النظر في مسالة المرأة قديماً وحديثاً مرتبط برؤيتنا، ثم تحديد أبعاد هذه المسالة عند أصحاب النظر، فمن جهة العقل لا فرق بين الرجل والمرأة ؛ فهما مكلفان ببناء الحياة، ولا يكون ذلك بدءاً إلا بالعقل أولاً، ولا تعني البنية القوية إلا ما يعنيه وجود الفعلة مع ضعف التفكير، وليس هذه ميزة للرجل على المرأة فقد انتقلت البنية القوية إلى الآلة بدلاً من الإنسان، وأصبح العقل هو المهيمن على الحياة الإنسانية.
ليست المرأة شريكا في أعمار الدنيا وحسب، فقد يفترق الشركاء أو يختلفون، فهل يصح ذلك إذا كان المآل هو الخراب؟ فكيف استمرت الحياة من حقبة إلى حقبة ومن عصر إلى عصر إذا كان منطق البعض يذهب إلى أن العلاقة بين المرأة والرجل محكومة بالشراكة؟ فلو قلنا أنهما يكملان بعضهما البعض، لكان ذلك أقرب إلى الحقيقة، والدليل على ذلك إسهامات كل واحد منهما بغض النظر عن جنسه، فأنا هنا لست معنياً بأن هذا ذكر وتلك أنثى، فهذه مسألة ميكانيكية متصلة بشأن آخر، وإنما الذي يعنيني مسألة العقل، فالرجل يريد النسل والمرأة كذلك، ولكن لا تسلبهما هذه الإرادة قدرتهما على التفكير، ومعالجة شؤون الحياة بالعقل. وهل منع الحمل امرأة فليسوفة من أن تظل فيلسوفة؟ وأضع أمام الذين يسلبون من المرأة حقها في النظر والتفكير بحجة أنها أضعف بنية وأقرب إلى العواطف وأبعد عن التفكير، أضع نماذج من نساء كان لهن شأن كبير في الحراك الفكري والفلسفي منذ كانت الحياة، وسأتحدث عن نماذج أربعة كان لهن وجود بارز واثر واضح في مجالات الفكر والفلسفة في عصرهن.
ثيانو Theano حوالي 500 ق م
تقول هذه الفيلسوفة "لأن تكوني فوق ظهر حصان جامح، خيرٌ لك من أن تكوني امرأة لا تفكر"، وهي امرأة فيثاغورس، ومعلمة في مدرسته ثم مديرة لها بعد وفاته ووالدها هو برونتيوس أحد أرستقراطي مدينة كرتون. عرفت ثيانو بالشذرات التي كتبتها عن التقوى واعتمدها أفلاطون لأنها ذات علاقة بالمحاكاة والمشاركة، وتشرح ثيانو في شذراتها فكرة فيثاغورس التي تذهب إلى (إن العالم عدد)، فتقول "إن فيثاغورس لم يقل أبداً إن الأشياء الحسية، نشأت عن الأعداد أو إنها مصنوعة من العدد، وإنما ذهب إلى إن الأشياء صنعت وفقاً للعدد". وتوضح ثيانو التشابه بين الأشياء والأعداد وفق التصور الميتافيزيقي للمحاكاة أو التشابه، فالشيء يشارك سواه في العالم ما يتفق والنظام والتناغم، أي أن هذا الشيء سواء كان مادياً أو غير مادي يمكن أن يتناغم في ترتيب أو نظام مع الأشياء الأخرى، ويمكن أن نعده، وإذا كان ذلك كذلك فالمعنى الأول وفق – ثيانو – هو أن الأشياء منظمة وتشارك في النظام العام الموجود في الكون. لم يقتصر إسهام ثيانو في الفكر الفلسفي على شرح الفيثاغورية المتعلقة بالرياضيات والعالم وإنما تناولت نظريتين من نظريات فيثاغورس هما: خلود الروح وتناسخ الأرواح.
خلود الروح
ترى ثيانو إن الفيثاغورية تؤمن بوجود " عدالة إلهيّة في الحياة الأخرى وتقول (ما لم تكن الروح خالدة فسوف تكون الحياة مجرد وليمة لمرتكبي الشر)، ووفق ما ترى فإن الروح لو كانت تفني بفناء الجسد لقادنا ذلك إلى إن المتسببين في الاضطرابات وإفساد النظام بسوء سلوكهم أثناء حياتهم لا يعاقبون على ما ارتكبوه فضلاً عن أنهم يحدثون الفوضى في نظام الكون المحكوم لـ (الهرمونيا)، إذن لابد من العقاب، كما يقضي القانون الأخلاقي.
تناسخ الأرواح
ترى ثيانو أن الكون يستعيد (الهرمونيا) أو التناغم بواسطة تناسخ الأرواح، فالروح الخارجة من الجسد لا تتقمص بالضرورة جسداً بشرياً آخر، بل تدخل موجودات أخرى أدنى من البشر كالحيوان أو غيره، وهذا هو العقاب الذي يوقع على الإنسان الذي يحدث الفوضى في النظام.
ومن أقوال ثيانو التي تكشف عن موقف الفيثاغوريين من المرأة ما يلي:
- إن النشاط الجنسي للمرأة ينبغي أن يقتصر على إمتاع الرجل، لذلك يجب أن لا يكون لها عشاق آخرون.
- أن لا تتحد العفة والفضيلة خلال الزواج مع التقشف أو الإمساك عن ممارسة الجنس.
- أن طهارة المرأة تظل قائمة مع زوجها طالما لم تعاشر آخرين.
- أن الواجبات المفروضة على المرأة هي إسعاد زوجها.
- أن الحب الرومانسي ما هو إلا ميل طبيعي لنفس خالية جوفاء.
أسبازيا (ت401 ق م)
هي مواطنة ملطية وصلت إلى أثينا عام 450 ق0م وافتتحت فيها مدرسة لتعليم البلاغة والفلسفة. وشجعت خروج النساء من بيوتهن وعملت على تربيتهن تربية متقدمة، وكانت تلقي محاضرات في هذا المجال في صالونها الفكري، ويحضرها بركليز وسقراط وآخرون، وأعجب بها بركليز، فسعى إلى الزواج منها بعد أن تركته زوجته، غير أن القانون الذي سنه بركليز نفسه والذي يحرم على الأثيني الزواج من أجنبية حتى وان كانت يونانية حال دون الزواج من اسبازيا. وكان شعراء الكوميديا يحضرون صالونها وأسموها (هيرا) أو الإلهة الملكة زوجة رب الأرباب على اعتبار أن بركليز هو الإلهة زيوس. وأعجب سقراط بفصاحتها، وينسب البعض إليها الخطبة الجنائزية التي ألقاها بركليز بعد حرب البلبونيز، وكانت سيدة المجتمع الأولى في أثينا وأخذت عنها نساء المدينة (الحرية العقلية، والأخلاقية) لذلك ندد بها المحافظون في المجتمع الأثيني ووصفت بأنها غانية لخروجها على الدين، وقدمت للمحكمة وأصدرت حكمها ببراءتها، وخلدتها الوثائق التاريخية في عملين بارزين هما:
أولاً: يذكر ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" وماري ألين ويت في كتابها "تاريخ الفلاسفة من النساء" أن سقراط يقول وقد حضر محاورة مينكسينوس لأفلاطون: عندي معلمة ممتازة في البيان "الخطابة" علمت كثيراً من الخطباء الممتازين وعلى رأسهم بركليز، ولقد سمعت بالأمس أنها دبجت خطاب جنائزياً عن موتانا وهو الذي ألقاه بركليز في الحفل الجنائزي الشهير، ولقد حفظت منها هذا الخطاب عن ظهر قلب، وكانت هي على استعداد لأن تجلدني بالسياط إذ نسيت منه شيئاً.
ثانياً: تضمنت اللوحة الزيتية الموجودة في أعلى بوابة مكتبة جامعة الإسكندرية صورتها في صحبة سقراط وفيدياس المثال وسوفكليس وبركليز وأفلاطون وآخرين، ويبدو أن هؤلاء هم أعضاء صالون أسبازيا. أما خطابها الذي ألقاه بركليز فيمكن بيان أهم عناصره:
- امتداح السنة المتبعة بتكريم الشهداء.
- التركيز على الشخصية الاثينية الحقة مبيناً صفات المواطن الاثيني ومناقب مدينة أثينا.
الفخر بالنظام الديمقراطي في أثينا.
- بيان خصائص هذا النظام المتصف بالمساواة، إتاحة الفرص، عدم أهمية الطبقة والثروة، وأن الحياة السياسة متاحة للجميع.
- الحديث عن الحرية التي يتمتع بها المواطن الاثيني فضلاً عن تمجيده للموهبة والحكمة، واعتماده على ذاته، وإلمامه بالشؤون السياسية.. الخ.
وإذا ما قرانا تاريخ حياة أسبازيا وما كان لها من نشاط في الحياة الفكرية وبخاصة مع كبار فلاسفة اليونان مثل سقراط وأفلاطون سنجد إنها كانت على قدر كبير من الأهمية عند هؤلاء حتى أن أفلاطون وجد فيها تهديداً كبيراً لما كان يعتقده في الحياة الثقافية الاثينية، معتبراً أن موهبتها في الخطابة سبب في سؤ استخدام الفلسفة والحقيقة، لذلك وجهت إليها تهمة الإلحاد وحوكمت أمام (1500) من القضاة، وحكمت المحكمة ببراءتها، وخلدها الأثينيون باللوحة الزيتية التي مر ذكرها تقديراً لمواهبها وإسهاماتها.
ماكرينا (حوالي 330م)
هي قديسة وفيلسوفة يونانية وتعد صاحبة أقدم نظام ديني لزهد النساء، هي من قيصرية الجديدة عاشت في بيت علم ودين وفلسفة، وكان بينها وبين شقيقها محاورات فلسفية دونها شقيقها جريجوري في كتاب عنوانه (حياة ماكرينا)، وتدور فحوى هذه المحاورات حول خلود النفس والبعث والقيامة.
في حديثها عن النفس تخالف ماكرينا الفلاسفة أرسطو وأفلاطون، إذ يرى الاثنان أن النفس فانية في حين ترى ماكرينا أن النفس خالدة لأنها شبيهه بالله وهي أساساً بلا انفعالات، لذلك لا ترى ثمة فرقاً بين نفس الرجل ونفس المرأة، فجوهر النفس عندها هو قدرتها على التفكير العقلي فلا فرق بين الرجل والمرأة في هذا، أما الانفعالات فهي ليست أجزاء جوهرية في النفس، لذلك تقع المسؤولية على النساء فرادى في موضوع الانفعالات ولا ينبغي اعتبار الطبيعة الجوهرية للنفس عند المرأة شريرة أو مرذولة، وهذا انتصارُ للمرأة إذ اعتبرتها مخلوقة على صورة الله كالرجل تماماً، وهي تساويه في الشرف والفضائل والمنافع.
هيباشيا (370-415م)
ولدت في الإسكندرية عام 370م، وهي ابنة ثيون أستاذ الرياضيات في متحف الإسكندرية، تعلمت على والدها، وعلمت الفلسفة والرياضيات في الإسكندرية، غير أنها تلقت دروساً في الفلسفة على يد فلاسفة من مدرسة الأفلاطونية الحديثة، ويذكر ول ديورانت إنها ثقفت نفسها بما قرأته من مؤلفات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، والأفلاطونية الجديدة. وعندما سافرت إلى مدينة أثينا زارها علية القوم من المفكرين والفلاسفة، الأمر الذي يدل على مكانتها، كما ذكرتها دائرة المعارف البريطانية بأنها فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات ولدت في الإسكندرية عام 370م وماتت فيها سنة 415.
كانت أستاذة الفلسفة بالإسكندرية ويهرع لمحاضرتها حشود كبيرة من الناس وينادونها بالربة أو الفيلسوفة وعندما كانت تقوم بشرح مذهب أفلاطون أو أرسطو، يحضر درسها عدد كبير من أكابر الإسكندرية وتطرح الأسئلة المصيرية مثل (من أنا وإلى أين مصيري؟ ماذا في استطاعتي أن أفعل أو أن أعرف؟ أين مكاني في نظام الأشياء؟ ما طبيعة الخير والشر؟) وتقول عنها دائرة المعارف البريطانية (واجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة، فجذبت عدداً هائلاً من التلاميذ). إلا أن مسيحي الإسكندرية نظروا إليها بقدر غير قليل من الكراهية لعدة أسباب منها:
- أنها ظلت على ديانة اليونان الوثينة.
- أنها جسدت العلم والفلسفة والثقافة بصفة عامة وهي أمور تتداخل مع الوثينة
- أنها ترتبط بعلاقة صداقة مع حاكم الإسكندرية الوثني والذي كان يستشيرها في كثير من الأمور الفلسفية.
عرفت هيباشيا بجمالها الفائق، ولكنها لم تتزوج وسميت بعذراء الإسكندرية المتواضعة، ولكن أسقف المدينة "كيرلس"، وكان سيئاً ومقيتاً، تربص لهيباشيا الدوائر حتى حانت الساعة الرهيبة كما روت أحداثها كتب تاريخ الفلسفة: كانت عربتها تمر من إحدى شوارع الإسكندرية فاعترض طريقها أزلام كيرلس من الرهبان فأنزلوها من العربة وجروها إلى الكنيسة، فنزع الرهبان ثيابها حتى بدت عارية كما ولدتها أمها، وتقدم بطرس القارئ في الكنيسة وذبحها وهي عارية بعد أن امسك بها الرهبان الذين يتشدقون ليلاً نهاراً بالطهارة والزهد، ولم يقف الأمر عند الذبح وحسب بل عكفوا ليلتهم على تقطيع جسدها إلى قطع صغيرة وكانوا يتسلون بكشط اللحم عن العظم، وراحوا يرمون أعضاء الجسد في نار أو قدوها في شارع (سينارون) حتى تحول الجسد إلى رماد وهم ينشدون أناشيدهم، ويمرحون مرحاً وحشياً شنيعاً على حد تعبير ديورانت. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل المسيح هكذا؟ وهل حواريوه مثل هؤلاء الوحوش؟ كما لا بد من التساؤل: لماذا جردوا هذه الفيلسوفة من ملابسها لتظل عارية أمامهم برهة قبل أن ينقضوا عليها مثل الوحوش؟ إنها نقطة سوداء في تاريخ الإرهاب الفكري وبخاصة الذي يقع على المرأة، فإذا لم تكن هيباشيا شهيدة على النحو الذي نعرفه، فهي قديسة الفلسفة والفكر لأنها بقيت عذراء نقية ارتفعت عن لذائذ الجسد إلى سماء الفكر والروح، ولأن الرهبان لم يستطيعوا الوصول إلى متعة حقيقية من جسد هيباشيا راحوا يمزقونه قطعة قطعة انتقاماً منها ومن فكرها، فارتفعت هي بينما هم ظلوا في وحشيتهم هامدين.
وقال فيها الأديب الفرنسي جيلي ميناج قصيدة منها:
"لا بد لكل من يشاهد، ويتأمل بيتك الطاهر.. الخالي تماماً من كل زخرف أو زينة.. أن ينشغل بأمر الثقافة.. هيباشيا أيتها المرأة الحكيمة.. لغتك عذبة.. ونجمك متألق في سماء الحكمة".
ومن أجمل ما قيل عن هذه المرأة ما قاله جورج سارتون "إن هذه المرأة العظيمة، كان لها شرف مزدوج: إنها أول من اشتغل بالرياضيات من النساء، ومن أوائل الذين استشهدوا في سبيل العلم".
ختاماً، إن جدارة المرأة في مجالات الحياة المختلفة تثبتها الأيام إن كان هناك من لا يقرأ التاريخ ويرى الموقع المؤثر للمرأة فيه، والنماذج التي مرّ ذكرها هي إشارات سريعة تقتضي العدالة إرسالها لتعزيز موقع المرأة في الفعل الإنساني الصاعد.