درويش وشوشة في استوكهولم
كنت في السويد بدعوة من المكتبة الملكية الدولية لستوكهولم. زرت مرتفعات المدينة مع مترجمتي إلى اللغة السويدية، حيث يوجد القصر الملكي الشاهق والبسيط، وأكاديمية جائزة نوبل وملحقاتها بما في ذلك متحفها الصغير. بشّرتني مترجمتي بأن اسم محمود درويش بدأ يتردد كثيرا في الأوساط النافذة وأنه يحتمل أن يكون هو فائز هذه السنة. قلت لمترجمتي المتعاطفة إلى حد بعيد مع القضية الفلسطينية: لا أدري إذا ما كانوا جادين في اقتراحهم، ولكن الجائزة بذهابها إلى درويش، ستضيف إلى ذاكرتها المرتبكة قيمة إنسانية عظيمة. ردت مترجمتي: هناك إشكال يشبه المرض المزمن، يستيقظ كلما تعلق الأمر بكاتب عربي، وتحديدا فلسطيني. بجانب درويش هناك مرشح قوي هو آموس أوز. قلت بعفوية: أعرفه جيدا. كتب نصوصا أحدثت أثرا طيبا بموضوعاتها الإنسانية التي لا ترى في الفلسطيني دائما عدوا لا يعرف شيئا آخر إلا محو اليهودي. قالت مترجمتي السويدية: أشخاص مثل درويش وأموس أوز يجب أن يُحتفى بهم؛ لأنهم ندرة الندرة في زماننا الظالم. بسبب هذه الازدواجية المرضية التي تخترقها الحسابات السياسية الضيقة، خسرت جائزة نوبل مواعيد عظيمة لا تعوض ولا تستدرك أبدا. طبعا، لم يحصل درويش على جائزة نوبل، لكنه ظل كبيرا بدونها. بموته، خسرت موعدا لا يمكن استدراكه مثلما كان الحال مع عظماء سبقوه إلى سدة الخلود. عندما أخبرت درويش بوشوشة استوكهلم ونحن في رحلة بين عمان وباريس، لم يقل الشيء الكثير. ظل صامتا لحظات قبل أن يجيب بمرارة: الدنيا كما ترى يا صديقي. ما زلنا نكتب ونسافر ونعيش كما نشتهي إلى حد بعيد. لا شيء تغير في النظام. العكس هو الذي يفاجئ، أما والحال هكذا، فلا شيء يثير الدهشة. وبعد تأمل، قال بانفعال بدا ظاهرا على شفتيه وأصابعه ونبرات كلماته: صراحة... لا أعتقد أن نوبل معنية بنا كثيرا، وكل ما يحدث من ترشيحات هو من فعل كتاب لهم بعض الإعجاب أو التعاطف. أعتقد صادقا أن أمام الكاتب العربي أشياء أبسط وأثمن يمكنه أن يفكر فيها: صحته مثلا، قالها ضاحكا. أفيد للكاتب عموما، ولهذه الأرض التي تفقد كل يوم بعضا من أنفاسها وحياتها أن ينسى ما يقوله الآخرون عنه، وأن يكون فقط جديرا بأرضه وعصره. يبدو أن عالمنا ما يزال محكوما في عمقه بشيء ظالم مضاد حتى لما هو إنساني. ثم ختم ضاحكا، قبل أن يدفن عينيه في تأملات داخلية كان قلبه وحده يعرف سرها: ليكن يا صديقي، لنا الشعر والخير والمحبة، ولهم ما تبقى، أليس هذا عظيما؟!.
كنت في السويد بدعوة من المكتبة الملكية الدولية لستوكهولم. زرت مرتفعات المدينة مع مترجمتي إلى اللغة السويدية، حيث يوجد القصر الملكي الشاهق والبسيط، وأكاديمية جائزة نوبل وملحقاتها بما في ذلك متحفها الصغير. بشّرتني مترجمتي بأن اسم محمود درويش بدأ يتردد كثيرا في الأوساط النافذة وأنه يحتمل أن يكون هو فائز هذه السنة.
قلت لمترجمتي المتعاطفة إلى حد بعيد مع القضية الفلسطينية: لا أدري إذا ما كانوا جادين في اقتراحهم، ولكن الجائزة بذهابها إلى درويش، ستضيف إلى ذاكرتها المرتبكة قيمة إنسانية عظيمة. ردت مترجمتي: هناك إشكال يشبه المرض المزمن، يستيقظ كلما تعلق الأمر بكاتب عربي، وتحديدا فلسطيني. بجانب درويش هناك مرشح قوي هو آموس أوز. قلت بعفوية: أعرفه جيدا. كتب نصوصا أحدثت أثرا طيبا بموضوعاتها الإنسانية التي لا ترى في الفلسطيني دائما عدوا لا يعرف شيئا آخر إلا محو اليهودي. قالت مترجمتي السويدية: أشخاص مثل درويش وأموس أوز يجب أن يُحتفى بهم؛ لأنهم ندرة الندرة في زماننا الظالم.
بسبب هذه الازدواجية المرضية التي تخترقها الحسابات السياسية الضيقة، خسرت جائزة نوبل مواعيد عظيمة لا تعوض ولا تستدرك أبدا. طبعا، لم يحصل درويش على جائزة نوبل، لكنه ظل كبيرا بدونها. بموته، خسرت موعدا لا يمكن استدراكه مثلما كان الحال مع عظماء سبقوه إلى سدة الخلود. عندما أخبرت درويش بوشوشة استوكهلم ونحن في رحلة بين عمان وباريس، لم يقل الشيء الكثير. ظل صامتا لحظات قبل أن يجيب بمرارة: الدنيا كما ترى يا صديقي. ما زلنا نكتب ونسافر ونعيش كما نشتهي إلى حد بعيد. لا شيء تغير في النظام. العكس هو الذي يفاجئ، أما والحال هكذا، فلا شيء يثير الدهشة.
وبعد تأمل، قال بانفعال بدا ظاهرا على شفتيه وأصابعه ونبرات كلماته: صراحة... لا أعتقد أن نوبل معنية بنا كثيرا، وكل ما يحدث من ترشيحات هو من فعل كتاب لهم بعض الإعجاب أو التعاطف. أعتقد صادقا أن أمام الكاتب العربي أشياء أبسط وأثمن يمكنه أن يفكر فيها: صحته مثلا، قالها ضاحكا. أفيد للكاتب عموما، ولهذه الأرض التي تفقد كل يوم بعضا من أنفاسها وحياتها أن ينسى ما يقوله الآخرون عنه، وأن يكون فقط جديرا بأرضه وعصره. يبدو أن عالمنا ما يزال محكوما في عمقه بشيء ظالم مضاد حتى لما هو إنساني. ثم ختم ضاحكا، قبل أن يدفن عينيه في تأملات داخلية كان قلبه وحده يعرف سرها: ليكن يا صديقي، لنا الشعر والخير والمحبة، ولهم ما تبقى، أليس هذا عظيما؟!.