اللقاء الأخير مع محمود درويش
في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية ـ لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول ـ. كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت. "خدعتني الحياة فانخدعت". وظلّت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره. فتح الباب مرحّباً كعادته، كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. "صاحبنا شاهين لم يحضر بعد". وأخذني، على غير عادته، إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة قال. "كيف أحوال الدنيا؟"، قلت: مع الخبرة نتكيّف مع وجوه الحياة المختلفة. قال: إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثٍ بالكلمات قلتُ: "الحكمة هي استئناس الخيبة"، قال: الأدق أن نقول: "إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة"، ثم: لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكانية الهرب. كان د. شاهين يسجّل، أحياناً، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء ـ الحوار. لم يكن "اقتصاد اللغة الحكيمة" أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب (في حضرة الغياب). سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية ـ الحديثة في كتاب "الأيام"، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً. فيه شيء من نثر أندريه مالرو، قال: ليس بالضبط. وواقع الأمر أن الشاعر كان مفتوناً، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما: فالتر بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته،... كان حوارنا عن "الحكمة البشوشة" استئنافاً لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي للقصيدة في أمسية "بيت لحم"؟ ـ القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام ـ الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد،... ولعل من يرجع إلى كتاب "في حضرة الغياب" يعثر، بلا مشقة، على هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته بـ "الكلمة الجامعة" وعاد محمود، لاحقاً، وقال من الأفضل أن نقول "جوامع الكلم". "تأخر شاهين"، تواطأ مع شروده وانزلق إلى شارع آخر. قال محمود ضاحكاً. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلى يميني وقعت عيني على "لسان العرب" لابن منظور، قال الشاعر: لا أستغني عنه أبداً، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه "كتاب نفيس فخيم"، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرّفت عليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل: سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشاكل الآخرين. وبالمناسبة أودّ مرة أن أذهب إلى دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف القادم، ربما. استعاد مرة أخرى "استراتيجية جوامع الكلم" وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشه. وتابع فرحاً: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة. وقُرع الباب: صحا محمد شاهين من شروده. كان محمود يحب شاهين رغم شروده، أو بسبب شروده، ويرى فيه مغترباً، تصرّفت به الحياة ومنعته عه التصرّف بحياته كما يشتهي. أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثرى وأعادها إلى الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثرى؟ في شبابي كنت أرى فيها صورة عن ثدي الأنثى الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثى تحمل الكمثرى، لم أعد شاباً، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شباباً، فنحن على مستوى العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ماهي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي، سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي دون أن أدري، وأن "الآخر" يعامل العرب باسترخاص كبير. غداً راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنرى ما تأتي به الأيام. كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلّب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم عن رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدى تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في "بيت لحم"، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له: أمّا عن القصائد فقد مثّلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له: جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفرداً ثم تتكاثر، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثّل الإلقاء، وثالث يبرهن عن المهارة، ورابع يستثير الإعجاب، وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاماً أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيراً أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها. إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية"، كما تقول، وإلاّ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (آرل)، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسقيى وجمهور أنيق ومدرّج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنجليزية: "هذا سحريٌ"، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برّادة، وكانت الأمسية بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنشاء دار النشر "أكت سود". وبدا محمود راضياً فرحاً، وكان من عادته أن يوزّع الفرح على اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعاً. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي، أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة، ولا بتوقعات "الشاعر الكبير"، بل كان فرحاً عفوياً تكسوه البراءة. وكثيراً ما بدا محمود، وهو يتحدّث عن أمسياته صبياً، حصل على جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجوه والأطوار، فقد كان "نجاحه غير المتوقع" يجعل منه، كل مرة، إنساناً شفافاً، فيذكر فرِحاً التفاصيل ويشدّه الرضا البريء إلى الوقوف على تفاصيل التفاصيل. كان يعبّر عن موقفه من "النجاح اللامتوقّع" بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثيراً ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضياً عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيُّ الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا بمناسبة وبغير مناسبة. كان يشير دائماً إلى ت. س. إليوت الذي أصبح مرجعاً شعرياً في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالي مائتي صفحة لا أكثر. ولتعبير "غير المتوقع" عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، بمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفاً في كوريا وأن يقدّمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، مؤخراً، والجو ممطر تواطأت معه "مباريات كرة القدم"، قال: لم أتوقع هذا الحضور، وحين أظفر باستقبال مهيب في مسرح "الأوديون" في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلى الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، ترى إلى كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدّدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة على قيد الحياة. قال مرة بعد أن استمع إلى قصائده في دمشق جمهور "غير متوقع": هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير، أم أن الجمهور يظنني شاعراً كبيراً؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان، فالمبدع بماهو دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ماجعله قارئاً مواظباً: معجب هو بـ "أوكتافيو باث"، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموزه الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني على شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبّر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير. سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتِ بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء على المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقداً ثقافياً وأدبياً بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافاً وتجاوزاً له في آن، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلى الندرة، أجمل أعماله "الحرافيش" ولا أحب كثيراً "أولاد حارتنا"، وأحب رواية هدى بركات "أهل الهوى"، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية علوية صبح "دنيا" في مقدمة روايات جائزة البوكر بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني "آثار المحو" عمل فاتن وهو خليفة محفوظ... وإلياس خوري موهوب وأنيق الموهبة, وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوّية إلا متأخراً، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها،... والجملة الأخيرة دائماً: كل مبدع على صورة أستاذه، وكل أستاذٍ أستاذٌ إلى حين. بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثرى والمدرّج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام، قاله الطبيب بلغة علمية ـ أخلاقية صارمة. لم نقل شيئاً ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: "إنشاء الله". انصرف الطبيب مخلّفاً وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من الصمت. كسر محمود الصمت قائلاً: اسمعوا هذه الحكاية: قال لي أحد الأصدقاء أنه سمع مثقفاً عابراً بجوار "المدرج الروماني"، وأنا ألقي قصائدي، سمعه وهو يشتمني ويشتم فلسطين والفلسطينيين. يا أخي يمكنه أن يشتمني كما يشاء"، فمن الممكن أن أكون قد أسأت إليه، ولكن لماذا يشتم جميع الفلسطينيين بلا تمييز؟ هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة. نظرنا إلى بعضنا، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات، وبدا محمود في حال حسن، ووعد شاهين بحفلة عامرة قادمة، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب" في مكانه، و لم يلقِ أي منا نظرة على المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثرى ذكّرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيهاً باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك. أوصلنا محمود إلى "المصعد"، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعاً، وغطت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال.
في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية ـ لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول ـ. كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت. "خدعتني الحياة فانخدعت". وظلّت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره.
فتح الباب مرحّباً كعادته، كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. "صاحبنا شاهين لم يحضر بعد". وأخذني، على غير عادته، إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة قال. "كيف أحوال الدنيا؟"، قلت: مع الخبرة نتكيّف مع وجوه الحياة المختلفة. قال: إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثٍ بالكلمات قلتُ: "الحكمة هي استئناس الخيبة"، قال: الأدق أن نقول: "إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة"، ثم: لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكانية الهرب. كان د. شاهين يسجّل، أحياناً، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء ـ الحوار.
لم يكن "اقتصاد اللغة الحكيمة" أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب (في حضرة الغياب). سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية ـ الحديثة في كتاب "الأيام"، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً. فيه شيء من نثر أندريه مالرو، قال: ليس بالضبط. وواقع الأمر أن الشاعر كان مفتوناً، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما: فالتر بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته،... كان حوارنا عن "الحكمة البشوشة" استئنافاً لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي للقصيدة في أمسية "بيت لحم"؟ ـ القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام ـ الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد،... ولعل من يرجع إلى كتاب "في حضرة الغياب" يعثر، بلا مشقة، على هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته بـ "الكلمة الجامعة" وعاد محمود، لاحقاً، وقال من الأفضل أن نقول "جوامع الكلم".
"تأخر شاهين"، تواطأ مع شروده وانزلق إلى شارع آخر. قال محمود ضاحكاً. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلى يميني وقعت عيني على "لسان العرب" لابن منظور، قال الشاعر: لا أستغني عنه أبداً، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه "كتاب نفيس فخيم"، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرّفت عليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل: سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشاكل الآخرين. وبالمناسبة أودّ مرة أن أذهب إلى دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف القادم، ربما. استعاد مرة أخرى "استراتيجية جوامع الكلم" وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشه. وتابع فرحاً: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة. وقُرع الباب: صحا محمد شاهين من شروده. كان محمود يحب شاهين رغم شروده، أو بسبب شروده، ويرى فيه مغترباً، تصرّفت به الحياة ومنعته عه التصرّف بحياته كما يشتهي.
أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثرى وأعادها إلى الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثرى؟ في شبابي كنت أرى فيها صورة عن ثدي الأنثى الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثى تحمل الكمثرى، لم أعد شاباً، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شباباً،
فنحن على مستوى العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ماهي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي، سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي دون أن أدري، وأن "الآخر" يعامل العرب باسترخاص كبير. غداً راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنرى ما تأتي به الأيام.
كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلّب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم عن رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدى تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في "بيت لحم"، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له: أمّا عن القصائد فقد مثّلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له: جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفرداً ثم تتكاثر، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثّل الإلقاء، وثالث يبرهن عن المهارة، ورابع يستثير الإعجاب، وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاماً أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيراً أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.
إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية"، كما تقول، وإلاّ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (آرل)، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسقيى وجمهور أنيق ومدرّج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنجليزية: "هذا سحريٌ"، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برّادة، وكانت الأمسية بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنشاء دار النشر "أكت سود". وبدا محمود راضياً فرحاً، وكان من عادته أن يوزّع الفرح على اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعاً. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي، أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة، ولا بتوقعات "الشاعر الكبير"، بل كان فرحاً عفوياً تكسوه البراءة. وكثيراً ما بدا محمود، وهو يتحدّث عن أمسياته صبياً، حصل على جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجوه والأطوار، فقد كان "نجاحه غير المتوقع" يجعل منه، كل مرة، إنساناً شفافاً، فيذكر فرِحاً التفاصيل ويشدّه الرضا البريء إلى الوقوف على تفاصيل التفاصيل. كان يعبّر عن موقفه من "النجاح اللامتوقّع" بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثيراً ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضياً عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيُّ الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا بمناسبة وبغير مناسبة. كان يشير دائماً إلى ت. س. إليوت الذي أصبح مرجعاً شعرياً في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالي مائتي صفحة لا أكثر.
ولتعبير "غير المتوقع" عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، بمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفاً في كوريا وأن يقدّمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، مؤخراً، والجو ممطر تواطأت معه "مباريات كرة القدم"، قال: لم أتوقع هذا الحضور، وحين أظفر باستقبال مهيب في مسرح "الأوديون" في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلى الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، ترى إلى كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدّدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة على قيد الحياة. قال مرة بعد أن استمع إلى قصائده في دمشق جمهور "غير متوقع": هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير، أم أن الجمهور يظنني شاعراً كبيراً؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان، فالمبدع بماهو دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ماجعله قارئاً مواظباً: معجب هو بـ "أوكتافيو باث"، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموزه الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني على شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبّر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير.
سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتِ بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء على المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقداً ثقافياً وأدبياً بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافاً وتجاوزاً له في آن، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلى الندرة، أجمل أعماله "الحرافيش" ولا أحب كثيراً "أولاد حارتنا"، وأحب رواية هدى بركات "أهل الهوى"، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية علوية صبح "دنيا" في مقدمة روايات جائزة البوكر بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني "آثار المحو" عمل فاتن وهو خليفة محفوظ... وإلياس خوري موهوب وأنيق الموهبة, وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوّية إلا متأخراً، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها،... والجملة الأخيرة دائماً: كل مبدع على صورة أستاذه، وكل أستاذٍ أستاذٌ إلى حين.
بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثرى والمدرّج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام، قاله الطبيب بلغة علمية ـ أخلاقية صارمة. لم نقل شيئاً ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: "إنشاء الله". انصرف الطبيب مخلّفاً وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من الصمت.
كسر محمود الصمت قائلاً: اسمعوا هذه الحكاية: قال لي أحد الأصدقاء أنه سمع مثقفاً عابراً بجوار "المدرج الروماني"، وأنا ألقي قصائدي، سمعه وهو يشتمني ويشتم فلسطين والفلسطينيين. يا أخي يمكنه أن يشتمني كما يشاء"، فمن الممكن أن أكون قد أسأت إليه، ولكن لماذا يشتم جميع الفلسطينيين بلا تمييز؟ هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة. نظرنا إلى بعضنا، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات، وبدا محمود في حال حسن، ووعد شاهين بحفلة عامرة قادمة، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب" في مكانه، و لم يلقِ أي منا نظرة على المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثرى ذكّرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيهاً باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك.
أوصلنا محمود إلى "المصعد"، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعاً، وغطت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال.