يكشف المفكر المصري الكبير في هذا الحوار الذي دار معه في بوليفيا عن التغير البنيوي الذي ينتاب النظام الرأسمالي العولمي واستعماره الثلاثي، مع بزوغ موجة ثانية للتحرر في الجنوب تسعى لتجنب أخطاء الموجة الأولى التي انبثقت في باندونج، ويبدد لنا من خلال تحليله العميق الكثير من الأوهام السياسية السائدة عن المنطقة العربية.

حوار مع المفكر المصري سمير أمين

الاستعمار الثلاثي وموجة التحرر الثانية وبوادر التغير

سميرة المنسي

يقال أنه آخر المدافعين عن حصون الماركسية، ومن أشد الناقدين لنموذجها السوفييتي، ساهمت كتبه الغزيرة التي اصدر معظمها باللغة الفرنسية في تأسيس مدرسة التبعية والمنظومات العالمية، ومنها: التبادل غير المتكافئ، وقانون القيمة، أزمة الامبريالية أزمة بنيوية، علاقة التاريخ الرأسمالي بالفكر العربي، وما بعد الرأسمالية المتهالكة. ولد سمير في مصر عام 1931، وخرج منها الى باريس لدراسة الاقتصاد السياسي، وتحول بعد سنوات الى خبير اقتصادي ثم خبير ومسؤول عن برامج تنموية قادته الى البلدان الافريقية وغير الافريقية تحت ظل الامم المتحدة. محاولته تجديد قراءة المادية التاريخية، بالاضافة إلى رؤيته لعدد من القضايا الاساسية مثل العلاقة بين المراكز والاطراف والعوالم الاربعة، تجسدت كمرجعية وعلامة بارزة في وعي اليسار العالمي في فترة السبعينيات، وها هي تتجدد اليوم، على الرغم من صياغة العالم الجديد وعولمته تحت السلاح، في أوساط شباب امريكا اللاتينية الذين واظبوا وبأعداد غفيرة على حضور سلسلة محاضراته التي ألقاها في وقت سابق في بعض عواصم امريكا اللاتينية، لا لرصد تصوره حول ازمة الرأسمالية الحالية، بل لتدارك الوقت للخروج من الرأسمالية المأزومة، وإيجاد بدائل تنموية تتلافى أخطاء موجة التحرر الاولى، و تتجنب بالتالي الوقوع في مصيدة تكيفات الرأسمالية مع ثورات الجنوب. وفي هذا الحوار الذي خصه لـ«القدس العربي» على هامش محاضراته المكثفة التي يلقيها هذه الايام بدعوة من حكومة إيفو موراليس في عدة مدن بوليفية، فضل د. سمير امين المفكر العالمي والمدافع الشرس عن حق المجتمعات في التطور، عدم الاجابة عن سؤال يتعلق بالاممية الخامسة التي دعا اليها القوى التقدمية العالمية، ولاقت ترحيبا واسعا بين مثقفي امريكا اللاتينية، إذ اكتفى بالقول: «لقد طرحت المشروع فقط، ولم تنضم اليه جميع القوى التقدمية العالمية بعد، فالعمل على بناء استراتيجية مشتركة للقوى الشعبية عبر الحدود، تعولم نضال الشعوب ضد عولمة رأسمالية الثالوث الاستعماري، أمر ليس سهلا ويحتاج الى وقت»

ـــــــ هل فشل نموذج الاشتراكية الاولى هو الذي يحول دون توحد القوى التقدمية، خاصة وان هاجس 'الرأسمالية مستحيلة التجاوز' أصبح يختزل التوازن الذي ينتجه السوق، كي يشكل الصيغة الارقى اجتماعيا، ويضمن بالتالي الاستقرار والديمقراطية، ومقابل هذه الايديولوجية، كما قلت، انزلقت الاحزاب الاشتراكية من المواقع الاصلاحية الى طموح أكثر تواضعا هو مجرد الشراكة في إدارة ازمة النظام، بحيث لا شيء يمكن تبنيه خارج منطق الرأسمالية المسيطرة؟ فهل التغيير نحو الاشتراكية الذي تشهده امريكا اللاتينية حاليا، يدور حول هذا الهاجس، أم يتجاوزه لبناء تنمية مستقلة تتمحور حول الذات؟

** هذا المخطط الاستعماري في إدارة أزمة النظام لا ينطبق على الاطلاق على ما يسمى بدول العالم الثالث، لان الازمة بالنسبة لنا ليست ازمة مالية مؤقتة، وبالتالي يمكن العودة الى النظام الذي كان قائما قبل أزمة عام 2008 المالية. الازمة هي ازمة هيكلية منذ الاصل، بمعنى ان الرأسمالية القائمة بالفعل لم تقم تاريخيا عن نظريات اقتصادية وما شابه، بل قامت في جميع مراحل تطورها على ارضية الاستقطاب واستعادة الاستقطاب. تصور إمكانية اللحاق بهذا النظام وتطبيقه من قبل الجنوب، تصور وهمي، امر مستحيل تماما مهما كانت المرحلة. وبما ان منهج إعادة استقطاب الدول البازغة حاليا، مثل دول تحالف اليسار الجديد في امريكا اللاتينية بات متعثرا، فقد انبثق عن هذا التعثر افق جديد يدعو الى الاشتراكية، ولكن تطبيق هذه الاشتراكية ليس سهلا، وبناء هيكل اشتراكي مستحيل في الاجل القصير، فالصراع من اجل الاشتراكية يتطلب القيام بخطوات متتالية لترسيخها في الاجل الطويل، يمكن ان يحتاج الى قرن آخر، مثل القضية الفلسطينية التي لن تحل لصالح شعبها وكما تشير الدلائل في الاجل القصير.

حاولت في جميع اطروحاتي التأكيد على ان الاشتراكية والشيوعية مرحلة أعلى من الحضارة الانسانية نفسها، لانها تستند بالاساس ليس على تغير العلاقات الانتاجية، وانما على تغير القيم التي يقوم عليها المجتمع الجديد، وتغيير القيم المجتمعية يستحيل حدوثة في مرحلة قصيرة الامد. الخطأ الذي وقع فيه الاشتراكيون والشيوعيون التقليديون في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين ايضا، كان في اعتقادهم بان تحقيق الاشتراكية امر سهل، ويمكن بناء المجتمع الاشتراكي الجديد بعد انتصار الثورة الاشتراكية، وفي غضون اربعين سنة على أبعد تقدير. لقد قلت وما زلت اقول ان التضاد بين المراكز والاطراف انتج وسينتج ظروفاً جديدة قد تتجاوز مرحلة الرأسمالية التي لم تظهر في ليلة وضحاها، فقد استغرقت عشر قرون حتى تبلورت في شكلها الحالي. بدأت في الصين في القرن العاشر الميلادي، ثم انطلقت في المحيط العربي والفارسي، وبفضل الحروب الصليبية الى حد ما وصلت الى المدن الايطالية وتبلورت في شكلها التاريخي السائد في منطقة اوروبا الاطلنطية في القرن السادس عشر مع فتوحات القارة الامريكية، ثم شكلت الثورة الفرنسية اطارها السياسي، بنفس القدر الذي شكلت الثورة الصناعية البريطانية اطار قيمها الانتاجية، ونتيجة لهذين الاطارين اصبحت الرأسمالية القائمة بالفعل هي رأسمالية تاريخية، اوروبية، على الرغم من اصولها القديمة، او الامواج السابقة القادمة من الجنوب.

وفي القرن التاسع عشر وهو قرن ازدهارها، صاغت الرأسمالية موجة العولمة الاولى بشكلها الاستعماري في افريقيا والهند والشرق الاوسط وآسيا، ونصف استعمارية في الدول المستقلة شكليا مثل الصين وايران وتركيا الدولة العثمانية، وبعد الحرب العالمية الاولى، قادت دول المراكز الاوروبية المبادرة في تشكيل النظام الاقتصادي الجديد، وفرض قيمه الاجتماعية، بحيث كان على دول الاطراف في الجنوب التكيف داخل هذا التغير، رغم ردة الفعل الدفاعية التي أنتجت فيما بعد حركات تحرر وثورات القرن العشرين. هذه الثورات التي طالبت بالتحرر من الاستعمار وليس بالضرورة التحرر نحو الاشتراكية او التحرر الواعي من سيطرة الرأسمالية الاستعمارية، لان الاستعمار الرأسمالي ليس استعماراً رومانياً بل هو استعمار مرتبط بنمط الانتاج الرأسمالي ومقتضيات التراكم الرأسمالي المسيطر عليه من المراكز الاستعمارية. ومن اهم الاحداث الكبرى التي غيرت شكل المجتمع العالمي خلال القرن العشرين، جسدتها المبادرات التحررية القادمة من الجنوب، من ضمنها روسيا التي كانت نصف طرف إبان الثورة الروسية، الى جانب الثورة الصينية - الفيتنامية، والثورة الكوبية، وحركات التحرر الوطني في الهند واندونيسيا والوطن العربي وافريقيا. دول الاطراف المتحررة هذه، بعض منها اختار تبني الايديولوجية الاشتراكيه مثل روسيا والصين، والبعض الاخر تمركز حول الوطنية الشعبية أو الشعبوية ذات البعد الوطني للتحرر من سيطرة الرأسمالية وثقافتها، مثل حركات التحرر الوطني في افريقيا وآسيا التي قادتها برجوازية سائدة انتهت ببرجوازية الدولة. هذا اولا، وثانيا: التغير الذي حدث في هيكل الرأسمالية نفسها، أي التغير الكلاسيكي الذي تحول الى رأسمالية الاحتكارات، بحيث كان تغيرها كيفيا وليس كميا، وقد حدث في اواخر القرن التاسع عشر، وتطور في القرن العشرين. وأمام مبادرات ثورات التحرر في الشرق والجنوب بشكل عام، اضطرت رأسمالية الاحتكارات الى التكيف الجزئي والنسبي في موازين القوى، واستمرت في تكيفها حتى مرحلة الثمانينيات. إن ’مفهوم التكيف الذي اطرحه هنا، هو مفهوم معاكس تماما للتكيف الهيكلي الذي يطرحه البنك الدولي‘ والذي ينص على تكيف الاطراف لمقتضيات استمرار التراكم المسيطر عليه من المراكز، فما حدث هو العكس.

هزيمة المشروع العسكري الامريكي
ـــــ هل تقصد بذلك مرحلة التصنيع ولو بنسب متفاوتة التي دخلتها الاطراف سواء كانت اشتراكية الطابع أو غير اشتراكية هي التي فرضت التكيف على المراكز؟
** هذا صحيح، مرحلة التصنيع في دول ما يسمى بالاشتراكية، وفي دول متحررة جزئيا مثل الهند ومصر والعراق وسورية والجزائر، فرضت على الاستعمار التكيف، وكرد فعل لهذا التكيف دخلت رأسمالية الاحتكارات في مرحلة جديدة للسيطرة على رأس المال، انا أسميها رأسمالية الاحتكارات المعممة، بمعنى ان الاحتكارات استوعبت الرأسمالية الكلاسيكية وأصبحت الوحيدة، ووصلت على الصعيد العالمي المسجلة والمعروفة الى ما يقارب 5 الاف على المستوى العالمي، إذ استطاعت الهيمنة بشكل مباشر على جميع المنظومات الانتاجية سواء كانت صناعية او خدماتية، بالاضافة الى التجارة والمعلومات والمؤسسات المالية وغيرها، والى جانب ذلك أدى التغير الكيفي الى احداث نتائج سياسية هامة للغاية، من اهمها تحول الاستعمار من الاستعمار الفردي الى الاستعمار الجماعي وثالوثه: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. في السابق كان الاستعمار التاريخي غير موحد وتعمه المنافسة، فقد عرفنا الاستعمار البريطاني، والفرنسي والالماني، وهذا انتهى خلاص.

نحن نواجه الان نتائج هامة بالنسبة لنا في تصور الاستراتيجيات الجديدة لموجة مبادرات الجنوب الثانية التي سببت تبلور الاستعمار الجماعي، ونحن نرى انعكاساتها في منطقتنا العربية، فأوروبا أصبحت حليفة الولايات المتحدة، حليفة دائمة، وليست مرحلية، أو ظرفية، اذ لا يوجد تناقض بين القوى الاستعمارية الكبرى، وإنما توحد لإحكام سيطرتها على المنظومة العربية. معركة موجة التحرر الثانية التي يخوضها الجنوب وخاصة دول اليسار الجديد في امريكا اللاتينية، تتلخص في كيفية مواجهة الموجة الثانية من الاستعمار الاحتكاري، فمن سيقود هذه التحديات؟ هل هي الشعوب أم الطبقات السائدة كما هي برجوازية الدولة؟

ــــــ طالما ان موجة التحرر الاولى التي قادها الجنوب، أجبرت الرأسمالية على التحول والتكيف، فلماذا لا تبادر موجة التحرر الثانية الى تخليص العناصر الحيوية الخمسة وهي الموارد الطبيعية، والتكنولوجيا، والاتصالات، والاسلحة المتطورة، ورأس المال، من سيطرة رأسمالية الاحتكارات؟

** أبدا، المعركة بدأت في مبادرات دول الجنوب بالأساس لتحرير هذه العناصر الحيوية. على سبيل المثال نجحت الصين في تطوير صناعاتها التكنولوجية، على الرغم من اصولها الغربية، ونجحت أيضا في المجال الزراعي. الهند والبرازيل استطاعتا تطوير التكنولوجيا بمعزل عن الغرب تماما، لذلك يحاول الغرب من خلال منظمة التجارة العالمية بكل قوته حماية الملكية التكنولوجية. دولة صغيرة مثل كوبا تمكنت رغم الحصار المفروض عليها من تطوير التكنولوجيا الطبية والدوائية وتقدمت في هذا المجال على الغرب نفسه والولايات المتحدة. نفهم من ذلك أن الشروط الموضوعية لتحرير العناصر الحيوية من سيطرة الرأسمالية الغربية متوفرة لدى موجة التحرر الثانية على خلاف موجة التحرر الاولى التي حدثت في الخمسينيات، فعندما تكونت جبهة باندونغ عام 55 من القرن الماضي، كنا نفتقر لأي قدرة تكنولوجية، واذا نظرنا اليوم الى السوق المالية العالمية والتي تنهار من تلقاء نفسها، نجد في المقابل ان الصين وروسيا قد اتخذتا زمام المبادرة فعلا للخروج من المنظومة العالمية، وإقامة نظم اقليمية على نمط ’تحالف البا‘ في امريكا اللاتينية و’منظمة شنغهاي‘ في الصين، ولكن يظل العنصر الحساس هو عنصر تكنولوجية الاسلحة المتطورة، المرتبط بعنصر الموارد الطبيعية. النقطة الهامة بالنسبة لي تتمحور في هزيمة المشروع الامريكي العسكري، هزيمة هذا المشروع تحمل إجابة السؤال التالي: هل نجحت الولايات المتحدة في الشرق الاوسط أم لا؟ لقد نجحت جزئيا ولكنها فشلت في تأسيس أنظمة سياسية تابعة لها في العراق وأفغانستان؟

النظام الايراني ليس معاديا للرأسمالية

ـــــــ ولكن اذا اتفق على القول ان إيران وفنزويلا هما الدولتان الاكثر تصدرا لتحدي مشروع الاحتكارات المعممة في موجة التحرر الثانية، وفي نفس الوقت نرى بترول كلا الدولتين لا يزال محتكرا لدى هذا المشروع. ومن جهة اخرى، كيف تفسر تحالف ايران الوثيق مع قوى اليسار في امريكا اللاتينية، وايران تمثل الاسلام السياسي المرتبط بسلطات من طراز المماليك، ترفض الحداثة، ولا تعترف الا بالشريعة، ولكنها تقبل باسم الواقعية ان تندمج في العولمة الرأسمالية لعالم اليوم، أي أن الاسلام السياسي مجرد تحوير للوضع التابع للرأسمالية، يقبل حسب تعريفك له، بفرض النظام الليبرالي للعولمة الذي يعمل لمصلحة رأس المال؛ ففي أي نقطة انسجام يمكن لهذا التحالف استحداث بدائل تنموية؟

** طبعا، لن يحدث انسجام قادر على استحداث بدائل من أي نوع، لان النظام الاسلامي الايراني، ليس معاديا من حيث المبدأ للرأسمالية ولا للعولمة الرأسمالية، ومنطقه الاقتصادي هو منطق رأسمالي بحت، وايران مستعدة تماما للدخول بالمشروع الرأسمالي، رغم عدائها الظاهر له، الموجه بالاساس للاستهلاك المحلي، ولكن التناقض هنا هو تناقض سياسي عسكري، ويكمن في ميول ايران الوطنية والقومية القوية التي دفعتها لترتقي لمستوى انتاج الاسلحة النووية، لم لا! واسرائيل الدولة الوحيدة المسموح لها بانتاج الاسلحة النووية. واعتقد ان الغرب في موقف دفاعي بهذا المجال، ربما يقوم بهجوم عسكري على ايران، ولكن بعد تأكده من أن ايران التي تمثل تاريخيا توازنه الاستراتيجي في المنطقة، قد تجاوزت نزعتها القومية للسيطرة على المحيط العربي والاسلامي، حدود هذا التوازن.

فنزويلا شيء آخر، فقد دمر بترولها منظومتها الانتاجية، وباتت منذ اكتشافه في مرحلة الخمسينيات دولة ريعية تعيش كما دول الخليج العربي على ريع النفط فقط؛ التحدي الذي تواجهه فنزويلا الجديدة بقيادة هوغو شافيز الذي وصل الى الحكم، نتيجة لالتقاء حركة شعبية تلقائية غير منظمة مع مجموعة يسارية من ضباط الجيش، وليس نتيجة لتحركات شعبية منظمة لديها أهداف استراتيجية كما حدث في بوليفيا، ليس سهلا، وشافيز يدرك ان عليه أولا استخدام ريع النفط لاعادة تكوين منظومة انتاجية غير موجودة، وكوبا تساهم في هذا المجال، وتعمل فعلا على تأسيس خدمات التعليم والصحة.

على ضوء ذلك، لن ينبثق عن تحالف ايران مع قوى اليسار في امريكا اللاتينية، أية استراتيجية بديلة لمشروع الاحتكارات المعممة، فالتناقض الايديولوجي موجود بين الطرفين، ولكن قد يحدث تقارب في اطار مناهضة الجنوب للاستعمار الثلاثي: الولايات المتحدة، اوروبا واليابان، شبيه بالتقارب بين ايران والصين وروسيا المحايدة والمؤيدة في نفس الوقت للصناعة النووية الايرانية. من هذا المنطلق الجيواستراتيجي لا بد من مساندة ايران وحماية مشروعها النووي القائم على تهزيم المشروع الأمريكي للسيطرة العسكرية الشاملة.

ـــــــــ تهدد ايران حاليا بمحو اسرائيل عن الوجود، حال قيام اسرائيل والولايات المتحدة بضرب مفاعلاتها النووية، فمن سيمحى هذه المرة؟ نذكر عندما رمينا اسرائيل بالبحر، ثم حرقناها بالاسلحة الكيماوية، وهل تملك ايران فعلا القنبلة الذرية؟

** قطعا الخطر وارد، ورغم أنني لا أثق بهذا النظام وبتهديداته، الا انه دخل فعلا في تناقض مع المشروع الاستعماري بسبب ميوله القومية القوية والتي بات يترجمها الى ترسانة عسكرية لنشر نفوذها في المنطقة، بحيث اصبح تحويل ايران الى دولة عسكرية من اولوياته الاستراتيجية، وتردد الادارة الامريكية بتوجيه ضربة عسكرية لهذا النظام سواء بشكل مباشر منها، أو توكيل إسرائيل للقيام بهذه المهمة، نابع أولا: من المشروع الامريكي الاصلي الذي يستثمر الانتصار العسكري لتحقيق المشروع السياسي الهادف الى اقامة أنظمة حكم تابعة لها، وتتمتع في الوقت نفسه بنوع من الشرعية المقبولة لدى شعوب المنطقة. وقد فشلت على هذا الصعيد في العراق وأفغانستان. وثانيا: الولايات المتحدة لن تضع جانبا طبيعة النظام الايراني القائم على الاسلام السياسي ومضمونه الداعي لخضوع الشعوب، وليس الى تحررها في توجيه الصراع، خاصة بعد هزيمة مشروع السوق الحرة في امريكا اللاتينية الذي أصاب الاستعمار وعولمته الجديدة بالصميم، الامر الذي يحتاجه الثالوث الاستعماري ويوظفه جيدا، النظام الايراني في مقايضة الولايات المتحدة، ولكن هل تملك ايران القنبلة الذرية؟ أتمنى ذلك، وأرجح انها استوردتها من أوكرانيا، وبالتالي فان تعرض إيران لأي ضربة عسكرية تهدف الى تدمير مفاعلاتها النووية، أي ضرب طموحها القومي، سوف يؤدي الى ردة فعل قاتلة بالنسبة لاسرائيل.

العولمة في عد تنازلي

ـــــــ في محاضرتك التي شاركت بها الحكومة البوليفية، ألح البارو جارثيا نائب الرئيس على سؤالك، كيف يمكن فتح الطريق نحو الشيوعية الآن؟ ومن سيقود النضال ضد الامبريالية؟ وأجبته بأنه ليس لديك وصفات تقدمها، لكن بعد معاينتك خلال هذه الفترة لمختبر التغيير الجذري الذي يجري في هذا البلد، هل تسميه تغيرا نحو الاشتراكية؟
** ما حاولت ان اوضحه للحكومة البوليفية هو انه انطلاقا من القرن العشرين دخلت العولمة الرأسمالية في مرحلة العد التنازلي، ولكن لن يتأتى عن هذا التنازل استحداث اشتراكية تلقائية، بل سيؤدي الى ما اسميه «الاوبرتايت» على صعيد عالمي، وأعني بذلك الاستعمار الثلاثي الحديث في مشروعه الهادف الى السيطرة العسكرية على العالم، وما يتعلق بإيران هام جدا ورئيسي، لان نجاح الغرب في الحد من قدرة ايران العسكرية، سينبثق عنه نظام استقطاب على صعيد أعلى، ولن يتورع عن استخدام الوسائل العنيفة للسيطرة الشاملة على الجنوب. انه منطق الرأسمالية. هذا من جانب، ومن جانب آخر قد يمهد تنازل المنظومة العالمية الاستعمارية الى طريق ممكن نحو الاشتراكية، ولكنه طريق طويل ومشروط، شرطه الاساسي يكمن في وعي الشعوب وارتقاء وسائل نضالها، بحيث يتحول الى نضال يسعى الى اجتثاث الرأسمالية من جذورها، وهذا نضال مختلف ويتطلب الاجابة على الاسئلة التالية: من سيقود هذه المعركة الجديدة ضد الاستعمار؟ هل هي الجبهات الشعبية، أم الطبقات الحاكمة؟ وهل ستستجيب الطبقات الحاكمة الى شرط انتقال القيادة ولو بالتدريج الى أيدي تحالفات المنظمات الشعبية؟ هذا الوعي بالتحول نحو الاشتراكية، بدأ في امريكا اللاتينية، وخاصة في بوليفيا، اذ لا يمكن لأحد القول: إن النظام البوليفي الحالي عميل للاستعمار، مثلما يقال على سبيل المثال عن الباشا مبارك في مصر، ابدا، ولكن وعلى الرغم من حجم التغيير الهائل الذي تقوده حكومة موراليس نحو الاشتراكية، الا انه لم يصل بعد الى الصورة الشاملة التي تحقق المطالب الشعبية ومشاركتها في صياغة اسس هذا التغيير، وقد ناقشت مسؤولي الدولة حول ذلك، وحذرت من مغبة الوقوع في التناقض.

ـــــــ اذا، تقييم ما يحدث في امريكا اللاتينية من تغيرات يقترب من محاولة تطبيق نظرياتك؟
** نعم والى حد كبير، لقد وجدت في بوليفيا وعياً غير موجود في مناطق اخرى، والذي يتلخص بان النضال ضد الاستعمار والتحرر الوطني لا بد له من مواجهة المبادئ الاساسية في النظام الراسمالي.

ــــــــ ولكن الانتقادات تقول ان هذا التغيير لن يخرج في نهاية المطاف عن نموذج اشتراكية كوبا؟

** كوبا تنتمي الى موجة حركات التحرر الوطني الاولى، وكان ينقصها الجانب الديمقراطي أقصد، ليس بالمعنى البرجوازي من انتخابات وتعددية حزبية، هذه ديمقراطية مفرغة من محتواها، وانما ديمقراطية العلاقة بين الحكم والطبقات الشعبية، واتمنى ان تقود موجة التحرر الوطني الثانية هذه العلاقة بشكل افضل في القرن الواحد والعشرين، ولا استطيع القول اكثر من افضل، فالتاريخ طويل.

غياب الحركات التقدمية العربية

ـــــــــ مقارنة مع الحركات التقدمية اللاتينية التي تتصدر موجة التحرر الثانية، هل هناك فرصة للحركات التقدمية العربية، أم أنها تقوضت بالكامل؟

** ربما سبب الغياب القاتل للحركات التقدمية في المنطقة العربية والاسلامية، يعود الى أنها كانت في طليعة موجة التحرر الاولى، والغريب أن الدول التي كانت تتقدم المسرح السياسي العالمي في مرحلة الخمسينيات وشكلت حركة عدم الانحياز مثل مصر والجزائر، تهالكت و اصابها التلف، ثم انتهت بمشروع العولمة الاخرى في الجزائر عام 1974. في تلك الفترة كانت امريكا اللاتينية تخضع لديكتاتوريات ترتبط مباشرة بواشنطن، وكانت غائبة تماما، عدا كوبا عن تحالف حركة عدم الانحياز، تخلف امريكا اللاتينية في مرحلة باندونغ، جعلها تتقدم المسرح السياسي العالمي بينما الدول التي كان نضالها يقود تلك المرحلة، نجدها الان تغط في سبات عميق.

ــــــ وهل هذا سبب كاف؟
** نعم هذا هو السبب، أقصد، مع انهيار مشروع باندونغ، تهالكت المجتمعات العربية، ولا أرى حاليا أي أفق يبشر بحركة شعبية حقيقية واعية، فعلى سبيل المثال عندما أتحدث عن المشروع الاستعماري والعولمة في مصر، يبدو كلامي غريبا ويسألون: ماذا تعني بالاستعمار الجديد، وما هي العولمة؟

ــــــ على ذلك، ستراهن الامبريالية طويلا، رغم تكيفاتها المختلفة مع ثورات الجنوب، على استغلال المنظمات الاسلامية الاصولية لتبرير وجود الصهيونية، وترسيخ القضية الفلسطينية كقضية صراع ديني؟

** قطعا، قطعا ... والنظم الوطنية الشعبوية في العالم العربي والاسلامي، مسؤولة بالدرجة الاولى عن تحويل القضية الفلسطينية الى مجرد صراع ديني، لانها منعت تسييس الجماهير. كنا نقول في مصر: إن جمال عبد الناصر أمم السياسة وجعل منها إدارة حكومية بيوقراطية أخرى، والشعب المصري الذي كانت فيه تيارات واطياف سياسية مختلفة ومتناقضة، من ليبرالية وبرجوازية مثل الوفد والشعب، انتهى نتيجة لتصفية التسييس في المنطقة العربية، وعرقلة وصول الايديولوجيات الدائرة على المسرح العالمي. في خضم هذا الفراغ ظهر الدين الاسلامي الذي هو جزء من الكيان الاجتماعي، ليحتل هذا الفراغ، ولكن بقيادة الانظمة نفسها، من أجل إحلال شرعية جديدة باسم الدين، كبديل لشرعيتها القديمة التي فقدتها والقائمة على التنمية المستقلة.

هذا مأزق خطير جدا، ويلخص واقع القضية الفلسطينية التي بدأ شعبها بمقاومة الصهيونية ومناهضتها بسياسة علمانية ذات تيارات مختلفة، معتدلة ورجعية وتقدمية، ثم جاء ياسر عرفات وتبنى مشروعاً مغايراً لجمع هذه التيارات وعمل على انهيارها، عندما انتمى لحركة الاخوان المسلمين، وقام على ضوء ذلك بتأميم السياسة، أي السياسة الحقيقية التي تتوازى وحجم القضية الفلسطينية وحساسيتها التاريخية؛ الدولة الصهيونية قامت بعد ذلك باستغلال هذا الخلل، فالجميع يعرف ان ’حماس‘ كانت في مرحلتها الاولى أداة اسرائيلية لمواجهة الحركة العلمانية في إدارة الصراع، وجعله ينحى بمنحى الصراع الديني.

أوسلو كان خطأ قاتلا

ـــــــ كيف ترى مسار المفوضات الاسرائيلية الفلسطينية؟ وهل القضية الفلسطينية هي قضية ضائعة بالنسبة لواشنطن، والمفاوضات 'مثلما يقولون هنا' ليست أكثر من اللعب بالوقت الضائع، حتى تتمكن اسرائيل من إتمام مشروعها الاستيطاني؟

** أعتقد ان قبول مشروع أوسلو كان خطأ قاتلا، وانتج ظروفا سيئة للغاية بالنسبة للشعب الفلسطيني، لأن جذور المشروع الصهيوني هي تصفية الوجود الفلسطيني سواء بالقتل أو بدفعه اضطراريا إلى الهجرة، تصفية شاملة. الشعب الفلسطيني الذي دفع ثمن تلف الانظمة العربية في حرب 48، وما زال يدفع، يقاوم بشراسة الآن، وبكل الوسائل المتاحة على ما تبقى من أرضه، ومهما امتد الكابوس الاستيطاني، هو يعرف ان الجيوش العربية التي لم تصل، لن تصل، لانها جيوش وهمية. هذه المقاومة المشرفة سوف تخلق على المدى البعيد تحديات جديدة ... فهل سيقبل مواطنو الدولة الصهيونية التعايش مع الاخر؟ وهل ستجد الصهيونية متنفسا لها في مناخ موجة التحرر التي تنتشر في مناطق أخرى مثل الصين والهند وامريكا اللاتينية والتي منطقيا سيصل صداها الى العالم العربي وايران؟ أظن ان العشرين سنة القادمة ستشهد هزيمة استعمار الغرب الثلاثي. انني متفائل بذلك، رغم الهزائم والنكبات المتتالية التي لم تـَحـْن ِ ظهر الشعب الفلسطيني المقاوم للمخطط الصهيوني، أقول شعبا وليس قيادة.

ــــــــ ماذا يحدث في مصر؟
** (يضحك): لا يحدث شيء في مصر، من يتقدم المسرح هو القوى الكومبورادورية بأشكالها المختلفة، التابع للنظام، الليبرالي على النمط الامريكي، والاسلام السياسي، وبالتالي القوى المناهضة بالمعنى الصحيح للاستعمار غير موجودة ولا مكان لها على المسرح.

ــــــ وظاهرة البرادعي؟
** البرادعي في بداية مسيرته كان لا يملك أي تصور سياسي حقيقي، عاد الى مصر وهو يحمل أجندة الليبرالية على النمط الامريكي، ولكنه ادرك بالتدريج انه لن يحصل كما كان يتصور على دعم واشنطن.

ـــــ لماذا؟

** لأن الولايات المتحدة سعيدة جدا مع مبارك والاسلام السياسي، وتفضل ان يرث مصر جمال مبارك، أو أي شخص آخر من الكتلة العسكرية التابعة لنظام مبارك.

 

لاباث بوليفيا (عن القدس العربي)