مهرجان الموسيقى.. وليلةٌ سودانيّةٌ بيضاء

على مسرح الصّالة الثّقافيّة

زينب ع. م. البحراني

 

بصوت الشّاعر، المُلحّن.. المُطرب السّودانيّ (عبد الكريم الكابلي) وفرقته الموسيقيّة التي تُصاحبه في جميع حفلاته مُنذ أكثر من 15 عامًا أضاءت الأمسية الثّالثة من أمسيات مهرجان البحرين الدّولي التّاسع عشر للموسيقى، والتي اتّخذت من مساء الرّابع من أكتوبر 2010م موعدًا لها على مسرح الصّالة الثّقافيّة في العاصمة البحرينيّة المنامة.

استهلّ الدّكتور (عبد الكريم الكابلي) تلك الأمسية بحديثٍ ودّي مع جمهور الحاضرين من أبناء السّودان الشّقيق لارتشاف ما يروي ظمأ الشّوق للوطن الحبيب، ومن أبناء البحرين و الوطن العربيّ القادمين تقديرًا للفنّ والثّقافة، مُعبّرًا عن تحيّته لهُم بقوله: "بودّي أن أرسل قلبي ليُصافح قلوبكُم"، ومُعرّفًا بأفراد فرقته الموسيقيّة العزيزة على نفسه فردًا بعد آخر. ثُمّ انطلق الصّوت العذب برفقة الأنغام الملوّنة مُتغنيّا بقصيدة (إنّي أعتذر) للشّاعر السّودانيّ (الحسين الحسن)، والتي يُحكى أنّه كتبها لفتاةٍ مُنذ عهد دراسته الجامعيّة اعتذارًا عن قصيدة حُبّ سبقتها، فقال:

حبيبة عمري ..تفشّى الخبر
وذاع وعمّ ..القرى والحَضر

وكنتُ أقمتُ..عليه الحصونَ
وخبأتُه من فضولِ البشرْ

صنعتُ له من فؤادي المهاد
ووسدته كبدي المنفطِر

ومن نور عيني نسجتُ الدثار
ووشيته بنفيس الدرر

وقد كنت أعلمُ أن العيونَ
تقولُ الكثيرَ المثير الخطر

فعلّمتُها كيف تخفي الحنين
تواريه خلف ستار الحذر

فما همَسَتْهُ لأذن النسيم
ولا وشوَشته لضوء القمر

ولكن.. برُغمي تفشي الخبر
وذاع وعم القرى والحضر

حبيبة قلبي وهل كان ذنبي
إذا كنت يوما نسيتُ الحذر

ففي ذاتِ يومٍ رقيقِ النسيمِ
كثيرِ الغيومِ، قصيرِ العمرْ

ذكرتُ مكانا عزيزًا عليّ
وأنتِ به وأنا والأُخر

ذكرت حديثك ذاك الخجولَ
وصوتُك ينساب منه الخفرْ

تقولين!.. ماذا تقولين ويحي
وهل كنتُ أفهمُ حرفا يمرْ؟

فصوتك كان يهدهد روحي
ويحملني في جناحٍ أغر

يحلق بي حيث لا أمنيات
تخيب.. ولا كائناتٍ تمُرْ

وهوّمت حتي تبدّي أمامي
ظلامٌ رهيب.. كفيفُ البصر

وقفت عليه أدقُّ الجدارَ
فما لانَ هونا .. ولم ينشطرْ

فعدتُ تذكرتُ أن هواكِ
حرامٌ علي قلبي المنكسر

حبيبة قلبي، وهل كان ذنبي
إذا كنتُ يومًا نسيتُ الحذر؟

ثمّ أتبعها بـ (أغلى من لؤلؤة بضّة) التي تحكي قصّة فدائيّةٍ شابّة بكلماتٍ شاعريّةٍ رقيقةٍ رافقها تفاعُل الجمهور تصفيقًا صاحَبَ ألحان القصيدة التي تقول:

أغلى من لؤلؤة بضّة
صيدت من شط البحرين
لحن يروى مصرع فضة
ذات العينين الطيبتين
كتراب الحقل كحفنة ماء
كعناق صديقين عزيزين
كملابس جندي مجروح
مطعون بين الكتفين
ذات الخطوات الموزونة
كصدى الأجراس المحزونة
كلهاة الطفل بقلب سرير
لم تبلغ سن العشرين
واختارت جيش التحرير

وجاءت بعدها كلّ من قصائد (يا رجائي وسلوتي وعزائي) و (يا ضنينًا بالوعد) قبل أن يُفاجئنا بأغنيةٍ شعبيّةٍ من تُراث السّودان، أشار قبل الانطلاق بين ألحانها إلى استعصاء ألفاظها على الفهم رُغم جمال معناها النّاضح بالحماسة والعنفوان، قائلاً في ما يُشبه الدّعابة: " يقيني أنّ المعاني ستنغلق، لا عليكُم هُنا في البحرين فقط؛ وإنّما في السّودان كذلك"، مُفصحًا عن أنّ السّرّ في صعوبة إدراك معاني تلك الكلمات هو أنّها وُلِدَت من رحم البادية السّودانيّة بخصوصيّة لهجتها الفريدة من نوعها، رُغم حفاظها على الفصاحة العربيّة التي شهِد لها بنبرةٍ واثقةٍ قائلاً: " أقولها بكلّ صدق؛ أنّ اللغة العربيّة الفصيحة مازالت في بادية السّودان..." .. وكان مطلع تلك القصيدة:

فرتيقة ام لبوس لويعة الفرسان
الليل بابلي عنزه وقرونه سنان

تلاها بقصيدة (شذا زهر) للشّاعر عبّاس محمود العقّاد، ثمّ قصيدة (أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر) للشّاعر أبي فراس الحمداني، لتُدهشنا روح الكلمة السّودانيّة الظّريفة في (زينه وعاجباني) التي ترنّم بها مُنشدًا:
زينة و عاجباني
تعجب كل شاعر.. يلعب بالمشاعر
عليها يهنيني و يقول زينة و عاجباني
أنا بي ريدا ناذر.. إني أكون مغامر
بكل غالي عندي.. أضحي ولا أحاذر
بقلبي و الأحاسيس.. بأدق المشاعر
بالأيام وعمري.. وكل عزيز و نادر
لأنها لو عرفتو.. عفافا عليّ قادر
لما يزيد حنيني.. أقول زينة وعاجباني
كم قلبي المعنّا.. بأشوقي غنّى
ليك يا عاجباني
كم في السر تمنى.. يشوف في إديك حنّى
حريرة يا عاجباني
كان في دهرو فنّا.. يضوق لحياتو معنى
معاكي يا مالكاني
هو الفاقد المحنة.. و دايما ليك أحنّ
منو لأحزاني
ما قادر أجاهر..  ريدا عليّ ظاهر
لما يزيد حنيني أقول:

زينة و عاجباني

أمّا (حُبّك للنّاس) فجاءت استثنائيّةً حقًا في اللحن والمعنى، تسبح بمشاعر السّامع إلى عالمٍ أكثر رحابه، وتُنسيه أحزانه الصّغيرة كلمةً بعد كلمة، وتُذكّر عُشّاق روايات (نجيب محفوظ) بالأبيات التي تغنّت بها  بعض شخصيّاته:

حبك للناس خلاني أحبك تاني
فيك الاحساس نسّاني أعيش احزاني
ما انت نغم رنان في خيالي
ما انت عشم فنان زي حالي
عارفك ساحر أزمان قبالي
تسحر أزمان جاياك وليالي
كيف ما اريدك لو كان احوالي
بيك تتباهى وتزدان وتلالي
ياروح سر الالوان يا غالي
يا صاحب عظمه وسلطان ومعالي
كم في معناك حنان متوالي
كم في دنياك أمان ياغالي
يالحسنك بيك فرحان ومتعالي
وكم فرحت بيك أحزان يا حالي

وجاء الختام بـ (سُكّر) التي أعادت للأجواء خفّة الرّوح السّودانيّة بظرافة كلماتها الرّشيقة المشوبة بحلاوةٍ معنويّةٍ تتفوّق على حلاوة السّكر:


سُكّر

سُكّر

ساحر لونو أسمر

كل الشافو أنكر
غيرو يكون في سكر
أول مرة يظهر.. في اعماقنا فجر
الوان من محاسنو.. ظلال نغم في منظر
وفي واحات عيونو.. رقيق اشوقنا فسر
آمالنا في خطاهو.. لامن جانا يخطر
والخلانا نسهر.. لونو العاجبو أسمر
أما وسط عيونو
وحاتك عسل تقطر
يوم لرمشو ا شهر.. لو ما الله قدر
كان من خطو نعتر.. ونقول ياريتو كتر
وكل الشافو انكر
غيرو يكون في سكر
همسه لكل شاعر
في محبوبنا سطر
ايات من بيانو
من فنو المُعبّر
يارب القوافي
يا الفنّك مقدر
زيد أوصاف حبيبي
قول خلينا نسكر
من حولو اجتمعنا
وبيهو ربيعنا أزهر
من حسنو وحلاوتو
 طريقنا الخالي نور
نشتاق لو يسالم
أو ليوم تنكّر
يكون ده دليل وظاهر
مره ببالو نخطر
خلى الدنيا أنضر
طعم الدنيا سكر
سُكّر ... سُكّر.. سُكّر

 و بهذا خٌتمت أمسيةٌ مٌفعمة إحساسًا ناضجًا بالكلمة الفصيحة الجميلة، والمعنى الأصيل الشّهي، والمُفاجآت الإيقاعيّة التي تنقل مشاعرك بين مدّ وجزرٍ على غبر توقّع، فتقفز بك من الحُزن الشّفيف إلى البهجة مجهولة الأسباب قبل أن ترتدّ إليك ذاتك. أمسيةٌ عرّفتنا بفلذةٍ من الثّقافة السّودانيّة بفنّانيها، وأفصحت لنا بجمهورها عن مدى تهذيب الشّعب السّودانيّ العريق، وتفاعُله الرّاقي مع الجمال، وإخلاص سلوكه للعادات والأخلاق والتّقاليد، ليكون بهذا خير سفيرٍ لوطنه وتُراث أجداده، ويستحقّ على ذلك أكبر تحيّة.