عائد إلى حيفا

حوار مع صحيفة الاتحاد

 

س ـ بأي شعور استقبلت دعوة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومجلة مشارف لأمسية شعرية في حيفا، وبأي شعور تتوجه الي الامسية والي حيفا؟

ج ـ من الصعب عليّ ان أحدّد شعوري منذ الآن عندما سأواجه أبناء شعبي في مكان يحتلّ مكانة خاصة في شعري وفي ذكرياتي، وهو مدينة حيفا. من الطبيعي أن يكون الشعور الأول الذي أحمله الآن هو شعور باللهفة، وشعور بالخشية أيضًا، تمتزج الخشية باللهفة لأن الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية. لذلك أنا ذاهب إلي ما يشبه المجهول الجميل. كيفَ سيكون اللقاء؟ كيف سيكون التعامل مع شعري الجديد الذي أحرص دائمًا علي ان اقرأ منه، ولا أكتفي بما تطالبني به ذاكرة قرّائي؟ أشعر كأني سأقرأ للمرة الأولي، وأني سأدخل امتحانًا عليّ أن أبذل كثيرا من الاستعداد لعبوره بنجاح. أرجو أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافةً وهمية، وان يكون التطابق كاملا بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية.

س ـ هناك وجوه وأمكنة لا بد وأنها راودتك حين تلقيت دعوة المشاركة، خصوصا أنك تقرأ في حيفا للمرة الاولي منذ قرابة أربعة عقود. هل خطرت لك لحظات معينة أو فكرت بأشخاص معينين حين تأكد لك حضورك الي حيفا؟

ج ـ من المؤكد أن المكان، الذي هو حيفا، هو ليس جغرافيا فقط. إنما هو أيضًا وجوه وشخصيات وذاكرة. أتلهّف للّقاء بما تخزّنه ذاكرتي وبما سوف يفاجئني المكان به. لقد عشتُ في حيفا عشر سنوات كاملة، وفي حيفا عرفت كل أنواع التجارب الأولي: تجربة الكتابة، تجربة النشر، تجربة العمل الصحافي، تجربة السجن، الاعتقال المنزلي والإقامة الجبرية.. في حيفا ترعرعت شخصيتي الشعرية والثقافية والسياسيّة أيضًا. وبالتالي أستطيع ان أعتبر أن اكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا، بدون شك. صحيح أنني لم أولد في حيفا، وحيفا ليست مدينتي، لكنها مدينتي بالتبني؛ تبنيتُ حيفا مثلما احتضنتني هي كواحد من أبنائها..

س ـ وجوه معينة..

ج ـ علّمتُ نفسي ألا ارسم الوجوه مسبقا لأن الزمن فعل فعله ويسبب دائمًا خيبة أمل. لن أعرف الوجوه كما كانت مرسومة في ذاكرتي. أربعون عامًا تجري تعديلا جذريًا ليس علي وجوه البشر فحسب، أنما علي وجوه الصخر ايضًا.

س ـ ووجوه من غابوا، بأي مكان وأية ملامح تتذكرهم؟

ج ـ أنا عملت في جريدة الاتحاد. وللأسف الشديد، كل الذين عملت معهم في الاتحاد قد رحلوا: إميل توما وإميل حبيبي، صليبا خميس، محمد خاص، عصام العباسي وعلي عاشور. لم يبق من هم أحياء سوي توفيق طوبي الذي أتمني له عمرًا مديدًا. ما زلت أذكر المكان: كان مبني الجريدة عبارة عن غرفتين فقط امامهما ساحة في شارع ماريوحنا. الذين عملت معهم وتعلمت منهم كثيرا غابوا جميعًا، للأسف الشديد. لقد سُمّيَ الشارع نفسه لاحقا علي اسم حنا نقارة، محامي الأرض والشعب. نحن أيضًا كنا نجاور منزل المرحوم حنا نقارة وكان يعطف علينا كثيرا.

س ـ ثمة مرويّات عديدة عن علاقتكم الوطيدة بأبي طوني (حنا نقارة) أنتم الكتاب والصحافيون الشباب في ذلك الوقت..

ج ـ أبو طوني كان راعيًا لمجموعة من يعملون في الاتحاد، وأوسع من ذلك. كان هو مضيفنا الدائم وكان شخصية محبوبة جدًا ومناضلا حقيقيا أذكره بكل الخير. للأسف عندما نتكلم عن أسماء ووجوه أشعر بالأسي لأني لن أجدها ثانية ولن أراها إلا في ذاكرتي. أصبح المكان ناقصًا كثيرًا، سأشعر أن حيفا ناقصة.

س ـ يشغل المكان حيّزًا أساسيًا ومهمًا في معمارك الشعريّ. أيّ خصوصية يكتسب المكان، كمفهوم وكواقع، حين نتحدّث عن حيفا؟ يبدو وكأن حيفا بقيت رغم البعد والوقت مدينتك المحلومة، وكأنّ جزءًا من ولعكَ ببيروت بالشكل الذي تبدّي في شعرك عائد إلي شبهها بحيفا؟

ج ـ صحيح. صحيح. هناك شبه ما بين جغرافية وطوبوغرافية بيروت وحيفا. كلتاهما مدينتان علي البحر، علي نفس البحر، المتوسط. ولكن جبل الكرمل أكثر قربًا من البحر من جبل بيروت. المكان تحوّل الي كل صراعنا، صراعنا الوطني هو حول المكان، وحول امتلاك المكان. الشاعر يسعي لامتلاك المكان من خلال تثبيته في اللغة، وفي شعري كثير من هذا الجهد مهما تغيّر المكان، فهو دائما ما يتعرض لتغييرات كي تتطابق الاسطورة والخرافة مع الواقع. الجرّافات تقوم بعملية تطويع المكان لمتطلبات الأسطورة. ولكن في ذاكرتنا المكان هو نفسه لا يتغيّر. وقد يفاجئنا انه تغيّر ولكن في الذاكرة التي رسمت الشكل النهائي له، يبقي المكان في مكانه حتي لو تمت محاولة نقله بالشاحنات وإجراء تعديلات عليه ليلائم متطلبات الخرافة.

س ـ هل تتغيّر خصوصية المكان ومعناه بين حيفا ورام الله، أو بين البروة ورام الله؟ البروة كمكان مفهومي من حيث التجربة المعاشة أكثر بينما رام الله التجربة بكل حدّتها وتفصيلاتها؟

ج ـ البروة ليست مكانًا مفهوميًا او مجازيًا. هي المكان الذي وُلدت فيه ومنه نشأت طفولتي. هو اللوح الأول الذي تعلمت عليه كتابة الأبجدية، وبالتالي لا يمكن أن يصبح مفهوميًا او مجازيًا لشدّة ما هو قوي في الطفولة. أنت لا تستطيع ان تجري تعديلات علي الطفولة، تعديلات معطي ثابت لا يتحرّك، مُحمّلٌ بجماليات قد لا تكون مهمّة، لكنه متشكّلٌ بشكل شبه نهائي، وبصمَته علي اللغة وعلي السلوك وعلي الذاكرة بصمة الحفر أو الوشم. وبالتالي لا أستطيع القول إنه متخيّل حتي لو أبيد وأصبح اطلالاً. في البروة حتي الاطلال جري دفنها ببنايات أقيمت عليها. لكن عملي كشاعر هو الاستمرار بحفريات أركيولوجية وجمالية للاحتفاظ بهذا المكان في نصّي الشعري. هنا ندخل في اشكالية جمالية؛ أين يكون المكان أقوي، في اللغة الشعرية أم في الجغرافيا؟ أعتقد أننا حين نزور مكانًا ما، لأول مرة، ونكون قد قرأنا عنه نبحث عنه من خلال القراءة وليس العكس. أي أن القراءة هي دليلنا، السياحي حتي، إلي المكان. ونبحث هل ثمة تطابق بين الصورة التي كوّناها من خلال الأدب عن المكان، وبين المكان نفسه. دائمًا ننحاز أكثر إلي صورة المكان كما صوّره النصّ الأدبي.

س ـ لماذا؟

ج ـ هذه قوّة الأدب، قوّة الأدب ومكرُه. حين تقرأ الأدب اليوناني مثلا، والتراجيديا الإغريقية مليئة بذكر الأمكنة، وعندما لا تجد المكان كما صوّرته التراجيديا الإغريقية فإنك تنحاز إلي صورته في الأدب. والأمر صحيح بالنسبة لوضعنا الحالي، الإسرائيليون يقرأون المكان من خلال وصفه التوراتي ويُجرون تعديلات ليتطابق مع وصفه التوراتيّ. لكي تبقي الضفة الغربية علي سبيل المثال كتابة توراتية. وهذا جزء من صراعنا الثقافي حول من يمتلك المكان، هل الذي كتبه أم الذي احتلّه؟ لو كان الصراع علي المكان صراعًا ادبيًا لكانت الحياة أقل بؤسًا، ولكن بيننا وبين الإسرائيليين صراع حول كتابة المكان. من يكتب المكان أولاً؟ إن من يكتب المكان بشكل أفضل يشعر أنه يملك الحق في المكان أكثر من غيره. لكن هل الذين لم يكتبوا لا حقّ لهم في المكان؟ وهل الذين لا نصّ أدبي لهم لا حقّ لهم في المكان؟ هل الأغبياء لا حقّ لهم في الوجود؟ هذا سؤال فلسفي. جوابي هو طبعًا لا. الحق للجميع، للأغبياء والأذكياء، للأقوياء والضعفاء. لمن يمتلكون ماضيًا أبعد ولمن يمتلكون ماضيًا أقرب. أحد أشكال مشكلتنا الثقافية هو أننا، لكي نبزّ اليهود في أسبقيّة وجودنا علي هذه الأرض، لجأنا إلي أسطورتنا الكنعانية لكي نقول أننا كنا هنا قبل الآخرين. لكن ماذا لو لم نكن كنعانيين، ألا يحق لنا أن نكون مواطنين؟ ألا يحق لنا ان نكون أصحاب هذه الأرض؟ هذا الصراع حول الميثولوجيا جميل في الأدب، لكن حين نطبقه علي السياسة يصبح عبئًا ثقيلا.

س ـ ورام الله؟

ج ـ رام الله بالنسبة لي مكان للزيارة. مكان للمشاركة في صَوْغ الهوية الوطنية. أمّا بالنسبة لي شخصيًا فلا معني خاص لها. لم أعرفها من قبل، وليست لي فيها ذاكرة، وليس لي فيها تاريخ. تعرّفت عليها منذ عشر سنوات فقط. وفي مثل هذا العمر لا أستطيع أن أبدع ذكريات وعلاقات حميمة مع المكان. أنا الآن في سن أصبحتْ فيه الأمكنة بالنسبة لي تقريبًا متشابهة. أشعر أنّ الوقت يداهمني، وعليّ أن أنجز عملي، وعملي قد يتم في أية غرفة أسكنها في هذا العالم. لكن انتمائي لرام الله هو جزء من مشروعي الوطني، وليس جزءًا من تكويني الشخصي الحميمي.

س ـ شكّلَ المنفي، فعليًا ورمزيًا، إحدي الثيمات الأساسية في عملك الشعريّ. ماذا تعني لك العودة، إذا كان ثمة عودة، وأين تري مكانك الخاص الذي ترغب في العودة إليه؟

ج ـ بعيدًا عن السياسة، لا أحد يعود إلي شيء. ليست هناك عودة، لا إلي الزمان، ولا إلي المكان المتخيّل. حتيّ عودة أوديسيوس الي إيثاكا انتهت بخيبة أمل بعد لقائه بينلوب. لأن الزمن فرّق في مستوي شعورهما تجاه بعض. هناك ثنائية البيت والطريق وهي أيضًا سؤال وجودي مطروح دائما في الأدب، وهو سؤال جميل. أيّهما افضل؛ الطريق أم الوصول، البيت أم الطريق؟ المنفي يحمل عدة مستويات وأبعاد من التعريف. ثمة المنفي الوجودي والمنفي الميتافيزيقي، الجغرافي، والمنفي السياسي. وهو أحد مشتقّات الاغتراب الذي هو ثيمة أساسية في الأدب العالمي تشير إلي اغتراب الإنسان عن أشياء كثيرة؛ اغترابه عن نفسه، وعن مجتمعه، اغترابه عن محاولة التشييء، تشييء الذات. وأرض البشر كلها يمكن أن تكون بهذا المعني منفًي ميتافيزيقيًا، فالأرض كلها عقوبة إلهية لارتكاب آدم وحواء مخالفة إلهية، وإرسالهم إلي الأرض كمنفي، الأرض كمنفي عن الجنة. التاريخ بدأ بوصول آدم إلي الأرض. أعجبني مرة قول أحد الفلاسفة أنه لولا قصة الحب بين حواء وآدم لما كان هناك تاريخ، ولكنُا تخلّصنا من التاريخ لأن التاريخ بدأ من هذه العقوبة. أنا المنفي يتلبّسني، حتي عندما كنت أعيش في حيفا كنت منفيًا. فما معني أن تكون سجينًا، ما معني أن تكون لاجئًا في بلادك؟ هذا أيضا شكل من أشكال النفي والإقصاء. كما أقول دائمًا، عندما كنت في المنفي الخارجي كنت دائمًا ممتلئًا بالوطن، وعندما عدت، مجازًا، إلي الوطن حافظت علي المنفي أيضًا. المنفي موجود في الوطن وخارجه، والوطن موجود في الوطن وخارجه. وثنائية الوطن والمنفي موجودة في كل واحد فينا علي درجة أو أخري من القسوة أو الألم. قد يكون المنفي أليفًا، وقد يكون الوطن وحشياً. أنا طبعا لا أدافع عن المنفي ولكن أشرح، ردًا علي سؤالكم، علاقتي الملتبسة بالمنفي. الاحتلال يسبب لي احساساً بالمنفي. الاضطهاد يسبب لي إحساسًا بالمنفي. الفقر يسبّب لي إحساسًا بالمنفي. فالمنفي عدة حالات وتجليات لا حصر لها. والأدب يستطيع طبعًا أن ينمو في المنفي، وهناك أدباء عظماء في التاريخ أبدعوا إبداعاتهم الكبري في المنفي. جيمس جويس مثلا اختار المنفي ليكتب رائعته عوليس. والأنبياء أيضًا عاشوا في المنافي، كل الأنبياء.

س ـ سكنتَ لسنوات طويلة، لعقد كامل من الزمن، في شارع عباس، وقضيت 3 سنوات تحت الإقامة الجبرية في بيتك ذاك، كيف تتذكّر اليوم مكانك الخاص بعد مضيّ كل هذا الوقت، خصوصًا مع التباس حميمية البيت بفقدان حريتكَ فيه. كان بيتك وسجنك في الوقت نفسه؟

ج ـ السجن ايضا له عدة أشكال. قد يصبح البيت سجناً، وقد يكون أحيانا في زنزانة، في سجن حقيقي، أفق أوسع من أن تكون في سهل مفتوح. السجن كثافة. أنتَ تجلس فيه مع نفسك ولا تستطيع أن تقاوم هذه العزلة القسرية في مساحة جغرافية ضيّقة إلا بتفتيح الخيال علي عالم مُتخيّل وأوسع وأجمل وأبعد. قد يكون أحيانا ضيق المكان مناسبة لفتح سعة الأفق علي مداه. لكن عندما يصبح البيت سجنًا تضيق المساحة. السّعة في السجن الحقيقي أكبر من مساحة الحرية في البيت عندما يتحوّل الي سجن. لأنك عندها تشعر بثلاثة أشياء، بالغيظ، وبنوع من التعسّف، وبالقسوة. وتعاني من حق الشرطة في تلك الحالة أن تدخل عليك في أي وقت تشاء لتتاكد من وجودك. فأن تكون مسجونا غير مسمّي سجيناً، هذا يترك شعورا أقسي بكثير من أن تكون سجينًا وتشعر أنك حرٌ. عندما تكون سجيناً في البيت تتمتع بحرية ما نسبيّة، أنت لست سجيناً وليس معترف بك كسجين. بينما في السجن معترف بك كسجين وتتعامل مع نفسك كسجين وتطوّر تأملاتِ وتطلّعات الي حريّة مُتخيّلة انطلاقا من ذلك.

س ـ كتبتَ الي الاتحاد في عيدها الستين لم تكن الاتحاد جريدة إخبارية بقدر ما كانت ورشة عمل لاجتراح الأمل للخارجين من ليل النكبة وأضفت هناك تعلمت طريقة الاهتداء الي ذاتي والي علاقتها بالجماعة. كيف تري الي الدور الذي لعبته هذه الصحيفة في الحفاظ علي وصقل الهوية الوطنية للبقية الباقية من الشعب الفلسطيني؟

ج ـ "الاتحاد" لا تحتاج الي مديح في هذا الشأن، فدورها في حماية وفي الدفاع عن الهوية الثقافية والوطنية للجماهير العربية في اسرائيل دور معترف به ومعروف. وقد خرّجت تقريبًا، مما تعنيه الاتحاد، هذا الإطار الواسع، كل الكتاب والشعراء الحقيقيين في الداخل. ما عدا أسماء قليلة احتلّت مكانة أدبية خارج هذا الإطار. لكن التيار الأساسي في الأدب الفلسطيني في الداخل نشأ من خلال جريدة الاتحاد، التي استطاعت إيجاد نواة توازن أو حلاً ما في التأزّم والتوتّر القائم بين الهويّة والجنسيّة، ورجّحت سؤال البقاء علي سؤال مدّ التوتّر الي حدوده القصوي، لأن سؤال البقاء في الوطن والدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية كان مرجّحاً علي سؤال كيف أكون عربيا وإسرائيليا، وهو سؤال صعب: كيف يكون العربي إسرائيليًا؟ إستطاعت الاتحاد أن تدافع عن الحقوق القومية للجماهير العربية في اسرائيل بوصفهم جزءًا من الشعب العربي الفلسطيني، وأن تطرح حلا للقضية الفلسطينية يقوم علي أساس الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بالحقيقة التاريخية التي نشأت علي هذه الأرض وهي وجود شعبين. وبالتالي كانت سبّاقة لحل المسألة القومية حلاً معقولاً مع الدفاع عن الحقوق المدنية واليومية للمواطنين العرب. وأنشأت جبهة تحالف بين القوي الديمقراطية اليهودية والعربية، وبالتالي هذا الدور الذي قامت به الاتحاد وحزبها ما زال صالحا حتي اليوم.

س ـ فيما يتعلق بالهوية، من خلال إطلالتك أو متابعتك لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، فلسطينيي الداخل، هل لاحظت علي مدي العقود الأربعة الاخيرة كأن هناك تغيّرات في منسوب الهويّة، تحولات في الهويّة، الوطنية الجامعة، أم أن المسألة أن هناك ثوابت أساسية موجودة ولا تحتمل تحوّلات.

ج ـ ثمة مدارس أكاديمية تدّعي أن هناك تحوّلات تطرأ علي هذه الهوية، وهناك عرب فلسطينيون يوافقون علي هذا الطرح. أنا غير مُخوّل ولا مؤهّل لابداء رأيي في هذه التحوّلات لأني خارج موقع الشهادة المباشرة منذ مدّة طويلة. لكن علينا أن نعترف أن هناك تأزّماً في الهوية؛ ليست هوية سهلة أن تكون عربيًا واسرائيليًا في نفس الوقت. لا شك أن هناك شكلا من أشكال التأزّم، وقد تؤثّر التطورات الخارجية والداخلية علي منسوب هذا التأزّم. لكن أعتقد ان التيار السائد عند الجماهير العربية في اسرائيل أنهم لم يتخلوا عن وعيهم بقوميتهم وحقوقهم القومية، ومن أجل ألا يخسروا هذه الحقوق وهذا الانتماء قبلوا بأن يتعاملوا مع الدولة الاسرائيلية كمواطنين فيها يطالبون بالمساواة مع سائر المواطنين. إذًا، انشأوا توازنًا بين الوعي القومي ووعيهم كمواطنين. لكن هذه المعادلة لا تستقيم دائماً. هناك توتّرات تجري علي هذه المعادلة مرتبطة بمدي العنف الإسرائيلي والاضطهاد لأصحاب هذه الهوية. فالإسرائيليون لا يقدّمون ما يساعد علي إجراء استرخاء ما في مستوي التوتّر، وكذلك تطورات القضية الفلسطينية لا تسمح للمواطننين العرب بأن يرتاحوا لهذه الهوية. باعتقادي أن هذه الهوية ستبقي متوترة الي أن تُحل القضية الفلسطينية. وما لم تحل القضية الفلسطينية سيبقي التأزّم في محتوي هذه الهوية الملتبسة، وهي فعلاً ملتبسة. أنا لا أستطيع الحديث براحة عن كيف من الممكن أن يكون العربي اسرائيليًا، لان إسرائيل مشروع مضاد للهوية الوطنية الفلسطينية. هذه العملية تحتاج الي تطورات تاريخية بعيدة المدي لكي نستطيع ان نعثر علي صيغة تعريف مريحة.

س ـ هناك من يطرح إشكالية الجماهير العربية داخل إسرائيل بمعزل عن القضية الفلسطينية الأم..

ج ـ (مقاطعًا) كيف؟! لا يستطيع. كيف يتخلّي العربي في إسرائيل عن كونة فلسطينيًا؟ هذا ليس خيارًا حرًا. وكيف يتخلي الفلسطيني عن كونه عربيًا. في السنوات الستين الأخيرة نعيش حالة طوارئ؛ لا استقرار في شيء، لا في الأوضاع السياسية، ولا في تعريف الهوية. حتي الإسرائيليون لا يعرفون تحديد هويتهم، وحتي اليوم بين اليهودية والإسرائيلية ثمة توتر عال جدًا.

س ـ هل وضعهم أصعب من وضعنا؟

ج ـ لا أريد القول أصعب. صعوبات القوي دائمًا فيها ترفٌ لا يتمتع به الطرف الضعيف. حتي حين تندلع نقاشات حادة بين الإسرائيليين أنفسهم عن مدي تقصيرهم وضعفهم، هزيمتهم وانتصارهم، يشعر بعض العرب السطحيين أن هذا انتصارًا عربيًا. هذا النقاش الساخن لدي الإسرائيليين هو دليل قوتهم وليس دليل ضعفهم.

س ـ في تلك الفترة كتبت وعشت في تماس نضالي ويومي مع الواقع العام بكل إشكالياته وتفاصيله وحمل أدب تلك الفترة طابعًا مميزًا وكان له دور مباشر في معركة البقاء. بنظرة إلي الوراء كيف يقيّم محمود درويش الآن ذلك الأدب؟

ج ـ أعتقد ان ما سُمّي بشعر المقاومة، سمّي بالمصادفة. عندما كنا نكتب شعرًا لم نكن نعرف أننا نكتب شعر مقاومة. كنا نعبّر عن حياتنا وهمومنا وعن حبنا لبلادنا وللأشجار ولصديقاتنا وللحياة، دون أن نعرف أن هذه النصوص تسمّي شعر مقاومة. شعر المقاومة بهذا المعني احتلّ مكانةً كبيرة في الوجدان العربي الخارج من هزيمة 67. وبالتالي احتلّ مكانةً معنوية أعلي من مكانته الأدبية. وتذكرون أنني كتبتُ في وقت مبكّر، في العام 68، مقالتي الشهيرة «إرحمونا من هذا الحب القاسي». كنت أشعر أن هذه موجة عابرة. موجة انتقام الذات العربية من هزيمتها، باللجوء إلي أي صوت يأتي من داخل إسرائيل ليعطيها الأمل بالصمود والانتصار. وفعلا هذه الموجة عبرت بسرعة. وتعرّض الفلسطيني فيما بعد لمحاكمات مضادة؛ طُردَ من الحداثة الشعرية العربية. عندما يتكلمون عن الحداثة الشعرية العربية لا يتكلمون عن الفلسطيني، فقد تمت محاصرة الأدب الفلسطيني في نطاق البحث الاجتماعي أو الأنثروبولوجي عن أوضاع الفلسطينيين. أنا أقاوم هذا المفهوم لدي العرب ولدي بعض الفلسطينيين الذين يريدون منا أن نكتب ما كنا نكتبه منذ أربعين عامًا، وأن نكرِّر ما كنا نكتبه لكي نسمّي شعراء مقاومة. أنا لا تعنيني التسمية. أنَّنا فلسطينيون فهذه بديهية، وأَنَّنا عرب هذه أيضًا بديهية، أمّا عندما يجري التأكيد عليها دائمًا في الأدب فهناك، باعتقادي، نوايا نقدية غير بريئة لإخراج هذا الأدب من التراث الأدبي العربي.
لا أحب كثيرًا ان أُسمّي الشاعر القومي أو الوطني. صحيح أنا فلسطيني، وأنا فخور بذلك، لكن هذه التسمية توجِّه القارئ لقراءة مستوي ما فقط من شعري، وهو أنني أعبّر عن القضية الفلسطينية. نعم، شعري يعبّر عن القضية الفلسطينية ولكن علي النقاد أن يتعاملوا مع شعري أولا علي أنه شعر، ثم يسمّي شعر مقاومة أو غير مقاومة.. ما يشاءون. يجب أن يتم التعامل مع الشعر الذي يكتبه الفلسطينيون علي انه شعر أولا، ومن الطبيعي أن يحمل هذا الشعر البعد الوطني والقومي وكل المسائل المرتبطة بتعريف الهوية. لا يجب تقسيم الشعر. لاحظوا تعبير الأدب النسائي، لماذا يجب أن يكون أدبًا نسائيًا؟ هو أدب فقط. لأنه عندما نحاصره في تعريف ضيّق نوجّه التركيز إلي جنس الكاتب وليس إلي إبداعه. مع ذلك، ردًا علي سؤالكم الأول، لا شك في أن أدب المقاومة قام بدور تبشيريّ وحمي الجماهير العربية في إسرائيل من تهم وطنية كثيرة كانت ستلحق بهم. لأن العالم العربي كان ينظر إلي العرب في إسرائيل نظرة سلبية، وعندما وصل هذا الشعر إلي العالم العربي تغيّرت النظرة إليهم، واصبحوا يُعاملون كوطنيين ومقاومين. بهذا المعني قام أدب المقاومة بدور تاريخي لا يمكن إخفاؤه، وهو أنه غيّر أو أجري تعديلاً علي صورة العرب في إسرائيل عند أشقائنا العرب في الخارج.

س ـ لكن لاحقا كانت هناك محاولات لاستغلال كونك شاعرًا فلسطينيًا للنّيل منكَ أدبيًا..

ج ـ في البداية كان كوني شاعرًا فلسطينيًا لتقديسي، فيما بعد صار ذلك للنيل مني أدبيًا. أن يكون أدب الفلسطيني فقط عن موضوع محدد ومقروء سلفاً. قوّة الشعر الجمالية تفرض نفسها. للأسف الشديد إنّ من يطرح هذه القضية اليوم هم فلسطينيون، حكّامي الآن هم فلسطينيون وليسوا عربا. الذين يريدون أن يهاجموني يقولون أنني تخليت عن القضية الفلسطينية وعن شعر المقاومة. هؤلاء فلسطينيون وليسوا عربًا، العرب قبلوا مشروعي الشعري، ووضعوه في مكانة مرموقة من المشهد الشعري العربي. لا أحد يشكك في مكانتي الشعرية في المشهد الشعري العربي العام وأكاد أقول في علاقة هذا المشهد بالمشهد الشعري العالمي. الذين يحاكمونني يريدونني أن أكتب ما كنت أكتبه قديمًا ويريدون أن يحتكروا ما بعد الحداثة.
تستمع إلي هذه الصيغة من شعراء لا علاقة لهم بالواقع، يكتبون عن أشياء في منتهي التجريد، وعن قمصان النوم وعن ملابسهم الداخلية، ولكن يطالبون محمود درويش بأن يكتب عن القضايا الأخري. يريدون أن يكتبوا الشعر وإبقاء الشعر الوطني السيء من اختصاصي، وشعر الحداثة وما بعد الحداثة من اختصاصهم. هذه لعبة أولاد يجب أن يلعبوا. بعضهم يعتبرني، علي مضض أو برضي، أبًا روحيًا، أو أحد الآباء الشعريّين، ومن واجب هذا الولد أن يقتل أباه، مجازيًا وأدبيًا، كي ينمو، لكن عليه أن يقتل أباه بأدوات إبداعية وليس بالتشهير والشتم والتخوين. هذا للأسف ما يسود حياتنا الثقافية الفلسطينية. نحن أكثر ناس نكره أنفسنا ونكره بعضنا بعضا.

س ـ من أين ينبع ذلك برأيك؟

ج ـ الفلسطيني محاصر وهذا الحصار والاختناق في المكان يخلق طاقة عنف يفجّرها في وجه أقرب الناس إليه، في وجه أخيه أو جاره.

س ـ لنحدّد التوصيف الذي قدمته.. كانت تسمية أدب المقاومة وتحديد ملامحها كأنها فُرضت فرضًا في البداية ولاحقًا تم نفي ما فُرض من مشروع الشعر العربي، هل هذا ما حدث؟

ج ـ في مراحل معينة. أدب المقاومة لا ينتهي لكن تجري تعديلات علي التعريف. أعتقد أن كل أدب جميل، كل أدب مرتبط بالدفاع عن حرية الإنسان في التأمّـل وفي الحياة والحرية هو أدب مقاومة. يجب ان لا نحصر أدب المقاومة ككلام عنيف ضد فعل عنيف. برأيي التأمّل في أزهار الربيع والتعلّق بالحياة، حتي شعر الحب يعطي طاقة لمقاومة البشاعة، ومقاومة نقيض انسجام الحياة مع جمالها. بهذا المعني أوسّع مفهوم المقاومة ليشمل كل أدب راقٍ وجميل. كل قصيدة جميلة تغيّر في نظرتك إلي الحياة بصورة أكثر إيجابية وأكثر ألفة هي أدب مقاومة. وكل أدب نقيض هذه الحروب وهذه الاحتلالات والعدوان يعتبر أدب مقاومة. لكن كيف يعبّر أدب المقاومة عن نفسه، ليس باستخدام وسائل العنف والحرب بل باستخدام أدوات نقيضة لها، الدفاع عن الجمال وعن الحرية وعن بساطة الأشياء.

س ـ أنتَ عمليّا تعمّق مفهوم المقاومة وتنقله من ساحة المعركة.

ج ـ حتي المعارك إذا كانت عظيمة تدخل، لكن بطريقة خاصة. السؤال ليس كيف نقاوم بالشعر. الشعر يحاكَم أو يُحاسب ليس بما يقول فقط بل بالكيفيّة التخييليّة لهذا القول، أي يُعرّف بطبيعته الشعرية وليس بموضوعه الشعري. علي الشاعر أن يتقن مهنته الشعرية، وواجب الشاعر ان يكون وفيّاً لمسألتين: لمهنيته الشعرية، اي لخلق الجماليات وتطويرها، ولارتباطه بالواقع والدفاع عن حريته وحرية شعبه.

س ـ عمليّا، مراجعة أدب تلك الفترة هي فنّية وجمالية بالاساس أكثر مما هي سياسية فكرية..

ج ـ إذا قلنا إن فلانًا رسام، فيجب أن يتقن مهنة الرسم أولا ثم نقول هذا رسام كذا وكذا. كذلك الشاعر. اذا كنت سأقوم بكل واجباتي الوطنية والاجتماعية بشعر رديء، هل أسمّي هذا شعر مقاومة؟ هذا الشعر يسيء للمقاومة، يسيء لصورة الإنسان الفلسطيني. الشعر الفلسطيني الرديء يسيء الي صورة الفلسطينيين. الشعر الجميل هو الذي يخدم القضية اللفلسطينية. التسلـّق علي القضية الفلسطينية للتحرّر من أي ضرورات أو شروط جمالية فنية لا يخدم القضية الفلسطينية. بالعكس، عازف البيانو الرائع إذا كان فلسطينيًا يخدم القضية. وإذا كان عندنا راقصة باليه فلسطينية ممتازة فهي تخدم القضية. أو رسام يتقن رسم الفن التجريدي لكن يقال أن هذا فلسطيني دون أن يُحمِّـل فنه مقولات زائدة عن متطلّبات الفن. وهذا لا يتعارض طبعًا مع التزامه بقضية شعبه. كأننا نقسّم الأمور إلي قسمين: الجميل ليس فلسطينيًا، والقبيح هو الفلسطيني. هل هناك أذي يلحق بنا أكثر من هذا التقسيم؟

س ـ هل كانت المباشرة تنازلا جماليًا او نوعًا من ضريبة تاريخية أمام قضايا الناس المصيرية؟ واستكمالا، ما زالت القضايا المصيرية هي ذاتها بل تتبدّي اليوم في كثير من تفاصيلها أخطر وأشدّ إلحاحا من قبل، مع ذلك لم يعد للشعر والأدب عمومًا ذلك الدور الذي اضطلع به آنذاك، كيف تري إلي هذا التبدّل وأين تكمن أسبابه باعتقادك؟

ج ـ عندما نتكلمّ عن دور الشعر، نتكلمّ كلامًا افتراضيًا. ولا مرّة نستطيع تحديد هذا الدور بالضبط، أو كيف يتجلي. هناك طبعًا مقولات جاهزة عن دور الشعر، عليه أن يكون كذا وكذا. لكن دون أن نختبر إلي أيّ مدي تحقّق هذا الدور. نحن نقرأ لبعضنا البعض ونعتقد أن المجتمع كله معنا. الشعر دائمًا كان له دور ثانوي لأنه دائمًا، للأسف الشديد، يخصّ النخبة. النخبة ليس بمعناها الضيق لكن بمعناها الواسع. من يقرأ الشعر؟ يقرأ الشعر من هو قادر علي القراءة، ومن عنده إمكانيات ثقافية لفهم الشعر، ومن يحب الشعر. إذن، دائمًا كان للشعر قرّاء خاصّون. والشاعر يسعي إلي تكبير مساحة هؤلاء الخاصين، ليصل إلي جمهور أكبر. أما القول إن الشعر كالخبز وكالهواء فهو حلم، حلم أقرب الي الوهم.. يا ريت، لكن ليس ثمة فن هو كالخبز والهواء


نشر هذا الحوار في صحيفة الاتحاد في حيفا في 24 / 7/ 2007م