صدر هذان الكتابان عن مؤسسة الدراسات المقدسية في ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير وهما من تحرير وتقديم سليم تماري وعصام نصار، تم إعداد هذين الكتابين من مذكرات الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية لتغطية الأحداث الثقافية والاجتماعية والسياسية في المرحلة التاريخية الممتدة بين الأعوام 1904-1948 من تاريخ القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام. ما يميز السيرة الذاتية لواصف جوهرية هو الوصف الدقيق لملامح الحياة المقدسية في العقود الأولى من القرن العشرين، هذه الملامح التي تزودنا بصورة فردية لقصة جماعية لمجتمع عربي عاش على أرض هذه البقعة الهامة من الأرض.
ونظراً لأهمية هذه المذكرات وما تتضمنه من معلومات كبيرة ومفصلة وجديدة رغم قدمها، ارتأيت تقديمها للأصدقاء والقراء في مقالة قد تساعدهم على التعرف أكثر على هذا الموسيقي الذي استطاع تقديم مادة نادرة ومميزة توثق لمرحلة هامة من مراحل التاريخ الفلسطيني، تلك المرحلة التي يمكن اعتبارها النفس الأخير من تاريخ حكم الإمبراطورية العثمانية في فلسطين وبداية المرحلة الانتدابية التي قادت الى سقوط فلسطين في أيدي العصابات الصهيونية. ومما يميز هذه المذكرات الجوهرية قدرتها الكبيرة على توثيق التفاصيل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي استطاع الكاتب الإحاطة بها أثناء حديثه عن قصته الشخصية وقصص من عاصرهم من رجال المجتمع الفلسطيني في تلك الحقب التاريخية الغنية بالأحداث.
استعمل الكاتب أسلوباً قوياً في فهرسة مواضيعه التي أثارت التساؤل حول الوقت الذي استثمره في إعداد المادة، إذ أن التفاصيل المذكورة لا يمكن إسترجاعها من الذاكرة بنفس الدقة التي أعد بها الكاتب مواد سيرته الذاتية التي هي في نفس الوقت مذكرات مدينة وسيرة وطن عانى الأمرين من الحكم العثماني واستكملت مسيرة المعاناة على أيدي الانتداب البريطاني. ونستطيع القول بأن واصف جوهرية هو شاهد على العصر، ذلك العصر بكل ما فيه من طرائف ودعابة وبساطة وتسامح وجهل وفقر وعوز وكفاح وغيرها من مفردات الحياة الفلسطينية في تلك الحقب المختلفة. يرفق واصف مع مذكراته مجموعة نادرة من الصور التي تعتبر مرجعاً هاماً يمكن الاعتماد عليه في الكثير من الأبحاث، إذ تمتد المذكرات الجوهرية على مساحة زمنية تصل الى خمسين عام، وهي فترة زاخرة بالأحداث الجسام التي غيرت وجه التاريخ في فلسطين والعالم العربي.
كما نلاحظ من هذه المذكرات قدرة الكاتب على التحليل الاجتماعي والتاريخي والسياسي لكل حادثة بشكل يضع القارئ في صورة الأحداث ومسبباتها ونتائجها. نتعرف من مذكراته على الطابع المتسامح للحياة الدينية في القدس، شاءت الأقدار أن يحصل واصف على فرصة للعمل لدى ُصناع القرار في المجتمع المقدسي، حيث عمل لدى موسى كاظم الحسيني، رئيس بلدية القدس آنذاك، مما أعطى لمذكراته طابعاً أعمق وأكثر اتساعا.
تحدث جوهرية في مذكراته عن العلاقة المعقدة مع الطائفة اليهودية في الحي اليهودي من القدس، تلك العلاقة التي رافقتها ظروف غير مفهومة بالنسبة للقارئ المعاصر الذي لا يحق له إسقاط الحاضر على الماضي خاصة عندما يعلم أن الطائفتان الإسلامية والمسيحية كانتا تشاركان الطائفة اليهودية احتفالاتها وأعيادها، وفي نفس الوقت يستعرض في هذه المذكرات المسيرة الطويلة من الكفاح ضد الانجليز والمستوطنين اليهود الجدد. يتحدث واصف جوهرية في مذكراته عن ملامح أحياء القدس ويومياتها ويتحسس التفاصيل كمن يستشعر الخطر القادم عليها من هدم وإزالة ومحو للهوية، ظهرت إحدى مراحل هذا الاستشعار حين هدم الانجليز منارة باب الخليل، واستكمل هذا الأمر بالوصف الدقيق لحارة السعدية التي يصف بيوتها والجيران فيها بدقة وتفصيل، وكأنه يعلم قبل عقود طويلة من الزمن ما سيحل بهذه الحارة وغيرها من حارات القدس العتيقة.
ومن الملامح التي أحببت إطلاع القارئ عليها خدمة واصف جوهرية في البحرية العثمانية في البحر الميت، فعلى الرغم من انتمائه الى الطائفة المسيحية إلا أن الحكم العثماني لم يعد يعفي أبناء الطوائف الدينية من الخدمة العسكرية، حيث تم تعيين كاتب المذكرات في البحرية في أريحا على البحر الميت، حين وضعت البحرية العثمانية يدها على خط التجارة التي تمر عبر هذا البحر، تم تجنيد واصف في البحرية هناك بوظيفة قنطارجي، أي المسؤول عن وزن القمح المستورد من الكرك والذي يتم شحنه عبر البحر الميت، أعتبر قمح شرق الأردن مصدراً للتزويد الثابت للجيش العثماني والأهالي، ونظراً لعدم وجود معابر مع شرق الأردن، كان لا بد من تجهيز ميناء خاص بهذه التجارة على شاطئ البحر الميت وتزويده بالبحارة المهرة والسفن البحرية. فتم تجنيد عشرات الملاحين العرب من يافا والذين حملوا معهم تقاليدهم البحرية وجلبوا عائلاتهم معهم الى اريحا. أحضر هؤلاء البحارة فلايك كبيرة (قوارب) من مدينة يافا، تم حملها على الكارات لتجرها البغال من مدينة يافا الى مدينة أريحا، ومن أجل تشجيع بحارة يافا على العمل في أريحا، قامت الدولة العثمانية بإصدار عفو عن أصحاب السوابق من بحارة يافا شريطة موافقتهم على العمل في ميناء أريحا.
وحين يصف واصف جوهرية الحارات المقدسية، نجد أنفسنا أمام محدث بارع، قوي الذاكرة، شديد الدقة، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويذكرها أثناء وصفه للمكان وذاكرة هذا المكان، نرى ذلك أثناء حديثه عن محلة باب العامود وحارة السعدية، بل يتعدى الأمر وصف الأمكنة الى سرد تفاصيل الأشياء والذكريات، فنراه يحدثنا عن تفاصيل دخول الاختراعات الجديدة للقدس كالراديو والسيارة، ويتحدث عن البريموس فيقول: (جاء بابور البريموس للقدس، فدهشنا من هذا الاختراع لنتخلص من الحطب والفحم للطهي، وهكذا تحمس والدي فاشترى بريموس للوالدة معتقداً بأنها ستكون مسرورة، ودفع مبلغ أربعة مجيديات.. ولكن هذا الاختراع المريح النظيف لم يعجب الوالدة، بل كان موضوع بحثها في الليل والنهار وذلك من قوة صوته ولعدم عادتها عليه، فمثلاً يدق باب الدار الرئيسي أولا وثانيا وهي تكون بجانب البريموس فلا تسمع، وأخيرا، عندما تجد الطارق داخلاً الدار، تلعن البريموس ومن اخترع البريموس، وأذكر مرة، كانت مغتاظة منه، إذ دخل والدي الدار فقابلته وقالت: والله والله يا أبو خليل لأهج من هالبابور، والله لأكفر وأنزل ع الحرم دغري وأسلم، يقطعه ويقطع الساعة اللي اشتريته فيها.. ما احنا كنا عايشين، وماله الفحم! وذات مرة، دخل والدي البيت وإذ بوالدتي تستقبله وتقول: كيفك يا ابو خليل وانا أتخلص من البابور! شوف شو اخذت بداله! وعرضت ما يسمونه (شاف) للماء مع ست كبايات بلور مزوق مذهب من البلور الرخيص جاء اليهودي حاييم فأعطيته البابور وداكشته (اي بدلته) بهذا الشاف والكبايات، بالله عليك كيف؟ يقطعه ويقطع صوته، جن جنون والدي المسكين وتأثر على مبلغ الاربع مجيديات ولكن ما العمل والعوض على الله).
ويتحدث واصف عن أول من أحضر الكهرباء الى القدس إذ يقول: (إن أول من أدخلها هي عمارة النوتردام دي فرانس بالقدس، فقد جاءوا بموتور لتوليد الكهرباء لإنارة هذا المعهد العظيم، فكنا نمر على هذا البناء ونشاهد إنارة الكهرباء من المدخل الرئيسي ومن شبابيك العمارة). وتتشابه القصص حول أول فونوغراف وأول لوكس وغيرها. ويسهب واصف جوهرية في وصف احتفالات القدس الدينية، مشيراً الى أن القدس تغلق أبوابها يومياً خوفاً من هجمات البدو، ( فهي مدينة قديمة لا تجد فيها ماء ولا نبعة ولا نهر ولا بحر ولا غابات، بل كل ما تجده أديرة وزوايا مساجد وكنيس يهودي)، ويقول جوهرية (إن الفضل الأكبر لمن ابتدع هذه الاحتفالات التي تعتبر التسلية الوحيدة بطريقة وأسلوب ديني لترفيه الشعب على اختلاف مذاهبه وطوائفه). ومن هذه الاحتفالات: شطحة ستنا مريم عليها السلام، أسبوع عيد الفصح الذي يشارك في إحيائه المسلمون الى جانب المسيحيين واليهود، هذا بالإضافة الى مشاركة المسلمين في إحياء أحد الشعانين المقدس، كل ذلك في الفترة الممتدة حتى عام 1914. كذلك خميس الغسل والجمعة الحزينة وسبت النور فيتم الاحتفال بها أيضاً بشكل منسجم بين الطوائف الدينية الثلاث في ظل الحكم العثماني.
أما ليالي رمضان بالقدس، فهي ليالي أنس وسمر للمسلمين وغيرهم، يقول واصف جوهرية: (كثيرا ما كنت وإخواني نشترك بحفلة الذكر في مقام الشيخ ريحان وننشد معهم (المسلمين) الأناشيد الدينية مع المحترفين والهواة منهم...ونقضي الليالي بالطرب خصوصا عندما آخذ طنبورتي فأعزف وأغني مع أخي توفيق ونشرب الشرابات ونأكل البرازق والحلوى في منتهى السرور والبهجة، ...وأما في ساحة باب العامود من الداخل، فترى ُصدرا ملآنا بكرابيج حلب ...وعند مفترق الطرق تجد بائعي برازق رمضان والخبز والكعك وشراب السوس والليمون والقضامة المطحونة، وكانت تستعمل بكثرة عند الصائمين للدوخة، وهي منتشرة في كل مكان، ويصعب عليك أن تمر بين الباعة وكل يصيح بأعلى صوته يدلل على حسن صنعته وجودتها الى أن يحين وقت ضرب مدفع الإفطار فالجميع يصبح وكأن على رؤوسهم الطير لا ينطقون ببنت شفة، فهذه الساحة وأصحاب الدكاكين المحيطة بها يبدؤون بالإفطار، يأكلون كل في محله الخاص، والأكلة الممتازة بكثرة في هذا الشهر هي البرازق).
ويشرح واصف جوهرية حضور الكراكوز الى القدس ويعرض لأهم المأكولات والمشروبات عند أهالي القدس ويقدم تفاصيل دقيقة عن بائع البالوظة في باب العامود، أما الدندرما (البوظة) فيسهب في وصفها، ومن بين ما يقوله على لسان بائعها المتجول في أزقة القدس:
دندرما يا الله بحليب تعالي عندي يا حليب قالوا لي عندي اديب جيت أشتري دندرما
يا بنت يا اللي بالدهليز واقفة بطاق القميص الله يبعتلك عريس حتى أبيعك دندرما
دندرما بوزة بليمون تعال عندي يا حنون ولانك ولد مجنون، بطلت ابيعك دندرما
ويكثر واصف جوهرية من سرد النوادر والطرائف الممتعة والمفيدة في مذكراته والتي تعكس ثقافة مجتمع مقدسي قائم على التنوع، ويسهب في الحديث عن السينماتوغراف، فانوس السحر، صندوق العجب، الحكواتي، حمامات القدس، الموسيقيين المحترفين والهواة في العهد العثماني، كما يذكر الأمسيات الفنية التي تم تنظيمها في القدس لمطربين مصريين ولبنانيين كبديعة مصابني ويوسف وهبة ونجيب الريحاني والشيخ سلامة حجازي، ولا ينسى واصف جوهرية شرح طقوس الأعراس بالتفصيل وحادثة هبوط أول طائرة في القدس عام 1914 وتوجه حشود المقدسيين لرؤيتها.
ولا يفوته ذكر جهود المربي الأستاذ خليل السكاكيني الذي أنشأ المدرسة الدستورية الوطنية بالقدس وذلك إثر الانقلاب العثماني الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد عام 1908، إذ كانت هذه المدرسة وطنية عربية بعيدة عن الأفكار والمناهج التي تقدمها المدارس التبشيرية التابعة للبعثات الأجنبية في القدس.
وعلى أعتاب دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، يعبر واصف جوهرية عن مخاوف طائفته المسيحية من الفوضى التي قد تعم البلاد مما سيؤثر سلباً على الطائفة وغيرها من الأقليات. ثم يصف جوهرية الامتيازات الأجنبية الروسية والفرنسية والانجليزية في القدس ومؤسسات هذه الدول التي تم إغلاقها فور الإعلان عن الحرب العالمية الأولى. ويسهب كاتب المذكرات في وصف السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية وحكمها للبلاد، فيتحدث عن سنة 1914، تلك السنة التي كانت عام محل إنحبست فيها الإمطار وغزا البلاد الجراد بصورة كبيرة حتى أن الدولة العثمانية أصدرت أمراً يفرض على كل من بلغ عمره اثني عشر عاما أن يقدم ثلاثة كيلوغرامات من بيض الجراد المزروع في أراضي البلاد، وقد تم ذلك، إذ كان كل شخص يقوم بإحضار هذه الكمية من بيض الجراد ويقدمها للحكومة ولكن رغم كل هذه الإجراءات، فقد قضى الجراد على البلاد بأسرها وأصبحت البلاد في مجاعة كبيرة.
ونظراً لقرب كاتب المذكرات من العائلات المتنفذة في المجتمع المقدسي بحكم عمله لدى رئيس بلدية القدس، موسى كاظم الحسيني، فقد استطاع تحليل التنافس العائلي بين عائلة الحسيني والنشاشيبي وانعكاس هذا التنافس على القضايا القومية والوطنية. ثم ينتقل واصف جوهرية الى الجزء الثاني من ذكرياته بالحديث عن القدس في المرحلة العتبية، إي المرحلة الممتدة بين عامي 1917-1920 وهي مرحلة الحكم العسكري الانجليزي للبلاد ثم تحوله الى الحكم الانتدابي عام 1920 لنشهد تحولاً نسبياً في أسلوبه ومضمون أحاديثه التي تركز على مقارعة الانتداب البريطاني مبتدئاً بوصف أول مظاهرة ضد وعد بلفور في القدس وذلك عام 1918 والتي قادها رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني الذي استقال من منصبه احتجاجا على وعد بلفور وصك الانتداب الذي ينص على أن تكون اللغة العبرية ضمن اللغات الرسمية الثلاث للبلاد، حيث رفض التوقيع على تلك البنود وكانت استقالته عام 1920 معتقداً أن الانجليز لن يجدوا في القدس من يقبل استلام رئاسة البلدية التي وافق راغب النشاشيبي على استلامها على الفور لما بين العائلتين من تنافس.
ويتحدث جوهرية عن الحفلات التي قام بالغناء والعزف فيها، والتي يوثق بسرده لتفاصيلها لمرحلة أصيلة من نمو الموسيقى العربية في المشرق، ونظراً لقيام كاتب المذكرات بالتواجد قريباً من علية القوم في الحفلات وغيرها، فقد أطلع على خبايا السياسة العربية التي تمت حياكتها بين أبناء العائلات المتنفذة في القدس وتعرّف عن قرب على أسلوب تفكير هذه العائلات وقام بنقل ذلك من خلال مذكراته. ثم يتحدث جوهرية عن محلة مأمن الله وذكرياته بها، ويصف بالتفصيل ملامح ذلك الحي وكأنه يعلم أو يتنبأ بما سيحدث لهذا الحي بعد عقود من كتابته لمذكراته، حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي قبل فترة وجيزة بإزالة ما تبقى من معالم هذا الحي وأزالت قبور المسلمين وذلك باستخدام الجرافات العسكرية، مزيلة وللأبد مرحلة من تاريخ القدس التي تم حفظها على صفحات الكتب والمذكرات.
ومن أجمل ما كتب واصف جوهرية تفاصيل رحلته مع شقيقه الى لبنان وسوريا، إذ تحدث في هذه المذكرات بكل شفافية ووضوح دون خجل أو تردد، فما يميز مذكرات الجوهرية هو الوضوح والدقة في التفاصيل وعدم استعراض الانجازات الشخصية بمقدار ما كان يقوم بعرض تفاصيل ما كان يراه من جمال أو قبح دون تجميل أو تشويه لهذه الذكريات، فيتحدث عن رحلته للبنان وسوريا مستعرضاً ملامح حياته كشاب راغب بالحياة فيقول: (في صيف عام 1922، عندما أصبحت في بحبوحة عيش –والحمد لله- وأصبحت قادرا على تنفيذ هذه الخطة، وكان الأخ خليل في حالة سيئة اقتصاديا، عزمت على رحلة لتلك البلاد بصحبة الأخ خليل على نفقتي الخاصة، وسافرت وخليل في السيارة الى حيفا فوصلنا في العصيرة...ثم سافرنا الى بيروت عن طريق الناقورة وكانت –والحق يقال- رحلة ممتعة فالسيارة تسير على شاطئ البحر، فوصلنا بيروت في الظهيرة ونزلنا في فندق جديد يطل على ساحة البرج، سررت جدا في بيروت، وكانت ساحة البرج –آنذاك- في حالة طبيعية تضم مقهى كبيرا وفي وسطة نافورة تتدفق منها المياه عاليا، وتصب في حوض كبير متسع ومن حوله ما تشتهيه نفسك من الطعام والشراب والخمر والاركيلة... ثم تركنا بيروت وكنا ننتقل من ضيعة الى أخرى في الفنادق من عاليه وبحمدون وصوفر، وكنت كأني بدوي في نيويورك، كنت أرتاح جدا لمناظر الطبيعة في كل مكان، وأعجب بدهشة من استقبال أصحاب المقاهي والمنتزهات، والطريقة اللطيفة الذين يقدمون لزبائنهم ما يطلبون من الطعام، وعلى الأخص، المشروب ومازة العرق، فعندما تطلب مثلاً مدقة عرق يأتيك بخمسة وعشرين صنف من مختلف المازة لتلك المدقة بصورة تفتح النفس وتجلي الصدر، وكانت الأسعار لهذه الأصناف رخيصة جدا... كنت وأخي في كثير من الأوقات ننسجم مع من يكون جالسا من العائلات، فترتفع الكلفة وتندمج طاولات المشروب معاً، وتتوسع الحلقة وترى كثيراً من السيدات بل الآنسات يستعملن الاركيلة، وأقول إن معهم كل الحق بالنسبة لمجالس السمر النادرة هذه، وكنت أقارن في قرارة نفسي وأقول حقيقة أن نساءنا مسكينات نسبة لنساء هذه البلاد، والفرق بينهن واضح كالفرق بين الأحياء والأموات...كنت وأخي خليل –آنذاك- في حالة مريعة من شرب الخمر، فكنت وإياه نشرب مدة أربع ساعات متواصلة العرق بدون راحة، ولا يظهر علينا أدنى ظواهر السكر... ربما كان ذلك من طيبة صنع العرق).
ويكثر واصف جوهرية من الحديث عن الفن والفنانين من أبناء عصره فيتحدث عن والد المطربة ليلى مراد الفنان زكريا مراد والفنان محمد عبد الوهاب وزيارة كروانة الشرق أم كلثوم للقدس، ويبدو أن هذا المناخ له أثر عميق على مذكراته إذ يصفه بكل تفاصيله، نقرأ له ما كتبه عن زيارة أم كلثوم للقدس: (زارت كروانة الشرق المطربة أم كلثوم القدس لأول مرة بعد الاحتلال البريطاني واشتغلت على مسرح سينما اديسون... وكان الإقبال عليها شديدا والقلم يعجز عن وصفه من قبل الآهلين، وكان الوقوف من الحضور يوازي الجالسين على المقاعد، وأصبح الجميع وكأنهم في غيبوية من شدة الطرب، فقدروا حشمتها ورخامة صوتها كل التقدير، وكانت ليلة لأبناء مدينة بيت المقدس من ليالي العمر التي لم يسبق لها مثيل... واني وغيري لن ننسى اغنيتها المحببة لها –آنذاك- "وحقك أنت المنى والطلب").
أما عن زيارة الفنان محمد عبد الوهاب للقدس فيقول واصف جوهرية في مذكراته: (زار الفنان الموهوب والموسيقي الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب القدس لأول مرة في شهر حزيران سنة 1927، وقد أقام حفلة شيقة على مسرح متواضع وهو مسرح مدرسة السالزيان للذكور ... كان الإقبال عليه لا بأس به، لأنه كان في بداية عهده بالفن، وكان قسم خاص من الشعب الذي يتذوق أسلوبه). بالاضافة لاهتمامه بتوثيق المناخ الثقافي، لم يهمل واصف جوهرية توثيق الأحداث السياسية الهامة لمدينة القدس، فها هو يكتب بالتفصيل عن أسباب ثورة سنة 1929 والمطالبة اليهودية بالاستيلاء على حائط البراق، وموكب النبي موسى وجهود الحاج امين الحسيني في الثلاثينات، وزيارة المنطاد الألماني للقدس، وكذلك زيارة ميخائيل نعيمة للقدس، كما يصف في مذكراته حال يهود القدس القدامى، وإضراب سنة 1936 في طول البلاد وعرضها، وافتتاح دار الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس) عام 1936، والتي ترأس قسمها الفني الشاعر إبراهيم طوقان، وكذلك يوثق لحادثة تدمير الحي القديم في مدينة يافا فيقول: (كان هذا الحي يتألف من نحو الفي بيت يسكنه نحو 12 ألف نسمة، كانوا دائما في طليعة المجاهدين ضد القوى البريطانية علناً، وهكذا جاء الجيش وقرر نسف الحي برمته، فأنذروا السكان بإخلائه في ظرف 24 ساعة فقط، ثم دمروه ولم يتركوا حجرا على حجر، والجدير بالذكر أن الحكومة أدعت أن هذا النسف بالجملة هو رغبتهم في تحسين المدينة).
ثم ينتقل كاتب المذكرات الى وصف حالة البلاد زمن الحرب العظمى الثانية من الوجهة الاقتصادية التي وصفها بمرحلة استقرار اقتصادي إذ توفرت المواد الغذائية ولم يواجه السكان نقصا في هذه المواد. ويعود واصف للحديث عن مذكراته الموسيقية فيتحدث عن زيارة فريد الأطرش والراقصة تحية كاريوكا للقدس ويسهب في سرد التفاصيل الخاصة بهذه الحفلات ليعود سريعا لشرح تفاصيل الأحداث السياسية التي كانت ُتعكر صفو الأجواء الثقافية إذ يتحدث عن نسف فندق الملك داود وتردي الأوضاع الأمنية وصولا الى صدور قرار تقسيم فلسطين ليتم طوي مرحلة غنية من تاريخ الشعب الفلسطيني في القدس وفلسطين عموماً ولتصبح مذكرات واصف الجوهرية أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث أصبحت مذكراته مرجعاً هاماً يوثق لذاكرة المكان والإنسان المقدسي والمدينة المقدسة، المكان الذي تم سلبه، والإنسان الذي تم طرده، والمدينة التي تختفي، وأصبحت تلك الذكريات هي كل ما تبقى لنا من مرحلة ثرية بالتاريخ الثقافي والفكري والاجتماعي والإنساني، مرحلة لا يعرف عنها الجيل الجديد شيئاً، ومن هنا، استحقت المذكرات الجوهرية كل هذه الأهمية وكل هذا الاحترام والتقدير.