دفاتر محمود درويش في حوار شامل

القصيدة السياسية لا تعني لي اليوم أكثر من خطبة وأرفض حصري بشعر القضية

حاوره عبده وازن

تحار من أين تبدأ الحوار مع محمود درويش. أتبدأ من شعره الذي يشغل المعترك الشعري العربي الراهن، بأسئلته وقضاياه، أم من السياسة التي مارسها وكأنها فعل إبداعي؟ أم من تقاطع الذاكرة الخاصة مع الذاكرة العامة أو الوجدان الذاتي مع الوجدان الشعبي؟

لا يحتاج الحوار مع محمود درويش الى ذريعة. تاريخ هذا الشاعر هو أكثر من تاريخ وحاضره أكثر من حاضر. هو الآن أكثر الشعراء العرب رواجاً وانتشاراً، لكنه في الوقت نفسه من أشد الشعراء انطواء على أنفسهم وإصغاء الى صمتهم الداخلي. هذا الشاعر "الجماهيري" هو شاعر حديث جداً وطليعي وذو نزعة اختبارية. أمسياته التي تجذب دوماً جمهوراً غير متوقع، في عاصمة عربية وأخرى، تدل على قدرة قصائده على اختراق الذاكرة والمخيلة معاً. لكن الشاعر، عوض أن يستسلم لجمهوره الكبير يرتقي به الى مصاف التلقي الحقيقي. فالتصفيق المدوي تظل تردده الصالة الكبيرة، لكن الشعر وحده هو الذي يفعل فعله. وربما لم يُؤتَ لشاعر أن يكون جماهيرياً ونخبوياً في آنٍ واحد، وأن يكون قريباً من قرائه وبعيداً منهم، مثلما أوتي لمحمود درويش. هذا الشاعر التراجيدي المنبت استطاع أن يكون شاغل الناس وشاغل الشعراء والنقاد والقراء على اختلاف أمزجتهم. لا يحب محمود درويش كلمة "جمهور" أو "جماهير"، يفضل كلمة قارئ أو قراء. هذا ما بات واضحاً الآن تمام الوضوح. يحس الشاعر انه يكتب لنفسه مثلما يكتب لقارئه. إنها المعادلة الصعبة التي حققها محمود درويش، صانعاً من الشعر ذاكرته وذاكرة قرائه، ذاكرته وذاكرة الأرض المجروحة. ولئن كان ولا يزال شاعر القضية فهو نجح في تحمل عبء هذه الصفة أو الكناية من غير أن يتخلى عنها لحظة. بل هو عمّق هذه الصفة حتى أضحت مغروسة في تراب الماضي ـ الحاضر. انه الشاعر أولاً وأخيراً وربما الشاعر فقط، سارق النار ومضرمها، الشاعر السري المتجذر في أرض الحلم والمنفتح على شمس الرؤيا. الشاعر الذي جعل من مأساته التي هي مأساة أرضه، ملحمة تراجيدية، تمتزج فيها النبرة الغنائية العالية والصوت الإنساني الخافت.

حياة صاخبة، شعراً وسياسة وأمسيات وأضواء، تقابلها حياة هادئة جداً مفعمة بالصمت والتأمل.

عندما دخلت بيت محمود درويش في عمان، فوجئت بالهدوء الذي يرين عليه، وبالصمت الذي يحياه هذا الشاعر ـ الرمز. وحين سألته عن المصعد المعطل في البناء، استغرب، واستغربت أكثر عندما قال لي انه لم يخرج من البيت منذ ثلاثة أيام. يعيش محمود درويش وحيداً بين بيته في عمان وبيته في رام الله. هذه الوحدة لا تكسرها سوى الخادمة الفيليبينية التي تقصده ظهر كل يوم لتنهي الواجبات المنزلية وتغادر. إلا ان بيت الشاعر ليس بارداً ولا خاوياً مثل بيوت العازبين عادة. ثمة ضوء في هذا المنزل ولو كانت الشبابيك مغلقة، وثمة دفء روحي وطمأنينة. مع ان الشاعر الكامن في أعماق محمود درويش لا يعرف الاطمئنان ولا السكينة. شاعر قلق، لا يضع المفتاح في قفل الباب عندما يستسلم للنوم ليلاً. وكي يبدأ نهاره يحتاج الى المزيد من الوقت. الصباح المتأخر قليلاً هو إما للكتابة أو للقراءة. أما النهار فيبدأ بعد الظهيرة.

لا ذريعة لمحاورة محمود درويش وإن صدرت قبل أيام أعماله الكاملة في أربعة مجلدات، وفي طبعة هي الثامنة عشرة. وقبلها صدر ديوانه البديع "كزهر اللوز أو أبعد" وفيه تتجلى تجربته الفريدة التي وضعته في مقدم الشعراء المحدثين والجدد والباحثين عن معادلة شعرية جديدة، وعن لغة مجهولة وجماليات ملؤها الدهشة. وقبل هذا الديوان كانت صدرت أيضاً أعماله "الجديدة" في مجلد خاص (دار رياض الريس).

يظل محمود درويش متجدداً باستمرار، والحوار معه أشبه بالرحلة الى عالم ملتبس بين الواقع والتاريخ والحلم والجمال... وها هو يفتح "دفاتره" لـ "الحياة".

* الآن مع صدور مجموعتك الكاملة للمرة الثامنة عشرة كيف ترى إليها؟ ما الذي تحبه فيها وما الذي تكرهه؟ كيف تنظر الى البدايات التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية؟

ـ حين اضطر الى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي انني لا أنظر الى ماضيّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها، أو ألا أكون نشرت جزءاً كبيراً منها. لكنّ هذه مسألة لم تعد منوطة بي، إنها جزء من تراثي. لكن تطوري الشعري تم من خلال هذا التراكم وليس من خلال القفز في الفراغ. لذلك عليّ أن أقبل بطاقة الهوية هذه كما هي، وليس من حقي إجراء تعديلات إلا بقدر المستطاع، أي تعديلات على بعض الجمل وعلى بعض الفقرات أو حذف بعض الأسطر، من منظور الاعتبار الجمالي وليس من أي منظور آخر. ولو أتيح لي لكنت دائم التنقيح في أعمالي. ولكن لو أتيح لي أيضاً أن أحذف لكنت ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي وليس من حقي على ما يبدو. هذا أنا في مراهقتي الشعرية وفي صباي وفي شيخوختي، أنا كما أنا. وأعتقد أن كل شاعر لديه حاسة نقد ذاتية، ينظر النظرة نفسها الى أعماله. وأريد أن أقول هنا إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ففي التراث العربي مثلاً عندنا طرفة بن العبد وفي التراث العالمي هناك رامبو. ثم هناك شعراء يولدون "بالتقسيط" وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة. وأرى أن مشكلة الولادة في دفعة واحدة عمرها قصير.

* هناك ظاهرة عجائبية في مثل هذه الولادات!

ـ هناك عبقرية خاصة وربما مأسوية. فالشاعر الذي يولد دفعة واحدة لا يستطيع أن يواصل عمره الشعري. أما الشعراء الذين يولدون على مهل فتتاح لهم فرصة من التجربة والكتابة لا تتاح لمن يصبّون تجربتهم في دفعة واحدة، ويصمتون مثلما فعل رامبو. هذا السؤال صعب أصلاً على كل شاعر يستطيع أن يكتب شعراً في العشرينات، ولكن هل يستطيع كل شاعر أن يكتب بعد الستين؟ هذا هو السؤال الصعب.

* ولكن هناك أمثلة متضاربة في هذه القضية!

ـ كل شاعر يملك جواباً خاصاً أو ربما هو يملك حظاً خاصاً. وأعتقد ان الحظ في آخر الأمر هو الذي يلعب دوراً في نشأة الشاعر، وفي قدرته على التطور. ولكن قبل الحظ هناك انتباه الشاعر الى عيوبه الشعرية، انتباه الشاعر الى مأزقه الشعري. وكل شاعر يحل مأزقه في طريقته الخاصة، ولكن ليس التكرار هو أفضل الطرق، أي تكرار ما قاله الشاعر أو كتابة تنويعات على ما كان كتب من شعر.

* ما رأيك بالمبادرة التي يقوم بها شعراء بحذف شعرهم الأول وانكاره؟ وهذا ما قام به مثلاً الفرنسي رينه شار أو الشاعر أدونيس؟ هل أخفيت أنت قصائد أولى، لك وخصوصاً عندما كنت في فلسطين؟

ـ أنا لم أنشر في كتب كل ما كتبت من شعر. بعضه نشر في الصحافة، وبعضه لم ينشر. مجموعتي الشعرية الأولى حذفتها كلياً ولا أعترف بها البتة وكانت صدرت في فلسطين أيام الفتوّة. وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصية وشعرية. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف. هذه هي المسألة الشائكة. حتى في مرحلتي الراهنة، كتبت قصائد عدة لم أدرجها في مجموعاتي الشعرية. نشرتها في الصحف ولكنني لم أضمّنها كتبي. من حق الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضاً.

* بودلير يتحدّث دوماً عن الناقد الكامن في الشاعر والذي يوجهه!

ـ صحيح. ولكن قد يؤثر الشاعر نصاً له على آخر، وقد لا يشاركه القارئ هذا الإيثار بل قد يخالفه فيه.

* ما كان عنوان مجموعتك الأولى التي أسقطتها من أعمالك؟

ـ كان عنوانها "عصافير بلا أجنحة"."سجّل أنا عربي"

* ماذا تعني لك اليوم قصائد راسخة في ذاكرة الجمهور مثل "سجّل أنا عربي" و "جواز السفر" بعدما اجتزت ما اجتزت من مراحل شعرية؟

ـ هذا النوع من الشعر كتبته تلبية للنداءات الداخلية والخارجية. كان سؤال الهوية هو السؤال الملح في شبابي الشعري أو صباي. وهو ما زال مطروحاً حتى الآن، ولكن في طرق مختلفة، وفي أشكال تعبير مختلفة. كانت ظروف الحياة هناك تقتضي ربما مثل هذه المخاطبة المباشرة. هذا أولاً. ثانياً أصبحت هذه القصائد جزءاً من ذاكرة جماعية لا أستطيع أن أتحكم بها أو أتصرف في شأنها. إنها لم تعد ملكي أبداً. وهي ساهمت أيضاً في انتشاري شعرياً. ويجب ألا أكون مجحفاً أو ناكراً للجميل في حق هذا النوع من الشعر. هذا إذاً ساهم في شق الطريق أمامي، وفي تمهيدها لكي أضيف تجارب شعرية جديدة ومختلفة عما سبقها، من حيث التناول الشعري واللغة الشعرية والأسلوبية. لكن التأسيس الذي تم في العلاقة بين القارئ وبيني أذن لي في أن أتطور، وأتاح للقارئ أن يقبل هذا التطور. فنحن نكبر معاً، أنا وقارئي.

* ماذا باتت تعني لك القصيدة السياسية؟

القصيدة السياسية اليوم لا تعني لي أكثر من خطبة، قد تكون جميلة أو غير جميلة. إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه الى مهنته وليس فقط الى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غداً غضباً، تعبيراً عن أمر ما، ولكن لم تعد القصيدة السياسية جزءاً من فهمي المختلف للشعر. أعتقد إنني الآن في مرحلة، أحاول فيها أن أنظف القصيدة مما ليس شعراً إذا أمكن التعبير. ولكن وما هو الشعري وما هو غير الشعري؟ هذه مسألة أيضاً. السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً من هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبر عن هذه السياسة. كل إنسان فينا مسكون بهاجس سياسي، ولا يستطيع أي كاتب في أي منطقة من العالم أن يقول: أنا نظيف من السياسة. فالسياسة هي شكل من أشكال الصراع، صراع البقاء وصراع الحياة. ومن طبيعة الأمور أن يكون هناك سياسة. والسؤال هو: هل تكون القصيدة سياسية أم ان عليها أن تحمل في كينونتها بعداً سياسياً؟ أو هل هناك إمكان لتأويل سياسي للنص الشعري أم لا؟ أما أن تكون القصيدة عبارة عن خطاب مباشر بتعابير مستهلكة ومستنفدة وعادية فهذا لم يعد يعني لي شيئاً.

* ما رأيك بظاهرة الشعر السياسي الجديد الذي يكتبه شعراء جدد عرب أو في العالم أو الذي كتبه شعراء مثل ريتسوس وغينسبرغ وجيل "البيت" جنريشين وقد أعادوا النظر في القصيدة السياسية وفي الواقعية؟

ريتسوس يجب أن نميزه عن الآخرين.

* لكنه كتب قصائد سياسية عبر لغة مختلفة.

حاول ريتسوس أن يكتب اليومي، لكنّ هذا اليومي الذي يبدو لنا عادياً يخبّئ بعداً أسطوريا ما. ولعل القصيدة التي تسمى يومية لدى ريتسوس ليست قصيدة يومية، ففي هذا "اليومي" بُعد أسطوري وميتافيزيقي. أما في شأن ألن غينسبرغ وبعض الشعراء الأميركيين فهم يكتبون شعراً سياسياً في المعنى المباشر للكلمة. لكن الشعر الغربي والأميركي مشبع بالجماليات، وقد انتهى البحث في هذا الموضوع، الموضوع الجمالي. وحاول الشعراء أن يعودوا الى ما هو مختلف، محاولين أن يجعلوا الشعر يمارس دوراً سياسياً واجتماعياً، على خلافنا نحن. فنحن خارجون من تراث شعري سياسي مباشر في محاولة لتطوير هذا الشعر ورفعه الى مستوى جمالي أفضل. والطريقان متعاكسان ومختلفان. ربما عندما تبلغ الجمالية العربية مستوى أرقى بكثير، قد نحنّ الى أن نهجو الواقع، في المعنى السياسي، في معنى الاحتجاج والرفض. وشعر الاحتجاج أصلاً لم ينته في العالم، ولكن هل يحتج الشعر بكونه شعراً أم بكونه كلاماً أو موقفاً؟

* ماذا بات يعني لك وصفك بشاعر القضية أو شاعر المقاومة وفلسطين؟

المسألة لا تتعلّق بي ولا أستطيع أن احتج إلا على محاولة محاصرتي في نمطية معينة. هذه التسميات بعضها بريء، وينطلق من حب القضية الفلسطينية وحب الشعب الفلسطيني، وبعضها نوع من إضفاء الاحترام والتشريف على القول الشعري المتعلق بالقضية. لكن الرأي النقدي هو أخبث من ذلك. الرأي النقدي يحاول أن يجرّد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبّراً عما يسمى مدونات القضية الفلسطينية. هناك طبعاً اختلاف جوهري كبير بين النظرتين: نظرة بريئة ونظرة خبيثة. طبعاً أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية.

الشاعر ـ الرمز

* ولكن شئت أم أبيت أنت الشاعر ـ الرمز.

كل شاعر يتمنى أن يكون صوته الخاص معبّراً عن صوت عام أو جماعي. قلائل هم الشعراء الذين يلتقي داخلهم بخارجهم في طريقة تخلق التباساً بين رمزية الشاعر وشعريته. لكنني لم أسع شخصياً الى ذلك. ربما هو الحظ الذي وفّر لي هذه المكانة. أما ان أسعى الى أن أكون رمزاً وأحرص على أن أكون رمزاً، فأنا لا أريد ذلك، أريد أن ينظر إليّ من دون أن أُحمّل أعباء رمزية مبالغاً فيها، ولكن يشرّفني أن ينظر الى صوتي الشخصي وكأنه أكثر من صوت، أو أن "أناي" الشعري لا تمثل ذاتي فقط وإنما الذات الجماعية أيضاً. كل شاعر يتمنى أن يصل شعره الى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحددون القيمة الشعرية من خلال عزلتهم عن القراء. أنا لا أقيس أهمية الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله.ولكن أن تتحقق المسألتان أي الانتشار مع الجودة الشعرية، فهذا ما يتمناه أي شاعر، وإلا لماذا يقرأ الشعراء شعرهم في الأمسيات؟ لماذا يطبعون دواوينهم إذا كان القارئ لا يهمهم؟

* تجاوزت الستين لكنك تزداد نضارة شعرية.

سرّي بسيط جداً.

* لا أشعر بأنه بسيط.

بسيط في كلامي العام عنه وليس في المعنى الشعري. أولاً أنا لا أصدق شعري. وأشعر بأنني في حاجة الى لغة شعرية تعبيرية تحقق الشعرية في القصيدة في شكل يجعلها أكثر شعرية إذا أمكن. أي انني أحاول أن أخفف من ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون أن أتخلّى عن الشرط التاريخي. السر الثاني انني لا أصدق التصفيق. فأنا أعرف انه عابر أو آني، وقابل للتغيير والتعديل وللاعتذار أيضاً وللتمرّد على الشعر. انني مسكون بهاجس هو عدو كتابتي حتى الآن ما أريد أن أكتبه. تسألني: ما الذي تودّ أن تكتبه؟ فأقول لك: لا أعرف. إن رحلتي هي الى المجهول الشعري بحثاً عن قصيدة ذات قدرة على أن تخترق زمنها التاريخي وتحقق شرط حياتها في زمن آخر. هذا ما أسعى إليه، ولكن كيف أعرّف بهذه المسألة؟ هنا أيضاً لا جواب نظرياً ولا فكرياً. الجواب هو جواب إبداعي. كل الأسئلة حول الشعر لا تقنعنا إلا اذا تحققت شعرياً أو في الكتابة الشعرية. فأنا دائم القلق وهذا سرّي، ومتمرّد على نفسي. وأقول لك إنني لا أقرأ شعري بيني وبين نفسي، لا أقرأه البتة، فلا أعرف ما كتبت. لكن كل ديوان لي أعيد قراءته قبل طباعته عشرات المرات وأنقحه عشرات المرات، الى أن أشعر بأنه أصبح قابلاً للنشر. وعندما يصدر الديوان أتحرر منه كلياً ويصبح ملك غيري، ملك النقد وملك القارئ. وهنا يكون السؤال الصعب: ماذا بعد؟ الآن أشعر بأنني خالي الوفاض كما يقال، ومسكون بقلق ربما يكون وجودياً. هل أستطيع أن أكتب من جديد، أم لا؟ دائماً عندما أصدر كتاباً أشعر بأنه الكتاب الأخير.

* لكنني أشعر أن كل كتاب لديك يحمل معه بداية ما...

إذا كان رأيك هذا مصيباً فهو يفرحني.

* أنت شاعر مراحل، وإذا عدنا الى أعمالك الكاملة نشعر بأن هناك محطات وأن كل محطة بداية...

أجل هناك مراحل ومحطات.

* وأعتقد ان ثمة خيطاً داخلياً يربط بينها.

أجل، إنها مراحل متصلة، ومن خلال مراقبتي لعملي الشعري ألاحظ أن في كل كتاب جديد تستطيع أن تجد بذرة كانت في كتاب سابق أو كتب سابقة. لكن البذرة هذه تجد إمكان تفتح، ورعايتها في طريقة جديدة تحوّلها نصاً جديداً. الشاعر يتوالد من تلقاء نفسه، من تلقاء تجربته ومن علاقته بالعالم وعلاقته بالوجود وبثقافته ومن وعيه الشعري، وكذلك لا وعيه الإبداعي. أما كيف يولد الشعر؟ أو ما هو الشعر؟ مثل هذه الأسئلة أشبه بالأسرار. فالشعر سر، والسر هو ما يجعل الشعر مستمراً. ليس هناك من اكتشاف شعري نهائي وكل كتابة هي محاولة إجراء تعديل على مفهوم عام للشعر. ولكن كل كتابة جديدة تملك إضافات ما، هي عبارة عن إعادة التعريف بالشعر.

أنا شاعر غير مكرّس

* بصفتك شاعراً مكرّساً وصاحب سلطة شعرية، هل أثرت عليك؟ ماذا تعني لك هذه الصفة؟

إذا كنت شاعراً مكرّساً، فأنا مكرّس في الحياة الثقافية أو لدى القارئ. ولكن في العلاقة بيني وبين نفسي لست مكرّساً. أنا لم أكرّس نفسي حتى الآن. وقد يبدو هذا الكلام ادعاء للتواضع، ولكن هذه حقيقة ما أشعر به. أنا لم أكرّس نفسي في معنى إنني لم أطمئن الى تجربتي الشعرية، لم أطمئن إليها أبداً، وما زلت أعتقد بأنها في حاجة الى تجربة وتجريب جديدين، والى تطوير دائم والى التمرد على ما نسميه الانجاز الراهن. أنا لست راضياً عن نفسي أو لست أشارك الآخرين في المكانة التي احتلها في الذائقة العامة أو الوعي العام.

* هل تخشى أن تتوقف ذات يوم عن الكتابة؟

نعم.

* هل أحسست هذه الخشية فعلاً؟

هذه خشية دائمة خصوصاً عندما أنهي عملاً جديداً. إنني دائم الخوف من هذه القضية. إنها بمثابة هاجس. وأعزّي نفسي بأنني عندما أشعر، أو عندما اعترف بجفاف الماء في تجربتي الشعرية أو في لغتي، أجد المناسبة حسنة لأكتب النثر. فأنا أحب النثر كثيراً.

ظلمت نثري

* لكنك لم تكتب قصيدة نثر مع انك كتبت الكثير من النثر؟

كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها،. علماً انني من الشديدي الانحياز الى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من النثر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ الى النثر وأمنحه وقتاً أكثر وأولية جدية أكثر. عندما كنت أكتب نثراً كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر. فالنثر جذاب وسريع الانتشار، ويتحمّل أجناساً أدبية أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر انتبه الى انني نسيت القصيدة وأن عليّ أن أعود إليها. هكذا أكون بين النثر والشعر، لكنني معروف بأنني شاعر ولا أسمّى ناثراً.

* لكنك لم تكتب قصيدة النثر، لماذا؟

ما دمت أكتب نثراً فأنا أكتب النثر، من دون أن أسميه قصيدة. لماذا ننظر الى النثر نظرة دونية ونقول انه أقل من الشعر؟ صحيح أن النثر يطمح الى الشعر والشعر يطمح الى النثر... يعجبني قول للشاعر باسترناك: "أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً". انني لا أريد أن أفرّق كثيراً بين الشعر والنثر، ولكن انطلاقاً من التجنيس الأدبي ما زلت أعطي للنثر اسمه وللشعر اسمه. لكن السؤال هو: كيف تتحقق الشعرية في قوام قصيدة؟ وأعتقد أن علينا أن نوقف النقاش حول الفارق أو الاختلاف أو الائتلاف أو الابتعاد أو الاقتراب بين قصيدة النثر والقصيدة. هذا السجال تجاوزه العالم. أما إذا سألتني عن رغبتي في كتابة قصيدة نثر فأرجو أن أكتب نصاً نثرياً من دون أن أسميه قصيدة نثر.

* ولكن من الملاحظ في شعرك ولا سيما في المرحلة الأخيرة أن ثمة حواراً بين النثر والشعر، وقد عرفت تماماً كيف تستفيد من قصيدة النثر، لا سيما أنك شاعر تفعيلة، وقد استشهدت بجملة بديعة لأبي حيان التوحيدي في ديوانك الأخير "كزهر اللوز أو أبعد"! وما يميز القصيدة لديك هو هذا الفضاء الرحب، الفضاء النثري والموسيقى الداخلية القائمة على تناغم الحروف!

أولاً، أود أن أقول ان ليس لدي أي تحفظ على قصيدة النثر. والتهمة التي لاحقتني في انني ضد قصيدة النثر زمناً هي باطلة. قلت وأقول دائماً ان من الانجازات الشعرية المهمة في العالم العربي بروز قصيدة النثر، أي تأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية. قصيدة النثر تريد أن تميز نفسها وتريد أن تطور أو أن تضيف نصاً مختلفاً عن القصيدة الكلاسيكية وعن القصيدة الحديثة التي صنعها جيل الرواد. هذا أولاً. ثانياً، أنا من المعجبين جداً بشعراء كثيرين يكتبون قصيدة النثر. وأقول دائماً إن هناك أزمة في ما يسمى قصيدة التفعيلة، وأنا أكره هذه التسمية، ولكن لا بديل لها. والأزمة أصلاً تكمن في الكتابتين.

* الشعر العمودي أيضاً شهد أزمة.

لا بل أنها الأزمة التي تشهدها الثقافة العربية في كل أبعادها. ولكن إذا أجرينا إحصاء، اذا أردنا ان نختار عشر مجموعات شعرية صدرت في هذا العام أو عشرين، سنرى ان الكمية الكبرى أفضل هي لقصيدة النثر التي تحمل النوعية الفضلى. ولكن هذا يعني أن دور قصيدة التفعيلة انتهى أو انتهت قدرتها على استيعاب إيقاع الزمن الحديث! أو أنها لم تعد قادرة على تطوير اللغة في طريقتها الخاصة! أنا من آخر المدافعين عن قدرة قصيدة التفعيلة على أن تستفيد من اقتراحات أو من تصورات قصيدة النثر ومشروعها، وأن تكتب الرؤيا الجديدة لقصيدة النثر كتابة موزونة. أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. انني أحب الموسيقى في الشعر. انني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي. ولا أستطيع أن أعبّر عن نفسي شعرياً إلا في الكتابة الشعرية الموزونة، ولكنها ليست موزونة في المعنى التقليدي. لا. ففي داخل الوزن نستطيع ان نشتق إيقاعات جديدة وطريقة تنفس شعرية جديدة تخرج الشعر من الرتابة ومن القرقعة الخارجية. لذلك فإن أحد أسباب خلافي مع بعض الأصدقاء من شعراء قصيدة النثر هو مصدر الإيقاع الشعري، الموسيقى الداخلية. فهم يرون أن الموسيقى الداخلية لا تتأتى إلا من النثر، أما أنا فأرى ان الموسيقى الداخلية تأتي من النثر ومن الإيقاع أيضاً. وعلى العكس، فإن وضوح الإيقاع الآتي من الوزن يطغى على الإيقاع المنبثق من النثر. وأصلاً كل كتابة فيها إيقاع. في النثر إيقاع وفي الشعر إيقاع وفي الكلام اليومي والعادي إيقاع. إذاً الإيقاع موجود. لكن الأمر هو: كيف نضبط هذا الإيقاع وكيف نجعله مسموعاً أو حتى بصرياً. أعتقد أن ما زال في قدرة الوزن الشعري، إذا نظر اليه الشاعر في طريقة مختلفة وإذا عرف كيف يمزج بين السردية والغنائية والملحمية وكيف يستفيد حتى من النثرية العادية، ما زال في قدرته أن يحل بعض الصعوبات في البحث عن إيقاع شعري جديد. هذا هو عملي الشعري، أي ان أكتب الوزن كأنه يسرد وأكتب النثر كأنه يغني. هذه هي المعادلة، بل هذا هو الحوار بين الشعر والنثر.

قصيدة التفعيلة وأزمتها

* الموسيقى داخل القصيدة أقوى من الوزن الخارجي... ألا توافقني أن قصيدة التفعيلة تعاني أزمة؟

هناك مشكلة فعلاً. لكن المشكلة هذه تتعلق بالشعر نفسه وبالموهبة الشعرية والخبرة الشعرية. قصيدة التفعيلة تستمد شرعيتها الإيقاعية من كونها كسراً للنظام التقليدي، ولكن عندما تقع في نظام تقليدي آخر تفقد شرعيتها. لذلك تستطيع هذه القصيدة أن تطور إيقاعاتها وبنيتها. مثلاً: أنا ليس لديّ سطر شعري، القصيدة لديّ تتحرك كلها مثل كتلة دائرية، إنها تتدوّر. القافية عندي أخفيها في أول الجملة أو في وسطها. إذاً هناك طريقة إصغاء الى اللغة، يجب أن تحرر الشاعر من الرتابة، وعلى الشاعر أن يعرف كيف يتمرّد على الرتابة الموسيقية. وأحياناً يكون هناك إيقاع عالٍ لا يُجمّل إلا برتابة ما. هناك تبادل إذاً، بين البعد الإيقاعي والنثر.

* لماذا قلت انك اذا واجهت أزمة شعرية ستخرج الى النثر. لماذا لم تقل انك ستخرج الى قصيدة النثر؟ لماذا ترفض مصطلح قصيدة النثر؟

لأنني عندها سأكتب شعراً. وقصيدة النثر هي شعر. صحيح أن هناك تزاوجاً أو لقاحاً بين النثر والشعر، وأن هناك جنساً أدبياً اسمه نثر وجنساً آخر اسمه شعر. وفي هذا الجنس هناك القصيدة الموزونة وهناك أيضاً قصيدة النثر. والنثر كجنس أمر آخر. إذا خرجت من الشعر سأخرج من الشعر كله. ربما جوابي هذا خطأ. لا أستطيع أن أعرف ما هو مستقبلي الشعري. لماذا أتجادل معك حول هذه النقطة؟ وأعترف ان ما أعمل عليه الآن هو نص نثري. بين يديّ الآن ـ فعلاً ـ نص نثري. وهذا ما اعترف به للمرة الأولى. أما أن أضع على مستقبلي قيداً يمنعني من كتابة قصيدة النثر فهذا جواب خاطئ أرجو أن تصححه. لكن النقاش الدائر حول أن مستقبل الشعر والحداثة الشعرية العربية لا يعرّفان إلا في قصيدة النثر فهذا كما أعتقد إجحاف حقاً. هذا استبداد فكري، وكذلك أن الموسيقى الداخلية لا تأتي إلا من النثر...أعتقد أن علينا أن نرفع الحدود بين كل هذه الخيارات الشعرية، لأن المشهد الشعري العربي الحقيقي لا يمكن النظر اليه إلا من زاوية المصالحة بين كل الخيارات الشعرية. ليس من حل نهائي لمسألة الشعر. الشعر غامض ولا محدود، وتبلغ لا محدوديته حداً اننا لا نعرف إزاءه أي كتابة هي الأصح. الكتابة الصحيحة في رأيي هي أن نجرّب وأن نسعى الى أن نخطئ. لأننا من دون أن نرتكب أخطاء لا نستطيع أن نتطور. لذلك أفضل دائماً التجريب غير المضمون النتائج على تقليد مضمون النتائج. وفي رأيي أيضاً أن لا شعر من دون مغامرة.

***

قصيدة النثر حازت شرعيتها وعلى شعرائها أن يعترفوا بالآخرين.

* لماذا يصرّ الكثيرون على الكلام على ثنائية القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، علماً أن هذا السجال انتهى في الغرب منذ القرن التاسع عشر؟

صحيح، هذا السجال انتهى في الغرب. الطرف التقليدي هو الذي حارب مشروع الشعر الحر أو الشعر التفعيلي. كان شعر التفعيلة يحتاج الى شرعية والى دفاع فكري وإبداعي عن خياره. جيل قصيدة النثر خاض معركة أظن أنها من أشرس المعارك لتثبيت شرعيته. وكانت ثمة عدوانية ما لدى بعض المنظرين لقصيدة النثر. ولكن علينا أن نفهم الدوافع وفي مقدمها البحث عن شرعية هذه القصيدة. اليوم أصبحت شرعيتها قائمة، وعلى شعراء هذه القصيدة أو منظريها ان يعترفوا بالشرعيات الأخرى. علينا أن ننهي لغة الخصومة بين الخيارات الشعرية والاقتراحات الشعرية. حتى الشاعر الواحد يمكنه ان يكتب قصيدة تفعيلة وقصيدة نثر. الشاعر الاسباني لوركا كتب قصيدة نثر وكذلك بودلير ورامبو. لم تعد قصيدة النثر موضوعاً مطروحاً على جدول الشعر أو الأدب. أصبحت قضية مسلّماً بها، ولم يعد القارئ ينظر الآن الى الاختلاف بين الشعريات. وأود أن أقول ان كثيرين من الشعراء والقراء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضم قصائد نثر.

* هذا أمر جميل!

ويفرحني أيضاً، فهم يحسّون ان أطروحات قصيدة النثر تمّ استيعابها في شعري.

* تصر على ما تسميه المعنى في الشعر وهو يختلف عن الجدلية؟ هل اللحظة الشعرية لديك هي لحظة فكرية أم حدسية؟

أولاً أود أن أقول ان مفهوم المعنى لا متناه. الكلمات بحد ذاتها لا تحمل معنى. علاقة الكلمات بعضها ببعض هي التي تمنح المعنى الشعري. وبما أن هذه العلاقات غير متناهية، فإن المعنى بالتالي غير متناهٍ. أما في شأن المعرفة الشعرية، فإنني أعتقد ان هناك ثلاثة أنواع من هذه المعرفة. هناك المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية والمعرفة التحليلية. الشعر ميال الى المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية، وقد يستفيد من المعرفة التحليلية، لكن أساس العملية الشعرية أو المنطقة التي يعمل الشعر فيها هي المعرفة الحدسية والرؤيوية. لكن هاتين المعرفتين لا تتحرران كلياً من المعرفة التحليلية. القصيدة تبدأ وفق طرق مختلفة ترتبط بالشعراء أنفسهم. تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور. لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب ان تتحول الصور الى إيقاعات. وعندما تحمل الصور إيقاعاتها أحس ان القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية. القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص. إذاً، الإيقاع هو الذي يقودني الى الكتابة. وإذا لم يكن هناك من إيقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب. إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً. ولكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع. والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، إنها مجموعة ذوات. إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة. وهنا يجوز لنا أن نقول ان الغد يأتي الى الماضي، وليس العكس. كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة مجموعة مقولات وتتحول أيضاً فلسفة وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة إطراد متبادل. على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها ان تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات كما أشرت.

* ولكن من الملاحظ ان معظم قصائدك، ولا سيما القصائد ذات النفس الملحمي، تحمل بنية قائمة على الإيقاع وعلى اللوازم الإيقاعية والغنائية. كيف تتم مرحلة بناء القصيدة لديك؟

تكلّمنا قبل قليل عن اللحظة التي تدفع الشاعر الى كتابة القصيدة. إن مفتاحي كما قلت هو الإيقاع. هذا بالنسبة الى الحافز الشعري. ولكن لدي إصرار على أن أبني القصيدة بناء هندسياً، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد. وأعتقد ان قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلامية. أحب أن يكون للقصيدة قوام. وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري. لماذا أتحدث عن القوام؟ لأعرف العلاقة بين السطوح والأعماق، العلاقة بين الإيقاع والصورة والمجاز والاستعارة. يجب أن تكون هناك علاقات دقيقة جداً بين كمية الملح وكمية الورد والدم والطين... يجب أن يكون هناك تصور لهندسة معمارية تقوم القصيدة على أساسها. قد تقود القصيدة الى مبنى آخر، حينذاك على المهندس أن يغيّر خرائطه. ولكن في المحصّلة لا أنشر قصيدة إلا إذا كان لها شكل أو بنية أو ما سمّيته قواماً.

* يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ان الإلهام يأتي الشاعر بأول بيت ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة. أنت تكتب القصيدة في مراحل عدة ثم تصوغها مرة تلو مرة، كيف تولد القصيدة لديك وكيف تنتهي؟

تولد عبر الإيقاع. أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة. هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى. كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم انني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. إنني معجب جداً ببول فاليري ناقداً وقارئاً وكاتباً ذا إرهاف عالٍ وذكاء ولا أستطيع أن أقول انني معجب به كشاعر. تماماً كما انني معجب بأوكتافيو باث كناقد ومنظر للشعر أكثر مما أنا معجب به كشاعر.

الإلهام الشعري

* وماذا عن الإلهام إذاً؟

أعتقد ان هناك إلهاماً ما! ولكن ما هو هذا الإلهام؟ مرة حاولت أن أعرّف به فقلت انه عثور اللاوعي على كلامه. ولكن هذا تعريف غير دقيق وغير ملموس. الإلهام هو أحياناً توافق عناصر خارجية مع عناصر داخلية، انفتاح الذهن على الصفاء وعلى طريقة يحوّل بها المرئي الى لا مرئي واللامرئي الى مرئي من خلال عملية كيميائية لا يمكن تحديد عناصرها. أعتقد ان هناك سراً ما للحافز الشعري. لماذا ينهض الشاعر ويكتب؟ لماذا يأتي بالورق الأبيض ويعذب نفسه ولا يعرف الى أين هو ذاهب؟ خطورة العمل الشعري تكمن في أن لا ضمانات أكيدة للنجاح. الكتابة مغامرة دائمة وخطرة ولا تأمين لها، بل ليس هناك "شركة" تأمين توافق على المغامرة الشعرية بتاتاً و "حوادث المرور" في الشعر كثيرة جداً (يضحك). أحياناً تشعر بأن لديك رغبة طافحة في الكتابة. تجلس الى الطاولة فلا تكتب شيئاً. أحياناً تذهب متكاسلاً الى الطاولة فتفاجأ بأن الإلهام موجود فيك فتنكب على الكتابة. بعض الكتاب كانوا يترددون حيال الإلهام، إن كان موجوداً أم لا. ولكن إذا كان هناك إلهام فعلينا أن نعرف كيف ننتظره فهو لا يأتي وحده. علينا أن نتعاون معه مثلما نتعاون مع الغامض والمجهول ليتضح شيء ما.

* وماذا عن البيت الأول الذي يتحدث عنه فاليري!

البيت الأول، من خلال تجربتي يكون أقل أهمية من السطور الأخرى. الشعر يبدأ من اللاشعر. والطريق الى القصيدة تكون متعثرة في البداية. وشخصياً ليس لدي بيت أول مهم لأن لا أبيات شعرية لدي أصلاً. القصيدة تتوالد وتتصاعد تدريجاً. وأحياناً قد يكون الإلهام الشعري سيئاً لكنه يعطيك نتيجة حسنة. ليس من مشكلة. وأسأل من جديد ما معنى الإلهام: الإلهام يقول لك: اجلس واعمل، اشتغل ويذهب. انه يحضّرك شعرياً، يغسلك داخلياً أو يوترك داخلياً أو يقيم توازناً بين الحرارة والبرودة، والبقية عليك، كشاعر، فأنت تعتمد على نفسك وعلى خبرتك وعلى طريقة العثور على نصك الخاص بك الذي يحمل ذاكرة كتاباتك كلها. فالورقة البيضاء أمامك هي مملوءة بالكتابات السابقة، كتاباتك. وأتذكر قولاً لإليوت مفاده أن النضج الأدبي هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعري أسلافاً.

* حتى في القصائد التي تنطلق من موضوع معين أو واقعة معينة؟ مثلاً قصيدتك في ذكرى السياب أو قصيدتك عن محمد الدرّة أو عن ادوارد سعيد! كان هناك موضوع هو حافزك على الكتابة؟ هل هي الطريقة نفسها في الكتابة؟ أي ان الموضوع سابق للقصيدة؟

هناك شعر يخلق موضوعه. ولكن عندما تكتب تذهب وفي ذهنك شيء غير محدد تماماً ولكنه مسمّى. هناك اسم لما تريد ان تكتبه، فأنت ستكتب شعراً في النهاية. وما تكتبه من مواقف وأفكار لا يعرّف بموضوعك بل بطريقة تعبيرك عن هذا الموضوع. هناك قصائد لا موضوع لها، أو ان موضوعها قائم في ذاتها وهي حافلة بالتوتر اللغوي، باللعب اللغوي أو بتمرّد اللغة عليك، أو محاولة سيطرتك على اللغة. المشكلة أن الشاعر يظن انه يقود اللغة. ليس هذا صحيحاً. اللغة أشدّ سيطرة على الشاعر لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتاريخها وتراثها. ما يقدر أن يفعله الشاعر هو أن يعيد الحياة الى لغة أصبحت مألوفة وعادية. وكما يقول هيدغر الشاعر هو وسيلة اللغة وليست اللغة هي وسيلة الشاعر.

* هل تعاني من مأزق الورقة البيضاء، هذا المأزق الذي يتحدث عنه كثيرون من الشعراء؟

عندما تكتب تذهب الى مصيرك وحدك، من دون معاونة أحد. وإذا وجدت من يعاونك فهو يلغيك من شدة حضوره. في كل شاعر آلاف من الشعراء. ليس هناك من شاعر يبدأ من الفراغ أو البياض، قد ينتهي الشاعر في البياض. فالبياض لون غير موجود في الكتابة. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث. ثم ان الشاعر يخاف من قراءاته، أن يقفز منها شيء الى نصه في طريقة لا واعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه. وأعتقد ان ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم ولكن من دون أن يخفي ملامحه، أي مثل الحفيد الذي يحمل ملامح جدّه من دون أن تختفي ملامحه الخاصة. السؤال الصعب المطروح على كل شاعر هو: في أي جهة من الورقة البيضاء تستطيع أن تضيف جديداً؟ هذه هي الصعوبة. ولذلك الشعر الحقيقي قليل ونادر.

* عندما أقرأ قصائدك لا أشعر بأن لديك أزمة في الكتابة أو في التعبير! فمعجمك الشعري واسع جداً مما يدل على انك تتخطى أزمة "الورقة البيضاء". شعرك سيّال ومتدفق! من أين يأتي هذا الاتساع الشعري أو الرحابة وهذا السطوع؟ هل من المراس الشعري أم من التجربة الداخلية؟

أولاً أشكرك على هذا الرأي وهو رأي نقدي أعتز به كثيراً. لماذا؟ لأن أزمتي لا تظهر في قصيدتي، بل في ما قبل القصيدة. أزمتي هي مع ماضي القصيدة. في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا. ولو كان الشعر في هذه السهولة لما كان الورق الأبيض يتسع للقصائد. لا. على الشاعر أن يخفي معاناته وأن يبدو وكأن قصيدته كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. أتذكّر ما يقول الشاعر الألماني ريلكه في هذا الصدد: إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة ورأيت أشياء كثيرة وقطفت زهوراً كثيرة. فالقصيدة هي خلاصة كل هذه المعاناة والتجربة.

المعجم الشعري

* ولكن من أن تأتي رحابة معجمك الشعري؟ ثمة شعراء كبار في العالم معجمهم ضيق؟

كان خوفي أن يكون معجمي الشعري أخطر من ذلك. كنت أخاف فعلاً. فأنا ألاحظ مثلاً أن بعض الشعراء العرب المهمين لديهم معجم شعري فقير. ولا أريد أن أسمي أحداً هنا.

* أنا أسمي سعيد عقل مثلاً، هو الشاعر الكبير معجمه محدود.

لن أسمي أحداً. ربما عوالمي المتناقضة التي أشعر بها من حولي، لكل منها معجم مختلف عن الآخر. يعني انني أضع السماوي الى جانب الأرضي، الميتافيزيقي الى جانب المادي...

* والأروسي مع الصوفي...!

أحب هذه العلاقات القائمة بين المتناقضات وهي تحتاج الى لغة تحمل هذا التوتر. ولا أخفيك انني أقرأ كثيراً. وربما للمرة الأولى أفصح عن أمر في حياتي: لديّ رياضة يومية، أفتح "لسان العرب" كل صباح في طريقة عشوائية وأقرأ عن كلمة ما وعن تاريخها وأصلها وعن الاشتقاقات التي خرجت منها. واكتشف دائماً انني لا أكتب العربية جيداً.

* وربما هنا قوتك.

الاعتراف بالجهل يعلّم. أحسن معلّم أو أحسن حافز على التعلّم هو أن تعرف انك جاهل.

* شعرك لا يعبّر عن كونك شاعر فصاحة وبلاغة وشاعر معاجم...!

أحاول أن أبسّط لغتي وأطرد منها المفردات الميتة، ولكن لديّ تمارين دائمة على فهم اللغة في طريقة أفضل.

* هل تقرأ الروايات مثلاً؟

طبعاً.

* هل تقرأ الشعر، أنت الذي تدعو الشاعر الى عدم الإكثار من قراءة الشعر؟

أعتقد أنها نصيحة جيدة في عمر معيّن. لأن الشعر مثل أي شيء جميل يصيب بما يشبه الإشباع أو التخمة. لا أحد يقدر على أن يأكل كيلو عسل. يقع في الاشمئزاز. الشعر مكثف كثيراً حتى إن الذائقة المتلقية لا تستطيع أن تستوعبه. وبالتالي فإن القليل منه هو الذي يجعله يأخذ مكانه أو وظيفته الحقيقية. ولكن في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع وتسلس له اللغة ويربّي السليقة لديه فالسليقة إذا صقلت تساعد الشاعر على التخلص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود الى فعل السليقة المهذبة. إنني أقرأ كتب التاريخ كثيراً، أقرأ الكتب الفكرية والفلسفية وبعض الكتب التي لا علاقة لها بالشعر مثل "تاريخ القراصنة" أو "تاريخ الملح". أحب أن أنوّع قراءاتي خصوصاً في حقل الجغرافيا والبحار والبلدان.

* هل تشاهد السينما والمسرح؟

نعم، طبعاً.

* هل هما من مصادرك الشعرية؟

السينما من مصادري البصرية نعم. لكنها مصدر غير واضح كثيراً. لكنني أعترف إنني عاشق كبير للرواية.

* هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل الكثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟

مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتصّ الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها الى أقصى الحدود. والجميل في الرواية أنها غير عرضة للأزمات، ذلك ان في كل كائن بشري رواية. وهذا ما يكفي لملايين السنين، وليس على الروائي إلا أن يستوحي التجارب. لم أفكر في كتابة الرواية لأنني لا أستطيع أن أضمن النتائج. والرواية تحتاج الى جهد وصبر هما غير متوافرين فيّ. هناك شعراء كثيرون أتقنوا الشعر والرواية. وبعضهم سطت روايتهم على شعرهم وبعضهم سطا شعرهم على روايتهم فغدت رواية متشعرنة، فيما يجب أن تتوافر في الرواية لغة السرد ومنطق الشخصيات وسواهما. إنني أحب الرواية ـ الحكاية. رواية اللارواية لا أحبها كثيراً وأعدّها عبارة عن ثرثرة لغوية. قد تكون جميلة لكنها ليست من النوع الروائي الذي أحبه. قرأت أخيراً رواية أدهشتني هي "عمارة يعقوبيان" للكاتب المصري علاء الاسواني، وما أدهشني في هذه الرواية إنها لا تحتاج الى كتابة ولا الى لغة أدبية، وقوة التجربة الإنسانية فيها أغنتها عن اللغة.

* ما رأيك بمقولة ان المستقبل هو للرواية وليس للشعر؟ وأن الزمن الآن هو زمن الرواية؟

أود أن أذكرك انه كان ذات مرة زمن للقصة القصيرة. والقصة هذه لها مواسم. أحياناً تزدهر وأحياناً تنطفئ وتغيب. الرواية هي كتابة جديدة في معنى ما، فالشعر سبقها بآلاف السنين. وقد تغري بالقول ان الزمن الآن هو زمنها وأنها أصبحت "ديوان العرب" كما يقال. شخصياً لا أحب هذا الاشتباك بين الكتابتين. الرواية لها عالمها والشعر عالمه. وفي بعض المجتمعات الرواية متطورة أكثر من الشعر وفي مجتمعات أخرى الشعر متطور أكثر من الرواية. لا أحد يستطيع أن يرسم صورة المستقبل أو أن يحتكرها. وأعتقد ان المستقبل هو للشعر كما هو للرواية.

* ولكن هل تعتقد ان الشعر قادر على ان يعبّر عن كل ما يجيش في نفسك وما يدور في رأسك من أفكار؟

هناك شعراء يقولون ان اللغة لا تتسع لهم وأنهم أكبر من اللغة. وجموح الشعراء الى إصدار مقولات كبيرة قد يكون مقبولاً. هل سمح لي الشعر أن أقول كل ما أريد أن أقول؟ ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي. بل هو: هل أستطيع أن أقول أكثر مما قلت؟ هذا ما يؤرقني. ولكن لا أحد يستطيع أن يكتب كل ما في داخله. هناك أدباء كتبوا أكثر مما في قدرتهم، أي انّ كلماتهم أكبر من عالمهم الداخلي ومن تجربتهم الحياتية والإنسانية. شخصياً لا أشكو من هذا الأمر. وأعتقد انني قادر على قول ما أشعر به وما أحلم به وما هو غامض في أشكاله المختلفة. ولكن في نهاية الأمر قد يكون من الصحيح ان الشاعر يقول شيئاً واحداً وأن الروائي يقول شيئاً واحداً. ولكن ما هو هذا الشيء؟ يكتب الشاعر ليصل الى هذا الشيء، ليكتشف ما يريد أن يقوله.

النثر الصوفي أهم من الشعر الصوفي

* مادمنا تحدثنا عن الصوفية، أعترف انني أحس ان لديك نزعة صوفية محفوفة ببعد ميتافيزيقي وخصوصاً في قصيدتك الطويلة "جدارية" التي اختبرت فيها تجربة الموت؟ ماذا يعني لك الشعر الصوفي؟ هل تقرأه؟

قرأت الأدب الصوفي وأقرأه. وملاحظتي أن ليس الشعر هو أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. أنظر الى الصوفية نظرة فكرية أو فلسفية، أنظر إليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب الى الأقصى ومحاولة اتصال مختلفة بالكون ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثْرت قصيدة النثر نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل النفري والبسطامي والسهروردي وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر الى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب الى ما ذهب هؤلاء اليه. هذا هو الجانب الإبداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعوذة والسحر.

* ما رأيك بالشعراء الذين يستعينون بالمصطلحات الصوفية القديمة ليكتبوا شعراً صوفياً حديثاً؟

أنا شخصياً غير مهتم بهذه المسألة. ولا أعتقد أن في عصرنا الحديث والصاخب هذا هناك مكان للشعر الصوفي.

* والصوفية الجديدة التي لا علاقة لها بالمصطلحات القديمة؟

الصوفية الحديثة هذه هي شكل من أشكال التمرّد على طبيعة الحياة المعاصرة وعلى تشيّؤ الإنسان وابتعاده عن السؤال الروحي والديني. وما نقرأه في الشعر هو ترصيع لبعض المصطلحات الصوفية الخارجة عن سياقها.

* وماذا عن البعد الميتافيزيقي الكامن في شعرك؟

لعل سؤال الموت في شعري شديد الصلة بالبعد الميتافيزيقي. هناك نظرتان الى الموت: نظرة دينية تقول ان الموت هو انتقال من الزائل الى الخالد، ومن الفاني الى الباقي، ومن الدنيا الى الآخرة. وهناك نظرة أخرى أو فلسفية تعتبره نوعاً من الصيرورة، وترى ان الحياة والموت مترافقان في جدلية أرضية. أحياناً أكتب عن الموت ولكن من دون أن أتعمق كثيراً في السؤال الى أقصى حدوده. فالذهاب في السؤال الى أقصاه هو أمر مملوء بالألغام التي لا أستطيع أن أنزعها ولا أن أفجرها. في "جدارية" كتبت عن تجربة شخصية، كانت مناسبة لي للذهاب في سؤال الموت، منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة جلجامش التي تحدثت أيضاً عن الخلود والحياة. هذه التجربة كانت لي إطارا صالحاً للسرد أو لما يشبه السيرة الذاتية. ففي لحظة الموت تمر حياتك أمامك وكأنها في شريط سريع. انني عشت هذا ورأيته. كل الرؤى التي كتبتها في القصيدة كانت حقيقية: المعرّي ولقاء هيدغر ورينيه شار... رأيت الكثير ولم أكتب كل شيء. لكنني لاحظت ان القصيدة كانت مشدودة الى سؤال الحياة أكثر من سؤال الموت. والقصيدة في الختام كانت نشيداً للحياة. أهم عبرة استخلصتها من هذه المسألة ان الحياة معطى جميل، هدية جميلة، كرم إلهي غير محدود، وعلينا أن نحياها في كل دقيقة. أما سؤال الخلود فلا جواب عليه منذ ملحمة غلغامش حتى اليوم. هناك جواب ديني ولكن كشاعر لا أحب أن أدخل في الجدال الديني. الإنسان يؤمن بما يعرف وبما لا يعرف. بل هو مشدود الى الإيمان بما لا يعرف، وأهم أمر في الصراع بين الحياة والموت أن ننحاز الى الحياة.

* ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من "نشيد الأناشيد"، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان "سرير الغريبة" وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟

في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة إنسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد.

* والمزامير؟

بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية.

* هل التوراة مصدر من مصادرك؟

لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية.

* هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟

أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و "نشيد الأناشيد" يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية.

* هل يمكن الكلام برأيك عن حداثة محمود درويش، هذه الحداثة الممكن وصفها بـ "الحداثة الاستخلاصية" التي تتآلف فيها مدارس عدة ولكنها تبدو كأنها بلا مدرسة أو كأنها مدرسة بنفسها؟ حداثة خاصة خارج حداثة مجلة "شعر" وسائر الحداثات الأخرى؟

يبدو لي انك تفهم حداثتي أكثر مني. سؤال الحداثة سؤال محيّر. وأن تُحصر الحداثة في الحداثة الشعرية، فهذا يعني ان لا حداثة أخرى في المجتمع العربي. ومن مآزق الحداثة العربية أنها متحققة في الشعر وربما في مراكز الشرطة أو الأمن. حاولت الحداثة الشعرية ان تقوم مقام الحداثة الفكرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية، أي أنها حمّلت نفسها مهمات لا تستطيع فعلاً أن تتحملها. اطلعت طبعاً على مفاهيم الحداثة بعدما جئت الى العالم العربي هاجراً فلسطين. قبل ذلك لم أكن قد اطلعت على تلك المفاهيم. ففي فلسطين المحتلة كنت أعيش في ظروف صعبة وكنت أطلع على الشعر العربي والعالمي من دون أن يكون سؤال الحداثة ملحاً عليّ مثلما كان ملحاً على الشعراء العرب. كان لدينا حينذاك سؤال المقاومة الثقافية، سؤال الهوية، وكان علينا أن نصونها من الذوبان. كيف ندافع عن حقنا في الوجود؟ كيف نزيل الإشكالية بين الجنسية والهوية؟ كيف يقوم الشعر في تغيير ما، أو هل يستطيع الشعر أن يغيّر؟ كانت الأسئلة بعيدة الى حد ما عن انشغال الساحة بأسئلة الحداثة. وأنا نشأت في هذا الجو وكتبت فيه. وعندما خرجت الى العالم العربي كنت الى حد ما معروفاً، وكنت أسمّى شاعر المقاومة وشاعر الأرض المحتلة... لكن اصطدامي بسؤال الحداثة والتجارب الشعرية الحديثة جاء متأخراً. ولا أعرف ان كنت وضعت داخل الحداثة العربية أم ما زلت خارجها. لا أعرف.

* وما رأيك بما يقوله بعضهم عن "حداثة" محمود درويش؟

أنا لست جزءاً من مدرسة، ولست طالباً لمعلم معين وهذا عيب. كنت أتمنى أن يكون لي معلم شعري، فهو كان ليوفر عليّ ربما أعباء تعليمية كثيرة. كنت شديد الإصغاء والتأمل والتأثر حيال سؤال الحداثة الشعرية العربية. لكنني لم أتخلّ عن ربط الحداثة بمشروع تحرري، أي ان نتمكن من تحرير المجتمع بالقصيدة الحديثة. أو ان على الحداثة الحقيقية أن تكون منظومة أفكار تشمل كل مستويات المجتمع وليس الشعر وحده. ولكن بما أن الشعر هو حقل عملنا ولا إمكان آخر لنا، فليكن ذلك. ولنعش هذا الوهم الجميل. وما زلت أرى أن لا حداثة شعرية عربية حقيقية خارج جماليات الشعر العربي. فهذه الجماليات يجب على الحداثة العربية أن ترتكز إليها لتتميز عالمياً. لم أدخل في أفق التنظير ولم أسع الى أن أكون حديثاً أم غير حديث، ولكن أعتقد ان قصيدتي حديثة. و في أي معنى هي حديثة؟ أي أنها تصغي الى إيقاع الزمن الجديد وتجري تحولات في العلاقة بين الكلمات والأشياء وتحاول أن تبقي اللغة حية وتعيد الى هذه اللغة حياتها باستمرار، وأن تطوّر أدواتها من خلال علاقة هذه الأدوات بما كنا نسميه الدور الذي تلعبه القصيدة الحديثة في الذائقة الشعرية وفي مشروع التحرر.

***

محمود درويش: أمي هي أمي وأنا ابنها المفضّل لأنني الغائب وسيرتي الذاتية كتبتها شعراً

نشرت في مجلة "شعر" بضع قصائد...

ـ أنا لم أنشر، المجلة أخذت القصائد من صحافة الداخل الفلسطيني. ولعلها المرة الوحيدة التي نشرت لي قصائد في "شعر".

كيف تنظر الى مجلة "شعر"؟

ـ لا شك في أن مجلة "شعر" كان لها دورها وكانت لها أوهامها أيضاً. ومن أوهامها أنها احتكرت مفهوم الحداثة الشعرية وحاولت ان تقصي التجارب الأخرى خارج "جنة" الحداثة، إذا جاز التعبير. وأعتقد بأن مجلة "شعر" مثلت تياراً من تيارات الشعر العربي الحديث وليس كل الشعر العربي الحديث. ومن عيوب التعامل مع هذه الظاهرة ان هناك دراسات جامعية تدرس الشعر الحديث من خلال مجلة "شعر" فقط. ويجب ألا ننسى أنّ كان هناك مجلة "الآداب" وكان هناك الشعر العراقي والشعر المصري... وهذه تيارات أساسية في الشعر العربي الجديد. ليس كل شعراء مجلة "شعر" استطاعوا أن يُكرِّسوا أو أن يحققوا مكانة شعرية كبيرة. هناك بضعة شعراء فقط.

كانت مجلة شعراء أكثر مما كانت مجلة منفردة بذاتها أو مجلة تيار واحد!

ـ حاولت أن تكون مجلة تيار وانشغل بعض شعرائها بالتنظير الزائد عن اللزوم أحياناً. إنها مثل أي حركة شعرية، خرج منها في نهاية الأمر بضعة شعراء مهمّين.

والمعركة الفكرية الإحداثية التي خاضتها هذه المجلة هل عنت لك شيئاً؟

ـ إنني اطلعت على المجلة متأخراً أي بعدما خرجت من فلسطين وكانت قد توقفت عن الصدور. وكانت المعركة التي أعلنتها قد انتهت، خصوصاً بينها وبين مجلة "الآداب". إلا أن المعركة الشعرية الحداثية مستمرة حتى الآن ولكن عبر أدوات أخرى: هل الشعر يعرّف بما يقوله أي بموضوعه أم في كيفية ما يقول؟ هل للشعر دور ما؟ هل يجب أن يكون على علاقة بالقارئ أم لا؟ وما هي العلاقة بين المتلقي والشاعر؟ هل الذات الكاتبة هي وحدها في العملية الشعرية أم ان ثمة ما يشاركها، كاللغة مثلاً؟ مثل هذه الأسئلة ما زال مستمراً حتى الآن. هل عزلة الشعر هي مقياس من مقاييس جودة الشعر؟ ذيول المعركة ما زالت قائمة حتى يومنا. وأعتقد ان من الجميل أن يكون هناك تيارات، عوض أن يكون هناك تيار واحد متسلّط على الساحة الشعرية.

لكن "شعر" لعبت الدور الرئيس في ترسيخ القصيدة الحديثة!

ـ لمَ لا؟ لكن "الآداب" لعبت مثل هذا الدور أيضاً.

لكن "شعر" حصرت مشروعها في الشعر بينما "الآداب" كان مشروعها أدبياً ورفضت قصيدة النثر؟

ـ أنا لم أطلع على المشهد عندما كان قائماً. جئت متأخراً، ذلك انني خرجت في العام 1971. وكانت وقعت هزيمة 1967 التي غيّرت مفاهيم مجلة "شعر" نفسها.

"مواقف"

"مواقف" مجلة الشاعر أدونيس هل تابعتها حينذاك؟

ـ صدرت "مواقف" عندما كنت في بيروت وكنت في مرحلة من أسرة تحريرها.

كيف ترى الى "مواقف" لا سيما في تلك الفترة؟

ـ مجلة "مواقف" أضافت بدورها. وحاولت أن تقيم علاقة بين الإبداع والفكر والثورة والتغيير، بين الإبداع والحرية. كانت "مواقف" تمثل حالاً من القطيعة مع مجلة "شعر"، لكنها قطيعة تطويرية. واتجهت نحو السؤال الفكري ولم تكن مجلة إبداعية فقط.

لماذا انسحبت من أسرة تحريرها؟

ـ لم أنسحب لخلاف أو سواه، ولكن كان عندي مجلة "شؤون فلسطينية" ثم أصدرت "الكرمل" في العام 1981.

الإشكال الذي أثاره تصريحك قبل فترة حول شعر الحداثة كيف توضحه، خصوصاً بعدما ترك التباساً أو سوء فهم؟

ـ أولاً لم أتعرّض للشعر الجديد وشعر الحداثة. سئلت في تونس في لقاء صحافي كبير جداً، عن أزمة العلاقة بين المتلقي والشعر الجديد. وقلت إن هناك أزمة فعلاً لأن بعض الشعراء يستمرئون عزلتهم ويضعونها هدفاً، من غير أن تكون نتيجة طبيعية لتطور ما في نص شعري جديد على الذائقة. هناك شعراء يقيسون جمالية شعرهم بمدى عزلتهم عن القارئ. وهناك سبب آخر وهو أن القارئ لا يريد أن يقترب من شعر يرفضه كمتلقٍ. وأنت تعرف أن الشاعر ليس وحيداً في الكتابة، إنه طرف في المعادلة الشعرية، هناك الشاعر، هناك اللغة التي تفرض نفسها على الشاعر، وهناك طرف ثالث لا يتم الفعل الإبداعي من دونه وهو القارئ. هذا الثلاثي هو الذي يساهم في تطوير الفعل الشعري وفي تحقق القصيدة. وهذا التحقق لا يتم إلا من خلال تفاعل ما، بين القارئ والشاعر. لم أتعرّض لأحد ولا أحب أصلاً التعرض لأحد. كل شاعر حر. وأردد دوماً أن على السجال الشعري اللامجدي أن ينتهي. قصيدة النثر هي خيار شعري مكرّس وفيها أعمال إبداعية جميلة جداً. ويجب أن ننظر الى الشعر في كل خياراته، العمودي والتفعيلي والنثري، والى مدى تحقق الشعرية في القصيدة. هذه نظرتي العامة ولا يمكنني أن أكون تقليدياً أو رجعياً، الى حد أن أرفض أي إضافة أو أي اقتراح شعري جديد.

هل تقرأ الشعراء الجدد والشباب؟

ـ أقرأهم دوماً وأتعلّم منهم وأراقب دوماً التوجهات الجديدة في علاقة الشعراء باللغة والنص والبناء والإيقاع، لكي أستوعب إيقاع العصر الجديد. قد أكون هرمت من دون أن أدري. قد أكون تحولت الى تقليدي من دون أن أعلم. تجارب الشعراء الجدد ولو لم تكن ناضجة، تلفت نظري الى مسارات جديدة عليّ أن أنتبه لها وأن استفيد منها إذا كانت قادرة على إمداد النص الشعري بدم جديد وحياة جديدة. ولكن لنعترف، هناك فوضى، سواء في الشعر العمودي أم التفعيلي أو النثري، هناك فوضى. وهذا طبيعي، لأن لا رقابة على النشر، وأقصد بالرقابة الرقابة الأدبية والإبداعية التي تضع معايير وتحدد للقارئ، مفاتيح ما هو شعري وما ليس شعرياً. سهولة النشر كبيرة جداً وكل الصحف العربية فيها صفحات ثقافية يجب أن تمتلئ بما توافر، والمحررون يكونون أحياناً في مستوى لا يؤهلهم لتقويم الشعر. لذلك تعمّ الفوضى، وهي ليست من سمات عصرنا، ففي كل العصور كان هنا فوضى. لكنّ صعوبة النظم كانت تحول الى حد ما دون استتباب الفوضى. فالنظم يتطلب أدوات عروضية ولغوية قوية وقد يكون مجرد نظم خالٍ من الشعر.

مَن يتحمل مسؤولية هذا الفلتان الشعري؟

ـ الفوضى النظرية التي عرّفت الحداثة بها، كل شيء غير منضبط في شكل، يستطيع أن يدّعي شاعره أنه ينتمي الى الحداثة. والآن عندنا تسمية جديدة هي ما بعد الحداثة. ونحن ما زلنا نعيش في عصر ما قبل الحداثة.

لكن الشاعر الفرنسي لو تريامون يقول إن على الشعر ان يكتبه الجميع!

ـ أعتقد أن كل كائن بشري يحاول أن يكتب شعراً. والفرق ان هذا الشعر لم تُتح له فرصة النشر، أو ربما فرصة التكوّن. وكما تعرف في فترة المراهقة يكتب المرء ما يشبه الخواطر ويقلّد بعض الأدباء. وهذه الكتابات غالباً ما تكون شخصية. يجب أن يكتب كل الناس، كما قال لوتريامون، لكي يخرج من هؤلاء شعراء وروائيون وكتّاب...

لا تزال تصرّ على "صدمة" جمهورك، وما زال هذا الجمهور يتابعك في أمسياتك الشعرية. كيف تنظر الى هذا الجمهور والى "الصدمة" التي تحدثها فيه عندما تقرأ له قصائدك الجديدة التي تختلف عن القصائد الأولى التي يميل إليها عادة؟

ـ لا أعرف ان كان الجمهور يميل الى القصائد الأولى حقاً. لم يعد الجمهور يطالبني كما في السابق بأن أقرأ ما في ذاكرته من شعري. وهذا حسن. واستطعت أن أجد ما يشبه الثقة المتبادلة بيني وبين القراء. إنني لا أحب كلمة جمهور. لنقل المتلقي أو القارئ. فالجمهور ليس كتلة واحدة متجانسة. وأنا لا أستطيع أن أتكلم عن الجمهور بطلاقة، لأنني سأرتكب أخطاء كثيرة. ثم من هو الجمهور؟ قد يكون مجموعة من الشعراء والمثقفين، قد يكون من سائقي التاكسي أو ربات البيوت أو الطلاب، وقد يكون لكل مجموعة الحق في أن تقيم علاقة مع الشعر. المشكلة عندنا ان القارئ العربي يشعر بأن من حقه أن يتدخل في تحديد مفهوم الشعر. وكل قضية من هذا النوع تتحول قضية عامة قد يهددها خطر التبسيط، لئلا أقول الابتذال. إنني أواكب قرائي مثلما هم يواكبونني وهم يتطورون ويتغيرون. وأكثر ما يسعدني في هذا الوقت، انني أفاجأ أينما ذهبت بأن الذين يحضرون الأمسيات الشعرية هم في ما يقارب التسعين في المئة من الجيل الجديد ومن الشباب في العشرينات. وهذا يعني أن قرائي الذين يحبون قصيدة "سجل أنا عربي" رحلوا وتركوني أو أنهم اكتفوا بذلك. إذاً اقتراحي الشعري هو أن من حق الشاعر أن يواصل تطوير لغته وأن يحميها من التكرار والإرهاق. حتى اللغة الشعرية تصاب بالإرهاق، وعلى الشاعر أن يجدد صورها واستعاراتها. هناك إذاً علاقة تتجدد مع تجدد الذائقة والعصر والزمن. هناك ثقة متبادلة، وإذا حقق الشاعر الثقة مع قرائه فقراؤه يعطونه الحرية في أن يطور نفسه كما يشاء. وإذا لم يكن هناك من ثقة أو إن كان ثمة جدار بين الشاعر والقراء، فالأمر يصبح قيداً ثقيلاً. بعض الشعراء يستهزئون بهذا القارئ وبعضهم يقدمون له تنازلات ويسمعونه ما يريد أن يسمع، ويكتبون له ما يريد أن يقرأ.

شعراء البدايات

أي شعراء تركوا فيك أثراً شعرياً منذ البدايات؟

ـ أوه...

مَن كنت تقرأ عندما كنت في فلسطين؟

ـ لم يكن عندي شاعر واحد أتعلّم عليه. كانت الكتب المتوافرة عندنا في الداخل هي ما تبقى من مرحلة الانتداب البريطاني. كنا في حالة حصار ثقافي حقيقي. كنت أعرف السياب جيداً والبياتي وكنت أقرأ نزار قباني أيضاً، وهو كان حاضراً في مراهقتي الشعرية. قرأت في تلك الفترة "الداخلية" غارثيا لوركا وبابلو نيرودا وتأثرت بهما وخصوصاً لوركا. كان المتاح لنا من الشعر العربي الحديث قليلاً. فيما الشعر الكلاسيكي العربي متوافر وكذلك الشعر المهجري، وكنت أميل الى غنائية هذا الشعر والى بساطته. وفي الشعر المصري اطلعت على بعض أعمال صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. أدونيس لم يكن معروفاً في الداخل ولم يكن شعره وصل إلينا. القصيدة الأولى التي قرأتها لأدونيس كانت في العام 1968 على ما أعتقد، وكانت فدوى طوقان تزورنا في حيفا ومعها مجلة فيها قصيدة لأدونيس، لم أعد أذكر ان كانت "هذا هو إسمي" وأعجبتني كثيراً. ولكن لم يكن لأدونيس حضور في فلسطين، في تلك المرحلة كما الآن. مصادرنا الأخرى كنا نقتبسها من الصحافة مثل "الاتحاد" و "الجديد" في حيفا.

كتبت أنت في الصحافة حينذاك!

ـ كنت رئيس تحرير مجلة "الجديد" ومحرراً في جريدة "الاتحاد" وكنت أكتب افتتاحيات ومقالات سياسية. دخلت عالم الصحافة باكراً، في العشرين من عمري وأقل. وكانت خياراتنا الأدبية خاضعة لاعتبارات يسارية.

كنت في الحزب الشيوعي الإسرائيلي!

ـ نعم.

من هم الشعراء الذين تفضلهم الآن وتقرأهم؟

ـ هناك شعراء أجانب كثيرون أقرأهم. والأكثر قرباً هو ديريك والكت. في السنوات الأخيرة كان والكت شاعري المفضل في اللغة الانكليزية. وربما هو أفضل من يكتب في هذه اللغة الآن. وهناك شيموس هيني. أعجبت كثيراً بالشاعر البولندي ميلوش وبالشاعرة تشمبرسكا. وكذلك أنا شديد الإعجاب بالشاعر اليوناني ريتسوس، وكنت على صداقة معه. فرنسياً إنني شديد الإعجاب بسان جون بيرس ولويس أراغون ورينه شار... وهؤلاء أقرأهم مترجمين الى الانكليزية أو العربية، ففرنسيتي لا تسمح لي بأن أحتك بنصوصهم في اللغة الأم. وفي الشعر الأميركي اللاتيني شاعري المفضل هو بابلو نيرودا. وفي الشعر الإيطالي أحب أوجينيو مونتالي شاعراً وناقداً. المشهد الشعري عالمياً في النصف الثاني من القرن العشرين، أو في القرن العشرين كله، كان من أغنى المشاهد الشعرية في التاريخ. أحب أيضاً الشاعر اليوناني جورج سيفيريس وكذلك الشاعر اليوناني إيليتس.

وما قصتك مع المتنبي؟

ـ المتنبي، على الاختلاف الكبير معه حول نزعته الى السلطة ومدائحه وهجاءاته، أعتبر انه يلخص الشعر العربي الكلاسيكي. واذا أردنا أن نقرأ الشعر العربي كله مجازاً في شاعر واحد نقرأه في المتنبي. ثم إذا أردنا أن نقرأ الشعر المختلف عن شعر المتنبي نقرأ أبا العلاء المعري.

وأبو تمام أين تضعه؟

ـ أبو تمام، مشروعه التحديثي (بين قوسين) هو الذي سمح للحركة الشعرية العربية أن تتجدد. طبعاً هو من الشعراء الكبار، لكنه شديد التقعّر ومشغول بنحت الكلمات وخلق الصور الغامضة.

وأبو نواس أليس هو من أوائل الشعراء "المدنيين"؟

ـ طبعاً طبعاً، أبو نواس نقل الشعر من البداوة الى المدنية. العصر العباسي هو العصر الذهبي للشعر العربي الكلاسيكي، ولكن في موازاة الشعر الجاهلي.

ألا تعتقد ان المتنبي في "الأنا" المتضخمة عنده والنرجسية ترك أثراً سلبياً في الشعر العربي؟ كأن يقول: "أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...". من هو هذا الشاعر الذي يجرؤ أن يقول إن الأعمى قرأ أدبه؟ ما هذه المغالاة؟ ما هذا الاعتداد؟

ـ قد تصلح شخصية المتنبي وتناقضاته لكتابة مسرحية عنه. ربما هذه الجوانب سلبية لديه ولكن ما يعنيني في المتنبي هو شعره. لا شك في أن شعره يتمتع بجزالة رهيبة وفيه تختلط الحكمة مع العاطفة المتأججة. وهو يضع علامات لا يمكن أن تخطئها العين ولا الأذن. أنت تعرف المتنبي من غير أن يوقع قصيدته. وقدرته على أن يخلق سلطاناً شعرياً في هذا المستوى، لا نستطيع أن نمرّ بها مروراً محايداً.

لكنّ هذا لا ينطبق على كل شعره.

ـ ليس من شاعر كل شعره جميل. وعندما أقرأ مدائحه وهجائياته أنسى الممدوح والمهجو وتطربني الجزالة الشعرية والبلاغة. القوة الداخلية لدى المتنبي حجبت عني أخلاقيته. أما انه ورّث "الأنا" المتضخمة الى غيره فإن "الأنا" لا تورّث. هناك شعراء آخرون متضخمون وفي كل العصور.

ومشروع "التنبؤ" لديه!

ـ هذا المشروع ليس مشروع المتنبي وحده. العصر الرومانسي شهد مثل هذا المشروع، بل ان الرومانسية نفسها تقوم على هذا المشروع الرؤيوي ولا سيما الرومانسية الألمانية.

ولكن هناك فرق بين الرؤيا والادعاء؟

ـ هذه الظاهرة موجودة عبر العصور حتى في عصرنا الحديث. وعلى الشاعر في عصرنا أنني خفف من دلالات فهمه لدوره. الشعر الآن يهتم بالهامشي أكثر مما يهتم بالقضايا الكبيرة. فكرة البطولة أو الفرادة ألغتها الحداثة الشعرية أصلاً. وأكرر ان هذا المشروع لا أعتقد انه من ميراث المتنبي. هذه خصائص بشرية. عندما تريد وصف وضع ما، في شكل تلقائي تلجأ الى الاستشهاد ببيت للمتنبي. وإن قلت ان المتنبي أكثر حداثة وحياة منا جميعاً فإنما قلت هذا من قبيل المجاز. وقامت عليّ القيامة لأن البعض أخرج كلامي من سياقه.

أعود الى مسألة الريادة في الشعر العربي الحديث! ماذا تعني لك مقولة الرواد؟ هل ما زالت هذه المقولة مستمرة أم أنها باتت مرتبطة بزمن معين؟

ـ أعترف بأني لا أستطيع أن أقرأ شعر معظم الرواد. وشعر هؤلاء يحتاج الى قراءة نقدية جديدة والى غربلة. وأهمية الرواد هي أهمية تاريخية، فهم شكلوا بشعرهم أو بأسمائهم نقطة انعطاف أو تمرد على القصيدة الكلاسيكية عبر خلق كلاسيكية تفعيلية جديدة. أي انهم تمردوا على التقليدية بما يمكن أن أسميه تقليدية أخرى. أنا لا أستطيع أن أقرأهم. انهم يحتاجون الى إعادة نظر، ولكن هذا لا يعني انني أخفف من أهمية دورهم التاريخي. الجامعات العربية وللأسف الشديد، لا تعرف مرحلة ما بعد الرواد. وكل جيل ما بعد الرواد غير مقروء جيداً، نقدياً وأكاديمياً. فجيل الرواد احتل مفهوم حداثة الشعر العربية، وأغلق الباب في وجه من أتى بعده. كل هذه المسألة تحتاج الى قراءة جديدة وإعادة نظر. أين تضع سعدي يوسف هذا الشاعر الكبير؟ فلا هو مع الرواد ولا مع جيل الستينات أو السبعينات؟ أين تضعه؟

وأنت أليس أمرك هو نفسه؟

ـ إذا كنت أنا شاعراً مهماً فأين تضعني؟ إذاً الريادة يجب ألا تقف عند مرحلة تاريخية وتتجمد. الريادة يجب ان تكون أشبه بالصيرورة المستمرة والمتواصلة. وهناك انقلابات في الشعر العربي في السبعينات والثمانينات والتسعينات، وكل جيل يقدم ريادة من نوع مختلف. فعلى النقد العربي أو على الأكاديميات العربية ان تجري تحقيقاً جديداً في شأن الريادة ويجب أن يظهر الخط المستمر من جيل الرواد الى الآن. وهكذا يصبح في الإمكان النظر الى الشعر العربي كحركة حيوية متقدمة باستمرار وتنقلب على نفسها وتجدد نفسها بنفسها. ويجب عدم وضع حواجز حديد بين جيل وجيل.

من الذي ينفّرك من الشعراء الرواد مثلاً إذا عدت الى قراءة آثاره؟

ـ لم أعد قادراً على قراءة شعر خليل حاوي مثلاً. والبياتي كذلك. لكنني أحترمهما. فهما غير قريبين الى ذائقتي. ومن المعروف أن الذائقة الشعرية مسألة ذاتية جداً، وأود ألا أذكر أسماء...

هل عدت مرة الى كتب كنت تحبها ثم وجدت نفسك لا تحبها؟

ـ طبعاً، إننا نتعرض لخدع شعرية وفنية وثقافية. فما كان يبدو لنا جميلاً في زمن معين وعمر معين أو مرحلة معينة لم يعد يحمل حياة جديدة في ذاته تجعله قابلاً للقراءة في زمننا. لذلك فإن الأدب الباقي هو الأدب الذي يستطيع أن يخترق الأزمنة والأجيال ويحافظ على حداثته ومعاصرته، وعلى قابليته لأن يقرأ في زمن غير الزمن الذي كتب فيه.

أحياناً نحس أن بعض القصائد تشيخ مثل الإنسان!

ـ هذا إحساس مؤلم ولكنه مطمئن، فالخديعة لا تعمّر طويلاً.

كيف تقرأ الآن شاعراً مثل نزار قباني؟

ـ لا أقرأه الآن بالبهجة التي كنت أقرأه بها من قبل، لكن هذا لا يعني أنني لا أحبه.

نلاحظ أنك لم تكتب أي نص نظري في الشعر، علماً أن قصيدتك تحمل ما يشبه "البيان" الشعري بصمت! هل كتبت نقداً عندما عملت في الصحافة الفلسطينية في الداخل؟

ـ كنت أكتب مراجعات كتب، ولكن إذا قلت ان نظرتي الشعرية أو بياني الشعر موجودان في قصيدتي نفسها، فهذا يكفي. لماذا أضع نفسي في إطار نظري يصعب عليّ التخلص منه. وهذا لا يعني انني لا أحترم المنظرين، بل على العكس. لكن الملاحظ أن معظم الشعراء الذين ينظرون فإنما ينظرون لشعرهم، ويدافعون عن خيارهم الشعري، ولا يكونون منفتحين على تجارب الشعراء الآخرين ومستعدين لاستيعابها. ثم ليس لدي ميل الى التنظير، لأنني أخاف أن أخطئ.

لكنك في الأحاديث الصحافية تنم عن ناقد يملك ذائقة ووعياً نقدياً!

ـ اكتفي بوضع ملاحظات، وهي ليست ناجمة عن مقولات أو نظريات متماسكة. ربما ليس لدي مؤهلات لهذا الأمر. ليس لدي هذا الميل.

ألا تحس أحياناً انك في حاجة الى أن توضح أمراً ما في شعرك أو قصيدتك؟

ـ بين حين وآخر أكتب بعض النصوص عن الشعر وعن التجربة الشعرية، وأحاول أن أجيب على أسئلة تتعلق بهذه التجربة، ساعياً الى توضيح سوء فهم بريء أو مقصود حول تجربتي. عندما وقعت ديواني الجديد "كزهر اللوز..." في رام الله أخيراً كنت مضطراً على أن أرد على حملة قام بها شعراء فلسطينيون تحديداً، يريدون أن يتدرّبوا على الملاكمة وهم يرون ان شعري لم يعد شعر مقاومة، فقدمت بعض الملاحظات المكتوبة حول فهمي للشعر الوطني وشعر المقاومة، وأن علينا أن نفهم المقاومة في معناها الواسع وليس الضيق. وقلت أيضاً إن الحداثة لا تعرّف فقط بقصيدة النثر... أحياناً في بعض الحوارات الصحافية أو اللقاءات والمداخلات أعبّر عن مفهومي للشعر.

هل تقرأ ما يكتب الشعراء من تنظير شعري؟

ـ ليس كل الشعراء.