نقترح هنا، قراءة للناقد الفني الفرنسي لمعرض تشكيلي نظم مؤخرا، وفيه نتعرف على ملامح من التجربة التشكيلية لفنان أصيل قعد لتجربته الفنية فرادة وخصوصية لافتة وهو ما جعل معرضه الأخير تنويعا خالصا على تجربة الجسد، وتنويعا سرياليا نتعرف هنا على أهم سماته.

«السريالية نوعا ما» للفن التشكيلي

ميشال بوفار

ها قد وصل العمل الجديد للدمناتي، وهو من النوعية الفاخرة، ولذا ننصح بالاستمتاع به دون اعتدال. فمنذ حوالي عشر سنوات، كنا قد غادرناه متسائلين: والآن؟ أية وجهة سيختارها لصباغته؟ إذ كان يبدو، من خلال تقاطع تجاربه السابقة، أن لديه ميلا إلى إدخال بعض التجريد في الأسلوب التصويري أو العكس. وهذا رهان صعب، وحتى طوباوي، في عالم ثقافي يلزمنا بأن نكون هنا أو هناك، وألا نخلط الأجناس، وأن يسهل على المعنيين تصنيفا. لذلك عُرِف بكونه تشكيليا يدخل في كل شيء، وتم اعتباره على التوالي رساما بالألوان، وفنانا مزخرفا، وفطريا، وتصويريا، وواقعيا، ومُفْرط الواقعية، وحركيا، بل وغير فنان بالمرة، كان مزعجا. وكانت ازدواجية انشغالاته تبعث على الحيرة : فكان التشكيليون يرونه مهندسا، والمهندسون يعتبرونه تشكيليا. بيد أنه لابد من بناء الجدار لكي يمكن تعليق اللوحات عليها. ألم يقل جورج بيرك مرة أن "اللوحات موجودة لأن الجدران موجودة"؟. إنها الثنائية الأبدية للجواني والبراني. غير أن تصنيف فنان في خانة محددة يبعث على الاطمئنان.

لقد سبق أن اقترحت أن نسمي "فاصلا" هذه اللحظة الدقيقة التي لا نعرف خلالها الاختيار بين ميلين لهما نفس الجاذبية. ثم غاب أمين الدمناتي عن المشهد الفني المغربي. ولف الغموض مساره خلال بعض سنوات من الصمت. لكننا نكتشف اليوم أن هذا الغياب لم يكن عقيما على المستوى الفني، وأنه لم ينفك يعمل في الظل والعـزلة، وأن هذه الخلوة، الاضطرارية أو الاختيارية، كانت خصبة جدا، بل أحيانا مهتاجة، فقد أثمرت بضع مئات من الرسوم، والرسوم الأولية، والمشاريع، والأعمال الصغيرة الحجم، التي ارتكز عليها الآن لإنجاز لوحات كبيرة في غاية التميز. كنا، أنا ونفر قليل من المتتبعين، نعلم أن الأمر تعلق في حالته بغياب فقط وليس نسيان. وها إن الاستراحة قد انتهت، فمرحبا بالإبداع الجديد. في هذا الإبداع تبرز مواضيع غريبة، ومتواليات غير متوقعة، وتقنيات مجددة تكشف عن التحول العميق لعمله. بيد أننا نعلم أن لاشيء يأتي من عدم، وأن استلهامه الجديد يمد جذوره بكيفية معقدة في التاريخ التصويري العريق للإنسانية وفي تجربته الخاصة على السواء. لأن الإنسان أيضا تغير، وليس فقط في مظهره الخارج على المألوف بعض الشيء.

هذا هو شأن الموضوع الأهم لهذا المعرض : الجسد الأنثوي، فعلى امتداد الأعمال المعروضة، والتي تم فيها على التوالي تشكيل هذا الجسد ضمن حدود يَدٍ، أو رجل، أو ظهر أو وجه، جاعلة من هذه المواقع الجسمانية جميعها سنائد مرنة متحررة من الزوايا الكلاسيكية للوحة، بل ومحيلة إياها إلى لوحة داخل اللوحة، أو مكتفية بإظهار الجسم مقرفصا على بساط أرضي، فإن جسد المرأة، المجزأ أو الكامل، هو الذي يشغل مجال اللوحة. إن بإمكاننا العثور على بذور هذا التضمين في أقدم لوحاته. وكمؤشر أولي عليه، نرى في لوحة "لعب أطفال"، في خلفية جدار مائل، الأثر المعزول والمنزاح ليد مغراء اللون، انتبه إليها كيليطو جيدا رغم كونها مموهة : يد إيجابية وفأل خير إذن، خلافا للأيدي السلبية في مرسام ما قبل التاريخ. أتكون محض صدفة؟ أم التماعة واقعية؟ أم هي مخطط واع لرمز آت؟.

وثمة أثر آخر ذو طابع تنبؤي وأكثر دقة، وهو متوالية الأزواج المتشابكة. ففي لوحة "بستان" نرى الوجوه في شكل أصابع مندمجة ببعضها كما لو كانت مربكة، حيث يبدو إبهام قضيبي منتصبا على هيئة فنزعة فوق رأس الرجل، مما كان ينبئ ربما بالمَنْهجة التي عرفها هذا التراكب في الأعمال الحالية. لقد كان الملل هو الباعث على ابتكار هذه المتوالية : فذات يوم، قام الدمناتي، على سبيل اللعب وتزجية الوقت، ببسط ورقة على الأرض ثم وضع عليها قدمه الحافية ورسم محيطها. وكرر العملية برسم محيط راحته اليسرى منفرجة الأصابع. وأعقب ذلك لاحقا إعادة تركيب محيط الوجه والظهر.

لا مراء في أن رمزية اليد فتنت كل الثقافات منذ الأزمنة السحيقة، إلى حد أنها اعتبرت أهم امتداد للدماغ ("اليد هي ما جعل الإنسان ذكيا" على مد تعبير رابندرانات طاغور). فبالنسبة للبعض، خصوصا في الغرب لدى قارئي وقارئات الكف. يمكن الكشف عن مصيرنا باستطلاع الأخاديد المتشابكة في الراحة. وبالنسبة لآخرين، بالأخص في الشرق، تبقى اليد هي الموضع المفضل والاحتفالي للرسوم الهندسية بالحناء : نوع من فن الخط الفوضوي، ولكنه أيضا نوع من الصباغة. هكذا تم ملء فراغ اليد السلبية لرسامي ما قبل التاريخ، فصارت مغطاة بالأدلة ومكتسبة، بالتالي، للمعنى.

من هنا انبثقت الفكرة فالدمناتي الذي سبق له أن مارس هذه الصباغة بالحناء وتم اتهامه بالمغالاة في منزعه الهندسي (الذي تغلب فيه المهندس على الفنان التشكيلي) قرر استثمار هذا الهيكل الشكلي بأن أدمج فيه أهم فكرة استحوذت عليه، ألا وهي الجسد الأنثوي الذي يمكن لأطرافه المتسقة أن تنسكب بسهولة، بقليل من التواءات، في تعرجات اليد وتقبب أخمص القدم، وهو ما شكل انتصارا للمنحنى على الخط المستقيم وللفنان التشكيلي على المهندس.

إن الجسد الأنثوي كما يراه الدمناتي موغل في العراقة : فهو متين البنيان، جميل المؤخرة، عريض الوركين، ممتلئ الثديين سواء كانا منتصبين أو مترهلين، أحور العينين، غامض النظرة. وهذه النظرة، المباشرة في الغالب، هي ربما ما يلفت الانتباه في البداية عند مقارنتها بالوجوه العمياء، المصقولة كالحجارة، التي ميزت لوحاته القديمة : أيكون قد قرر مخاطبتنا نحن الذين نشاهد أعماله ؟ حتى المشاهد المرسومة خلف الظهر لم تعد تلصصا بفضل ما تحفل به من أجساد موشومة وعيون لا يمكن نسيان نظراتها المحدقة فينا.

والملمح الفاتن الآخر لهذا الدمج اللعٍبي هي الطريقة التي "يلبس" بها الدمناتي السُّلاَمى والأظافر: فغالبا ما تبدو الأصابع المبسوطة أو المنثنية بمثابة أعناق طويلة تنتهي بالوجه. وهو ما يذكرنا ببعض العرائس الشرقية أو بلعبة الظلال الصينية. أما الأظافر المصبوغة فتلوح أحيانا "متجسدة" بالمعنى الحرفي. وتتخلل مجموع اليد أو الرجل أدلة هندسية أو رمزية تبرز وسط خلفية شكلية أو لونية مرصعة بما يوحي برقصة "فراندول" تذكرنا، بقوة، بالموضوع الرئيسي.

ولابد لنا أخيرا من كلمة حول العُري. لأنه إذا كان الدمناتي يكسو الأيدي والأرجل بالصباغة فإنه يعري الأجساد : حيث تبدو الأثداء والأرداف والعانات عارية، علما بأن الحدود بين الإيروسية والابتذال دقيقة جدا. لكنني أرى أن الدمناتي يتدبر أمره جيدا، ربما لأن الجسد الحاضر في مشهد اللوحة ليس جسد عارضة الأزياء ذي الجمالية الكاملة والباردة، مما يجعله أقرب بكثير من واقع عادي جدا، وفي الوقت ذاته، يندمج هذا الجسد مع الوعاء الذي يحتويه : فمن ممتلئ ومنكمش داخل تجويف اليد يغدو منطلقا ومتألقا حين يسعفه الظهر بمساحة أكثر رحابة.

ويبقى الأمل يحذونا في الأخير أن يحظى هذا المعرض باستقبال في مستوى تطلعات الدمناتي التواق إلى الخروج من الإطار الخطي linéaire. لأن ثمة حلما بانتظار الجميع في هذه المقاربة الجديدة، السرليالية نوعا ما، للفن التشكيلي.

ناقد فني من فرنسا