعمام والأخوال واذ كان ثمة مقربين كإخوة بالرضاع مثلما فعلت مع ابنى جبير الذى منحه القدر أخوات من الفرجان بيت دراه!
ياقاريين الجوابات ..الكبد راهى تفاجأ ..
سوال النبى تخبرونى ..الغالى طرتلاش حاجة ..
انى كبيدتى راهى دم ..
لو كان ياوديدة تريها
كيف الوطا شايلة الهم ..
اللى الناس تمشى عليها
بوك شايل حيرتك وشاغلتيه واجد، ويقابل يا بنتى عنده هيبة بين الناس و فلوسه واجدات لكن مطرطشات .. النفس متكسرة فيك ومرهدنتك .. مشيعتلك العين من صغرك ولاحقتك التبيعة أنت وبوك وخوتك .
بوك ماعندش حظ فى النساوين!
امرأة سمراء فى الخمسين من العمر .. تجلس وسط بيت عربى .. تحتها الحصير التاورغى المخضب إلى جانبها جرة ماء صغيرة، البيت بسيط، بابه موارب، تغطيه قطعة قماش صفراء مقلمة بخطوط سوداء موشية بأسلاك فضّية مهترئة، القماشة تجاعيدها تشى بسنوات أمضتها رفقة خاسرة، سرق الزمن رشاقتها، تقدمت وجلة وطرقت الباب الخشبى العتيق طرقات خفيفة تزايدت لها نبضات قلبي فتنحيت جانبا، سمعت صوتا ميزته أنه من نبرة الجنوب خرج من بين جلبة أصوات الهدرزة قويا به بحّة ينادينى:
- خشى تفضلى ياحنا.
وللوهلة الأولى شعرت بارتباك وفكرت فى التراجع .. لولا سيدة لوحت لى مبتسمة:
- شكلك أول مرة تجى هنا تعالى ماتخافيش ..
قاطعتها سيدة أخرى ..
- كلنا كيف بعضنا والزايد نقسموه ..
انتابنى حرج شديد وتصبب العرق من جبينى وتدفق ذاك الأحمر اللعين بتبانى دون سابق إنذار، وسط الحوش (مليان صبايا ما نعرفهنش) والتقّازة أمامها صرة فتحتها ونكثت محتواها، أشياء كثيرة مكتظة: " نوايات تمر .. ودع .. نسر حديد .. أزرارمتنوعة .. قطعة مرآة صغيرة .. قطعة بلاستيك حمراء وأخرى خضراء .. عملة معدنية مثقوبة الوسط كربع الجنيه المصري المسمى تعريفة .. مجارة ذهب صغيرة .. بطشة .. سمكة وطائر .. فتخة .. خرقة مرابط خضراء أو لعلها من علم بلادى .. قصاصة بيضاء .. قطعة بياض – وهو الفحم ..هكذا تنعتنه جداتنا تفاؤلا.. وأشياء أخرى لم أحصها.
ياه ياه ياه ياه ه ه ه ه
وسط الحوش بدا وكأنه مستوصف صغير مرضاه كثر والطبيب المناوب وحده لايكفى ..
وجوه كثيرة نحيلة وسمينة .. شاردة .. موهومة .. ومهمومة ..التفاوت العمرى والشريحى خلق لوحة زاهية أسرّنى معرض الأزياء المقام عشوائيا، جرود وفراشيات، جلابيب وجونيلات، سراويل ضيقة، براقع ونظارات، التأمل أنسانى قلقى، منهن من تطلب التاقزة عن ذهب سرق منها فى مناسبة عرس وكانت قد استعارته من جارتها، ومنهن من هجرها زوجها وتود لو تعرف ما إذا تزوج عليها في السر أم لا، ومنهن من حرجت(زعلت) من زوجها وزال الخلاف بينهما لكن أهلها قرروا الآحتفاظ بها لتأديبه، ومنهن من جاءت ترى طالعها ومدى الوفاق مع الحبيب، ومن جاءت لترى ما إذا ستفرح بوظيفة، ومن أجل الاطمئنان على نتيجة الامتحان المسمى المقابلة الشخصية، ومنهن من تستفسر عن كسب قضية ما لصالح زوجها، وأخرى قلقة بما أذا كان سيزال بيتها فى التخطيط، وإحداهن تستنبأ التقازةعن رواتب المصنع الفائتة، ومنهن من نزح ماقيها، زعمه تلاقى وليدها وإلا راح في الحبس لصبح بكرة!
تختلف الأسباب وتتفاوت الوشوشات فهناك من جاءت هكذا دون سبب بعينه، قلق وحسب، أو فضول وتقصير وقت وتقييد أحوال وربما كتابة تقارير للبوليس فدائما الأمن يستدعي التقّازات ويحقق معاهن .
تجاذبت أطراف الحديث مع الفتاة الجالسة بجواري فاخبرتني بأن التقازة الشهيرة باسم خالتى مبيريكة تضرب فى القزيرة وهى (مادة القصدير مايعرف محليا " بيامبو " سريعة الانصهار، تؤخذ قطعة منه وتجزئها إلى ثلاثة أجزاء وتذكر عليها اسم من أرادت ضرب القزيرة مرددة بطريقة النفث والوشوشة والشلوشة فلانة بنت فلانة وفى كل مرة تصهر قطعة لمدة أسبوع أو شهر حسبما تأمر " الشلواشة " وطريقتها كالآتي .. (تسيّح فى قدرعلى النار ومن ثم توضع آنية واسعة شديدة العمق فوق الرأس مليئة بماء الصنبور وتقوم بتثبيتها مساعدة التقازة فتسكبها في الوعاء فتعود لتتجمد مُشكّلة لوحة بارعة الجمال مسلية وتستحق أن تهدر وقتك فيها متأملا إن كنت فنانا فهي تماما كحثالة القهوة عندما تسكب الفنجان أو كبصمة أو أي شيء متفرّد لا يعرف التكرار لعبة مسلية خاصة على شاطئ البحر ومن ثم تنزل الماء بما حوى وتخرجها مبسملة وتبدأ بقراءتها كما بدا لها والأمر الذي لا مفر منه والخبر الجوهري الذي يكاد أن يكون ثابتا هو:
"عندك رصيدة وهى نوع من السحر لوقف الزواج " فهي تعرف مدى وقع مثل هذا الخبر على ذوات الأنفس الضعيفة وما ستجنيه من أرباح طائلة لقاء استمتاعها بكل لوحة إزاء بث الرعب ولابد لها من فتح باب الأماني التي ستسهم في تحقيقها لتؤمن قبضتها على جيب الزبونة كما لو أنها منومة مغنطيسيا وأذكر التقاّزة برنية جارة جدتي بالعجيلات التي طلبت من ابنة خالتي المراهقة قصاصة من شعرها لتجرى عليها تجارب عشبية وتعطيها أفضل ما يساعد في استرسال شعرها ونعومته من وراء أمها فعندما علمت جدتي بالأمر أعطتها قصاصة من شعر الماعز التي أخذت تصيح ليلا وتعافر على غير عادتها، تنطح بقرنيها دافعة باب الزريبة تود الخروج!!، وتسترسل المرأ ة التي بجانبي مكملة حديثها عن القزيرة مستشهدة بقريباتها:
- اللى دارتها لهن كلهن تزوجن، بنات جيرانا وأختى وبنات عماتى وغيرهن كلهن تزوجن مجربة بصراحة، وعندها بخور جلب الرزق شغلها غالى شوية لكن (مية ..مية) وكان ماعندكش كاش عادى تاخذ حاجة ذهب، ساعة مقوّمة، نقّال، طيورجارحة، أصص ورد، ماتقول شىء انا ديمة نجيها خالتى مبيركة تاقزتها ما أطيح فى وطا وأخبرتنى نجاة الجالسة قبالتى المنتظرة لدورها مثلى أن عجوزا ضربت لها خط الرمل عندما كانت تبلغ الثانية عشر من العمر.
- " أنت جايك رزق كبير من شريك حياتك اللى تأخذيه ومطوليش معاه نين يعطيك عمره ويخليلك رزق وعلقة من العيال، وتعرفى ربى بالينى بالتاقزة، لنقنها صراكة (عادة) ماهى باهية، اللى تأخذ عليها معاش تقدر تصبر بلاها، نتبع فى خبر التقازات من وين لوين، كيف ما يتبعوا البوادي في حفلات الكشك، مايطرولى سيرة وحدة اللى مانمشيلها، قرولى الفنجان وفتحولى الكارطة، الكوتشينة، وقريت الكف، وما في تاقزة صدفت، كلهم قالولى عقيمة وتو عندى طزينة عيال لكن راجلى عينى واسعة.
- صدقتى الرجالة ما يملى عيونهم كان التراب اوخيتى
- سلم فمك بلكش أديرلى حويجة تخليه يهفت.
كلهن يثرثرن، حملقت فى حزمةالضوء المنبعثة من شعاع تسرب عبر فتحة في حائط جانبي يطل على حديقة وتساءلت ماذا لو انتظرت دوري كل هذا الوقت!
أرتميت على فراشى بملابس الشغل ليطل علي طيف بخيتة السودانية التي درّست أولادها الظرفاء وتعلقت بهم كثيرا وعلمتني الهدوء والصبر فكثيرا ماحكت لي أشياء مشابهة لسرد جدتي:
- يا حجرة الصبر المر اصبري كيف ماصبرت اني ...
- (أنت شكيتلك شكو رحتى تنفجى دود مالا انى قلبى شنو!!)علمتنى بخيتة كيف اصنع أكلة الويكا التى أحببتها كثيرا وهى كالشربة في بلادي تعد من الأطباق الريئسية على المائدة السودانية و كانت عمتي بخيتة تستغرق وقتا طويلا في إعدادها بطريقة متقنة فتضعها على نار هادئة ومع الباميا المجففة تضيف السمك المجفف أو اللحم أوالزبادي حسب الرغبة طبعا .. مع التقلية التي تتفن في إعدادها بخيتة مع المطيبات وأذكر جدتي الفزّانية كانت تجفف الباميا في الشمس علي هيئة عقود وتحفظها في زير فخاري .. وهذه الصلصة بدون العصيدة المصنوعة من الذرة والدخن يعد الطبق ناقصا فهذه الحبوب يفيض بها غرب السودان الخصيب ولكني لم أفلح في تعلم مايدعي" الكسرى " التي كانت تعدها صديقتي السودانية بخيتة من عجين رقيق وخفيف مطبوخ من الذرة والدخن وليس من الدقيق وهذه الأكلة إلي جانب أنها لذيذة وسهلة الهضم فهي تناسب ذوي المعد الرقيقة .. وعند طهوها تضاف اليها الصلصة كإيدام فوق العصيدة المصنوعة من دقيق القمح وليس الذرة ويعد بطريقة أخرى مع الحساء بالقديد ويسمى " عيش وحريقة " .. وصرت اشتهي شرب حليب البقر المغلى بالزنجبيل من يديها السمراوين كل صباح، وما أشهى المديدة المعتمدة على القصب المرحى الناضج المقاربة لأكلة الرغيدة فى المنطقة الغربية من بلادي و المديدة شراب خاثر محفّز للشهية ويرفع من معدل القوة والنشاط لمتناوله .. يعد من الوجبات الأساسية مع لبن الجاموس التي يتناولها المصارعون في جنوب مصر والسودان و أيضا تناولت عندها المكرونة المحمرة بالسكر وأكلات كثر لا مجال لذكرها الآن، و تعلمت منها طريقة إعداد الدلكة وهى مستحضر طبيعى تدلك به البشرة فيجعلها ناعمة وطرية ويزول منها الزغب والحراشف الخشنة التي نسميها (الحشن .. المشن) وهي طبقة بنية تعلو الجلد مع بعض التشققات الدامية في حالاته المتطورة وهو نتاج الغسيل بالماء الساخن ثم التعرض لتيار بارد دون تجفيف الوجه والأطراف وخاصة اليدين وللدلكة رائحة زكية تعلق بالجسد لا تغادره، كما علمتني سرا إعداد الخمرة التي أحب استعمالها فى الصيف فهى تركيبة عطور طيبة الريح وعندما أمسح منطقة أعلى الرقبة وتحت شعر الرأس والمناطق الحساسة خاصة أثناء شغل البيت وفى السفر تقضى على روائح العرق، بخيتة أثارتنى قصتها فهي تكره التكهن بعلم الغيب لكنها حسبما تزعم مجبرة على فعل ذلك، تاقزتها بسبع ودعات من البحر وكلها متشابه قواقع ذات أسنان، حكت لى كيف لقنت قواعد التاقزة فى منامها وعندما رفضت، صار أشخاص يزورونها في المنام مهددين بشللها إن لم تواصل مشوارها وكيف عندما رفضت والدتها ذلك تبكمت وشلت أطرافها .. وذات يوم تشاجرت أختي مع أهل زوجها وجاءت مغتاضة، فأشترط أبى لرجوعها مع زوجها بيتا منفصلا عن أهله حتى بالإيجار، وطلبت منى أن أوشوش لها الودعة بخصوص السكن، فزرت بخيتة على عجل و قدمت لها البيوض، لكنها صفقت يديها قائلة:
- سامحينى يا أختى .. والله عبد الرهمان (تعني زوجها) أخذ الودع ورماه بالبهر .. هلفلى يمين طلاق ما أرجع للودع ".
نهاية كل امتحان تطمئنا جدتي بتشبيرة وبيوضها سفّة سكر، أو قبضة من السافى
(التراب) (البيوض هو ما يقدم للنفساء قبيل ولادتها من شق تمرة إلى ما شاء الله أو لمن تدخل بيت لأول مرة وكذلك لمن تثقب الأذان أو تطالع الحظ كجدتى إن لم نعطها سفة السكر تشعر بخدر في يدها) (التشبير طريقة طريفة تشعرك بالرضا والتفاؤل وبأنك ملكت الدنيا وما عليها، الجدات الحكيمات في القرن الماضي يتقن ذلك بمهارة فريويدية (فرويد عالم النفس) وهى بعد أن ترى الجدة أحد أفراد العائلة كبيرا أو صغيرا يعانى توترا أو قلقا ما، تستدرجه لتقف وتبقيه على فراشها ليجلس وينتظرها – الجلوس في مكان الجدة ليس أمرا هينا- ومن ثم تسبغ الجدة وضوئها وتأتى قارعة السلام ومبسملة يتنحى لها الجالس بمكانها فتشده لتبقيه بالقرب منها وفى هذا شعور بالأمن لا يضاهى، تفرد يدها اليسرى مطابقة وسطى اليمنى باليسرى والإبهام يكون آنذاك ملاصقا لرسغ اليد وخنصر اليد اليسرى يطابقه خنصر اليمني وتستمر كما لو كانت ستقيس بالطريقة التقليدية "الشبر" وتعيد الكرة مرتين أو ثلاث ولديها القياس الخاص بها وجدانيا ولكل تأويل!!، فإذا طالت الإصبع الوسطى لليد اليمنى عن الشمال!!
وإذا قصرت ..!!
وإذا ما تساوت ...!!
وفى كل الأحوال أنت الفائز بابتسامة من جدتك و تربيتة حانية تنتهي بعناق حميمي ممشّطة أصابع يدها اليسرى بأصابع اليمنى مرددة:
- ياشابرة النبى أصدقى!
- كان صدقتي أنحنيك وكان كذبتي أنكوّيك!!
باز أسمع صوت عمتي سالمة يناديني سأطير نحوها .. عمتي أحبها كثيرا، حنونة وطيبة، استمتع كثيرا كلما زرناها في الريف، عمتي دائما تزورنا، وكل زيارة تأتينا بقفة سعف مملؤة بخيرات الريف الطازجة واللذيذة، وإن لم تزرنا يا سستر باز فإنها تبعث لنا بقفة قلبها مع أول سائق محدّر إلى البلاد، المرة الأخيرة بعثت لنا بــ:
سلطانية روّينة ..حفنات حوّيرة .. داقرة مملوءة بالمعبوك المتكون من شحم خروف العيد المجفف بالملح تحت أشعة الشمس أتخيلها وهي تعدّه بمهارة تضعه فى الهاون
(البنبة) العميقة ذات الشكل الإسطوانى وزنها ثقيل تستوعب كمية أكبرمن المهراس
(الهاون النحاسى) يدها طويلة .. قوية .. ثقيلة وحديدية بعد وضع الشحم فى البنبة ترش عليه قليلا من الفلفل الأحمروالكركم وتسكب فوقه الطماطم والبصل والفلفل والثوم التى سبق وان جففتها في الشمس فتصبح دهنا مسبوكا بالتوابل رائحته زكية تدخل الأنوف من دون إستئذان يعد هذا المعبوك اقتصاديا يحفظ فى انية فخارية بمكان جاف عمره طويل عندما يشحّ الزيت وتنقص التوابل تلجأ له ربة البيت خاصة فى ليالى الشتاء القارصة تصنع منه الرشدة المبكبكة (المقطع) البركوكش بسيقان اللفت والكمون الأخضر(البسباسي) الدشيشة بالفول الأخضر .. والسفنارى (الجزر) بعثت لنا من سانيتها أيضاعقود فلفل مبطبط جاف عقود باميا ناشفة ..ملوخية يابسة.. زير زيت زيتون.. برطمان زيتون (غامى) فرخية ماء بهاليل
(من ولي قريتهم) جرّة عسل سدر .. سلة بيض وطنى لونه أبيض منمنم بالسواد وضعت تحته وفوقه كمشة قش وزينته بريش ديك عربى .. جاءنا منها أيضا صفيحة زبدة وطنية .. رب عكّة.. طبق قليّة طعام .. دقيق شعير.. دشيشة ..حلبة حب مغسولة ومنقية و قليل من عظام الفتّاشة المتكونة من ضلوع الشاه التي تشقق وتحشى تجاويفها بالملح وتترك حتى تجففها الشمس الحارقة ثم توضع فى آنية فخارية جافة هذه الطريقة تحفظها حولا كاملا ويزيد حتى أمي كانت تقدد هذه الأضلاع وتحتفظ بها الى ان يأتى يوم عاشوراء فتخرج هذه العظام المكسوة باللحم الجاف من الزير وتعد منها إفطارا للعائلة الصائمة يوم عاشوراء تقدمه مع الشربة العربية وورق الخس(العتوقة)والفجل بعد تناولهم للإفطار يجلس الرجال لتجاذب أطراف الحديث بينما جدتى لأبى تجذب العدالة أمامها ترغى لهم طويسة شاى خضرة بالرغوة معدّلة مركركتها على الكانون بعدها يخرجون إلى صلاة العشاء وتلاوة القرآن فى المسجد العتيق ثم يعودن إلى الجلوس فى المربوعة.. الأمهات وإن كانت هناك صبايا فى العائلة يتقاسمن عمل البيت مجموعة تغسل الأوانى واخرى تكنس البيت وتشطف دورات المياه
بعدها يتم طلق البخور برشه على الجميرات المتبقية فى كانون عدالة الشاي مع تصاعد البخور في الجو تضوع رائحته وتعبق أرجاء البيت جميعها يبدأن فى إخراج حقائبهن نحن الصغار نتلهف للبس الجديد احتفالا بيوم عاشوراء ليس شرطا أن تكون الثياب جديدة المهم ان تكون نظيفة حسنة المنظرتخرج كلاهن مقصها الذى جرت العادة أن تبدله مع سلفتها وهى زوجة أخو زوجها مرددات بدلليلى ربى ايبدل عليك الفلك شريطة أن لايترك المقص مفتوحا ففى العرف والمأثور الليبي المقص المفتوح يجلب النكد .. ننكش شعورنا التى تبللها لنا أمى بالماء والزهر ..تسمى باسم الله.. تقص شعر كل واحدة فينا على ديناروتقول: صدقة بالغة بالنماء إن شا الله .. تكحل لنا عيوننا بالكحل العربى بمكحلتها الفضية المزخرفة بنقوش محفورة رفيعة المثبتة على قاعدة متأرجحة وخلفها مرآة ملتصقة بالقاعدة تتحرك في اتجاهين وتطوى عند اللزوم .. نتزاحم لتمشط لنا أمى شعورنا أنا وأختى وبنات عمى تهدئنا بنبرة حنون بالدو ر.. الصغير .. الصغير .. ينادينا جدى ويدفع يده فى جيبه ساحبا تزدانه ليخرج منه دنانير مضمخة بالمسك يعطى كل واحدة منا دينارا والتي تستلم دينارها تقبّله و تجري هاتفةآ آ آ حقوا جدى شن عطانا تدخل عليه أمى قائلة: العقبة لداير يا حاج تخرج لتدخل امرأة عمى قائلة ربى يطول فى عمركان شالله سُنه ما تنقطع اتسلل إليه بشقاوتي اسمع يا جدي السنة الجاية خمسة دينارمش تضحك علي زى البنات الصغار باهي..باهي..واعد هيا .. واعدنى ربى يحطك فى النار راه انت اللى قلتها لنا .. تدخل واحدة من بناويت عمى إلى المربوعة حيث جدي ..فأنفخ فى وجهها وأخرج شاحّة فستانى .. أضغط على شفتى السفلى غالقة إبهام يدي اليسرىمع السبابة فتكون حلقة اتهددها فتشكونى لجدي الذي يفضّ النزاع بهدوء عجيب
عيب العبوا مع بعضكم جميعا راه نلغى اللى اتفقنا عليه .. أركض صوب أذنه هامسة اللى قتلك عليه سر يا جدي ما تقوله لحد وأزيحها من طريقى زافرة فى وجهها جايه اتقصقص هابة عليك قصقاصة .. فبعد أن تكمل أمى قص شعورن تعطى كل واحدة فينا دينارها وبوسطه شعرها المقصوص لنطيّر فى الهواء الشعر والدينار مرددين:
عاشوراء عاشورتى
تنفخلى دحورتي ..
دحورتي مليانة
بالششة والعصبانة
ولا نقتنع بإمكانية تحقق هذه الاسطورة إلا إذا طيرنا الشعر والدينار برغبة وفرح متى فعلنا ذلك بنية صافية سيطول الشعر و يزداد غزارة ولن يصاب بالقشرة أو يغزوه القمل والصيبان كلما كان الدينار جديدا شذي الرائحة كلما لمع الشعر وصارت رائحته عطرة طوال العمر نعوشر في الشارع حتى نبح من الصياح وعندما نتعب ونمل نعود الى البيت لنوزع أطباق الفول والحمص على الجيران ونعود بمثلها فتتختلط الذوقات بين بليلة وسليقة وبيض مسلوق نضع الصحون لنخرج إلى اللعب والغناء مجددا مرورا بمنازل الجيران بصوت قوى ممسكين بأكتاف بعضنا البعض اللى ما تعطيش الفول يصبح راجلها مهبول ..واللى ما تعطيش الحمص يصبح راجلها ايتلمس .. الحوش اللى يعطينا فلوس انغنوله..
هذا حوش البوبشير
فيه القمح والشعير
هذا حوش عمنا
يعطينا ويلمنا
هذا حوش سيدنا
يعطينا ويزيدنا
وان تضايقت من صخبنا مولاة البيت نصرخ فى وجهها:
هذا حوش البوزنان
فيه القمل والصيبان
..الرحى معلقة
والمراة مطلقة ..
فتعطينا عشرة قروش مكرهة لتطرد التطير الذى أوحت به أغنيتنا أمام بيتها أمشوا عدوا فاولوا بعيد فالكم فى جعلالكم وعندما يسرقنا الوقت فى اللعب تخرج أمهاتنا للمناداة علينا نحتج مهللين:
عاشوراء عاشورتى
تـنفخلى زكورتي
تنفخها وتزيدها
سموا من هو سيدها
سيدها عبدالرحمن
كارس فى ذيل الدكان
يأكل فى خوخ ورمان
وباقي الغناوة انسيتها
في حين نلمح كوكبة أولاد الشارع يهتفون في موكب بديع متباهين أن الشارع سيبقى لهم وحدهم دون صياح البنات .. يغيضوننا بحركات أيديهم وتستفزنا ألسنتهم التي يخرجونها تشفيا فينا لنداء أمهاتنا ..ولكن نكاية بسلطوية الذكور وتبجحهم وجبرة خاطر لبنيات الشارع تمنحنا أمهاتنا فرصة لنشهد مروق موكب الصبية الذي يتصدره أنموذج للشيش باني وهو رجل طويل الذراعين والرجلين وفارع القامة مصنوع من ليف النخيل صائحين:
شيش باني .. ياباني
هاده حال الشيباني
هاده حاله وأحواله
ربي يسقمله حاله
وتسمع أصوات الأشقياء يزعقون
ربي إيطيح مزاله " سعده "
كل شهرين تحدر عمتي إلى المدينة لتزورنا وتزور العطّارين في سوق الجريد خاصة شيخ العطارين الحاج سليمان النجار الواقع محله أمام ضريح سيدي بالخير في سوق الجريد تجلب معها قفتها المجدولة من السعف تضعها في وسط الحوش نلتف حولها جالسين مترقبين .. تمنح كل واحد منا ثمرة فاكهة او بيضة مطبوخة اوملعقة عسل وتدعوا لنا بالصحة وبالهناء والشفاء .. توزع أوراق الحنة على صبايا العيلة .. أمى تقول لها: تريحي قبل وبعدين وزعي العلاقة .. لكن عمتى لا تستريح حتى توزع ما جلبت معها في القفة ثم تقلبها تنفضها من أوراق الحنا وأعواد البخور وتعلقها على غصن الشجرة عندما لا تزورنا بسبب المرض او العمل في جني او حصد محصول السانية فإنها ترسل لنا من خيرها مع أول محدر إلى البلاد ترسل لنا أشياء كثيرة .. الليم القارص .. البطاطا .. البصل الأخضر الكاكاوية بمزاودها ..اللوز بقشوره الفول الأخضر الرطب .. الرمان .. الفقاع فرحنا به كثيرا ابنتى مهجة تحب الفطر كثيرا لكنها لم تتقبل عش الغراب المعلب بينما طلبت المزيد من الفقاع .. الترفاس .. قمحي هذا النبات البعلى متعدد الاسماء الذى نأكله مسلوقا او مشويا على الكانون تعجبني قطعة القماش الشولاكية التى ربطتها على هيئة صرة والصرة مليئة بأفواه الغابة .. جميع ما يسمى فمك زعتر الجبل .. فيجل .. كرّات ..قازول ..عنصيل .. تاى.. شيح ..كاطوط ..قزّاح .. فليّة العويلا .. عشبة الأرنب.. بردقوش .. كما بعثت صندوق حليب كرنيشن فارغ ملأته بنبات بعلى ربيعى .. شوكى (الخرشوف) (القعمول .. القعمور) الذى نستمتع بتقشيره فى رحلاتنا للغابة كل ربيع ايضا ارسلت لنا الغربمبوش والعسلوس والعرايس وكريشة الجدي القعمول وخز شوكه ممتع يدفعك لمواصلة التقشير يترك اثرا أسود على الأظافر تكرهه المراهقات والعرائس كنا نكثر من أكله لتصطبغ شفاهنا بلون السواك.. الكبار ينصحوننا بعدم أكله قبل الطعام فطعمه يجعلك تفقد المذاق كنا نعاند يشجعنا أبي كولوا .. كولوا الحديد باهي .. مستمتعين بعنادنا اقتلاعه من الأرض عمل رائع وممتع .. لا أحب تقطيعه بالموس وإنما كما تعلمت من أبى أركل نبتة القعمول بحذائى فتتنحى لتطير القعمولة فى اتجاه اخوتى فيلتقفها واحد والآخر يفتح القفة ليضعها الأول داخلها بحذر أحيانا تفرّ القعمولة وتتوه وسط العشب الأخضر وقد تنشطر القعمولة إلى نصفين فندعها وشأنها فاردة شلافيطها واللي يجيها تنخسه.. نواصل بحثنا عن مكان لم تطأه أقدام الزرّادة بعد وهذه الطريقة تناسب القعمول الكبيرأم الصغير فينسحق هكذا هى الدنيا .. كانت والدتي تجمعنا فى المنور ثانى يوم الزردة وتضع أمام كل واحد منا عرم من القعمول مطلوب منا تقشيره أمامنا كانون ناره هادئة من أجل حرق شوكه وكانت تكافىء أسرعنا بحلوة شكار وبشكوط الشمعدان وبمشاهدة شريط فيديو لمسلسل
(مكتب مفتوح) ونتابع المسلل ونغني جميعنا:
مكتبنا ديمة مفتوح
تلقانا في كل اوقات
ما يبقى بالك مشغول
نحن نحل المشكلات
ونقلّد جميعا القفلة الموسيقية الغليظة
طن طن طن طن طننن
ونواصل الأغنية
فنغني باقي المونولوج
كان عندك حاجة خسرانة
ثلاجة ولا سخانة
ولا كان زوجتك حرجانة
تبي تشكي للجارات
فتضحك أمي كثيراوتقول ثلاجتنا جديدة وراجلي عمري ما نحرج منا .. بلاش تفتين يا عيال .. و تملأ قصعة من الخرشوف المقشر تغسلها .. تصفيها .. وتضع عليها قطرات الليم القارص (الليمون) حتى لا يسود لونها وتصنع منه كسكسى بالقعمول .. طبيخة قعمول بالقروشْ والفول الخضر الطازج بقشوره وتذوق جويراتها اما الخرشوف المصرى الذى لا شوك فيه .. كبير الحجم فتصنع منه أمي المبطن بالمفروم وتغمسه فى الصلصة وتصهده فى الفرن فيخرج بشكل شهي .. دائما أبى يمتدح أمى يعطيك الصحة حتى اللى ما عنده نيّة يأكل غصبن عنه .. فتقول له امي غصبن عنك تاكل طعامي والله ما تلقى وحدة تحبك اكثر مني ونحن والزمان .. اخرجت ابنتي كيس من الحجم المتوسط نثرت ما بداخله فإذ به مليء بالكريشة أو الغرمبوش الكريشة نبات جلباني أخضر بعلى ينمو مخبّلا بين العشب تدلك عليه زهرة صغيرة زرقاء يشبه نبات البازلاء قرونه قزمة حبيباتها صغيرة ذات مذاق لذيذ تجعلك لاترفع رأسك منهمكا فى التلصص عليها فالبحث عنها مسلٍ جدا ينم عن قوة النظر والمهارة هكذا كان يحمسنا أبي من اجل قطفها .. كثيرا ما حدث لنا لبس مع النبات المشابه لها .. وجه الإختلاف بينهما في مزوده الملوى على هيئة قرين غزال وهى كثيرة تعرف بالجلبان .. نجمع منها كمية لا بأس بها ونعود مبتهجين فيضحك والدى ويطلب منا أكرمكم الله أن نعطيها للحمار(عطوها للحمار ياكلها بدال ها لتفاح اللى تحشوله فيه) عند القيام برحلة صيفية أو ربيعية يوكلنى أبى مهمة تجهيز القفة رحلاتنا منظمة أبى رجل عسكرى محب للنظام لا ينسجم اذا زاد ت عائلة على عائلتنا يكره الفوضى والضجيج فهو لا يطيق حمل الماء فى عبوات كبيرة ليس من أنصار جلب اسطوانة الغاز ولا الطناجر الكبيرة إلى الغابة أو شاطئ البحر لا يحبذ أن تجهد المرأة نفسها قبل وبعد وفى أثناء الرحلة فمن وجه نظره أنّ السيدة من حقها الراحة والترويح عن نفسها بالإستمتاع بممارسة هواياتها في الغابة أو على شاطئ البحر .. وحتى في البيت دائما يساعدنا في تنظيف البيت خاصة أيام العطل وفي الأعياد وبعد أنصراف الضيوف .. هو عطوف جدا علي وعلى أخواتي!دائما يؤمن بأن تحديد موعد الرحلة من مهام ربة البيت والعلامة بين التى الفناها بين أبي وأمي آنفا هى تعليق القفة فى مدخل البيت قريبا من الباب ..أبى يحب الرحلات والتنزه ويعشق السفر حريصا على استثمار الوقت لا نخرج من البيت قبل أن يتمم على اصطحابنا لبعض الكتب .. كل واحد يأخذ فى يده كتابا .. مجلة .. جريدة يتسلى بها أول شيء أضعه فى القفة هو الكيس الأسود نجمع نفاياتنا فيه ونعود به ليضعه أبى فى أول مكب قمامة يصادفنا فى طريق العودة.. صابونة يدبن .. وكيس صغير من صابون التايد .. قرطاس شاى أخضر.. وخلبة نعناع .. قرطاس سكر وقرطاس قهوة .. براد وطويستين شاهى ولقامة .. ترمس ماء.. أدوات مطبخ بسيطة .. قنينة زيت زيتون .. قرطاس ملح .. يتطوع فى كل رحلة بتجهيز الشرمولا والشواء الذى سبق وأن تبله فى المنزل .. فى كل رحلة يضع صفّارة في جيبه ويقلدنى صافرة حديدية تشبه صافرتى الكشفية التى مازلت أحتفظ به ا.. يطلب منا اللعب والتنزه ولكن بمدى سماع الصافرة كثيرا ما نلتقى عائلات صديقة ونتعرف على أناس نشعر أننا التقيناهم منذ دهر.. نلعبوا صياد السمك والقار .. نتجمع ونصنع دائرة كبيرة نلعب مع بعضنا " طق طق يا طقية " التي حرّفها ابني جبير بعد أن يصنع شيئا بستهويه بالورق علي طريقته الخاصة.. يمسكه ويخفيه جيدا خلف ظهره مبتسما بأبتسامته الواشية عن خبث طفولي " مخبّي عليكم حاجة " فيسموا له بدورهم إلى أن يتعرفوا عليها وإن لم تفلح محاوتهم فسيهرب ويحاولون الإمساك به ومن يطّلع على ما أخفاه ..من حقه أن يأخذ مكان جبير وهلمّ جرا .. نغنى ونستعمل علبة صفيح أو جلون ماء فارغ كطبلة نغنى ونرمى بحزام الرقص من واحدة إلى أخرى .. العودة من الرحلة حزينة ومرّة نتلكأ فى لملمة الحاجيات نتشاجر على حمل الحصيرة والترمس.. يحدج أبى عينيه ياودي بع فى الجيّة مستعجلين .. القفة بوذنين يشيلها واحد بروحه وتوا أثنين مش قادرين اتشيلوها .. نعلق باقات الورود تحت مسّاحات السيارة ونعود عبر طريق الأبيار.. المليطانية.. بومريم .. قبر جيرة .. الرجمة .. بنينة (طريق المطار) مزدحمة مليئة بشرطة المرور نصل الى البيت والدنيا ظلام نستحم ونلبس باجاماتنا او اروابنا وننام ونحلم احلاما ليس بها شوك كثير ... ذات يوم كانت عمتي مريضة فأرسلت مع زوجها خبزة تنور شعير صافى صح فى صح وهو يقدّم القفة لأبي قال أختك حمت التنور على خاطرك قداش ليها مارمتش خبزة من حيش جاها الضغط لكن خاطرك عندها كبير ..كله من تحت ايديها القمح والشعير الحمدلله من حوازتنا ..ماشالله العام اهواه صابة .. تبارك الرحمن .. قالتلكم تعالوا غيرو جو فى المزرعة ..هي جهزت كثير من الأشياء اللى اتحبوها ..الروينة والزميتة قبل لا تبدأ فيهن فصفصتهن بالحبة .. غسلتها وسوقتها على الحطب .. حلفت يمين الله ما تخش بابور وين ما كترت عليها وقتلها صحتك صحتك ما اتعبيش روحك .. تعرف شن قالتليي:اصور شبهتنى بحصان مكّنى .. بره علي تربح.. وانت زى حصان مكّنى كان قودته م ينقاد وكان قربته سكنى .. قولنالها انت مريضة استر يحى.. نرفعوه للبابور يرحيه.. نجيبهولك جاهز ما عليك الا توزعى على حبابك واصحابك .. والله ياراجل دارت فينا دير من دين الكرناف .. تصور مرطة رحتها بالرحى بروحها والله صحت .. تحط فى هاديك الرحى قدامها وكل مرة يقابلها واحد منا يعبيلها عين الرحى ومرات البناويت والكناين .. حتى ولدى اللى يدرس فى فرنسا قداش ليه مازارش ليبيا خلاته ينسجم ويحب بلاده .. عرف عادتنا وعادات اجدوده والله سيب هادك الكابتشينو على الصبح ولىّ يطلب فى البسيسة و ما يفطرش غير على عبّود زميته مع طويسة شاهى من عدالة امه كان يشكى من معدته .. الزنتاك ما يفارقاش بكل وفوار الاينو الاربعة وعشرين ساعة دايره زى الميه اللى ياكلها توقفله على فم معدته وقفتله اختك بالعرعار والعسل و قشور الرمّان المرحية والفلية المطبوخة ومغلى كمون الكعك الحلو اللى يطبخوا فيه للعويلا وثلاث أيام تعصدله فى العيش على الريق يفطر على ثلاث لقمات بازين بالعسل والله دور شى ما تلقى شى.. اليوم تغدى معانا رشدة كسكاس بدهانها وهريسة عربية اليوم فرحنا فرحة كبرى ..اسم عمتى نزل بقائمة الحجيج .. هاتفتنا عمتى واعلمت ابى بذلك .. عيون ابى ترقرق دمعها .. صوت بحّ .. تأثر من محادثة عمتى .. أقفل الهاتف سارعت اليه أمى أن شالله خير يافروجة ..أغمض عينيه .. أخرج سيجارة روثمان من جيبه أشعلها بعصبية لم نلحظه عليه من ذى قبل .. وضع يده على خده طلب منها ان تعد له فنجانا من القهوة العربية أسرّ لها ربى يستر يابنت عمى عمرها
(سالمة) اختى ما دوت كيف ها الدوّة!! أتت قبل سفرها بأسبوع اضفت على بيتنا جوا من البهجة والسرور سامرتنا وتحدثت كثيرا عن ذكرياتها مع أبى اقام على شرفها ابى وليمة دعى اليها الاقارب .. الجيران والاصدقاء، طلبت القفة لتأخذها معها الى الحج لكن أبى رفض قائلا: السعودية مليانة قفاف هالقفة والله ما تطلع من حوشى نين انموت مازال ابى يعلقها فى الممر الذى أمام غرفة نومه ويخرج بها كل يوم جمعة للتبضع ثم ينفضها ويعيدها حيث كانت ومازال يحتفظ بمسبحتها التى صنعتها بنفسها من نوى الزيتون فهى لاتفارق يديه اذا ما عبث بها أحد أحفاده يسحبها بهدوء خوفا عليها من الانفراط وسرعان ماتتغير ملامح وجهه .. الحجاج انهوا مناسكهم .. جلب أبى لوازم حفل الوصول اعدت امى الكعك .. الغريبة والمقروض هى وسلفاتها وجويراتها جهزّت الأكياس الورقية التى ستوزع فيها ما جلبته عمتى من بيت الله .. كل مساء ننتظر قدوم عمتي بفارغ الصبر أخرج وصويحباتى أمام البيت لملاقاتها واعدهن بالخواتم الملوّنة .. والأساور ذات الخرز الملون المرنة ..والكميرات البلاستكية التى بها صور الكعبة ..أعدهن بالفساتين الهندية اللامعة .. بقناني ماء زمزم بالمصلات والمسابح واللوبان والبخور كل يوم نخرج وننتظرها فلا تأتي .. فننظر إلى راياتها البيضاء الموضوعة فوق سطح بيتنا فنراها ساكنة لا ترف .. لم تعد عمتي مع الحجيج ذات صباح اجتمع الجيران أمام بيتنا وصاروا يعانقون أبي ويبكون وأبي يبكي معهم وفي الظهر وصل اقاربنا من إجدابيا والبيضاء وفي العشية والمساء وصل أقاربنا من طرابلس ومصراتة وزليطن والعجيلات الجميع يعانق أبي ويبكي ونحن الصغار أيضا نبكي ونحتضن أمهاتنا علمنا من المشهد أن عمتي ماتت في الحج ودفنت هناك وبقت قفتها في الحياة وحيدة لكنها أبدا لن تبق القفة فارغة .. لقد ملأناها بالحب .
عمتي هي عمتي وجدتي هي جدتي وأبي هو أبي وزوجي هو زوجي وأنا هي أنا وأنا ما كذبت، عايشت الكثير من الأحداث التي أهلوس وأهذي بها، كل الأطفال أشعر بهم أبنائي، لا فرق بين شبعان أو جائع، مكتفي أو محروم، أبيض أو أسود،طفل شرعي أو لقيط .. معوّق أو سوي ..ولا أكترث أن كان البشر ملحدون أو مؤمنون فقلبي ليس كاسحا، لكن عمي كاسح وعنيد، يزاحم ذاكرتي الآن، ويقتحم ما أخربش من حروف، يسرق خراف سردي ويفترسها في مغارات خلوده ويعوّي في قلمي منشدا:
"الذيب لولا التخنتيب
والشمس لولا الشهولة
ماحد أنخلق بلا عيب
حتي الغزال فيه لولة "
باز شنو عمي كاسح، باز تو نحكيلك عليه، عم مقنقن مكافح يعجبك لكن غريب الأطوار ياريت يطيح بين إيديك وتعالجيه بكم حقنة علشان يترك عياله يأكلوا على راحتهم، عمى الكاسح
يا بزوزة طيب وعطوف أحيانا .. كريم مضياف محب للناس .. مثابر في عمله .. أكمل تعليمه الثانوي والجامعي بطريقة الانتساب وحرص علي تلقي دورات اللغة الإنجليزية الكورس تلو الآخر ليرفع من دخله ويتباهي بلسانه وشهاداته وهو ضليع في اللغة الإيطالية التي أكتسبها من والده، وصقل جودتها من مخالطة الطليان، فقد اشتغل في صغره بمحجر يديره الطلياني الشهير بسباستيان، شخصيته لا تخلو من التناقضات والغموض اللذان يتقوقع داخلهما هربا من مهاجمة النقاد الصغار أولاده المحيطين به، سماره وطوله الفارع مع شعره الناعم المخضب بالشيب وعينيه الواسعتين وأسنانه البيضاء المتراصة وهوايته لتقليد الشخصيات والأصوات يضفيان إليه جاذبية لا تقاوم، فهو لا يخلو من موهبة دفينة سرعان ما اكتشفها وعبر عنها بواسطة التمثيل، صار ممثلا ناجعا في المسرح الجوال الذي ساهم بعروضه في جمع التبرعات من أجل إعادة إعمار حيه الذي صار دمارا بعد زلزال المرج، في الزلزال مات الكثير من أصدقائه ومن الناس، وهو كان ممن نجوا بأعجوبة من تحت الأنقاض، كثيرا ما سمعت جدي يردد:
"هادا كيف القطوس بسبع أرواح مايطراله شيء "
"عطوه خمس دقايق ويجي يشيط فيكم النار وتوّ أرواحكم "
يقول ذلك عندما نخبره أن عمي الكاسح قد أنقلب عن دراجته النارية .. سحنته المتجهمة بعض الشيء تخفى ورائها تسلطا وعنادا وقسوة يمارسها مع أهله وأطفاله خاصة الذكور منهم ولا أدرى كيف تنبأت جدته بشخصيته قبل أن يكبر، لعلها فراسة العرب لعبت دورها في خيالها كي تطلق عليه اسم الكاسح فور قدومه، والكاسح شعبيا هو شديد العند وصعب المراس، هذا الاسم المتمشي مع حالة تجهمه وكدره، والده من شرق ليبيا، أمه وجدته لأبيه من غربها، هذا التنوع ترك بصمة واضحة في تأثرهم بطقوس المنطقة الغربية، أهله وأعمامه من المنطقة الشرقية، يشتهرون برعي المواشي في مراتع الجبل الأخضر، حياتهم مفتوحة وحرّة، فنجدهم مولعين بحفلات الكشك والزرادي الدائمة التي يتناولون فيها الشواء الدسم اللذيذ، زوجاتهم يتقن طبخ الأرز السليق على مرق اللحم الكبير و إعداد المثرودة بخبز التنور مع لبن الشكوة الطازج، فهم لا يطهون اللحم للضيف إلا كبيرا على مفاصله، وغير ذلك يعد عيبا في حق الضيف، عمى الكاسح شقيق والدي يأتي في الترتيب الثالث بعد أبى، هو نباتي منذ مدة طويلة، بالضبط بعد زواجه بعامين، فيما مضى كان محبا للحوم بجميع أنواعها وخاصة لحوم الخراف والغزلان التي كان يقنصها في رحلات صيده الصحراوية برفقة صديقه التارقي الحاج صالح الذي كان مقيما معه فترة الدراسة الجامعية ببيوت الطلبة، لم يفترقا حتى عندما أتما دراستهما الجامعية وتوظفا في إحدى شركات البترول،
أكبر فيه هذه النقطة التي أعتبرها شيئا ايجابيا يؤهله للدفاع عن نفسه أمام الرأي العام لعائلتنا الكبيرة وهى أنه لم يتناول لحوما قط منذ مجئ أولاده إلى الحياة، دائما يقول أحب أن يحيوا حياة صحية أفضل منى، وأنا تركت اللحوم الحمراء بعد إصابتي بداء ارتفاع نسبة الكولسترول الذي قد يسبب لي سكتة دماغية أو جلطة تزفني إلى العالم الآخر، تسمم جسمي من تعاطي المسكّنات، فآثرت أن أحذو حذو صديقي التارقي الذي توقف عن مطاردة الظباء والغزلان خشية لعنة الودان كما قرأت حكايتها في رواية نزيف الحجر لإبراهيم الكوني، وصار يدعوه للنزهة ليس من أجل الصيد كالماضي لكن للاستمتاع بسكون الصحراء وسحر الجبال ونقوشها العتيقة وبجمال الوديان الغنية بأحجارها الأثرية الساحرة.
ترك أكل اللحوم جميعها إلى الأبد وانخرط في جمعية لحماية الحيوان، عمى الكاسح وجهة نظره تكمن في جملتين:
(تترك الشيء بمحض إرادتك قبل أن يفرض عليك تركه)
(الوقاية خير من العلاج) .
هذا كله جميل يا عماه لكنك عندما منعت على أطفالك تناول اللحوم والأسماك حتى المعلبات منها لم تسألهم أيحبون فعل ذلك؟ أم لا؟ ..
هل في ذلك إجحاف لأطفال يحيون في الألفية الثانية، ألفية اللحوم والهامبورغا؟!
لكل إنسان شخصيته ومذاقه وطريقة تفكيره ومن الممكن أن نتحكم في أولادنا وهم أطفال صغار لكن إذا ما تجاوزوا مرحلة الطفولة لا ندري ما قد يحدث فهم سيخرجون عنا شئنا أم أبينا وهذه هي سنة الحياة.
فهناك مقاصف بالمدارس التعليمية ومطاعم بمقاهي الإنترنت تبيع سندوتشات الشواء بجميع أنواعها ولا تنسى أن الممنوع مرغوب ولو من باب التجربة، وخاصة ما كان قد منع بطريقة القمع والاستبداد بالرأي، ماذا يأكلون وهم لا يطيقون أكل البقوليات التي تملأ بطونهم بالغازات حتى سئموها، والخضروات لا يقبلون عليها الأطفال بشراهة، ومن بنات عمي من لا تشرب الحليب وكل مشتقاته ماعدا الزبدة مع المربي وأحيانا البيض البلدي فقط مسلوق ومنذ أن التهمت القطط دجاجات سندس كرهت البيض أيضا، وهيفاء دائمة البكاء عند عودتها من المدرسة واحتجاجاتها لا تنتهي وتكثر بغياب والدها بالصحراء وتخبرني بمغامراتها ليلا بعيدا عن أذان عمي فتوشوش لي:
- لاتخبري أمي فهي متواطئة مع أبي ضد رغباتنا أو لعلها درأ للمشاكل، فالكفتة وسندوتشات التن الليبي بالهريسة العربية و المفروم والكبدة اللي طعمها يجنن وحتي الهمبورجر كله نأكل فيه في المدرسة .. صاحبتي لجين حكيت لها علي حياتنا وهم بوي، من يومها حاسبتني في الحاجات المحرومة منها، وأني نرفعلها في الطعمية والعجّة التي برعت أمي في إعدادهما والبطاطا المقلية مع صلصة البازلاء ومكعبات الجزرالتي تحبها صديقتي لجين كثيرا ولا تتواني والدتي في تحضيرها ليلا وحفظها في البراد وتسخينها فجرا لتضعها لي في حافظة إفطاري صباحا، وفطائر السبانخ بالجبن التي مللتها دائما أعطيها لصديقتي لئلا أعود بها للبيت فتغضب والدتي، فلا أحب أن تغضب مني فأنا أقدّر تعبها ومحاولة أرضائنا قدر إستطاعتها، أحسب صديقتي في كل الأشياء المتبقية من تموين والدي في الصحراء الذي يحضره لنا كعلب الفاكهة الصغيرة والعسل والزبد والمربي والتمر، وعلب البسكويت الصغيرة، والكيك الخالي من الزيت والحليب، والحلوي الشامية باللوز والفستق بنكهة الزهر وأكياس الزيتون المحشوة بالجزر والمصبرة بالخل، وأكياس الكاتشب والمايونيز والملح والسكر والفلفل الأسود وأعواد الأسنان والمناديل المعطرة والورقية وقناني الشامبو والصابون وأكوام من الجرائد والمجلات المحلية والعربية وأوراق فولسكاب وورق مسطر " أوراق طلب " وأقلام جافة أما علب التونة والبالابيف لايحضرها معه لعله يدفنها في جوفه فمن يدري بصراحة يابنية عمي أكيدة زايط في اللحم والتن و السردينة والسلمون في الصحراء .. من يندري عليه بلكش حتي يطنطن فيها سكير وأحني ما نعلموا!
- يابنتي بوك نباتي ويخاف ربه
- أي يح، هابا على النباتيين، توا بتقنعيني واحد و أربعين عام يبلع في اللحم مسلوق ومشوي علي المفاصل وفجأة يقطعه .. " بعد ماشاب رفعوه الكتاّب " وكان يخاف ربه مش داير فينه هالعمل هاده كله!.. ريحينا عاد.
- نهارك أحرف وأيامك مغبرات زي شعر رأسك وكان يسمع دوتك يافرخة مايظل إلا ذابحك من الوذن للوذن.
- طز هي باهي .. فديت من المعيشة أهياها " خلاص ماعاش نقدر نتحمل أكثر من هكي
- قريب يجيك ولد الحلال اللي يريحك أصبري بس!
- والله ماأنظني
- يابنت قولي خير
- يستر الله وخلاص!
تجهز لي أمي صباحا كيسا يحوي " من كل شيء شوي " هدية لصديقتي لجين وأحيانا بعض الثمرات الأسيوية كالسفرجل والأوفكادو والكيوي وأبو شعرة والتمر الهندي وغيرها من الفواكه اللذيذة التي يحضرها خالي تاجر الشنطة من الصين البعيدة ..
- حرام ماما تحبك ومتحملة من أجلكم والدليل أنها تحبك تجهيزها للكيس الذي تحملينه كل ثلاثة أسابيع لصديقتك لجين ولو علم عمي الكاسح لقلب حياتها إلي جحيم ولربما أنت تعرفين الباقي .. في هذه الحالة هي متواطئة معكم وليس معه، لكنها خوفا عليكم كان لزاما عليها التظاهر أمامه بطاعتها العمياء لأنه كما تعلمين دكتاتوريته وتزمته برأيه لا تسمحان له بتقبل وجهات النظر .
- " باهي أسكتي ..أسكتي .. وغطي حكة الطن .. حس بوي جاء!!
لو أنك تترك المجال أمامهم مفتوحا لربما ماروك طوعا حتى في طريقة تناول أكلك بأعواد وملاعق الخشب .. جميل العودة إلى الطبيعة وحب المحافظة عليها و الأجمل من ذلك أن نحترم رغبة الآخرين حتى وإن كانوا صغارا و أن تترك الآخرين يمارسون رغباتهم كما تحب أنت تماما .. ماذا يعنى أن فلانا أب .. هو رب الأسرة حتما .. ولكن هل ذلك يعطيه الحق في أن يكون مجحفا؟! .
ألستم معي أن عهد الصرامة قد ولى وجيل اليوم لن يطيعك إلا إذا كان مقتنعا عبرالرأي والحوار، فالملبس والمأكل وحتى تسريحة الشعر حريات شخصية حتى أن في أمثالنا الليبية الشعبية كثيرا ما نقول (كول ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)، وإن كنت أري، أني سآكل ما يعجبني وألبس ما يعجبني لأكون مستقرة نفسيا، المهم ألا أوذي أحدا ولا أخدش الحياء العام وأنا حرة، لدي بدلة لوالدتي ووشاح مهير من السبعينات مازلت أحتفظ بهما فلقد أرتدتهما والدتي أثناء رحلتها العلاجية لبريطانيا وهما عزيزان علي قلبي ومازالا في حالة جيدة وكلما لبستهما لفت الأنظار ويسألوني:
- من أين أشتريت البدلة؟
- بكم سعر الوشاح؟
قبل عيد اللحم بيوم أخرجت جدتي أوراق الحناء التي قطفتها من شجرتنا وشمستها من أيام، جلولتها في الجلوال لتنظفها من الغبار ثم وضعتها في المهراس النحاسي اللامع من دلكه المتواصل بصابون السوسي والليمون وشطفه بالخل .. سحقت الوريقات جيدا في الهاون ثم غربلتها بقماشة بيضاء شفافة نسميها رمش العين .. ثم عجنتها بمياه الأمطار وقليل من قطرات الحامض و الزهر وزيت الشيح وسط جو مفعم بالبهجة .. كنا نتزاحم عليها أنا و أخواتي وبنات أعمامي وعماتي وهى تغنى أغان ٍ لا أتذكر منها سوى النغمة .. وبعدها تنادى على أبى وأعمامي وبحضور عماتي وأزواج أعمامي فيمسك أبى على اعتبار أنه الابن الأكبر بالكبش من قرنيه بحذر عندها تسمى جدتي باسم الله .. وتلطخ رأس الخروف بالحناء .. وبناتها و كناتها المجتمعات حولها كلهن يزغردن .. ثم تقدم له المياه النقية .. وتجتمع العائلة كبارا وصغارا .. ذكورا وإناثا .. تحت شجر الكرم في فناء البيت ويضعون قليل من الشعير أمام كبيرة العائلة جدتي وتعد بركة العائلة فتقوم بتنقيته والغناء عليه ومن ثم يأخذه أصغر أعمامي شريطة أن يكون أعزب ويضعه أمام الخروف متمنيا تحقق مناه .. عندها تدعو له جدتي أن يرزقه الله بالزوجة الصالحة، وننهمك نحن الصغار في الغناء على الخروف:
خروفي .. خروفي ..
ما .. ما .. ما..
لابس بدلة صوفي
ما .. ما .. ما ..
لا قرنين .. لا قرنين
ما .. ما .. ما ....
لا وذنين .. لا وذنين
ما .. ما ..ما
أربع كرعين .. أربع كرعين
ما.. ما .. ما
جابه باتي وذبحه جدي
ما .. ما .. ما ..
في عيد الأضحى
يوم العاشر من ذي الحجة
ما .. ما .. ما ..
كلينا شواه .. صدقنا منه ..
ما .. ما .. ما ..
وعصبنا بطنه
ما .. ما .. ما
شفشفنا رأسه
وباقي لحمه قددناه
ماء..ماء.. ماء!
أما هذه الأيام من عيد الأضحى ما عدنا ننشد ما حفظناه عن جداتنا .. فصار الأطفال صدى للقنوات الفضائية وبرامجها الشهيرة مثل برنامج طيور الجنة وسنا و براعم وكراميش وغيرها والتي صاروا يرددون أغانيها غير الليبية مثل:
خروفي الأشقر كرموش
يتمشي في قلب الحوش
عامل حاله علي المكشوف
الخخخخخ
أنا لا أطعن في هذه القنوات فلقد تعلم أبنائي منها الكثير وبرامجها هادفة بلا شك .. لكن الفضائيات جعلت دور الجدة ثانويا وعند بعض الأسر مهمشا .. وأربكت خصوصيتنا الليبية لدى الأطفال وياريت يكون لنا برنامج أطفال في مستوى برامج الفضائيات يحفظ خصوصيتنا وتاريخنا وهويتنا من الاستلاب حتى وإن كان عربيا.
في القديم الغابر لا يخلو بيت من " ملحة العيد " وهي عبارة عن حبيبات الملح الحصو المجلوبة من ملاّحة " كركورة "، تجهزها ربات البيوت قبل العيد بأيام من أجل الحصول علي الحصيوات الكبيرة فذلك أفضل ومن ثم تغمس بأول زخة دم من خروف العيد وتقلبه الجدة جيدا داعية لكنتها " العقبة لداير " أي إن شاء الله أنت من تقومين بهذا الصنيع العام المقبل .. ودعوات لا حصر لها مثل " إن شاء لله تعمري وتثمري " إي أن تكملي بقية عمرك المديد بعون الله معنا وتنجبين المزيد من الأطفال".
يجفف ملح كركورة المغموس بدم أضحية العيد في طبق من سعف النخيل تحت أشعة الشمس الحارقة مع مراعاة تقليبه إلي أن يجف فيصبح كتل صغيرة لونها أحمر غامق " كدم الغزال".
- تفضلي يادادتي حصيوات ملح العيد حشا عويناتك
- جبتيلي فاش نحطهم
- اهيه عمرة السعف اللي جتنا من تاورغاء.
- باهي ربحتي بكل .. أرحم والديك .. والله يخلف علي البطينة اللي تخبطتي فيها!
وهذه الحصيوات توضع في مكان آمن من عبث الأطفال ولا تستعمل إلا في ضرورتها لدرأ العين والحسد عن النفس والبيت وفي حالة المرض تأخذ منها حصيوة مع ورقة حناء توضع علي جميرات في كانون صغير من الطفلة أعد لهذا الغرض بفناء البيت .. وكما لا يمنعون الماعون فالملح أيضا .. أينك كركورة البركة؟ .. وحتى دم الأضاحي اشتهيناه .. فأنا مثلا مذ زواجي الذي مر عليه ثمان سنوات لم أر زوجي يمسك سكينا ليسمي مهللا " الله أكبر " في السنوات الأولي لم نكن نذبح لضيق ذات اليد فيقتسم علينا والد زوجي الحاج مفتاح الطايع نصف ذبيحته التي يذبحها بنفسه رغم أنه فقد بصره إثر ذريرات جير متساقطة دخلت بعينه أثناء عمله في بناء مستشفي بردوشمو وعالجه أبنه محمد في تونس و بلغاريا وأجريت له ثلاث عمليات ولكنها لم تجد نفعا ولم ترجع له بصره .. لقد كان أسطى بناء بارعا رحمة الله عليه وأسكن روحه الجنة هذا العم الطيب الذي أحبني كثيرا وفرح بذريتي كما لو كانت أول ذرية لزوجي فهو دائما يناديني " ياصفرانية " إني عندي في الصفران عقيدة " تستور ياسي ترابهم حامي ويدلل ابنتي مهجة فيناديها مذ كانت بيبي في القماط من الطابق الأول بنبرات صوته المرتعشة ولا يتواني عن المناداة إلا بأحتضانها ..
- ياعسيلة .. يا عسيلة ..
ويضمها .. يراقصها ويشمها ويقبلها مبتسما
- هادي بنت ولدي حق .. نجيمة وقميرة وعسيلة
وكذا جبير .. وهو من أطلق عليه هذا الاسم
- ربي جبر بخاطري وخاطركم بذكير من الصفرانية يلقاه محمد عقاب عمره .. ما يجينا من الصفران إلا كل خير .. ياوجه الخير ..
لم تشعرني أم زوجي أني لم أعيّد قط فتترك لي حرية التصرف في الذبيحة بعد أن تشرف علي قطع الموخر أو المقدم الذي سأحمله لأهلي هدية العيد فبعد أن أفلس أبي جراء صفقة تجارية خانه فيها الحظ انتقلوا من بيتهم الفسيح بشبنة إلي شقة بالحدائق بالطابق الرابع ولم يعد يذبح في العيد كباشا كسابق الأيام .
توفي والد زوجي وكبر أولادي وتغيرت الظروف كثيرا بالطبع إلى الأسوأ والحمدلله، فخصصنا حصّالة سنوية من أجل تجميع ثمن خروف العيد وصار أغلبنا يذبح في المسالخ إما لضيق المكان الذي أري أنه ضيق في القلوب والناس تبدلت وإما في مثل حالتي فزوجي مرهف الحس ولا يقوي علي فعل الذبح ولا يروق له السلخ .. نفسيته هكذا .. وحاولت أن أجرب العيد الفائت ذبح خروف العيد في بيتي .. فأنا أحب هذه الأجواء " حوسة الذبح " فاستدعيت أخي وحاولت أن أعيد ذكرياتي وليشاركوني أطفالي وتشحن ذاكرتهم بشيء نتشاطر التفكير فيه ونستجلبه يوما ما ولكن للأسف .. عندما رأوا خالهم يمسك السكين وجهزت أجواء الذبح أخذوا في البكاء صارخين
- لالالالاالالا خروفنا ماتذبحش
إلي أن خفت عليهم .. كادت أن تنقلب الفرحة إلي صدمة .. هرع والدهم لتهدئتهم ومازحهم خالهم شهاب الدين ..
- خروفكم مانذبحوش توا نشيلوه للمزرعة يأكل قمح وشعير ويكبر واجد
- يامهجة مش تحبي الشواية والقديد واللحم الكبير
فيجيب جبور قبلها " خروف عنده أب وأم ماتذبحوش"
- أذبحوا خروف ماعندش أب .. ماعندش أم.
ملحة العيد انقرضت .. قديد زمان انقرض و حتى عصبان الشمس محفوظ في برطمانات وحسب الطلب قديد بروحه .. ضلوع .. عصبان شمس .. مخلط .. ضأن أو بقر .. معروض بواجهة السوبر ماركت مثله مثل المخلالات لا فرق .. أذكر أن والدي عندما كان ميسورا يذبح ثلاثة خراف .. اثنان يوم الموسم ليتصدق بهما لوجه الله والثالث يوم العيد والعيد الذي كنت مخطوبة فيه ذبحنا فيه ثلاثة كباش واحد لأبي واثنان واحد لي والآخر لأختي هاجر التي عقد قرانها هي الأخرى .. ومارست كل طقوس أمي وجدتي ومازلت أحتفظ بقرن ذاك الكبش الذي أسميناه ظريف لحركاته الممتعة التي سلانا بها بسور بيتنا فجر يوم العيد يستيقظ كبار أسرتنا باكرا للصلاة، بعد استحمامهم يرتدوا ثيابا جديدة أو ثيابا أنيقة تليق بالعيد وكل منهم قد حلق رأسه وذقنه وهذب شنبه أما اختيار الملابس وتجهيزها وكيها إن لزم الأمر فهو من مهام كل زوجة وعليها أن تعطر جسده وشاربه بالمسك والطيب وتناوله مسبحته وبعد صلاة العيد لا توارب الأبواب و عندنا لا تغلق الأبواب في الأعياد أبدا وان وجدت بابا مغلقا في يوم العيد فحتما يكونوا أهله غير متواجدين أم أنهم جدد على الوطن ولم يندمجوا بعد في العرف العربي الأصيل .. يدخل أبى للمعايدة على جدتي بتقبيل يديها ورأسها ومعانقتها بحرارة وطلب السماح فتدعو له بالتوفيق و الرضا، وتأتى في المرتبة الثانية المعايدة على والدتي قسامي المنشغلة بتجهيز عدة الذبح ولوازم تسهيلات السلخ وبقر البطن .. وفى كل لحظة يتوافد المعيّدون إلى بيتنا .. وبعد هذا كله تقدم أمي قطعة جاوي وتقرب لها بخارة من الفخار بها بعض الجميرات المستعرة فتقوم جدّتي بوضع قطعة الجاوي في المبخرة أمام خروف العيد ليستنشق منها ثم تربط بإحدى قرنيه خرقة خضراء قد جلبتها من مقام سيدي عبد السلام الأسمر بزليتن وهذا يسبق الذبح مباشرة وأذكر أن جدتي تقوم بتعليق المرارة على أعلى حائط في المسلخ ولا تُزال إلا في العيد المقبل وتوضع الجديدة بدلا منها وذلك تيمنا منها بعدم نشوب المشاحنات في بيت العائلة ودفع الأمراض وسؤ الطالع .. كانت كثيرا ما تنصحنا بعدم أكل كليتي خروف العيد لأنها تجعلك تشعر بنفس شكوى الناس سواء كانت جسدية أو نفسية و لكنى لا أقوى على مقاومة رغبتي في شوي كليوة العيد خاصة والجميع قد أضرب عنها رغبة منهم لإرضاء الجدة وفى الحقيقة جدتي لا تأكل شيئا من أضحية العيد اللهم إلا قطعة صغيرة من الكبدة تلوكها وبعدها تقذف بها خارج فمها بعد أن يقسم لها أبى على ذلك فتجيب والدموع تذرف من عينيها:
- كلو انتوا وتهنوا والله ما ينبلع و ولدي الكاسح وصغاره ماهم معيدين
- ياحاجة خليه في حاله هو اللي اختار هكي كل راس عليه حكمة، نباتي نباتي .
- قالناله جيب العيال ايعيدوا معانا
- هو مسكر راسه شن بنديروله
كلما اعترضت علي طريقة تعامله مع أطفاله وأحيانا في أشد موجات غضبي أطالب أن يبقوا الأولاد معي وأقسو عليه من حرقة قلبي علي الأولاد وخاصة البنات اللي ديمة
شايفات في اللحم وحتى التن فيشتد الجدال ويرد علي بعصبية متفاقمة:
كان بشيش فوق أمراح والله ما تذوقيهن
كان بشيش فوق الخيش والله ما تذوقيهن
وكان بشيش مات وراح هاذك بينك بينهن
- ياراجل حتي التن والسردينة والقرنيط عيب عليك .. مازلت مانبيش نغضب عليك
- أسمعي ياحاجة
" كيف من كلي عيش ودهان
كيف من كلي رغيدة
وكيف من رقد علي حصران
كيف من توسد جريدة "
فتجيبه والدته حق .. هذاك كان ماعندكش عيال!.
وترفع طرف ردائها الأخضر المقلم بخيوط الفضة ماسحة دموعها زامة شفتيها عند ذكر أبنها زكريا الذي لم يرزق ذرية بعد فهي دائمة الدعاء له أن يرزقه الله الذرية الصالحة.
- أوخيك ليه عشرين عام متبيت " متزوج " مافرح حتي بقطيطيس يناغيه وأنت اللي ربي عاطيك .. داير ها الدور كله .. مراة مسقمة تخاف ربي ومتحملتك ومتحملة نكدك وياريتك حامد ربي .. ماجبت من طبايع بوك شيء .. " هناك اللي يرفس في نعيمته برجليه " هذي الدنيا ياسي".
ياودى (الكبد حرفة) (وما أعز من الولد إلا ولد الولد) هو على كيفه كلا لحم واحد وأربعين عام لكن وكان خلاهم يأكلوه حتى عشر أعوام باهي بالله مش حرام عليه حتى عيد ربى ما يفرحوا بيه زى الناس.
ثاني أيام عيد الأضحى المبارك اقتطعت جدتي من ذبائح البيت نصف سقيطة فحملناها حسب أوامرها إلى بيت عمى الذي سافر فجرا لعمله في إحدى الحقول النفطية .. أوقد أبى الكانون وكان في كل مرة يهمس لجدتي
- والله عارف الكاسح توا تفوتا الطائرة ويرجع ويلقانا نشووا في حوشه ويقلبلنا العيد نكد
- دابينى عايشة وأنا نجبر بخاطر ها العويلة وبعد ما اتوارى عيني لهم رب كريم .
كان صغار عمى فرحين منهمكين في جلب لوازم الشواء .. حضر الفحم .. حضر الملح والطماطم الأخضر والفلفل و البصل والمشروبات الغازية والخبز الساخن .. طرحوا نصف الشاه على قطعة كرتون نظيفة وصاح أبي في زوجة عمي هاتي الموس يا باسمة فأطلقت زوجة عمى الطيبة ضحكة خجولة وهمست في أذن جدّتي:
ما عندناش سكين لحم عندنا سكين خضرة بس!.
الملابس التي لم نعد نلبسها لكبرها علينا عزيزة لم تكن أمي ترميها، كانت تحتفظ بها في جوال كبير تركنه في آخر المخزن.
في طفولتى كنت أختلس بعض هذه الملابس وأخبئها بدرج خزانتى .. ملابس تفصلها أمى عندما تراها ضيقة علينا أو أن موسمها المناخي مضى وفي الموسم القادم سنكبر و لن تكون مناسبة لنا، لا تركنها بحالتها كما هي بل تزيل عنها الأزرار والسحّّّّّابات وقطع الدنتيل والشاش وبعض الأحزمة وكل ما يمكن أن تستفيد منه في رتق ثوب أو إصلاح سروال أو قميص أو فستان وتمزق من بعض القطع القطنية مربعات ومستطيلات تستعملها كخرق للمطبخ بعد قصها وتشذيبها وسرفلتها بماكينة الخياطة الصينية السوداء وتجعل من بعض القطع مشدات للطناجر بعد أن تحشو وسطها بقطعة أسفنج رقيقة وتحيك حوافها .. كما تصنع قطع طويلة على هيئة مصران بأحجام متفاوتة الأطوال وتكففها وتضعها بجوار خزانة المطبخ لتستعملها فى تحزيم كساكيس التبويخ و ذلك بلف هذه الخرقة على محيط التقاء الطنجرة بالكسكاس حتى تكفل عدم تسرب البخار من الجوانب وبهذا تنضج الأكلات المبوخة كالكسكسى والرشدة والأرز والمكرونة المبوخة والشعيرية المبوخة وهي الحبوب التي تبدو علي هيئة لسان عصفور فهي مع اللحم والنعناع الجاف من لوازم إعداد الشربة العربية ." أما عندما تبوخ حبوب الشربة فتعطي مع الخضروات أكلة جديدة تدعي الشعرية يحبونها أهل درنة كثيرا .. كما تصنع لنا مشدّات شعر وأقواس شعر زاهية الألوان تعلمت منها كيف أضع قطعة القماش وأحشو وسطها بالشريط المرن ومن ثم أحيكه بطريقة الكشكشة فيصبح مشدّا رائعا .. وبقية الملابس الصالحة التى تجهزها أمى وتحزمها بجوال بوخط لتتصدق بها.
إن رأتها جارتنا حد الزين قبل أن تهبها أمى فلابد وأن تتحسس الجوال وتحركه يمينا وشمالا وتطبطب عليه بيدها كما لو كانت ستشترى (دلاعة) وترفع عينيها بنظرة غير مكتملة تنزل طرف ردائها من على رأسها بعد أن تزيح إحدى طرفيه من طبقة فكيها فهذه الطريقة تضمن لها عدم انزياح (جلالها) من على رأسها فهى لا تظهر حاسرة الرأس وأن كان باب بيتها ملاصق لباب بيتنا:
- هذا كله دبش .. مش عيب عليك يا قسامي ماتقولى عليه ..
- هذا دبش عويل صغار وأنت عويلتك ماشاء لله كبروا ياحد الزين ..
- ماك عارفتينى ماشية للبر وكان ما قلتى عليه لحد أنشيله لصباياي اساع يفرحن باه واجد.
عندما تنهمك أمى فى شغل البيت من تنظيف وغسيل وطبخ أنتهز الفرصة وأتسلل إلى العروسة الحمراء التى أهدتها لها جارتنا نادية المصرية وهى مشغولة يدويا بالكامل من رأس عروسة وجذعها العلوى وتخلع أطرافها السفلية لتثبت سلتين من النايلون المخصصة لوضع الخبز أو الفاكهة وهذا قبل انتشار سلال السعف الصناعى والستانستيل والكرستال .. تكسو جسد
(البنبلا) بخيط الصوف ومن ثم تغطى بشغل الكرشي وتثبته مع بعض " كالداقرة ومغطاها" وتغرس فى وسطهما البنبلا بعدة غرز غير ظاهرة للعيان فتصبح هيئتها كالعروس التى تحمل فستان زفافها .. أخطفها وأخرج إلى الجنان وأجلس تحت الكرمة .. وأخرج أحشاء العروسة من إبر ولميتات وهى أمواس الحلاقة المرسوم عليها شعار تمساح فالشباب العاطل عن العمل ومن تركوا مواصلة تعليمهم كنت أسمعهم يتمازحون " جاك اللي على اللميته " تشطرها أمى إلى شطرين تحفظ كل شطر فى قرطاس على حدة وهذا يساعدها فى فك الأشياء محبوكة الخياطة والتى حوافها قصيرة فالمقص يفسدها وأنما اللاميتة تساعد على فكه دون أن يتلف القماش كما يحوى جوف العروسة أمقاص بأحجام متفاوتة منها الصغيرة التى تنطوى كالذى يستعمله أبي الحبيب في تشذيب شنبه الرائع .. ومنها ذات الحجم المتوسط المحفوظة داخل الجوا الخاص بها فأمى إنسانة محافظة تقدر قيمة الأشياء وإن كانت بسيطة كذلك يوجد داخلها خيوط بكل الألوان (أحمر وأخضر وأصفر أسود وأبيض أزرق وبرتقالى) وأنثر الأزرار التى جمعتها أمى من بقايا الثياب القديمة وهى كثيرة ومتنوعة الأشكال والأحجام على هيئة نجوم وأهلة .. قلوب وورود .. دوائر ومستطيلات .. فراشات وأشكال أخرى لا تحصيها ذاكرتي الآن .. بألوان مختلفة منها الفضى الذي غزاه السواد .. والنحاسي شديد الصفرة كنت دائما افرزها لأركنها جانبا فلشد ما تزعجنى الأزرار والأقراط الصفراء وإن كانت من ذهب .. أحاول جاهدة كما أفعل اليوم مع ابنتى حياكة ملابس لدميتي التى لايعيقنى جسدها النحيل فى صنع فستان ارتجالى ودون مقاسات دقيقة وإن بدى واسعا أضيقه بشكة دبوس من الخلف أو اصنع له حزاما .. وكنت أحب تحزيم عروستى بالرداء واصنع لها الفرملة والسروال العربي واجتهد فى تغيير تحزيمتها مرة شرقاوي ومرة غرباوي وكثيرا أكرر لها التحزيمة العجيلية القريبة من الزي التونسي وهي بتاكميتين خلال من أعلي الصدر ذات اليمين والأخري تحاذيها ذات الشمال لشد ما أحببت جداي العاقلة جدة والدي لأمه فدائما أذكر تقديرها لسمارة أمي رغم أنها شقراء وكيف تملا لها الصرة بمختلف أنواع العطرية وقطع القماش زاهية الألوان وكيف أنها آثرت الموت علي ركبة أبي تحتضنها أمي علي الذهاب مع حفيدها إلي المستشفي بعد أن سجلتني بالمدرسة صباح يوم رحيلها تلك المدرسة التي رفضت قبولي في منتصف العام الدراسي من الصف الثاني عندما انتقلنا لطرابلس بالحي الأسلامي نسيت حتي أسمها لا أذكر سوي أسوارها العالية وقضبانها الخانقة فقط .. رحمك الله ياجدتنا الغالية .. فكنت أضع لعروستي بعض الحمرة والكحل وأرشها بالعطر فذاك يشعرني بسعادة لا تضاهي.
- تسكيتك هذي مش بلا عملة .. شن نزلك فيها من فوق الزيانة .. كيف تلاحقتيها ياعكروتة!
- آآآآآآآآ والله ياامى خااااااااايطت............!!
أمى طيبة وحنون عندما رأتنى مرتبكة ومتلعثمة خافت على ونظرت إلى عروستى وأخذتها متأملة.
- ما شاء لله على بنيتك شن سميتيها؟!
أجيبها بابتسامة فاردة يدي تماما كما تفعلها مهجة اليوم معى عندما أضبطها متلبسة بشقاوة ما تعانقنى وتعدني أن تلعب معى لعبة الصبايا فى أوقات فراغها وأن تحزمنى بالرداء وتصنع لى عريسا وعروس من الخشب وتكسيهما بملابس عربية جميلة ..لا أدرى أن كان الوقت قد تغير أم أن ذائقتي تختلف .. عندما ألعب مع ابنتى لا أشعر أن لديها هما مشترك مع دمية بعينها، الألعاب كثر عددها وتنوعت أشكالها للحد الذى فقدت فيه قيمتها .. عندما تعطينى دبا أو أي دمية فى نظري شكلها بشع فلا أستسيغ التعامل معها لأحيك لها ثوبا وأنا لست بماهرة فى الحياكة فألبسها من ملابس مهجة الصغيرة ولشد ما أنزعج ويلحقني النفور عندما تطلب مني أن أحزم بالرداء إحدى الدمى ذات الأشكال الغريبة المنفرة التى لا تمت لطفولتي بصلة .. بدأت أخفي عنها كل الدمى ولا أخرج لها سوى واحدة أو أثنتين من الدببة والأرانب زاهية الألوان والمنظر .. تغير شعورها وصارت متعلقة بدمية طفل صغير اسمته بنينة هو هدية من خالتها الشاعرة وجدان شكري عياش .. تغسل له ملابسه وتحممه وتلبسه من حفاظات أخيها جبير وذات يوما خلعت له الحفاظ ووضعته على سريري وأوصدت باب غرفتي وعندما دخلت فوجئت ببنينة (أمبفر) نائم علي سريري وقد غطته ببطانيتى الحمراء وعلى وسادة ابيها.
- مهجة شن جاب بنينة على سريري
- خليه ايشخ على سرير جده
قهقهت كثيرا .. ودار بيننا جدلا كما لو أن الأمر حقيقة .. فرحت كثيرا وتذكرت كيف كانت تلعب معى أمى وأنا صغيرة وتدلل عروستى .. كلما ألقمت جبير ثديه تقدم لى بنينة لأرضعه أيضا.
- ماما عطيه تويد جعان يبى حليب
- أنت أمه طلعى تويدك وعطيه يشفط من حليبك
تسر بذلك وتضعه على ركبتيها رافعة ملابسها وتلصقه بحلمتها الشبيهة بثقب البسكويت.
واحيانا تعصر حلمة ثديها النائم ..
- هاه شوفى مايطلعش حليب ..
- اشربى حليب واجد توا يطلع حليب ..
- خلاص .. خلاص .. بنينة رقد .. مايبيش يرضع هو!.
جميل هذا الذي يحدث .. ملابسى التى تصغر على لا ترميها أمى تلبسها اختى الأصغر منى وهكذا .. والتى لا تناسب مقاس إخوتى فى البيت تعطيها أمى لبنات عمي أو عماتي المهم لا تبقى هكذا بدون استفادة .. دائما أمى تحتفظ بملابس أطفال فى درج خزانتها لتهديها للأطفال الذين يدخلون عليها لأول مرة وأذكر أنها تخصص رف واسع من خزانتها لتجميع الأردية والجرود والقمجّات الجديدة التى تأتيها هدايا فى الأعياد ومن مناسبات الأفراح لتمنحها للعزايز مع بعض العطرية كالبخور والسواك والحناء والقرنفل واللوبان ..أما القماميط فكانت تخيطها بنفسها بالطول المناسب هى وقطعة القماش التى ندعوها (طرف) يلف بها الوليد وتكون من قماش الباصمة إن كان الجو صيفا ومن القطن إن كان شتاء وكذا فعلت مع أبنائي بعد أن أقتنعت شخصيا بمدى صغر حجم طروف السوق وقصر القماميط .. فرزت ملابس مهجة وجبيروجمعت كل الطروف والقماميط والملابس الخاصة بالمواليد ووضعتها فى حقيبة وكنت سأهبها لإبنة عمي مني العيّادي التي أرضعت أبني جبير لكن نتيجة التحليل الموجب جعلتني ألغي الاقتراح .. فيما مضى كنا نسمى السوق التى من ضمن مبيعاتها الملابس الملبوسة التى مازلت فى حالة جيدة بسوق (التركة) وبعدها صار ينعت بسوق النملة لكثرة مرتاديه .. وتغير فصار يعرف بسوق الجمعة واليوم أصبح سوق دينارين .. تعجبنى هذه الأسواق فهى تتيح فرصة للتسوق بسعر رخيص لذوى الدخل المحدود أصحاب أكبر عدد من الأولاد أي أسرتهم كبيرة وليس بالضرورة أن تبتاع ملابس ملبوسة فهناك ملابس جديدة تباع بالمزاد والمزاد هنا ينخفض لا يرتفع عكس المزادات الأخرى وتكون مثل هذه الفرص لتجار المحلات الذين قد بارت تجارتهم .. وقد كثرت هذه الأيام محلات (فرصة .. تخفيضات ..أوكزيون ..) وهى إما ملابس ملبوسة ومستوردة وأما ملابس بها عيوب تصنيع يمكنك التغاضى عنها أن كنت مضطرا ويستوردونها رخيصة بسعر الكيلو مما يجعلها رخيصة وفى متناول الجميع!
ذكرتنى الخياطة بدكان عمى فرج الملقب (بفرج ماصو) يقال أنه بدأ تجارته الرابحة والتى أزدهرت فيما بعد بماصو قماش (لفة قماش أسطوانية من عشرين متر وأكثر) من صنف واحد هو الشولاكى الوردي كان يبيعه على قارعة الطريق .. ويقيس أمتاره بواسطة ذراعه حيث يفرد الماصو ويمسك بطرف حافته فاردا ذراعه إلى أقصى مدى وممسكا بالطرف الآخر من الماصو عند أرنبة أنفه وهذا القياس هو مسافته متر متعارف عليه عند البدو والحضر بعثتنى والدتي لأشترى قطعة قماش لتفصلها سورية عربية لرداء مخضب الألوان (من كل شىء شوى) فلم أحضر لها القماش الذى طلبته وأنما أحضرت قطعتان قد أعجابنى من الشيفون واحدة بلون لبنى والأخرى بلون طرطارى وهو البنفسجى الهادىء الأرجواني .. حاسبت التاجر وخرجت فرحة أحتضن قطعتى القماش .. لا أدرى ألا ورشادة (قطعة من الصخر صغيرة الحجم) صدمت عينى اليسرى فقدحت من عينى شرارة أفقدتنى الوعى نقلت على إثرها إلى المستشفى وأجريت لى عملية مستعجلة لوقف نزيف القرنية ورافقتنى أمى فى المستشفى تسعة أيام وخرجت بضمادة تغطى عينى إلى أن تماثل جرح القرنية للشفاء بفعل مداومة أمى على قطرة العيون والمرهم فى مواعيدها بإنتظام .. الرجل الذى قام بأسعافى سلم والدتى قطع القماش المبقعة بدمى .. ودار حوار بعد خروجى بين أمى وأبى بشأن قبول الصلح ..
- (الدم يغطى العيب يابال بنتك مش غالطة)
- دعوتهم تقلبهم .. كلا المصار مانى قابلة .. المهم سلامة بنتى
- الحمدلله هذى ولا غيرها
- صدقت ربى قدر ولطف
تعجبنى فوضى زوائد القماش التى تزين بيوت الخياطات وأكوام القماش المتراصة .. غريبة هذه الدنيا قد يلتقى مايلاصق أبداننا دون أن تلتقى أيدينا .. فوضى الخياطة منظمة ..فهى تستطيع اخراج القطعة المطلوبة لصاحبها فى الوقت المناسب رغم الكثرة والازدحام .. هذه الفوضى المبهجة ذكرتني بأخت زوجي إسعيدة التي اقتطعت من باحة بيتها الكبير غرفة شاسعة وجعلتها لممارسة هوايتها فعندما زرتها عروسا لأول مرة أكرمتني وفردت كل ما لديها من تصاميم وخيرتني ..فشكرتها وتمنيت لها التوفيق .. لكن بعد أن صافحتها وخرجت مدت لزوجي كيسا كبيرا به ستائر مطبخ وغطّاية غاز ومفرش طاولة وطقم آخر لنافذة الحمام والغسالة وبيجامة حوامل مازلت احتفظ بها إلي هذا اليوم فمن دون ملابس الحمل هي الوحيدة التي أرتاح جدا عندما البسها ولا أشعر ببروز بطني ومايحدثه من ضيق ..ألوانها زاهية وتصميمها رائع وحياكتها متقنة .. المورد الرئيسي لبضاعتها زوجها المكافح وهذه المهنة تدر عليهم أرباحا طائلة وحققت بذلك اكتفاء ذاتيا لها و لأولادها الصغار!.
أتمنى لو كنت خياطة فزوجى لا يطيق التبضع .. لايذهب إلى السوق إلا إذا اهترت بنطلوناته من كثرة اللبس وفرط الغسل .. بالأمس رميت له بنطالا قد أهترى قفاه ..رميته بكيس النفايات فلامتنى ابنتى مهجة
- (ماما حرام .. ليش عزقتى سروال بابا طلعيه)
عندها تساءلت في نفسي لماذا لم أفعل مثل أمى وأستفيد من أزراره وقطع قماشه الصحيحة بدلا من التخلص منه بهذه الفجاجة التى ألمت صغيرتي.
تذكرت جلباب خمسة دينار ..الذى أشتريته فى عيد الفطر الفائت و لم أتمكن من الحصول على غيره سوى منديل رأس بثمن ثلاثة دينار وكنت فى غاية السعادة لولا أن الوقت قد بلغ فجر العيد وما من محل قبل تنقيص طول الجلباب فى نفس الوقت .. شعرت بالكدر وحاولت أخفاء شعورى المحبط عن زوجى الذى يحاول جاهدا بشتى الطرق إدخال السلوى إلى نفسى فأقترح مبتسما أن نذهب إلى سوق المصرية .. يوجد أمامه خياطين أفارقة على الرصيف فوافقت فورا .. وخفف من حزنى قائلا
- أنت طيبة وقنوعة وربى كريم سيجبر بخاطرك تفائلى خيرا
وفعلا ما أن وصلنا حتى أشار لنا خياط نيجيري وقام بأداء الغرض بدقة رغم الوقت المتأخر وصعوبة قصه لأن أسفله مصمم بطريقة دائرية وأرتاح لهذا الجلباب دون سواه لأنه بسيط و جاءنى بحب.
بالإحتفالية التي أقيمت لتكريم الشاعر طريبشان بمنطقة الرجبان غربا دعينا فجأة فلبينا الدعوة وما من وقت ولا مال لشراء بعض الملابس، لدى بعض الملابس الجديدة لكنها طويلة ويلزمها التقصير وكنا نعتقد أننا سنرتاح يوما بطرابلس وبذلك سأتمكن من تعديل ثيابي عند أول خياط بالمدينة القديمة فهم كثر ففوجئنا بالحافلة التي تنتظرنا في المطار تقلنا مباشرة للرجبان فور نزولنا من الطائرة، تألمت وشعرت بالحرج الشديد فملابسي عرقت بها سأغسلها حتما والافتتاح سيكون صباح اليوم التالي.
ذهبت للاحتفالية مجبورة الخاطر فأسرة الكيش التي استضافتنا ابنتهم فاطمة خياطة ماهرة قصرت لي ثيابي كما رغبت و أهدتني جلبابا وفستانا رائعين.
الملابس التي بيدناها تجمعها أمي لتمنحها لخالتى التى تسكن المنطقة الريفية (البر) وعندما جاءت العطلة الصيفية دعتنا خالتى لعرس ابنها، فى الريف لا يستعملون الخيام ولا يعرفونها، فهم يستعملون البيوت العربية التى تصنعها نسائهم، ويقمن بخياطتها عن طريق رتق القطع بعضها ببعض بصورة عشوائية فتعطى منظرا فطريا بهيجا يسر الناظرين، وبينما كنت أمارس شقاوتى تحت عمود البيت من شقلبة ووقوف على الرأس رأيت سراويلى و فساتينى من ضمن سقف البيت العربي، هذه الملابس لبستها ولى معها ذكريات لاتنسى، لقد ندمت الآن على اختلاس الملابس من دولاب وشوال أمي، لو انني لم اختلسها لكانت الآن ظلا جميلا منعشا في هذا البيت العربي الكريم صنعه قماش الماضي الذى أفنى روحه في سترنا وتدفئتنا.
- ماما .. ماما .." بنينة " أنجرح داويه!
أحاول كتابة شيء .. الورق بجانبي .. الأقلام .. الهدوء .. القهوة .. الماء ومكعبات الثلج المتهاوية بفعل الذوبان .. أطالع تلك الصخرة التي نحتها ذات فجر خريفي ..اسمع صراعات .. أرى ولا أبصر رتابة الأجواء .. قلم بائس حاول تصديع فص ذاكراتي ..هدأ هنيهة ..صمت برهة .. وعاد يدندن أوتار الإلحاح .. محاولاتي كلها أجهضت .. أين الإسعاف؟!
سأقتص من الإحباط ..لا تطرق صدغي الأيسر .. دعني اهنأ بتأمل المعين .. خرجت بجسد لا ينادم ..الضغوطات خرجت به ..خرج بي ..لا أدرى إن كنت أحمله أم يحملنى؟!
حتى شعري رفض الخنوع لعقدة الوشاح واسترسل ..تغير المكان .. ها أنذا اكتب من انهمار مقلتيك أجمل كتاباتي ..الحروف اسمع خطوها على إيقاع البسمة .. فيرقص معها قلبي بدمه ونبضه رقصة الأفراح ..رقصة شبيهة باستلال أوجاع الأنات ..احتاج رشفة قهوة الآن .. قهوة منسوفة المذاق .. نكهتها لم يشمها أنف الكون!
يالا ذاكرتي .. كلما أغرقها سيل التكهنات وجدت قليل من الأكسجين المخبوء بين حنايا اللحظات ..حبيبي تنفسني بعمق .. جفف بلل معاناتي ..أنشرني متوترة داخل شمس أحشاءك المحرقة .. انشلني من فوضى الورق .. غير مجرى الصمت القاتل .. سأحيا لينضج ثمري بعيدا عن حقن الإجهاض، كل هذه الحرورة والعرق الناز من كل مناطق جسمي دون استثناء والبخار المتصاعد من هذا المطيبخ الصغير الضيق ورائحة الطعام التى التصقت بجدران البيت وعدم تلاطم التيارات الهوائية بالأضافة لحرمانى من الاستمتاع باستنشاق البخور وتعبيق أركان البيت به بسبب صغيرى وما يعانيه من أزمة صدرية يشعرانى بالضيق فلقد أعتدت فى البيت الكبير على تشريع النوافذ قبيل الفجر ولا أقفلها الا بعد شروق الشمس ومع فتح المذياع هذان العملان هما أول ما أستفتح بهما يومى الجديد .. قبل أن أبدأ عملية التنظيف والترتيب مبتدئة بالمرحاض الصغير جدا الذي يذكرني بمرحاض الطائرة .
لا أدرى لماذا تتغير الأمزجة وغالبا الذي نقوم به اليوم نعجز عن إعادته غدا .. بداخل أنفسنا حوت شرس يقلقنا ورغم كل هذا القلق نجد أننا تكيّفنا على التعاطى معه دون التفكير فى التخلص منه .. أحيانا نجد المتعة فى تحمّل الأهوال وفى خوض عباب المجهول ..أحيانا نحتاج لقلب المفاهيم ..أكره الروتين وتخنقنى الرتابة ..المداومة على النظام روتين ..المدوامة على فعل أشياء بعينها كالتهام وجبة طعام أو روح أو جسد باستمرار وبمواعيد منتظمة أمر خانق .. أتلذذ بفوضاي التي لا أتوه فيها عن إبرة قشى .. كم هو حلو وجميل الانتقال من عالم لآخر .. علينا أن نصنع عوالمنا التى نشتهيها ولو فى الخيال .. جميل أن نعتصر ألمنا الحالى ونسكبه على عصارة الآلام الغابرة ونخلطها فتعطينا مزيجا يعيننا على الأحتراق والجنون .. أجنح بين الحين والآخر لتحطيم كل شيء يساعد على معرفة التوقيت فالوقت هوالآخر سئمنا .. سئم ممارساتنا الطاغية عليه دون حساب منا لذلك .. مل الاستخفاف به وتورم من شدة الضرب، سيشكرنى يوما لأنى ساعدته على الأنتحار وأحيانا لا ينتظرنى لأساعده كما حدث لساعة على هيئة حجر رشيد خنقها معصمي فانتحرت من علو شاهق بالجبل الأخضر لتستقر أشلائها بوادى الكوف هى من أختارت مصيرها وليست كساعة عرسي التى كانت ضحية فكرة رعناء مدعاة التميز .. ما أدرانى أن هذا المقود الذى يستند على مرساة سفينة سعيد بتهشيمه بمطرقة فضية فى مصوراتى الدنيا على قهقهتى مع عريسى الذى راقه هذا الجنون.
أستفيق لأطمئن أن شركة الكهرباء لم تقطع التيار الكهربائي عن بيتي .. أتفقد حاسوبي .. هكذا أبدأ يومي منذ عودتي آخر مرة من سفرى لأجد الثلاجة والحاسوب قد تعطلتا .. لابأس الثلاجة سأعالج أمرها ستعطينى جارتى نجوتة حصتى يوميا من الماء البارد والثلج . واللحم والخضار سنحضرهما فى مواقيتهما والزائد سأحفظه على شوال مبلل وأغطيه بقماشة رمش العين واللحم الزائد سأملحه وأنشره على سطح جويرتى سلومة التي دائما تنشر غسيلى فى عين الشمس وتدعونى لغسل بسطى فوق سطحها المقابل لبيت السنفاز المؤجر لنا وعندما أصعد لجلب شيئا بسيطا من أعلى البيت قد خزنته بالطابق الثالث المهجور لعدم صيانته فيعجبنى غسيلى المتراقص على نغمة الأثير الى الأعلى والأسفل وذات اليمين و الشمال بحركات ايقاعها كما دوامة تشكيلية يغلب عليها الأحمر الفاقع الذى يخصنى وقد فقد الكثير من عدسه ولمعانه ولكن موسيقاها الداخلية لا تنضب .. أما الألوان الهادئة كالسماوى والوردى فأراها بيضاء أتتبع هفيف الملابس ونغمة الأثير فيطرق بابى ويأتونى أطفال عيت الشيخى عليوة ومودة ورقية يحملون الملابس وقد شاركوا والدتهم في توظيبها ومعها رسالة اعتذار " لو سمحت ظروفى لكويته أيضا، أعذرينى " العطل لحق الغسالة . سأغسل الملابس على يدي سأستغنى مرغمة عن الغسالة سأحتمل فأنا لا أطيق أن يخرج غسيلى من بين يدي .. سأنشره مبللا بعد نفضه جيدا فهذه الطريقة تساعدنى على كيه بطريقة تتبع خطوط كتفي القميص والتأكيد على ثنية الياقة مع وضعه بمشجب وليس على الحبل مباشرة ما أن دب فيه اليباس حتى أمرر راحتى على القميص أو البنطال فينفرد بحرارة يدى ويصير جاهزا للبس ..علم جارنا الساكن بالطابق الثاني بأمر انقطاع الكهرباء فشارك زوجى سداد الفاتورة وقام بإصلاح الكهربائيات ونظر لزوجته الطيبة معاتبا"
معقولة جيرانا هكى وماتقوليليش " فرمقتنى بنظرة عتاب تلومنى عن عدم أخبارها بكل ذلك وأقسمت أنها لا تعلم كل ذلك كانت تعتقد أن تكليفي لها بتأمين حصة يومية من الثلج والماء البارد راجعا لصغر ثلاجتي وليس لخرابها .. جويراتى طيبات وفى وحمى لم أجد أهلي .. فأمي بعيدة عنى ولا تستطيع وصلى وأتمنى وصلها " أنا لا أطبخ وأصاب بالقرف من أكل المطاعم رغم المجهودات الطائلة التى يبذلها زوجى فى تنويع المأكولات والعصائر والمعلبات مع الخضروات والفواكهة التى يجلبها من الفندق لكنى ظللت لمدة شهر كامل أنتظر طرق الباب ظهرا فكان الغداء الأول يأتينا من بيت العنيزى تمام الواحدة ظهرا ولا يتأخر بعدها سوى ربع ساعة لا أكثر ويوميا تأتينا وليمة من كل ما لذا وطاب مع طفلة لبقة صهباء الشعر مرهفة الأحساس أسمها سومة وطعام جويرتى مريم يكفينا حتى المساء والطرقة الثانية من آل الشيخى فتأتى سفرة متنوعة بها خيرات الله وكأس الخلاط مملوء بعصير البطيخ بالزهر الذى أحببته فى وحمى بالتوأم "زهور وزهير " .. أما آل البرعصى فسفرتهما أنتظرها بشوق فالوحيدة التى أشم رائحة طعامها الشهى ولاتسقطنى من قائمة الذوقة حتى وأن كانت مرهقة أو مريضة فتأتينى الوجبة من المطعم جاهزة وذات يوم بعثت زوجها فى غرة الهجير لبيت أهلها ليحضر لى من طعامهم كى آكل بشهية أما جويرتى نجاة فبعثت لى دجاجة محشية دون أن أعرفها أو أراها وجويرتى فتحية التى لاأدرى ألا والمرأة تطرق بابى دون سابق تعارف وقد أحضرت أرز بالخلطة مع بعض المرطبات وعندما أجهضت زهير وزهور بكين من أجلى وتأسفن على ضياع التوأم.
هذا البيت الذى نستأجره الأن لا يوجد به سطح .. ضيق لكنه رحب بجيرانى الكرماء الطيبين . ولا توجد به نوافذ أو شرفات عدا نافذتين كبيرتين بالنسبة لبيت صغير ضيق متواجدتين بغرفة واحدة لا أشرعهما خشية أن أصطدم بروؤس عديمى الذوق ممن يقفون تحت نافذتي و قد يسترقون السمع .. طيلة فصول السنة النوافذ مفتوح زجاجها ومغلق خشبها فما هي إلا فجيوات صغيرة كفيلة بإيصال صوتى الى آخر الشارع وجعل أسرارى على قارعة الطريق .. كل أجواء الشارع والمارة تثقب طبلة أذنى .. كلام لبق .. مصافحات حارة ..عبارات حميمية ..صراخ أمهات خلف أطفالهن ينبعث من الأبواب المواربة .. شجارات صبيانية .. كلام شوارعى وألفاظ نابية يتفوهون بها تحت نافذتى ..رائحة المفرقعات ودخان السجائر تلوث أرجاء منزلي .. صياح ذاكما المصريين بصوتهما الرقيق الذى تميزه نبرة مزعجة وهما يصيحان أحدهما فاكهة والآخر خضروات (تفاح .. بطيخ ..كرموس .. منجا ..عوينة .. وماهى الا ثوانى حتى يصيح الآخر بائع الخضروات (باميا ..ملوخيا ..فلفل حلو وحار ..كرنبيت وسلاطة)..و سيارتي صابون السائل والبوطاس بمنبهها القوى وأهتزازتها المزعجة تحت نافذتى ..ناهيك عن سيارة أسطوانات الغاز المتناطحة خلف السيارة وطرقها بشدة مع المناداة بصوت مدوى "غاز ..غاز).. لاأدرى الى متى سأظل حبيسة هذا البيت .. بيت عائلة السنفاز الذي أتخيله في ذاكرة الحياة الماضية حيث أشعر بأم العائلة الأم الكبيرة الحاجة أمنة رحمة الله عليها، مازالت ذكرى أفعالها تعشش بمخيلة الشارع فهم دائمو الحديث عن حنانها وطيبتها وجودة كرمها كانت دائما تجيب على من يستفهمونها كيف دايرة مع واشونك الكبير فى ها الحوش الضيق فتجيبهم بابتسامتها الساحرة وثغرها البسام " الضيق ضيق القلوب " والحمدلله (العاطي حي ياخواتى) والبركة فى عويلتى نحن درنا حد جهدنا واللى مادرناهش توا يديروها العويلة بسلامتهم!!، وتتنهد متضرعة للسماء مرددة.
- مايقعد ماء فى سماء ولا حال دايم".
بكاء وعويل اسمعهما الآن، باز حزينة جدا لكنها متماسكة، زوجها كسيح، أختها أرملة، والسبب هو الحرب في الفلبين، زوجها كسيح لكن لم يفقد قدراته الجنسية، عندما عفس على اللغم وضع يده على وجهه ويده الأخرى على ذكره، بترت رجلاه وفقط إصبعين من أصابع يده التي حمى بها ذكره، ضحكت باز في ألم وقالت مش مهم الأصبع ..المهم لم يصبه مكروه كان نائما منكمشا من الخوف، لو كان منتصبا قليلا لضاع، في أوقات الخطر النوم جميل، أنت ظريفة يا باز، أنا هزينة كثير بس مش بائسة، أنا أرضى بحكم الرب وبالقدر، وعلى الرغم من حزنها وغربتها عن أسرتها التي تحتاجها خاصة زوجها الكسيح إلا أنها تؤدي واجبها الإنساني بكل عملية واقتدار وها هي تواسي وتقوم بواجبها نحو عائلة العجوز التي توفت منذ قليل، تساعدهم في الإجراءات، وعندما لاحظت تأثري وانخراطي في البكاء أنا أيضا كلفت زميل لها بإتمام مهمة إجراءات الدفن وعادت لتلازمني جالسة إلى جانب سريري، غيرت لي التغذية وحقنتني بحقنة حسب أوامر الطبيب المسجلة في ورقتي المعلقة على السرير لأشعر أني أعيش في عالم آخر وباز أراها أيضا مثلي، أغرز في وريدها حقنة الحكاية فينفصل نصف رأسها ويرحل إلى فراغ فراغ فراغ في الفلبين أراها وسط أسرتها سعيدة تخدم زوجها، تكون هي رجليه المقطوعتين، تدلك ظهره ورقبته وتنام إلى جواره دون أن تشعر بأن شيئا قد نقص منه، تداعب أطفالها وتواسي أختها الأرملة وتقدم المساعدات والهدايا لكل جيرانها، إنها ملائكة رحمة، فراغ من الرحمة يملأ كل الفضاءات، فراغ فراغ فراغ، باز حزينة تذكرت جيران في الفلبين ميتين في الحرب، تذكرت زوج أختها الذي مات، تذكرت مأتم وموت كثير وجنازات كثيرة، صارت صورتها تتضبب تدريجيا إلى أن اختفت تاركة في يدي أضمومة ورق جديدة وقلم عامر بالحبر، وسرعان ما انبسط الورق وصار القلم يخربش ليرسلني إلى بكاء جديد ووجدت نفسي في عزاء ومر العزاء ومرت أيام العدة على جارتي الحاجة فاطمة حيث حضر جمع غفير من النساء إلى بيتها الكائن بحي المحيشي وهى سيدة لم تتجاوز السبعين من عمرها .. مازالت تحتفظ بقوامها الرشيق لمداومتها على المشي وأكل الحلبة والتمر وخبز الشعير والبازين وكل ما هو طبيعي .. فلبن شكوتها وتمر نخيلاتها وزيت زيتون شجيراتها هو زادها بالإضافة إلى ما تصنعه بيديها من مأكولات شعبية غنية بالفيتامينات والبروتين كالزميتة .. البسيسة .. القصب .. الكمامين والرغيدة
- صبي للاستحمام يا سليمة ..
- خلينيى انوفي هالسويعات ..
لم يدعنها جويراتها تنفذ رغبتها بل ألححن عليها مرددات:
- إلعني الشيطان ياوليّة الحزن عمره مارد ميت ..
- عطيتيه حقه و برأتي ذمتك قدام الله ..
وساندتهن معلمة تجلس قربهن ..
- عدتك أربعة شهور وعشر أيام بدون زيادة أو نقصان ..
نهضت عمتى فاطمة على مضض وفتحت عقدة المفتاح المعصوبة بتكاميتها وحال ولوجها لغرفتها انبعثت روائح زكية ٍ، أضاءت المصباح فوقعت عيناها على جرد رجالي (جربى)، الجرد الذي وضع غطاء لتابوت زوجها الحاج مفتاح، ضمت الجرد لصدرها وهصرته بقوة و أجهشت باكية، جاءتها كنتها مسرعة وعانقتها محاولة تهدئتها ولكنهما انخرطتا في بكاء شديد فلقد كان رحمة الله عليه محبا لكنته الوحيدة ودائما يناديها " صفرانية يابركة " أو" أم أعسيلة " وعندما أنجبت ذكرا ذبح لها خروف وأهداها خمسين دينار وملابس كاملة للطفل مع سرير ومقعد هزاز بالإضافة إلي المصروف الخاص بالنفساء الذي أوكل تأمينه للعمة فاطمة التي أحضرت الحلبة وغسلت حبوبها وجففتها ونقتها من الحصي والشوائب .. وأسر لها " الحمد لله محمد حصلّه ولد من الصفرانية يلقاه عقاب عمره أنشالله تخاويه ويجعله الله خيرة الذرية وأجهش بالبكاء من شدة فرحه.
- اسمعوا نبي عزومة كبيرة تلم القبيلتين الزوايد والفواتير والجيران والمعارف وحتي عرب الغرب أعزموهم وياولد ماتنساش أصحابك في الكورة راهم يعزوا علي واجد.
بكاء العمة مع كنتها حرك أشجان(الحاجة رحمة) لتشاركهما البكاء، وبعد أن خفت عبرتها، جلست الحاجة رحمة وسط جاراتها ولم تشعر إلا وقد بدأت تسرد قصتها في لوعة وألم بصدر يزفر الآهات وكأنها النار تنفث اللهب، ربتت الحاجة رحمة على فخذ ابنتها الكبرى مومئة برأسها، لكنها لا تنظر إلا بقدر ما كانت تستدعى لحظة فقدها لزوجها ودون أن تنبس ببنت شفه، بدا واضحا للعيان من صفقة كفها بالأخرى وفركهما بعصبية شديدة وبقوة وسرعة رهيبتين أنها تتحسر، أعادت صفقهما ببعض كما لو كانتا ترسا يدور على مجاله وتنهدت بصوت عال:
-هيه ..هيه .. شن بنخبركن بالله
أسهبت في استرجاع يوم الحادثة بادئة السرد من اليوم الذي سبق وفاته وكيف أنه لم يخرج مع أصحابه للعب الكارطة كعادته، بل أعتذر وطلب أن تجلس الحاجة أم أولاده وتعد له طويسة (شاى مركرك) على الفحم وأحب أن يلاعب أولاده السبعة، نظرت الحاجة رحمة في بكريتها إيمان، وقالت:
- أتذكرين يا أمونة عندما لاعبك جمل عاشوراء أنت وأخيك عطيوه وكدت تسقطين لولا أن انبطح المرحوم في الوقت المناسب، تأوهت بحرارة و تابعت سردها بأنه قبل أن يخرج لعمله باكرا تناول إفطاره وعانق زوجته على غير عادته وعندما سألته عن وجبة الغداء .. لم يحدد كذي قبل وإنما اكتفى بترديد (أي شيء .. أي شيء .. كلها نعمة ربى)
- بالله طلع منى عريس و رجعلي مصندق
دهسته سيارة أثناء عبوره الطريق لدخول مقر عمله بصندوق الضمان الاجتماعي وأقفل التحقيق وقيدت القضية ضد مجهول إلي صباح يومنا هذا.
- احمدي ربى .. العيال كبروا والبنات اللي هذى في دارها.
نهضت عجوز يدعونها الحاجة حليمة تضرب الأرض بعكازها الخشبي المائل إلى الصفرة فهي تفخر به دائما قائلة هذا ما ورثته عن أبى وأمي .. دفعت الحاجة حليمة الباب بعكازها وندهت بنبرة حانية لا تخلو من الحكمة.
- الله غالب وايش الدبارة مايفيده كان الدعاء بالرحمة.
ربتت على كتف الكنّة وواستها بتهميدة وأخذت الجرد من يدي عمتى فاطمة، وارته عنها وتنهدت، رفعت عمتي فاطمة سحر ردائها مكفكفة دموعها ورشفت مخاط أنفها و أولجت مفتاح قصير ذي سن واحدة في ثقب صندوق خشبي عتيق كان قد طلي بألوان مزخرفة تزينه قطع من الزنك على هيئة أزهار متفتحة وأخرى مغمضة و نجيمات فضّية وأهلّة ذهبية، رسوم بسيطة تعبق برائحة الماضي، أخرجت كيسا مملوء بالحلوى المخلوطة بالعلكة و الشوكلا وأفرغته بطبق من السعف الفزاني وطلبت من كنتها توزيع الحلوى والبالونات على الأطفال حال خروجها من الحمام، البالونات ذكرتني بطفولتي ودكانة العم هدية وشكلاطة المجارة ومستكة البطش، الطرفين بنص قرش، تغير الزمن والبالونات لم تتغير، ظلت على حالها ملتصقة بورق ملىء بخربشات لرسوم كرتونية وورقها ملفوف على هيئة صاروخ وبذنبه ريشة ملتصقة بصافرة صغيرة مازلت أخاف فرقعتها وأكره الزمامير، كنت اشتريها فقط من أجل جمع الريش الملون، أتأملها متسائلة كم من طيور جميلة نتفت الريح ريشها ولا أعتقد أن الريح ستفعلها، لو ركزت عليها مجهرا مكبرا لبانت لي بصمات الإنسان.
وأخرجت قفة سعف فارغة ناولتها لحفيدتها وطلبت منها أن تضعها في وسط الحوش بين الجالسات.
أحضروا لها قدرا فارغة فملأتها ببيض صغير لونه أبيض وكانت كلما وضعت بيضة تتمتم بعد البسملة
- يادحيّة الخميس أجلبى العريس
وخرجت تحمل القدر لتضعه على الموقد بنفسها بعد أن تعالت الأصوات
- كيف ما فكيتي رباطك ربى يفك عقدهن إن شاء لله
وكان البيض على عدد العازبات في العائلة والجويرات وبعد أن أوقدت الموقد رددت هذه العبارة
- وديتكن ما ضريتكن
أشاحت بنظرها عن الموقد ونظرت لمن تواجدن بالمطبخ لخدمة الضيوف وخاطبتهن
- هذا بيض دجاجاتي العربيات وحرصت أن تكون في أيام الخميسات ..عندها تذكرت جدتي التي قلت لي في الطاجين بيضة الخميس بشحمة خروف العيد الفائت ورشتها بتابل كمون الحوت وأجبرتني على أكلها ساخنة عندما تعسرت ولادتي مع شراب القرفة الساخن ولكني وضعت بقيصرية.
تنهدت عمتي فاطمة تنهيدة ينفلق لها الصخر وحال خروجها من المطبخ وجدت أمامها القفة وقد امتلأت بالصوابين والعطور وأشياء أخرى تعنى بالنظافة الشخصية كالليفة الطبيعية .. حلوة لإزالة الشعر .. حجر لتنعيم يباس القدمين .. بخور ليبي وهندي وكحل حجازي .. أغلبها أشياء بيتوتية ومستحضرات طبيعية .. هكذا هم سكان منطقة المحيشي دائما يؤازرون بعضهم بعضا في المآتم و الأفراح.
ناولتها العروس التي لم ينقض على زواجها سوى ثلاثة أشهر ثياب جديدة مزركشة زاهية الألوان كلها هدايا من جاراتها والصديقات هنّ من قمن بحياكتها .. القفة ذكرتني بقفة عرسي .. في الزمان الغابر لم تكن قفاف العرائس تجلب من السوق الشعبي (سوق الجريد) كهذا الزمن وإنما هي مهمة الجيران والأقارب فجميعهم يشتركون في إعدادها .. واحدة تصنع القفة بيديها من سعف نخلة أهل العروس والباقيات يجمعن كل مستلزمات العروس من زينة وعطور وكل ما هو ضروري إلى أن تمتلئ مستكملة حاجيات العروس وسط جو مبهج وحميم لخياطتها.
وضعت العروس يدها داخل القفة وحركت ما بداخلها حركة عشوائية وأخرجت منها صابون معد بزيت الزيتون والأعشاب العطرية .. قنينة مسك .. ليفة من مزرعة إحدى الجارات .. قطعة سواك وبلغة اغدامسية .. قلامة ومشط من العاج وحملت العروس كل هذه الأشياء بين يديها تصحب عمتي خديجة إلى باب الحمام .. وحال خروجها من الحمام عانقنها بناتها وكنتها والعبرة تخنقهن والدموع تنهمر من عيونهن.
- الحمد لله على سلامتك.
وناولتها صينية الحناء معجونة بماء زمزم ومن خلفها فتيات يوزعن التمر والبيض المسلوق والحاضرات يهللن على اليهود والنصارى رميتيه ياحنّا وكانت عمتى فاطمة تضع في كف كل امرأة كرة صغيرة من الحناء تتبعها فتاة توزع مناديل ورقية وبعد أن أتمت توزيع الحناء على الحاضرات أخرجت من وسطها خيط نيرة طويل وبدأت بفك عقده وهو ما لفته حول خصرها اليوم السابق لانقضاء عدتها لفا خفيفا وربطته لتفك عقده تيمنا بزواج من تأخر زواجهن من بنات العائلة و الجويرات المقربات .. ثم جلست وسطهن على أكليم لونه أحمر وكشفت رأسها وغرست فيه مشط العاج إشارة عن رضاها على مواصلة طقوس (فك الرباط)
دهنت الحاجة حليمة شعر عمتى فاطمة بالزيت المقطر وهو زيت زيتون مقدوح وبعد أن يدخن توضع به أعواد البخور وحبيبات المستكة العربية والقرنفل والعنبرة والجدرة والريحان وعود مكة وعطريات أخرى لا تحضرني مسمياتها الآن.
قامت العروس بتمشيط شعر عمتي فاطمة وضفرته ثلاث ضفائر، جديلة فوق القصة والثانية عن اليمين والأخرى عن الشمال ثم خلطت الحاجة حليمة قليل من القرنفل المرحي بروح الزهر وماء الورد وشكلت الخليط الهلامى على هيئة قرص ناولته للعروس التي قرأت عليه المعوذتين بصوت جهوري شاركن فيه الحاضرات وبسملت ثم وضعته على "قباعة" فروة رأس عمتى فاطمة ومن ثم عصبن لها المحرمة مرددات:
على اليهود والنصارى.
على اليهود والنصارى
كلما سمعت هذه الجملة أقول في نفسي ما دخل اليهود والنصارى في مراسم وطقوس فك رباط الميت؟
سألت الحاجة حليمة فأجابتني: وعينا على هذا الشيء يا بنيتي.
وواصلت ترديد الجملة على اليهود والنصارى على اليهود والنصارى .. وكان في هذه الأثناء المطر يتساقط بغزارة كما دموع الفرحة والتأثر في عيون الحاضرات وروائح العشاء الشهي تأتي من المطبخ لتمتزج برائحة البخور والعطور والعرق.
عمتى فاطمة قالت أنتظر الصباح بفارغ الصبر، أريد أن أتجوّل في الشوارع وفي السوق وبيوت الجارات، لقد كنت سجينة منذ أربعة أشهر وعشر أيام تذكرت فيها حياتي مع المرحوم وكل ما أتذكر سيئة منه أصلي ركعتين وأسامحه .. وينك يا حاج قعدت في عازتك .الأحفاد يتقافزون وفك أحدهم غطاء رأس عمتي فاطمة وهرع راكضا صوب المربوعة لاهثا.
- بابا .. بابا ..أربطها علي عيوني قبل ما تجي جدتي، نبوا نلعبوا بوعماية.
لم يجد أباه في المربوعة فعاد إلى أمه التي ربطت محرمة جدته على عينيه وقالت له ألعب الآن بوعماية، باز .. سستر باز .. تعبتك معاي فصبّري بالك معاي اشوي، تصرفي لي في ورقة بيضاء أخرى، أبصرت شيئا جديدا، الخطيب الأعمى الذي خطبنى بعد أن عرفته صدفة عن طريق الهاتف .. كنت سأتصل بمؤسسة إصلاح الهواتف لأبلغ عن عطل فى هاتف جارتنا العجوز " المسلمانية " التى لا تستغنى عن الهاتف ولا تطيق الهاتف دون حرارة فهى تعيش فى منزلها الكبير وحيدة بعد أن رحل عنها أولادها الى المهجر ولم تنجب بنات، كنت ذاك اليوم جالسة أفكر، أحلم بحياة رومانسية سعيدة، شبيهة بالتى أراها في المسلسلات التلفزيونية، فاتصلت بالخطأ، وكان هذا الشاب الكفيف على الخط، فتعارفنا، ولم يمض وقتا طويلا، حتى جاء إلى أبي مع أهله لخطبتي، لكن أبي لم يوافق وصرفه بهدوء وتؤدة!
لم أعد أذكر من كلامه الآن شيئا سوي هذا البيت الشعري الذي أرتجله عندما ذهبت صحبة صديقتي الحاسية لزيارته بجميعة الكفيف فنطق مرتجفا:
" يا أملا راودني فأنتظرته .. بصبر فاق الصبر اصطبارا"
بنغازي ربيع 2010