تبدو صفاء عبد المنعم في روايتها: (قال لها يا إنانا) مثل طاووس، يكتب بريشة الحلم أوجاع الذات المتناثرة لكل فضاءات الواقع. إنها ذات متمردة، بائسة، معذبة للنفس تارة مع أنها تلهج بالغناء، ومستسلمة للواقع تارة مع أنات الجسد، ومفتضة لبكارة اللغة، تستعذب الألم واللذة معاً، إنها شخصيات الرواية التي أحكمت نظم حركاتها، فجعلتنا نلهث وراءها لاكتشاف تفاصيل السرد، بل واكتشاف العالم، حيث اللغة تمثل واسطة العقد الذي تنسج ببهاء حباته النورانية. ومع كل فهل نجحت صفاء عبد المنعم في التمرد على الشكل لخدمة المضمون السردي، أو بعبارة أخرى : هل جددت الكاتبة في شكل الكتابة الروائية – كما سيجيء - وهل كان هذا التجديد لصالح فضاء السرد الحكائي، أم أنها اهتمت بالشكل فأغفلت الموضوع فجعلتنا نحكم - بداية – على هذه الكتابة بالغرائبية، أو بعدم الإحكام لبنية السرد ؟، أم أنها أرادت عبر الكتابة الجديدة، والكتابة عبر النوعية بصفة خاصة، أن تستعير من السينما بعض تكويناتها في استخدام "الفلاش باك"، أو القطع للمشهد السردي لإبراز تفاصيل جزئية قد تخدم النص، أتقدم هذا الشكل التقني لرواية ما بعد الحداثة، أو رواية ما بعد القرن الواحد والعشرين؟!.
إنها أسئلة أرجو أن أجيب عنها عبر تحليلات البنى السردية لمستويات السرد: (الذات الساردة، الذات المثقفة، الذات المتيقظة، الذات المتداخلة، ثم يجيء الخطاب على عكس ما ينادي به - رولان بارت - في مسألة موت المؤلف، إذ المؤلف – كما أزعم – موجود معنا؛ بل أنه يتدخل بشكل مستمر في تسيير أحداث السرد، بل وتوجيهه إلى مناطق أكثر بعداً، بدلاً من توجيهه إلى البؤرة، أو الحبكة الروائية، ثم يأتي السؤال : هل هي "رواية ذاتية / نفسية " – تدور في عوالم وإن بدت متماثلة، إلا أنها تتقاطع باستمرار، بل وتتماهى في البعد خارج السياق السردي مما يجعلنا نقربها من الكتابات السيكودرامية للمرضى النفسيين* ؛ ولكن ما يجعلنا ننحيها عن ذلك – بالطبع – هو تدخل الراوي العليم ؛ أو الذات الساردة في توجيه عنصر الحكي – الموضوع – لمناحٍ أخرى لتكشف لنا عن عالمٍ خلف العالم، إذ تغوص في الذات الإنسانية، لتتماهى الذات مع السرد فتندمغ وتنصهر لتصبح سيرة ذاتية للنفس، وإن علتها تهويمات، أو اختلاف في مستويات الرؤية، أو تداخل الموضوعات التي ليس بينها أي رابط سوى رابط خالة الاسترجاع (الفلاش باك) ؛ والتي لا نعول عليها في الدرس النقدي للحكم بجودة وإتقان السرد الروائي من عدمه، بل والحكم على معايير الحكم الجمالي بقيم أخلاقية، أو إنسانية، وإن تعاطفنا مع الراوي ؛ إلا أننا لا يمكن أن نعول إلى هذا التعاطف لنحكم بمعيارية جادة على العمل وفنياته فنحيله إلى باب السيكودراما، أو إلى جنس السيرة الذاتية ، أو رواية الذات، كجنس يصاف للرواية ؛ لكنه ليس منها في الدرس النقدي البلاغي.
لقد قسمت الكاتبة روايتها إلى عدة أقسام، أو فصول : الروح، جسد، الفرنجة، نشيد الفرح، امرأة تثرثر كثيراً، جثة العشب، الرواية، حيوان بري لا يركبه أحد، الإنسان السائب. وبفك شيفرات العناوين السابقة يمكن لنا أن نلمح – بداية – الخيط النفسي الذي يربط هذه العناوين، فلو أعدنا – مثلاً – ترتيبها لقلنا : إنها رواية لامرأة تثرثر كثيراً، تفضفض عن الروح والجسد لإنسان سائب، أو لحيوان بري لا يركبه أحد، فهي تنشد الفرح لتدفع عنها الفرنجة حتى لا تصبح جثة مثل العشب انطفأت فيه الخضرة فأصبح يستعذب الألم، وينظر للعالم وهو يستسيغ المرار.
وبعيداً عن التفسير النفسي للأدب – والذي لا أميل إليه في الغالب – فهي رواية تركز على بطلة وحيدة – الذات – (فطوم) ، تلك الفتاة التي أخذت على نفسها أن تصبح فتاة موديل لفنان عجوز (البروفيسور) يقوم برسمها وافتراشها أيضا، ومع استعذابها للذة، وعدم إيمانها بما يمارسه ذلك العجوز، إلا أنها مشتتة القلب، تعطي جسدها بالساعات لذلك المثّال العجوز، كما ترقص للموسيقى الحالم عازف الكمان، ثم نراها تجلس بالساعات أمام الطبيب المعالج لتعترف بهفواتها وغفواتها، ثم تواعد آخراً ينتظرها بفارغ الصبر، ثم تهفو لأن تلقي بنفسها في النيل بعد أن تضع حجراً في صدرها وتكتب لمحبيها كلمات الوداع والثناء، ثم تعود الى نفسها فتكتشف الفراغ والجنون فتحاول تحطيم كل شيء ويتوالى الصراع داخل النفس المليئة بالانكسارات والأحزان.
لقد أحبت في البداية، وهى ابنة المدينة، ذلك الفلاح الذي لم يعرها أي انتباه، فاندفعت الى البروفيسور تنظف له مرسمه فيجلبها أمامه، ثم ينزع باب قفصها بمهارة لتنطلق اللذة المندغمة بالحلم، فتحلم – كما كان يوهمها – بأنها أفروديت، أو أنها سيدة الآلهة، ولذا يجب عليها أن تستمع إلى بيتهوفن وموتسارت، مع أنها كانت تحن إلى موسيقى سيد درويش وسلامة حجازي ... الخ. إنه الهروب إلى الحلم عبر مساحة من الدهشة والغرائبية اللامتناهية لحياة هذه الفتاة، ومع أنها – كما جاء في الرواية – كانت مشتتة الرؤى، إلا أنها كانت تستعذب الحلم لتهرب من آلام الواقع والأهل والأولاد الصغار في المنزل ؛ ومع أن مرام ابنة خالتها هي التي قدمتها للبروفيسور العجوز بعد أن ملت من العمل معه، إلا أنها ارتضت بذلك لأنها رأت عالماً مختلفا، وحياة مغايرة خلف كوخ العجوز المليء بالأحبار واللوحات وحيث كان يحب أن يمتدحها فيناديها باسم : (إنانا)، ومع أنها كانت تراجع نفسها وتغيب عن البروفيسور بالشهور وربما لأكثر من عام إلا أنها تعود بإرادتها لتستعذب العشق والحنان والدفء بعد أن عكرتها حياة المدينة : من مضايقات في المواصلات العامة، في السيارة، في المترو، وعبر طرقات المدينة في الليل، وعند كورنيش النيل، وغير ذلك.
ومع أنها كانت تعود لأمها فتخفف عنها رهق السنوات، إلا أنها كانت مشغولة بذاتها إلى ذاتها، بل عندما جاء موعد عيد ميلادها رفضت ابنة خالتها المجيء لحضور حفل عيد الميلاد واكتفت بمهاتفتها ومناداتها باسم غير الأستاذة كما اعتادت ابنة خالتها أن تناديها بذلك، وقد عللت السبب - في نفسها - بانتقال الأسرة إلى حي أقل رقياً عن ذي قبل، لكنها اكتشفت السر بعد ذلك إذ أن ابنة خالتها هي التي قدمتها لذلك العجوز ليفعل معها مثلما كان يفعل معها تماماً، ومع أنها كانت تعلم مقدما بما سيفعله معها إلا أنها ارتضت بذلك، أو تغاضت عن ذلك ، لذا لم تأبه لسلوك ابنة خالتها معها، وظلت تسبح عبر الأساطير وملكات الجمال والآلهة والقصص التي كان يحكيها لها ذلك العجوز الحكيم. ومع أن الرواية تعرض لحياة (مرام أو ميرام أو مريم) وخطبتها للضابط، وغيرة بنات جيلها منها، إلا أن هذا الجزء – فيما أحسب - هو جزء مقحم على العمل، ولم تستطيع الكتابة أن توظف ليتناغم في نسيج العمل القصصي، ومع أنه يمثل قاسماً مشتركاً في الراوية وفى النهاية الفاجعة لفطوم التي تشنقها ميرام بعد أن شنقتها – هي - من قبل بتقديمها للبروفيسير.
إنني أرى أن تداخلاً في السرد كان واضحاً بين شخصية فطوم وشخصية ميرام، بل أننا يمكن أن نجزم بأن الشخصيتان هما شخصية واحدة ولكنها شخصية متنافرة، شخصية موزعة بين الحلم والحقيقة، ومع أن مستويات السرد قد أبانت عن نفسها، إذ بدا صوت الراوي في البداية ظاهراً، ثم انطلق صوت الذات – المؤلفة - ليظهر جلياً في الفصل المعنون (بجسد) و (الفرنجة)، وذلك بالحديث عن روايات أخرى لأصدقاء المؤلفة مثل رواية (لصوص متقاعون) وكتاب (مصر رايحة على فين) وغيرها، وهنا يتشابك صوت الراوي بتدخل المؤلفة في توجيه السرد، وأحسب إن هذا التوجيه مرفوض نقدياً، إذا أنه كسر الإيهام بالسرد للحديث عن تفاصيل أخرى لم تخدم السياق السردي فيما - أحسب – بل أنها تتوجه برسالة للمجتمع وهى رؤية تجديدية للشكل، لكنها ليست أساساً – فيما أرى – لاتساق هارموني السرد (الحكاية) وهذا الكسر للتوقع - حتى بين فصول الرواية - قد يجعل القارئ العادي – يجزم بعدم نسبة هذا العمل الى جنس الرواية في الأساس، وليلحقه بشيء آخر غير أن يطلق علية رواية، لكنها ما يعزى الى نفى ذلك عنها هو تلك الإشارات (الفلاش باك) - والتي لا نعول علبها أيضاً - واستحضار أسماء أبطال الرواية (الفرعيين) وربما الأساسيين في بعض الأحيان ، ولكن ومع كل فقد نقوم بإلغاء بعض الفصول في الراوية دون أن يؤثر هذا على السرد الحكائي (بنية السرد) ويمكن _ فيما أحسب – أن يندرج هذا العمل عبر الكتابة الرقمية والتي لم يستشرف لها بعد، ومع ذلك فهي نص روائي يجنح الى التجديد في الشكل ولكنه يوقع القارئ في اضطراب ذهني لعدم تمهيد الكاتبة إليه – سلفاً - وقد يكون للكاتبة الحق في ذلك بغية الحفاظ على البنية الشكلية لتسلل السرد من جانب ومحاولتها التجديد في الشكل من جانب آخر، ومع ذلك فإننا سنتوقف في الحكم على ماهيتها كرواية بالمعنى المعروف، وسنلحقها بآليات الكتابة الجديدة.
يبقى شيء جدير بنا أن نلمح إليه من تعدد مستويات السرد باستخدامها للمقاطع الشعرية، وبعض أغاني أم كلثوم ونجاة وكاظم الساهر وغيرها، وقد جاءت هذه التضمينات لتضيف الى لغة السرد أبعادا ً متعددة، بل ونراها تندمغ في بنية السرد عندما نطالع فصل (الفرنجة) و (نشيد الفرح)، بل أنها – أي الكاتبة – تتدخل في السرد فتصف لنا بعض الأحداث الحياتية مثل : حركة كفاية، المظاهرات عند مكتبة مدبولي – محرقة بني سويف وحكاوي الشيخ إمام وغيرها. وهذا التدخل من قبل الكاتبة، وعدم تمهيدها للفصل بين شخصية مريم وفطوم – فيما أحسب – قد يوقع القارئ في حيرة فتتداخل لديه شخصية مريم مع شخصية فطوم وإن كانت لغة الأولى أكثر ثقافة بينما الثانية غير معنية بالفن والثقافة أو لم تظهر على لغتها ذلك وإن اكتسبت ذلك من إيهام المثال العجوز لها وحكاياته عن بيتهوفن وموتسارت والأساطير المتعددة.
إن هذا السرد - فيما أحسب – يندرج نحو السيرة الذاتية، وإن حاولت الكاتبة أن تنفي ذلك باصطناعها شخصية فطوم، إلا أنها أوقعت نفسها في شرك أرادت أن تفلت منه بحكاياتها عن روايات أصدقائها وذكرها لبعض أسماء لروائيين عالميين وشعراء معروفين، وهى بتدخلها في تسلسل السرد الروائي قد جعلتنا نشعر بوجود قلم آخر غير الراوي، هو قلم الكاتبة الساردة العليمة بما تكتب، بل وبتوجيهها لمسيرة السرد إلى تفاصيل مغايرة عن السرد الحكائي لتسلسل الأحداث العامة بشكل هارمونيطيقي أو بشكل – حتى مبسط – لذا – فأحسب – أن هذه الرواية مغايرة عما ألفناه من شكل للرواية ؛ كما أن عدم تمهيدها لظهور الشخصيات قد جعلنا نقر بأن شخصية مريم هي نفسها شخصية فطوم التي حاولت أن تهرب منها لتقرر في النهاية بأن هذا الشكل – الجديد – للرواية مرتب بطريقة غير مألوفة، أو مغايرة تماماً للشكل المعروف.
ولا يفوتنا كذلك أن نتحدث عن المهارة اللغوية للكاتبة والتي تنم عن خبرة طويلة في الكتابة لجمعها كل هذه الأحداث والسياقات السردية في نص واحد، وفي محاولة منها للتوفيق بين كتابة الرواية والسيرة معاً، وأرى أنها لو مهدت للشخصيات لأكسبت السرد مساحة أكثر براحاً، لنقر بأنها (رواية تجريبية) - نص - حاولت الكاتبة فيه استخدام أسلوب السرد الذاتي (الكاتبة) والسرد الروائي (تسلسل الأحداث بمنطقية) ؛ ومع هذا فإنني أميل لوصفها برواية السيرة، وهى وإن – عدت من جنس الرواية – إلا أنها ليست منها في الأساس، إذ الفرع وإن انتسب للجذور إلا أنه يبقى – غريباً - بعض الشيء – عنه لانتسابه لنوع آخر - مثل الأشجار لو ركبنا عليها فرعاً من جنس آخر فإنها تندمغ معه وتثمر، إلا أن هذا الثمر يكون له المذاق المغاير أيضاً. وبعد إن هذه الرواية قد أجهدتني، إلا إنني أعترف عند قراءتي لها بأنني لم أترك الكتاب للحظة واحدة إلا بعد أن أجهزت على نهايتها، بل وأنني كتبت هذه السطور مباشرة بعد قراءتها وهذا يدلل الى جماليات السرد – من جانبي الشخصي – ومن جانب آخر يدلل الى جماليات الكتابة وحنكة الكاتبة في أحكام الصياغة السردية لهذا النص الجديد ......
ومع كل فقد أكون قد ظلمت الرواية إذ طبقت عليها مقاييس الدرس النقدي السائد، لكنني مع هذا النوع من الكتابة - والذي ينزع الى التجديد والتجريب والبحث في آفاق أكثر اتساعاً للسرد الروائي – ترانى قد أغفلت التدليل ببعض من مقاطع الرواية، وذلك عن قصدية منى - بغية دفع القارئ لقراءة النص الروائي من جهة، من جهة أخرى أعمالا لمنهجية القراءة التي انتهجتها سلفاً والتي تجعل القارئ لايكتف فقط بالقراءة النقدية بل يتوجب عليه العودة لقراءة النص بعد أ ن ألمحنا الى شفراته المتعددة. نحن إذن أمام كاتبة لها رؤيتها وعالمها، ولها أن تطوع روايتها سلفاً بالشكل الذي ترتأيه، لكننا مع ذلك لنا أن نقرأ أعمالها بما يصلنا منها، وأحسب أن ما وصل إلينا في هذه الرواية هو إضافة لمسيرة السرد الروائي بشكل عام، وانتصارا للشكل والمضمون معا، ولكن حدود الدرس النقدي –لدينا – جعلتنا ننتصر للرواية، أو لرواية السيرة وللنقد معاً، وتلك لعمري رؤية أنتجها النص الذي بين أيدينا، إيمانا منا بأن النص يفرض منهجه على الناقد، وليس للناقد أن يفرض سلطته على النص، ويبقى الانتصار لسلطة النص هو الدليل لأقطع لتنامي الكتابة الإبداعية والنقدية معا.
ناقد من مصر