أنا غير راض عن شعري

لأني أكثر قلقا من الاطمئنان الى المتحقق، ولأني أنظر الى اليوم بعيون الغد

محمود درويش شاعر الملايين من العرب. هو شاعر جماهيري بالفعل يحتشد لسماعه عشرات الآلاف في كل مدينة، لكنه في الوقت نفسه شاعر صعب يلتقط منه جمهوره بعض الخيوط ــ المفاتيح ليفهم بعض الدلالات التي ينطوي عليها شعره. إنه شاعر إشكالي في علاقته بقرائه ما فتئ يطور نفسه منذ سنوات طلوعه الأولى على أرض فلسطين في نهاية الخمسينات، ومن ثم رحيله خارجا من الأرض المحتلة في بداية السبعينات ميمما شطر القاهرة ثم بيروت، ضائعا فيما بعد بين العواصم. هو الآن يعيش بين عمان ورام الله يجدل خيوط مشروع الشعري ويعترف بأن ولادته الشعرية الحقيقية كانت في منتصف الثمانينات. في هذا الحوار الجديد المختلف معه يكشف درويش عن علاقته بشعره، بقرائه، بأشكال الكتابة الشعرية، ويتأمل مساحة العلاقة التي تربطه ببعض إنجازه الشعري.

لنبدأ من اللحظة الراهنة، هل أنت متفائل بأن يحقق الشعب الفلسطيني بعضا من طموحاته الوطنية، وتصل التراجيديا الفلسطينية إلى فصولها الأخيرة؟ هل يحدس الشاعر في داخلك بإمكانية حل؟

في هذه اللحظة لا أرى في الأفق القريب، على الأقل، بوادر حل يلبي الحد الأدنى لطموحات الشعب الفلسطيني المتواضعة لأن الصراع، كما فتحه الإسرائيليون، هو صراع طويل يحاولون فيه الاستمرار في مشروع نكبة 48 كما قال ذلك صراحة أرييل شارون. وأما الفلسطينيون فهم يسعون لجعل هذه المعركة معركة الاستقلال. المهمة الأساسية هي توفير مقومات الصمود للشعب الفلسطيني في هذه المعركة الطويلة والمفتوحة على شتى الاحتمالات لكي نتمكن من فرض تسوية ممكنة لا سلام عادل، فأقصى ما يستطيع أن يقدمه الإسرائيليون، في ائتلافهم الحالي وفي جنوحهم الخطير إلى السلام (!)، لا يمكن أن يقبله الفلسطينيون. وأقسى ما يستطيع أن يقدمه الفلسطينيون لن يرضي الإسرائيليين. إذن ليست هناك نقطة يلتقي فيها الحد الأعلى الإسرائيلي مع الحد الأدنى الفلسطيني. ومن هنا فليست التسوية هي فقط الصعبة بل إن العودة إلى المفاوضات صعبة أيضا.

كتبت خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية قصيدتين اثنتين، "محمد الدرة" و"القربان". ثمة اختلاف في اللغة والطريقة التي تقترب فيها من الحدث. في الأولى قدر من المباشرة والوقوع تحت ضغط الواقعة التراجيدية الدامية، وفي الثانية عودة إلى أسطرة الحدث وتكثيف اللغة والتعبير عن حالة الفلسطيني في شرط وجوده المركب محشورا بين الإخوة والأعداء. هل أنت راض عما كتبته بعد "جدارية"؟

عليّ أولا أن أنسى الجدارية لكي أتمكن من التدرب على الكتابة. يجب أن نبدأ دائما من نقطة لا ينبغي أن تكون دائما تصاعدية. إن ما كتبته في سياق الانتفاضة، وليس عن الانتفاضة، هو تعبير عن الارتباط العضوي بين اللغة الشعرية ومرجعياتها الواقعية، وهو استجابة لتأثر عميق بمشهد اغتيال الطفل محمد على مرأى من ملايين البشر. لا تستطيع اللغة هنا أن تباري حجم الصدمة. عليها أن تكون كاميرا ثانية خفية متقشفة هادئة لتترك الأثر المطلوب. أمام العنف على اللغة أن تفتر لكي يسمع همسها لأن ضجيجها لا يسمع. حاولت في قصيدة "محمد الدرة" أن أكتب ما قد يكون قصيدة موضوعية خالية من ثراء بلاغي ومن استعارات جمالية. وتلك طريقة شائعة في الشعر الغربي أكثر مما هي شائعة في الشعر العربي، أي أن القصيدة تصور ولا تصرخ. أما "القربان" فبما أنها لا تصور حدثا محددا بل تصور حالة عامة، ولا شخص فيها له ملامح محددة، فكان لا بد أن تلجأ إلى استعارة كبيرة هي استعارة القربان، وأن تقف على الطقس القرباني ببلاغته الإنشادية. لكن لا هذه القصيدة ولا تلك تمثلان خروجا عن شغلي الشعري، كما أنهما لا تعدان بأسلوبية جديدة خارجة عن سياقي. إنهما استجابة لضغط الحدث التاريخي على اللغة الشعرية والضمير الشعري، وليستا استجابة للواجب الوطني كما قد يتبادر إلى الذهن. أما أن أقوم بتقويمهما فلا أتردد في عدم الدفاع الحار عن أدبيتهما أو جماليتهما.

في "جدارية" تستعيد أبياتا شعرية ومطالع قصائد وموتيفات وردت في منجزك الشعري السابق. هل تحاول أن تعيد ربط قارئك بذلك المنجز، أم أن ضغط الموضوع الشعري، بالاقتراب من تجربة الموت، يجعلك تستعيد عالمك الشعري السابق تعبيرا عن التمسك بالحياة إذ أن "على الأرض ما يستحق الحياة"؟

في كل عمل جديد يمكن العثور على بذور هذا العمل في عمل سابق، وفي كل مجموعة شعرية أراقب بذورا قابلة للنمو في عمل قادم. إذن صحيح الانطباع بأن هناك مفاتيح قد تكون معروفة بيني وبين القارئ. وهذا ينطبق على معظم أعمالي فأنا أواصل العمل من التراكم وليس من القطيعة. أما في "جدارية" بشكل خاص فهناك تفسير سيكولوجي خاص لهذه المسألة. كنت أظن أن الجدارية هي آخر ما سأكتب إذ لن أعيش بعدها لأكتب غيرها. لذلك استعدت بعض تعابيري الشعرية الساطعة كنوع من تلخيص سيرتي الشعرية في تداخلها مع سيرتي الشخصية لأؤسس عليها الأسئلة الجديدة، باستعاراتها ولغتها وحتى بسرديتها، لاستكمال أكثر الموضوعات حضورا في الشعر منذ تفتح سؤال الإنسان الأول على الوجود. من هنا كنت أسعى لكي ألخص نفسي ولغتي ومرجعياتي في عمل واحد أرشحه للقارئ القادم كدال عليّ إذ لا وقت للقارئ ليقرأ الأعمال الكاملة لأي شاعر فكانت هذه الجدارية هي بطاقة التعريف بي شعريا وإنسانيا ووصيتي للقراءة.

هل يشكل قارئك عبئا عليك، وعلى رغبتك الدائمة في تطوير تجربتك الشعرية وريادة مناطق لم تبلغها قصائدك السابقة؟ هل تسمح له بممارسة الضغط عليك؟ بم ترشوه لكي يظل قريبا منك ويتركك تطور تجربتك كما تشاء لها أنت لا كما يشاؤها هو؟

علاقتي بالقارئ علاقة جدلية وحرة وفيها تجاذب، وهولا يشكل رقيبا على عملي أثناء الكتابة ولكنه موجود فيّ لأني أعي تماما أن كتابة بلا قارئ لا تحقق معنى، بمعنى أنها لا تستطيع أن تضمن حياتها في ظرف تاريخي مختلف. القارئ هو الذي يمنح النص حياته المتجددة، وبما أننا لا نعرف من هو القارئ فإن هذا السحر يبقى ضروريا، وأعني بذلك سحر أن يكون القارئ المجهول كاتبا مجهولا لنص معروف.

أدرك جيدا أن سؤالك يحمل مستوى آخر هو صورتي لدى القارئ أي صورتي النمطية التي يتوقع منها هذا القارئ أن تكون مخلصة وفية في مرآته، أي أن أبقى أسير التعريف لأنني شاعر فلسطيني. وهذا التعريف يعني أن يعرّف الشاعر الفلسطيني بأنه ذلك الشاعر المتخصص في موضوع واحد هو فلسطين. ليس الشاعر الفلسطيني، بحسب هذا التعريف، هو من يحمل ذاتا فردية تحكي إنسانية الفلسطيني، تحكي هشاشته وضعفه وخوفه وقلقه كمركبات من شخصيته المقاومة، فالبحث عن إنسانية فعل المقاومة، أي ما وراء الصورة النضالية من حياة شخصية، هو مجال عمل الشاعر. ولكن هل تستطيع هذه الذات الفردية أن تتحرر من ضغط التاريخ ومن ضغط الهوية ومتطلباتها؟ كلا، ولكن تلك ليست خاصية فلسطينية. إنها خاصية أدبية وإنسانية عامة، مع الاعتراف بأن الفلسطيني، شاعرا، مطالب أكثر من غيره بالتماهي مع هويته لأنها مهددة، ومع وطنه لأنه ليس محررا. وهكذا يتداخل سؤال الحرية مع سؤال الإبداع في توتر عال يمتحن خبرة الشاعر والتزامه الحر بسؤاله الجمالي وفاعلية هذه السؤال في المجتمع. إذن أن يكون المرء شاعرا من فلسطين هو شيء أصعب من أن يكون شاعرا من مكان آخر. ولكن أما آن الأوان لأن ينظر النقد إلى الإنجاز الشعري الفلسطيني بمقاييس أدبية عامة، ويرى إلى مكانة هذا الإنجاز في مشهد الشعر العربي، دون أن ينشغل بالتدقيق في جنسية هذا النص؟ فمن المعروف أن النص، الذي هو نتاج ظرفه التاريخي، يحمل حال تشكله استقلاله الذاتي باعتباره أدبا، أي متى يقترب النقد أكثر من قراءة أدبية الأدب باعتباره أدبا؟

هل تفكر بصورتك في أذهان قرائك؟ هل تضطر إلى تقديم بعض التنازلات لتظل هذه الصورة ناصعة لا تشوبها شائبة؟

فنيا لا، فقد أفخر بإنجاز واحد حققته في مسيرتي الشعرية وهو اكتساب ثقة القارئ منذ شعرت بأن القارئ يصدقني، أي أنه لا يعتبر الشعرية الجديدة خروجا عن جوهري الإنساني والوطني. صرت قادرا على تطوير نفسي الشعرية بحرية أكبر دون خوف من صدمة أحدثها في ذائقة القارئ الذي عودته على أن يقبل مني الجديد دائما فلا يطالبني بالقديم إلا بدلالة واحدة هي أن كل جديد، فور تحققه، يصبح قديما. الآن مثلا عندي خشية من إمكانية عدم قدرتي دائما أن ألبي توقعات القارئ التجديدية.

أما الصورة التي أحافظ عليها ولا أريد أن أخدشها فهي صورة سلوكي العام. إن هذه الصورة هي التي تقيدني، إذ ليس من حقي أن أجلس في مقهى، ولا أجرؤ على الذهاب إلى السوق إذ أن العيون الفضولية تحملق في محتويات سلتي. لذلك أحيط نفسي بصورة غياب، بعزلة ما ضرورية لي، لا للكتابة فقط بل لتحاشي الخطأ الاجتماعي أيضا. ولا تنس أن بعض الشعراء والإعلاميين قد رسموا لي صورة باذخة دونجوانية مجونية، وبعضهم أتقن وصف قصوري وأزرار ثيابي الذهبية وسياراتي وكل ما يضخ الحرمان بالحرمان. فما دمت احتل مكانة ما فلا بد لي إذن من أن أتمتع بما تمتع به هارون الرشيد. هكذا يصورني الخيال المريض.

أنت شاعر جماهيري، بمعنى الانتشار الواسع والقدرة على استقطاب أعداد كبيرة من المستمعين والمحبين لشعرك. فهل كان في ذهنك عندما كنت في البدايات أنك ستقيم في دائرة الضوء منذ مطلع شبابك وحتى هذه اللحظة؟

لا. إن ما أنا فيه الآن ليس نتيجة خطة أو مشروع أو حلم. صحيح أنني كنت منذ الطفولة أحلم بأن أكون شاعرا لأني كنت منبهرا بالشعر أكثر مما أنا منبهر به الآن. وكنت أرى إلى صورة الشاعر باعتبارها صورة الفارس العاشق المتمرد الذي يسكن الريح فبدأت مبكرا أقلد هذه الصورة، أي بدأت ألعب. ولم يخطر ببالي أن هذا اللعب سيصبح جديا إلى هذا الحد، وأنني سأصل إلى وقت أهب فيه لمقاومة هذه الصورة. فمن المعروف أنني أحاول دائما أن أكسر الصورة التي يرسمها لي الآخرون لأعيش حياتي في الظل لا في الضوء، ولأمارس إنسانيتي بدون ضجيج، وأكثر من ذلك لأطور حلمي الدائم بالعادي، بالطبيعي، لا بالبطولي الأسطوري، فبطل الشعر الحديث الحقيقي ليس البطل بل هو الإنسان النكرة الذي يأخذ الحياة كما هي ويعيشها كما هي من غير أن يثقلها بالمعاني الكبرى. لكن هل هذا ممكن في شرطي التاريخي؟ إن تحول الأسطوري إلى واقعي، وجعل الواقع أكثر واقعية، وتحول البطولي إلى بسيط، يحتاج إلى كثير من البطولات وإلى الكثير من تحطيم الأساطير وبناء أساطير أخرى، فقد زج بنا منذ البداية، ونحن ندافع عن جغرافيا وجودنا الراهن، في معركة تدور حول شرعية الإقامة في تاريخ الماضي!

كتبت "سرير الغريبة" قبل "جدارية". المجموعة الأولى عن الحب والثانية عن الموت، هل ثمة وشائج بين المجموعتين؟ هل كتبت الثانية وفي ذهنك الأولى؟

الثانية، أي "جدارية"، لم تكن جزءا من سياق محدد بل كانت استجابة لحدث كبير طارئ جرى في حياتي، وهو حادث مرضي وعمليتي الجراحية الخطيرة التي وضعتني عمليا في مواجهة مباشرة مع الموت. الموت مضى في سبيله أما سؤاله فقد اخترقني. إذن من ناحية زمنية إبداعية لم يجرّ سؤال الحب سؤال الموت، لكن السؤالين متجاوران لأن سؤال الحب دائما يستدعي سؤال الموت وسؤال الموت يستدعي سؤال الحب باعتبار الحب شكلا من الموت العابر من جهة وشكلا من أشكال مقاومة الموت والانتصار عليه من جهة أخرى لأن سؤال الحب هو سؤال البقاء الإنساني، وربما يكون سؤال الخلود. العلاقة إذن متخفية، لكن المصادفة قد أعلنتها.

يقول بعض النقاد إنك بلغت ذروة إبداعك الشعري في مجموعتك الشعرية "أحد عشر كوكبا". أولا هل توافق على ذلك؟ وثانيا ما هي علاقتك بهذه المجموعة بالقياس إلى علاقتك بما سبقها وما لحقها من مجموعات شعرية؟

ليس مهما أن أوافق أو لا أوافق على المكانة التي يضع فيها النقد، أو بعض النقاد، مجموعة "أحد عشر كوكبا". الأهم بالنسبة لي هو أن عمليتي الشعرية ما زالت مفتوحة على آفاق لا أعرفها، أي أنني أحس بأنني في أوج لياقتي الشعرية. بيد أنني أفهم توقفك عند "أحد عشر كوكبا" لأن فيها تجلي شكل غنائية الملحمية، هذا الشكل الذي حدده إيقاع التعامل مع التاريخ وبالذات مع تاريخ تحولين كبيرين في حياة الإنسانية وفي ثقافتنا العربية، وهما الحدثان اللذان وقعا في عام واحد (1492) حيث تكثف التاريخ بمأساوية عالية. الحدث الأول هو اكتشاف أمريكا نتيجة الخطأ الذي ارتكبه كريستوفر كولومبوس. والحدث الثاني هو سقوط غرناطة وبداية الخروج العربي العملي والثقافي من تاريخ الغرب، أي الخروج من الأندلس. احتلني وأنا أقرأ هذا التاريخ، من مراجعه المختلفة، إحساس بأن الخروج لم ينته، فما زلنا نواصل الخروج من تاريخنا ومن تاريخ الآخر حتى الآن. وعلى وقع الطريقة التي لا نستطيع إلا أن نسقط بها بعض الدلالات التاريخية على الحاضر امتلأت هذه المجموعة بتحركات حوافر التاريخ وتركت هذا الصدى الغنائي الملحمي.

لجأت في عدد من مجموعاتك الشعرية، "هي أغنية، هي أغنية" و "ورد أقل"، إلى كتابة قصائد قصار تعتمد التكثيف والإيجاز، وأنت الشاعر الذي يعد الملحمية سمة شعره الأولى، كما أن قصيدته تعتمد البناء السيمفوني المعقد وتشارك في عزفها آلات كثيرة إذا استخدمنا بعض المجاز الموسيقي. هل كانت هذه القصائد وليدة شرط تاريخي محدد، أم أنك تجرب طاقتك الشعرية التي لا يحدها الشكل والأسلوب؟

من المعروف أنه لا يمكن كتابة الملحمة في العصر الحديث، فالملحمة هي كتابة سيرة قومية وقعت وانتهت. الممكن هو استخدام النفس الملحمي في الكتابة الشعرية فمنذ انتهاء الملاحم الشعرية أصبح المسرح الشعري مفتوحا أكثر للغنائيات التي تتحدث فيها الأنا عن نفسها وعن محيطها وتاريخها. والأنا متعددة. في كل أنا أنوات كثيرة, ومن هنا لا حد لثراء الشعر الغنائي. أنا شاعر غنائي، ولا أعتبر الغنائية نقيصة شعرية كما يعتبرها البعض من كتاب قصيدة النثر رغم أن قصيدة النثر قصيدة غنائية. لذلك من الطبيعي أن أكتب هذا الشعر القصير المكثف حين يطلب الصوت الفردي فيّ الكلام، وحق الكلام في الشعر هو لهذا الصوت حتى لو أراد هذا الصوت أن يتكلم من خارجه أو يتكلم باسم الجماعة، فلا بد للخارج أو للجماعة من أن يمرا عبر صوت الأنا لتصدرهما الأنا، من بعد، إلى خارجها.

لا تحتوي المجموعتان، اللتان ذكرتهما، وحدهما على قصائد غنائية بل إن مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدا" تتضمن مثل هذه القصائد الغنائية، وحتى لو مر صوت الشاعر فيها عبر الأساطير واصطدم بالتاريخ وحاور الملحمة فإن القصيدة تتقدم بصوت المتكلم الذي يخترق كل الأشكال الشعرية من كلاسيكية إلى سردية، إلى غنائية حديثة.

ما قصدته بسؤالي السابق أنك كتبت تلك القصائد بعد الخروج الفلسطيني من بيروت عام 1982، فهل ارتبطت كتابتك لمجموعتي "هي أغنية، هي أغنية" و"ورد أقل" بذلك الشرط التاريخي؟

لا شك في ذلك. اعترف بأنه على الرغم من أن صورتي الشعرية العامة تشكلت في الستينات والسبعينات إلا أنني قادر دائما على نقد نفسي، ودائم المراجعة والقلق تجاه ما كتبت وما أكتب، دون أن يعني ذلك بأي حال من الأحوال اعتذارا، أو ندما، فليس المرء مسؤولا عن مروره في السن الطبيعية، بالطفولة الشعرية والمراهقة والكهولة، فلكل تجربة أدواتها التعبيرية وأسلوبيتها. أما وقد طرحت هذا السؤال فلا أتردد بالاعتراف بأن ولادتي الشعرية الحقيقية قد بدأت في منتصف الثمانينات، وكانت الكتب التي أشرت إليها هي التعبير عن الانتباه إلى أن الشعر لا يستطيع الانفصال عن الواقع. لكن الطريقة الأدبية للتعبير عما يتركه الواقع فينا من آثار تتطلب أن لا نقول في الشعر ما يمكن قوله في غير الشعر.

بالمعنى السابق هل حاولت كتابة قصيدة النثر، رغم أن الإيقاع الوزني يهيمن حتى في نثرك؟ وهل تظن أن قصيدة النثر استطاعت أن تضيف الكثير إلى تجربة الشعر العربي المعاصر؟

دعني أبدأ من الشطر الثاني من السؤال. نعم قصيدة النثر أسهمت، أكثر مما نتصور، في طرح أسئلة على عمود الشعر وعلى تفرعات هذا العمود، على تفرعه الأبرز وهو ما أصبح يسمى بالتفعيلة. وحين أقرأ، وأنا أقرأ كثيرا بل كلّ ما يصدر من شعر، وحين أتأمل في المشهد الشعري العربي المعاصر أرى أن أبرز ظاهرة فيه، وخلال العقدين الأخيرين بخاصة، هي تمكن قصيدة النثر من إثبات شرعيتها الإبداعية والثقافية معا، وأنها في حاجة إلى أن تتحرر من التباس اسمها. عليها أن لا تقبل بعد الآن أن تستمد شعريتها من النثر. يجب أن تسمى شعرا فقط فالشعر شعر وهو لا يعرّف بالوزن. لكن الشعر في الحالتين لا يحيا ولا يعرف إذا جرد من الإيقاع. وإذا كان لا بد لي أن أبدي ملاحظة فهي أن على بعض شعراء قصيدة النثر أن يخففوا من الانشغال بنظريتهم الهجومية، المتحولة أحيانا إلى أيديولوجيا، لأن الشعر لا يتحقق في النظرية بل في الإبداع نفسه. وفي وسع قصيدة النثر، أو ما يسمى كذلك، أن تتسع لإيقاع الحياة المعاصرة وللسرد وللإنشاد أكثر. عليها أن تتحرر تماما من تعريف سوزان برنار القديم لها لأن لها من إمكانات السرد الإنشادي أو الإنشاد السردي، إذا جاز التعبيران، أن تأخذ الشعر العربي إلى رحلات خصبة في براري اللغة والتجربة الإنسانية والتاريخ، أي أنها تستطيع أن تكون ملحمية أكثر.

أما أنا فلم أكتب قصيدة النثر لأني لم أشعر بأن الوزن يقيدني ويحجب عني حريتي في المغامرة والسرد واستيعاب لغة الحياة الحديثة وشعرية النثر أيضا، والحوار داخل النص الشعري. أنا مؤمن بالنظام. لكل فن نظامه. لكل جنس أدبي نظام، وللشعر نظام يحدده الشاعر نفسه وفق رؤاه ومنظوره الثقافي وإيقاعاته الداخلية. وأنا لا أستطيع أن أعمل خارج نظامي الخاص الذي أسعى إلى تجديده باستمرار. أما اللانظام والفوضى فقد يصعبان علينا تعريف الجنس الأدبي. صحيح أن هنالك من يدعون إلى كسر الحواجز بين الأجناس، ولكن كسر هذه الحواجز لا يعني إلا إقامة نظام آخر لجنس آخر. وحين أشعر أن نظامي ضاق على الأوزان، وأنني لن أجد حريتي التعبيرية إلا في النثر، فلن أتردد في اللجوء إلى هذا الشكل الآخر.

لماذا لم تضمن "خطب الدكتاتور"، التي نشرتها في الثمانينات في مجلة "اليوم السابع"، أيا من دواوينك؟ ألا تعدها شعرا؟

كلا، لا أعد هذه النصوص شعرا بل هي، كما سميتها، نثر موزون مقفى.

رغم شهرتك فإن ما كتب عن تجربتك الشعرية من نقد قليل، من وجهة نظري. هناك رسائل جامعية كثيرة لكنها لا تنظر إلى تجربتك ضمن رؤية نقدية عميقة. بالمناسبة هل تعتقد أن علاقتك بالنقد صحية، هل هي متوترة؟

من جهة من؟ هل التوتر فيّ أم في النقد؟

أقصد من جهتك.

من جهتي أنظر إلى النقد نظرتي إلى حاجتي للتعلم لأن النقد قادر على رؤية وتأويل ما لم يره المؤلف في نصه. النقد العميق يجعلني أفهم نصي بشكل أفضل لأنه يحيل النص إلى مرجعيات كانت متخفية في ذاكرة الكاتب، ويؤوله بطريقة لم تكن واضحة في وعي المؤلف. النقد يشرح للنص تاريخه. كثيرا ما أفادني النقد أيضا في إعادة النظر بنواقصي من خلال مديحه لهذه النواقص فالإفراط في القراءة الإخبارية لبعض النصوص يثير فيّ شكوكا حول دقة تعبيري كأن أقول "ما كان ينبغي لي أن أفتح الباب لمثل هذه القراءة" فأنا المسؤول إذن عن مثل هذا التبسيط، وأحيانا لا أكون مسؤولا عن ذلك. من هنا يعلمني بعض النقد أن أغلق بعض النوافذ التي تسهل مثل هذه القراءة المتسرعة. لكن في الإجمال لا يمكن أن نتكلم عن النقد بالمعنى العام، فما لا يعنيني نوعان من النقد: النقد المدرسي الذي يبسط الدلالة ولا يميز بين صورة الشيء وطيفه، ويشرح القصيدة شرحا بلاغيا مدرسيا، هنا استعارة وهنا كناية وهنا معنى وهنا مبنى..إلخ. والنقد الثاني الذي لا يعنيني هو النقد السياسي المباشر الذي يفسر الأندلس بأنها مؤتمر مدريد، ويخلط بين غرناطة 1492 وأوسلو 1993.

هل أنت راض عموما عما يكتب عن شعرك؟

أفضل إجراء تعديل على السؤال: هل أنت راض عن شعرك؟

هل أنت راض عن شعرك؟

كلا.

لماذا؟

لأني أكثر قلقا من الاطمئنان إلى المتحقق، ولأني انظر إلى اليوم بعيون الغد.

كيف تنظر إلى حضورك الشعري في اللغات الحية؟ هل أنت مترجم بصورة كافية وداخلٌ في نسيج تلك اللغات بصورة من الصور؟

في بعض اللغات، كالفرنسية مثلا، أنا مترجم أكثر مما أستحق. وفي بعضها، كالإنجليزية مثلا، أنا مترجم أقل مما أستحق. إن السؤال عن مكانة الشعر العربي، المترجم إلى اللغات الأخرى، هو سؤال شائع وخادع فالعالمية لا تعني الترجمة. العالمي أساسا هو العالمي في نصه الأصلي بمعنى أن يحمل في نصه الأصلي سمات إنسانية تعني قارئا من خارج هذه اللغة، أي أن يحمل مشتركا منطلقا من خصوصية محلية. وإذا كان لا بد من الإجابة على السؤال حول مكانة الشعر المترجم فأنا لا أبني استنتاجات حول المبيعات. المهم هو التساؤل عن مدى اختراق هذا الشعر نسيج الحياة الثقافية في البلدان الأخرى. صورة ومكانة الأدب العربي لا تختلف عن صورة ومكانة العالم العربي في العالم. فإذا كنا هامشيين إلى هذا الحد فكريا وسياسيا فكيف نكون جوهريين إبداعيا؟ صحيح أن لنا قراء لا نعرفهم، ولكن الكلام عن حضور في التكوين الشعري العالمي ما زال كلاما متسرعا وسابقا لوقته.

هل تعد نفسك شاعرا مؤثرا في آخرين، في جيل الشعراء الطالعين في السبعينات وما تلاها من عقود؟ وهل تعد تأثيرك مخصبا لهذه التجارب؟

إن الإفراط في التواضع هو شكل من أشكال الغرور. لن أتواضع لأنفي حضوري في تجارب شعرية مجايلة ولاحقة، فهذا الأمر واضح لعين القارئ العادي. إن التأثر والتأثير أمران طبيعيان، والكتابة هي دائما كتابة على كتابة، ولا ينجو أحد، كما لم أنج أنا من التأثر بمن سبقوني. التأثر يخصب إذا استطاع المتأثر أن يصوغ صوته الخاص الخارج من عدة أصوات قديمة وحديثة، فلا أحد يولد من فراغ ليقول إنه لم يتأثر. الذي لم يتأثر هو الذي لم يقرأ، الشاعر الذي لا يقرأ لا يستطيع أن يكتب. المهم ما يأتي في المحصلة.

هل تحب السفر؟ هل تمل المكان، وإذا خيرت للإقامة في مدينة معينة فأي مدينة فلسطينية تختار، ولماذا؟

لم أعد أحب السفر. لا أسافر إلا لتأدية واجب، فقد تشابهت المدن، ولم أنجح أصلا في أن أكون سائحا ولو ليوم واحد. من الطائرة إلى الفندق إلى قاعة المؤتمر، وبالعكس. أما إذا خيرت أن أعيش في مدينة فلسطينية، ولن أخيّر، فربما ما زلت أحب حيفا أو عكا.