ينطلق الباحث من التأكيد على أن قراءة التراث النقدي العربي ملوثة بالحاضر، وبأن ازدواجية المرجعية، ما بين النقد العالمي والدفاع عن الهوية، أدى إلى انفصام في منظومة هذا النقد. كما أن القراءة الإسقاطيّة أخرجت هذا التراث النقدي من التاريخ، وتعاملت معه ببرغماتيّة حولته إلى وسيلة غايتها رفض أو التبشير بقيم الحداثة تبعاً لهيمنة قارئها الناقد.

آليات التأويل في القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي

حسن مخافي

تندرج هذه المقالة في إطار عام يهدف إلى القبض على أهم الآليات التي تحكمت في تأويل التراث النقدي. ولا شك في أن مبدأ التأويل بالنظر إلى طبيعة التراث النقدي من جهة، وطبيعة النقد العربي المعاصر من جهة ثانية، وبمراعاة السياق العام الذي أنتج قراءات التراث النقدي من جهة ثالثة، هو مبدأ مشروع. ولكن التأويل ـ كما هو معلوم ـ تؤطره مجموعة من القواعد هي التي تقي أطراف القراءة من فقدان التوازن الضروري لكي تكون القراءة مثمرة. وإذا وضعنا نصب العين أن القراءة ليست تنويعاً على المقروء، بقدر ما هي إعادة كتابة له، أدركنا أن المسألة في جوهرها تتعلق بالحاضر، ولا تمس الماضي إلا في حدود كونه عنصراً من عناصر تشكيل هذا الحاضر. ومن ثم فإن أية قراءة للتراث لا تستطيع أن تثبت براءتها، إنها ملطخة بوحل الحاضر، لأنها تحمل في طياتها موقفا من "الآن" و "هنا".

هذا يوضح أن ما يعرف بإشكالية التراث في الخطاب العربي الحديث، ما هي إلا وجه لإشكالية أوسع، تستمد ملامحها العامة من الحاضر، وهو ما يفسر أن "التراث" كما نتداوله اليوم، "إنما يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي المعاصر، ومفاهيمه الخاصة وليس خارجها" كما يذهب إلى ذلك محمد عابد الجابري. إن هذه النتيجة التي تتعلق بالتراث عامة، تنسحب على التراث النقدي. ذلك أن تتبع مفهوم التراث النقدي لدى الدارسين العرب المعاصرين يبرهن على أن أية صياغة لهذا المفهوم لا يمكن أن تستقيم بدون النظر إلى النقد المعاصر. وهذا ما جعل الاختلاف يحتد بين أولئك الدارسين حول مدى شرعية عدد من المفاهيم المعاصرة في بناء مفهوم التراث النقدي. وهو ما يكشف منذ البداية أن هناك عنصراً ثالثاً يوجه القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي هو النقد الغربي.

صحيح أن تعبيراً مثل "نحن والغرب" لم يعد يستعمل بكثرة كما كان الأمر عليه في منتصف القرن الماضي. ولكن الأحداث التي عرفها العالم، وخاصة بعد أحداث 11 أيلول/شتنبر 2001، جعلت ثنائية الأنا/ الآخر تطفو على سطح الخطاب العربي المعاصر من جديد، وإن بصيغ جديدة. وعندما يوضع هذا العنصر في عين الاعتبار فإن القضية تتخذ ثلاث علاقات إشكالية: فإذا كانت كل قراءة للتراث النقدي تحمل في حد ذاتها تصوراً لحداثة نقدية، فإن هذا التصور لا يمكن استحضاره إلا عبر علاقتين أخريين هما علاقة التراث النقدي بالنقد العربي المعاصر، وعلاقته بالنقد الغربي. هذه العلاقات الثلاث جعلت مفهوم التراث النقدي تعبيراً عن وجهة نظر يقود الدفاع عنها إلى التأويل بمختلف معانيه. وأدت إلى أن قارئ التراث النقدي يلج باب القراءة وهو مسلح بما تسميه أدبيات التلقي فكرة مسبقة. وعلى الرغم من أن مدارس التلقي تركز على أهمية الفكرة المسبقة في فعل القراءة، بالنظر إلى طبيعة القارئ الذي لا يمكن أن يقتحم النص مجرداً من تكوينه، فإن هذا العنصر عندما يصبح مهيمناً على القراءة، يشكل إعلاناً عن إفلاس تلك القراءة. وهذا ما وقعت فيه القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي. ذلك أن أزمة التأسيس التي صاحبت الخطاب النقدي العربي الحديث، والتي تمظهرت في الازدواجية المرجعية لم تمهل الدارسين العرب لتقديم قراءة متأنية لما يسمى النقد العربي القديم. فقد ظلت جهودهم مشتتة بين هدفين استراتيجيين مختلفين: العمل على اللحاق بإنجازات ما أصبح يعرف لدى بعض الدارسين بالنقد العالمي، والدفاع المستميت عن هوية نقدية لها ما يبررها على مستوى طبيعة النص الأدبي العربي من جهة، وعلى مستوى البحث عن موقع في حركة العولمة الثقافية من جهة ثانية. لقد كانت هذه الازدواجية مصدراً لما يمكن أن أسميه انفصاماً في منظومة النقد العربي، فتارة يبحث عن تفسير للظاهرة الأدبية انطلاقاً من التراث النقدي وتارة أخرى يلجأ إلى المناهج الغربية، من أجل مقاربة نص لا ينتمي في سياقه لا إلى هذا ولا إلى ذاك. بل له شخصيته التي تكونت عن طريق التفاعل بين عدد من العناصر أهمها الإطار السوسيوثقافي الذي يبرر وجوده.

إن هذا لا ينفي استحضار التراث النقدي أو النقد الغربي في مقاربة النص العربي المعاصر، ولكنه يعني أن ذلك النقد بعد أكثر من قرن مضى على تأسيسه لم يستطع تلمس الطريق التي بها يتخلص من التنافر المرجعي المشار إليه. إن إحدى علامات هذا الخلل تتجلى في سكوت القراءات العربية المعاصرة على مسألة المنهج الذي يحكم تلك القراءات. وعلى الرغم من أن دارسي التراث الأدبي والنقدي من أمثال طه حسين قد مهدوا لفتح نقاش واسع في هذا المجال بملاحظاتهم المنهجية الثاقبة، إلا أن سيطرة النزعة المدرسية لعقود قد أخمدت تلك الجذوة، وأصبح التراث بعد ذلك يدرس وكأنه مجال للمعرفة الموضوعية لا علاقة له بتطور النقد العربي الحديث. وكان علينا أن ننتظر آخر القرن العشرين، لنعثر على دراسة متكاملة للمسألة المنهجية في قراءة التراث النقدي، حين قدم جابر عصفور تصوراً في الموضوع إلى ندوة "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" سنة 1988. لقد وصل النقاد المعاصرون إلى قناعة مفادها أن النقد العربي الحديث يمكن أن يستمد بعض حداثته من التراث، وقد دفعت هذه القناعة أصحابها إلى قراءة التراث النقدي بروح براغماتية كان من انعكاساتها جعل بعض النقاد العرب القدامى حداثيين رغم أنفهم. إن هذا المبدأ الذي زج بمفهوم الحداثة في حمأة النقاش حول التراث النقدي، أدى إلى خلق نوع من التعارض بين الحداثة ذات المرجعية الغربية، والتراث ذي المرجعية العربية. وتحت ضغط هاجس المصالحة بينهما تمت القراءات العربية للتراث النقدي. ومن المفارقات الحادة التي طبعت تلك القراءات أن أصحابها يلتقون في استعمال نفس الآليات في تأويل التراث النقدي على الرغم من اختلاف رؤاهم. إن هذا لا يعني أن هناك فصلاً بين المنهج والرؤية، ولكنه يشير إلى نزعة ذرائعية ظلت تحكم منظور أولئك الدارسين. فالذين يوصفون بالتراثيين كانوا يجتهدون في البحث عن التطابق بين التراث النقدي والنقد الغربي لكي يصلوا إلى أن كل ما في الغرب يوجد في التراث النقدي، فلا حاجة إذن للاستئناس بالمناهج الغربية. والذين يوصفون بالحداثيين كانوا يركبون نفس المنطق، ولكن ليجعلوا المناهج الغربية مشروعة ومستساغة. الفريقان معاً يلتقيان في كونهما يمارسان ما أسميه القراءة الإسقاطية، التي أفضت إلى قراءة التراث النقدي بمفاهيم غربية، وقراءة المناهج الغربية بمفاهيم تراثية. ولقد أدى هذا النوع من القراءة إلى نزعة اختزالية أضرت بالتراث النقدي، ولكنها أضرت أكثر بالنقد العربي الحديث الذي ما زال يقف في مفترق الطرق، تحت طائلة التمزق المعرفي والإيديولوجي الذي جعل وجوده قاب قوسين أو أدنى.

يحكم القراءة الإسقاطية إطار نظري يرمي إلى إخراج التراث النقدي من سياقه التاريخي، بتجريده من شروطه الموضوعية التي أفرزته، وجعله ثقافة صالحة لكل زمان ومكان. وإذا حدث أن لجأ أحد الدارسين المعاصرين إلى النقد الغربي قديمه وحديثه من أجل إغناء تجربته النقدية، فإن معنى هذا أنه عجز بمنطق القراءة الإسقاطية عن كشف ما في التراث النقدي من نظريات ومناهج تتجاوز النقد الغربي وتضاهيه. فكم "من ظاهرة نقدية أو اجتماعية صيغت وقننت ثم دفع بها إلينا. ولو أننا تخلصنا من قابلية التبعية وفتشنا في موروثنا لقلنا بكل ثقة واعتزاز: هذه بضاعتنا ردت إلينا"(1). ينم هذا الحكم عن مفهوم للتراث النقدي يقوم على الكمال المطلق، الذي يجعل النقد العربي القديم محيطاً بقضايا الأدب في الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا وقع أن النقد العربي الحديث استعان ببعض المناهج الغربية من أجل مقاربة ظاهرة أدبية جديدة، فإن ذلك لا يعني أن التراث النقدي قد سكت عنها، بل يدل على أن الناقد العربي المعاصر قد قصر في فهم ذلك التراث، ولم يملك من النضج ما يسمح له باكتشاف كل أبعاده.

إن مثل هذا الموقف "الحماسي" من التراث النقدي يعكس إلى حد بعيد الأفق المحدود للقراءة الإسقاطية تجاه هذا التراث، ويبرز وجها من أوجه الحساسية التي يستقبل به بعض الدارسين التراث العربي. ومن الواضح أن الوجه البارز في نظرة هذا الموقف إلى التراث النقدي يتمثل في حضور البعد الوجداني الذي يؤكد على هيمنة ما يسميه محمد أركون "الفكر المتعالي" ومقاومته لكل ثقافة "دخيلة". إن هذا البعد الوجداني الذي يرمي إلى تحديد الهوية بمقومات الماضي هو في واقع الأمر إعادة إنتاج لآليات الخطاب السلفي الذي عرفه العرب مع بداية القرن العشرين، والذي يقوم على القياس مع وجود الفارق. وقد أبان الدارسون عن تهافت هذا الخطاب منذ وقت مبكر(2)، وكشفوا عن منطقه الداخلي(3)، وهم بصدد مقاربة إشكالية التراث. فما هي الآليات التي تستعملها القراءة الإسقاطية وهي تقارب التراث النقدي.

التراث النقدي والنقد الغربي: نفي "الآخر"

يذكر لويس عوض أنه كان في فترة ما من حياته النقدية يعاني من بلبلة مصدرها ذلك التناقض بين العقاد وسلامة موسى وطه حسين فيقول. لقد "تواجد الثلاثة معاً وقد أحطتهم بدرجة عالية من التقدير. هكذا وجدتني حيناً رومانسياً يترجم شيلي، وحيناً عقلانياً ديكارتياً، وحيناً ثالثاً يسارياً أوروبياً من القرن الماضي"(4). إنها الصورة البارزة للثقافة العربية المعاصرة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وليس عوض سوى واحد من مثقفين ونقاد عاشوا هذا التشويش نفسه الذي يلخص إلى حد كبير قصة الثقافة العربية المعاصرة في مواجهتها للمعطى الثقافي الغربي بفلسفاته وعلومه، وما يصدر عنها من تيارات ونظريات ومفاهيم وأفكار. وهي ضمن ذلك قصة النقد العربي الحديث الذي أراد أن ينتظم في تلك الثقافة ويحمل سماتها ويعبر عن طموحاتها ويواجه مآزقها. ولا شك في أن دخول النقد العربي الحديث في مرحلة المثاقفة منحه إمكانيات جديدة لشحذ أدواته المنهجية، وتجديد رصيده النظري. ولكن ذلك أدى به من جهة أخرى إلى السقوط في مشكلة التوفيق بين هويته الخاصة التي يعتبر التراث النقدي أحد أسسها، وبين الاستجابة لما تفرضه المفاهيم النقدية الغربية.

إن هذا أدى إلى تقويل التراث النقدي ما قاله النقد الغربي بعد قرون، فراح بعض الدارسين العرب لهذا التراث يتلمسون وجود أشهر المدارس النقدية التي عرفها النقد في القرن العشرين، لدى النقاد القدماء. وهكذا غدا القاضي الجرجاني صاحب منهج فني نفسي إنساني، وقدامة بن جعفر صاحب منهج عقلي، وعبد القاهر الجرجاني متميزاً بالمنهج التحليلي(5). ولقد ذهب بعض الدارسين أبعد من هذا حين ألمحوا إلى أن النقاد الغربيين توصلوا إلى ما توصلوا إليه عن طريق اطلاعهم على النقد العربي القديم. فوجدوا شبها بين ما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني في موضوع دلالة الألفاظ وارتباطها بعضها ببعض، بما انتهى إليه كثير من النقاد المحدثين. يقول محمد زكي العشماوي إننا لو "قرأنا الفصلين الأولين من كتاب "فلسفة البلاغة" للناقد الأنجليزي المعاصر ريتشاردز، لوجدنا أن كل ما يحاول ريتشاردز في هذين الفصلين، لا يخرج عما قاله عبد القاهر في القرن الخامس الهجري فيما يتعلق بقضية النظم"(6). لا شك أن هذا النوع من القراءة يحمل في عمقه وهدفه دعوة إلى الاكتفاء بالتراث، باعتباره معبراً عن كل الأزمنة وشاملاً لكل القضايا التي أثيرت في الماضي وتثار في الحاضر وقد تثار في المستقبل. وبما أن زعماً مثل هذا لا يمكن بأي حال إثباته علمياً، فإن النزعة الإسقاطية قد أفضت بأصحاب هذا الموقف إلى انتهاك قواعد التأويل. ولعل ضعف هذه "القراءة" يظهر أول ما يظهر في القضاء على التوازن الذي من المفروض أن يسود أطراف القراءة الثلاثة: القارئ والنص والسياق.

إن حذف أحد الأطراف يخل بالقراءة ويفرغها من أي معنى. وهذا ما حصل بالضبط لبعض القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي، إذ أصبح القارئ/ الناقد يتعامل مع النص وفق طموح معين كامن في لا شعور الدارس إذا صح أن نستعمل عبارة جورج طرابيشي(7). وأدى هذا إلى غياب السياق الثقافي والاجتماعي للمقروء، وإلى حضور باهت ومحتشم للنص، وإلى سيادة القارئ بكل همومه المعاصرة في عملية القراءة.

التراث النقدي والنقد الغربي: إثبات "الآخر"

إن إشكالية النقد العربي الحديث متشعبة ومتشابكة، وليس من أهداف هذا البحث أن يكشف سوى عن الوجه التراثي فيها، أي عن طبيعة العلاقة التي أقامها ذلك النقد مع التراث النقدي. وقد سبقت الإشارة إلى الوجه الأول من تلك الإشكالية، حين الإلماح إلى ذلك النوع من القراءات التي تدعو إلى الانكفاء على الذات بحجة أن كل ما جاء به الغرب من فتوحات نقدية لا يمثل جديداً لأنه متضمن في تراثنا النقدي. وضمن المنطق الإسقاطي نفسه نسجل آلية أخرى، كانت توجه طبيعة النظر إلى التراث النقدي ويتعلق الأمر بالبحث في التراث النقدي عما يحقق نوعاً من التصالح بين التراث والنقد الغربي بشكل يجعل الاستفادة من هذا الأخير تحظى بشرعية من نوع ما. وإذا كانت إحدى الخلاصات الأساسية التي يلح عليها مفهوم التأويل تتمثل في أن فعل القراءة قد تحرر من أسر الرؤية الأحادية التي كانت ترى النص حقل بيانات، فإن هذا يعني في المقام الأول أن القراءة لم تعد تكتفي باستجابة القارئ لآليات النص أو نية الكاتب، ولم تعد ترى في النص عملاً مستقلاً عن القارئ، بقدر ما هو فعل ينطوي على تفكيك النص لإنتاج نص جديد، وبذلك لم يعد القارئ قارئاً وحسب وإنما أصبح منتج نص وواهب معنى ووجود له. من الواضح أن هذه الخلاصة ترتبط بقراءة النص الإبداعي الذي تتسم لغته بخاصيات تجعله يتسع لأكثر من تأويل، ولكنها تجسد آليات قراءة التراث النقدي لدى النقاد الحداثيين. ومن المفارقة أن نسجل أن الطريقة التي قرأ بها السلفيون التراث النقدي هي نفسها التي قارب بها الحداثيون ذلك التراث. ومن هنا فإن الموقف الذي يرمي إلى تحقيق مشروعية ثقافية لاستلهام المناهج الغربية، بالبحث عن علاقة ما بينها وبين التراث النقدي، سيسلك طريق المقارنة بين الإطارين المرجعيين. وهذا ما جعله يقوم على نفس الأسس العامة التي قام عليها الاتجاه الآخر الذي كان يهدف إلى التقليل من أهمية النقد الغربي، بالادعاء أن كل ما جاء به من مناهج يوجد لدى النقاد العرب القدامى. ومن المعروف أن محمد مندور كان من أوائل النقاد الذين أشاروا إلى هذه الطريقة في مقاربة التراث النقدي، عندما أعلن أن "منهج عبد القاهر هو المنهج المعتبر اليوم في العالم الغربي (...) ولكن لسوء الحظ لم يفهم منهج عبد القاهر على وجهه، ولا استغل كما ينبغي"(8). وبهذه الملاحظة يكون محمد مندور قد دشن قراءة جديدة، تعيد اكتشاف عبد القاهر الجرجاني في ضوء الدراسات الحديثة، كما دعا إلى ضرورة استحضار مثل تلك المقارنات وفق فهم جديد لعبد القاهر الذي ليس سوى واحد من أعلام التراث النقدي.

وبعد محمد مندور كثرت الدراسات التي تعتمد الآليات نفسها إلى الحد الذي يصعب معه إحصاء ما كتب عن عبد القاهر الجرجاني(9) من هذه الزاوية بالذات. وفي هذا الباب نكتفي بالوقوف عند أحد النقاد الحداثيين ممن عرفوا بإضفاء نزعة تحديثية على التراث النقدي. ويتعلق الأمر بكمال أبو ديب. وقد وقع الاختيار على هذا الناقد لأسباب عدة أهمها، أنه من النقاد القلائل الذين يفصحون عن المنهج المتبنى في دراساتهم، وأنه من القراء المتميزين لعبد القاهر الجرجاني. فقد ألف عنه كتاباً نشر بالإنجليزية(10)، وليس هناك عمل من أعماله النقدية يخلو من التركيز على مرجعية عبد القاهر.

التراث النقدي في مرآة الحداثة النقدية

يعتمد كمال أبو ديب في كل ما كتبه عن الجرجاني، وهو كثير، على عناصر المقاربة البنيوية في ما يسميه نظرية عبد القاهر، لإعادة بنائها وفق المقولات اللسانية والبنيوية، في مرحلة أولى. وانطلاقاً مما استجد من مناهج في الدراسات النقدية في مراحل لاحقة. وهذا ما جعل قراءاته لعبد القاهر تتطور بشكل سمح لها بالتنوع الذي أضفى عليها في نهاية الأمر طابعاً تجريبياً. وسيقف البحث الحالي عند نموذج من تلك القراءات، ويتعلق الأمر بدراسة تحمل عنوان "أنهاج التصور والتشكيل في العمل الأدبي"(11).

من المفيد التأكيد على ما سبقت الإشارة إليه من أن القراءة الحداثيّة للتراث النقدي تعكس تحولات النقد العربي المعاصر في تمثله للمناهج النقدية الغربية. ذلك أن هاجس تعويم النقد العربي في ما يسميه كمال أبو ديب "النقد العالمي"(12). أدت به إلى قراءة عبد القاهر من زوايا متعددة، ووفق هدف مسطر بصفة قبلية. ولكن ما يجمع بين زوايا النظر تلك هي الطريقة التي تقوم على وضع التراث النقدي "في سياق الوعي النقدي المعاصر وهمومنا النقدية الحاضرة."(13). ومن هنا راح أبو ديب يطبق قراءته للصورة لدى الجرجاني على مقاطع شعرية لشعراء معاصرين من أمثال بدر شاكر السياب وأدونيس وسامي مهدي وعبد المعطي حجازي وغيرهم، كي يثبت أن نظرية الجرجاني في الصورة تخترق الأزمنة لتصبح أداة ناجعة لمقاربة النص الشعري الحديث. وللوصول إلى جعل عبد القاهر جزءاً من الحاضر النقدي، فإن كمال أبو ديب يلجأ إلى المقارنة بين تصور الجرجاني لطبيعة الصورة، كما أعاد صياغتها، وبين تصور رومان جاكبسون Roman Jakobson في نفس الموضوع. ولكنه لا يقتصر في هذه الدراسة على استنتاج السبق الذي سجله لصاحب "دلائل الإعجاز"، بل يذهب أبعد من هذا فينتصر للجرجاني على جاكوبسون.

قد يحتاج أمر قراءة كمال أبو ديب للجرجاني إلى فحص أكثر عمقاً للكشف عن الآليات المستخدمة في تلك القراءة. وما دام هم هذه الورقة ينصب على توضيح الخلل النظري الذي يوجه مثل هذه الدراسة فإنه يمكن الاكتفاء بتسجيل الخلاصات الآتية:

ـ إن القراءة الإسقاطية للتراث النقدي تنطلق من "المتن" النقدي العربي القديم، لتمارس عليه نوعاً من التهميش يجعل منه ذريعة إما لرفض المناهج النقدية الغربية، كما فعل عبد العزيز حمودة، أو للتبشير بتلك المناهج كما فعل كمال أبو ديب.

ـ وفي الحالتين فإن التراث النقدي يصبح أداة للانتصار لقيم الحداثة أو الحط من شأنها. وهكذا يصبح التراث النقدي مجرد وسيلة الغاية منها الانحياز لمعسكر الحداثة أو لمعسكر أعداءها.

ـ إن التعامل مع التراث النقدي وفق هذا المنظور قد أدى إلى الزج بذلك التراث في أفق ضيق ينحصر في ترجمة المفاهيم التراثية إلى مفاهيم غربية أو العكس. وقد دفع ذلك الدارسين إلى ممارسة الانتقائية على التراث النقدي والنقد الغربي معاً. فالتراث النقدي بما هو معطى تاريخي يشكل أعمالاً يكمل بعضها بعضاً، وكذلك الشأن بالنسبة للنقد الغربي الحديث.

 

هوامش

(1) حسن الهويمل، ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة، أعمال ندوة: قراءة جديدة لتراثنا النقدي، الجزء الثاني، ص526.

(2) يراجع على سبيل المثال لا الحصر عبد الله العروي. الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، الطبعة الرابعة، بيروت، 1989، ص155.

(3) أنظر محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص33. ومحمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت، 1987، ص17 وما بعدها.

(4) جهاد فاضل، أسئلة النقد. حوارات مع النقاد العرب، الدار العربية للكتاب، (دون ذكر رقم الطبعة ولا مكانها ولا تاريخها)، أنظر الحوار الذي أجراه الكاتب مع لويس عوض، ص290.

(5) أحمد بدوي، أسس النقد الأدبي عند العرب، مكتبة نهضة مصر، الطبعة الأولى، القاهرة 1960، ص105.

(6) محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار الشروق، الطبعة الثانية، القاهرة، 1994، ص223.

(7) جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 1993، ص155.

(8) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، ص339.

(9) نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى الدراسات الآتية:

- يمنى العيد. مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني ومسألة النشاط التعبيري باللغة، مجلة الطريق (بيروت). السنة الثالثة والأربعون، عدد خاص مهدى إلى مئوية كارل ماركس. فبراير 1984. وقد تناولت يمنى العيد في هذه الدراسة التحليل العلائقي الذي يقترحه الجرجاني مقارنة مع ما جاءت به البنيوية في الموضوع.

- محمد عباس، الأبعاد الإبداعية في منهج عبد القاهر الجرجاني، القاهرة، 1999. وهو دراسة مقارنة، تناولت منهج الجرجاني وعلاقته بالدراسات الغربية المعاصرة، وتوضيح علاقة النظم بالأسلوبية.

- نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآلية التأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء/بيروت، 1992، ص149 وما بعدها. حيث يخصص الكاتب مبحثاً عن "مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في ضوء الأسلوبية" يقرأ فيه عبد القاهر من خلال أسئلة معاصرة، ويبحث في تراثه النقدي عن "إجابات ربما لم تخطر للشيخ على بال".

- عبد الفتاح كليطو، الأدب والغرابة، دراسة بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت، 1982، ص54 وما بعدها. ويتضمن الكتاب دراسة مقارنة بين أرسطو والجرجاني.

(10) Kamal Abu Deeb: Al Jurjani,s theory of poetic imagery 1979, Aris and phillips Ltd. ENGLAND‏.

(11) كمال أبو ديب، أنهاج التصور والتشكيل في العمل الأدبي. قراءة جديدة لتراثنا النقدي، أعمال ندوة "قراءة جديدة للنقد القديم، المجلد الأول، ص303 وما بعدها.

(12) كمال أبو ديب، المرجع نفسه.

(13) المرجع نفسه والصفحة نفسها.