كلمّا اِمتدَّ الموتُ إلى أحَدِ حُماةِ الفِكر إلاّ وخلَّفَ رَجَّة في جَسَدِ الشعْر، لأنّ اِضطراباً مُفجعاً وغامِضاً يَمَسُّ، على نحو سِرّي، ضوْءاً مّا. إنّهُ الضوءُ الذي يَشتَركُ الشعْرُ مَعَ الفِكر، كلٌّ بأدَوَاتِهِ الخاصَّة، في تَأمِين اِختِراقِه لِظلامٍ لا يَكفُّ، في الزمَن الحَدِيث، عَنِ التسَلل مِنْ فجواتِ أيِّ فراغٍ سَهَتْ عنْ أقاليمِهِ دُرُوعُ التّحْصِين. الوشيجَة السّامية بيَْنَ الفِكر والشعر لا تَخْفَى، تتََحَوَّلُ خُيُوطُهَا مَوضُوعَ تَأمُّلٍ صامِتٍ مَعَ كلِّ نِدَاءٍ مُباغِثٍ لِلمَوْت، أيْ مَعَ كلِّ فجيعَةٍ تطول واحداً من حُرّاسِ طرفٍ من طرَفيْ هذه الوشيجة. وَعْيُ بيتِ الشعر في المغرب بها وبضرُورَةِ تَرْسيخِها هو ما يُسَوِّغ إيمانهُ بأنّ الألمَ، الذي يُصيبُ مِنطقة فِكرية، يَعْثرُ على أثرهِ في منطقةٍ شعرية.
رَحِيلُ المُفكر العربي الكبير محمد أركون خَسَارَةٌ كبْرى. تتبدّى فداحَتُها مِنْ وَضْعِهِ الاعتباري في المشهد الفكري المُعاصِر، ومِنْ حِرْصِهِ على النهوض بدِراساتٍ مُرتبطة عُضوياً بإشكالات العصر. فقد أرْسَتْ أبحاثهُ خطاباً عِلمياً، قاربَ قضايا العقل والتأويل، اِنطِلاقاً مِنْ تجْديدِ النظر إلى الموروث الإسلامي، وإعادَةِ قِراءةِ القرآن مِنْ مواقِعَ لا تتخلّى عن اِنفتاحها وعن رُؤيتها النقدية التي تَصَدّتْ،بالكتابة، لِمُرتَكزاتِ المَدِّ الأصولي، ومن الإنصاتِ لِتاريخ الأديان وَفتْحِ التأويل اِعتماداً على علاقاتِها. إنّ المؤلفاتِ العديدةَ التي خلّفها الراحل محمد أركون، في مسار بُحوثِهِ المُتشعِّبة، تحتاجُ إلى أنْ نمتدَّ بها، بالمعنى الذي تُعطيه الفلسفة المُعاصرة للامتدادِ بعَدِّه مهمّة الفِكر.
وإلى جانب فداحَةِ الغياب الذي تَرَكتْهُ وفاةُ محمد أركون، فإنّها نكأتْ جُرحاً بَدَأتْ مساحَتُهُ تتّسِع، إذِ اِنضافَ هذا الغياب، في وقتٍ وجيز، إلى الفَقْدِ الذي خلّفه رحيلُ المفكر المغربي محمد عابد الجابري والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد، كأنّ الموتَ يتربّصُ بحُصُون الفكر العميق، ويَفتحُ الثقافة العربية على مَجْهُولٍ يُضاعِفُ مسؤولية الأحْياءِ ويُعَقدُها.
إننا في بيت الشعر نستحضرُ، بتقدير عالٍ، الصِّلة المتينة التي جَمَعَتْ الرّاحِلَ بالمغرب وبالمُثقفين المغاربة، والنقاشَ الذي كانَ يُثريهِ حُضورُهُ في الجامِعة المغربية، التي مَثّلَ فكرُه فيها مَرْجعاً أكاديمياً رفيعاً. إنّ هذا التجاوُبَ القويّ واضِِحٌ مِنْ رَمزية اِختيار الرّاحِل لِتُراب المغرب مكاناً لِرَقدَتِه الأخيرة.
بيت الشعر في المغرب-الدار البيضاء، 18 شتنبر 2010