هذا حوار من نوع خاص أقرب إلى العصف الفكري مع المفكر الكبير سمير أمين، الذي نشرنا مقابلة معه في العدد الماضي، لأنه حوار عن بعد يمحص بعض آراء أمين ويفككها، ويدير معه جدلا شيقا حول مسائل تهم الثقافة والسياسة العربية التي تحتاج إلى الكثير من كشوفات سمير أمين وإضاءاته كي تنهض من ترديها المهين.

حوار عن بعد مع سمير أمين

في القومية والقطرية والشيوعية ومسائل أخرى

عادل سمارة

هذه مشاركة مقتضبة على هامش حوار ساخن نوعاً ما بين سمير أمين وشمس الدين الكيلاني، وهو محصور في رد أمين على فصل من كتاب الكيلاني عن الخطاب القومي ينقد فيه أطروحات أمين. من جانبي، هذا الدخول محاورة مع المفكر المتميز والطيب معاً سمير امين، سواء بإنتاجه أو عروبته أو ماويته إن شاء كذلك كما لا أُغفل شيوعيته. وقد قرأت ردكم على السيد شمس الدين الكيلاني الذي لم أقرأ ما كتب، ولذا احصر قولي في ما قرأته بعيداً عن الاتفاق او الاختلاف أو الاشتباك مع الرجل. لن أتناول كل نقطة طرحت، ولكنني سأتعاطى مع نقاط محددة أجد من المفيد إضاءتها أكثر، خدمة للقارىء ولي كذلك.

 

** يقول أمين: تفترض أطروحات القوميين ما يجب إثباته. إذ يفترضون وجود "القومية العربية" دون تساؤل حولها وحول المكونات التى تضفى معنى ملموساً لهذا الوجود، وما قد حدث من تغيرات خلال تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية، والتى من شأنها أن تكون قد أثرت إيجابياً أو سلبياً على كيان المجتمع، وبالتالى سمات الجماعة المعنية، بالأولى حول ما قد حدث من تنوع أنتجته هذه التغيرات من منطقة عربية إلى أخرى.

-  ربما كان أكثر دقة لو بدأ أمين هذه النقطة بالأمة وليس بالقومية، وذلك على الأقل لأن الجدل أكثر سخونة فيما يخص القومية، وعلى الأقل لأنها مفهوم حداثي متصل بتطور الحداثة الأوروبية، بينما الأمم اقدم من ذلك بكثير. وكما يلاحظ القارىء، فإن أمين يعمم تسمية القوميين دون تحديد، وهم بالطبع مدارس سواء من حيث الرؤية الجغرافية (المكان - الحيز) للأمة العربية وقوميتها بالطبع، أي هل الأمة العربية في المشرق وحده، أم في المغرب أم في جزء من المغرب؟ هل يعتبر أهل أطراف الوطن العربي أنفسهم عرباً أم أفارقة ... الخ. كما يعمم أمين من حيث الزمان بمعنى متى بدأ وجود ما يمكن تسميته الأمة العربية، اي قبل الإسلام، مع الإسلام، بعد الموجة القومية الأوروبية المسماة افتئاتاً "عصر القوميات" بمعنى تعميم ما يتطور في أوروبا على العالم ككل(1) . لا يتفق مختلف القوميين (حتى غير الماركسيين منهم) تماماً على القومية العربية والأمة العربية في مستويي المكان والزمان.

صحيح أن التعاطي مع القومية أو اية سردية كبرى بإطلاق ليس تعاطياً علمياً، ولكن ليس من العلمية ايضاً حصر التأثيرات على الجماعة في مناقشة القومية العربية، فتأثيرات التاريخ، أو دور الأمم في التاريخ أمر ينطبق على مختلف الأمم. وعليه، لا ينحصر التساؤل في "حقيقية" القومية العربية وحدها، وقد يكون التساؤل طبيعياً إذا ما تم طرحه عن مدى قومية كل بقعة جغرافية وجماعة بشرية، يقول قوميون أو يزعموا أنها عربية، بمعنى أن الاعتراض يمكن أن يصح على المدى، وليس على مبدأ الوجود. ويحضرني في هذا الصدد ذلك التشكيك المكرس في الأكاديميا الغربية وخاصة البريطانية التي عملت ولا تزال على التشكيك بل نفي وجود أمة عربية حتى لو في مكة المكرمة. وهو نفي يتساوق مع المشروع الذهني والسياسي الاستشراقي وخاصة الأنثروبولوجي الغربي اليوم الذي لا يبحث الأمر علميا، بل يقصد نفيه من أجل مشروع سياسي. وقد أكون محقاً، إذا كتبت أنني أرى أحياناً أن أمين في دوره الأممي، يقدم مرونة مجانية للمركزانية الغربية التي هو من أوائل من نقدوها!

دعني أتناول الأمر من زاوية جد بعيدة، بل قد لا تكون ذات علاقة. هذا البيت الأول في ملحمة جلجامش: «هو الذي رأى كل شيء فغنِّي بذكره يا بلادي». لم يقل هذا المطلع يا قبيلتي ولا يا دنيا؟ فهل في هذا معنى للأمة القديمة؟ بغض النظر إن كانت عربية أو سومرية أو فارسية ...الخ المهم أن هناك من حيث الزمان وامتداده أمماً قديمة، ولماذا لا ينطبق هذا على العرب بغض النظر عن امتداد الحيِّز؟ ألم تكن إسبارطة واثينا في صراع دائم او تناقض على الأقل، هل يقول اليونانيون اليوم أنهم ليسوا امة قديمة؟ ليس هذا للدخول في تفاصيل التاريخ، بل هو لنقل الحوار إلى، بل عدم عزله عن مضمونه المادي الطبقي الذي تريده أنت نفسك

 

** أمين: ويعتمد الخطاب القومى على سرد وقائع وسمات يُفترض أن تثبت وجود هذه القومية (الأمة). فالكتب المعنونة "عروبة مصر" و"عروبة الجزائر" و"عروبة المغرب" عديدة وكلها تروى نفس القصة وتقوم بعرض نفس الوقائع والسمات. ويلجأ الكيلانى إليها دون أدنى تساؤل حول درجة علمية المنهج المتبع فى هذه الكتب، ودون التساؤل حول احتمال كونها منتجات أيديولوجية بحتة.

- هذا النقد صحيح، ورغم أنه موجه ضد الكيلاني في خصوصية موضوع النقاش، ولكنه ينطبق ايضاً على مختلف الأمم. يكفي أن نسحبه على الولايات المتحدة بما هي حديثة وتمتص كل يوم من الأمم الأخرى، سواء باحتلال شمال المكسيك كله، أو بابتلاع الملايين في موجات الاستجلاب، هذا ناهيك عن أن الذين رفضوا الإقرار بامة عربية، ستالين "غفر الله له" اعتبر الكيان الصهيوني أمة واعترف بها. والكيان الصهيوني الإشكنازي هو تجمع نموذج على أمم متحدة، اي من قرابة مئة أمة. هناك في أية أمة منتج إيديولوجي في إهاب قومي ، ولكن السؤال هو ما حدود الوجود الموضوعي والتاريخي وما حدود كون الأمة صناعة. لذا أعتقد أن ما يجب أن يشغلنا هو: إن هذه الأمة متمظهرة في القومية، سواء في كل الوطن أو في ربعه، ما هو دورها في التاريخ؟ والأهم ما هو دورها المعاصر؟ هل هي قومية شوفينية؟ هل كافة دعاتها ومدارسها يمينية عنصرية؟ أم هي جزء من حركة التحرر العالمي في مناهضة الأمم بله الطبقات الرأسمالية في حقبها: الاستعمارية فالإمبريالية فالمعولمة التي تجر الإنسانية إلى العبودية والبربرية؟ أليس دورنا هو في تطوير العناصر التقدمية في القومية العربية بمعزل عن أطروحات هذه المدرسة القومية، وهذا النظام القومي أو ذاك؟ هل مقاومة الغزو الصهيوني والراسمالية في حقبة العولمة هو رصيد تقدمي للقومية العربية، حتى لو كانت عروبتها في بغداد وحدها؟ أعتقد أن علينا قراءة الحبل السري بل الرابط الضروري بين النضال القومي والاشتراكي للطبقات الشعبية العربية، والذي جعل دور القومية العربية تقدميا بالضرورة في حقبة الراسمالية المعولمة. كما علينا تطوير مفاهيم وآفاق هذا النضال بما هو قائم على نضال تقدمي ضد المركز الرأسمالي المعولم الذي شكل بمجموعه "متروبول" الاستيطان الصهيوني وضد الصهيونية. وهذا ما يفتح بالضرورة على قراءة التشكيلات التجزيئية القطرية وينقدها بقصد تجاوزها ثورياً دون الانشغال بأن موريتانيا عربية أم إفريقية. حين نصل هنا، نصل إلى الوجوب الطبقي فالإشتراكي المطلوب. هذه القراءة المطلوبة، قراءة حرة ترفع من رأسها وهم الغرب والتوهم به وابتلاع أطروحاته سواء الغث منها أو السمين.

 

** أمين: ليس من العسير بيان مجموعة أخرى من الوقائع التى يمكن على أساسها استخلاص أطروحة "تنوع القومية"، أى تواجد "قوميات قطرية (محلية) .والمنهجان (أى منهج الخطاب العروبى ومنهج الخطاب القطرى) يشتركان فى طابعهما التبسيطى، حيث إن النتائج المستخلصة منهما هى هى، ضعيفة الطابع، دون قدرة إقناعية، بكلمة أخرى هى تعبيرات أيديولوجية غير علمية.

ــــــ من الصعوبة عملياً إيلاء اعتبار متوازِ بين القومية والقطرية على الأقل لأن تقسيم هذا الوطن بدأ بالتقسيم الإداري العثماني، وتجسد وتغير في تقسيم وتجزئة استعمارية، حاولت تكوين كيانات قابلة للانفصال عن بعضها وغير قابلة للحياة بمعزل عن التبعية للمركز. وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد أن بروز الحركة القومية العربية في سوريا قبل غيرها لأن سوريا جرى تقسيمها كقطر من الداخل. لماذا لا يكون المبتدأ هل هناك مشترك قومي، وهل هناك خصوصيات قطرية، وما هي العوامل التي اقتحمت المنطقة لتعميق التجزئة، وهل التجزئة اساساً اختيار شعبي بل هل سنح للشعب العربي أن يختار في اي وقت، اي شيىء؟ يجب ان لا نغفل دور المشروع القطري في محاولة خلق خصوصيات مصطنعة بين الأقطار، وهي موجودة حقا ويكون السؤال هل تُقرأ علميا أم إيديولوجيا تخارجيا؟ ولكن، بعد عقود طويلة على حكم الدولة القطرية وأدائها وارتباطاتها، بدءأ من التبعية والفساد والقمع، وصولا إلى الاعتراف العلني والمسروق بالكيان الصهيوني، ومشاركة قطريات عربية في احتلال العراق، هل ظل أمام الثوريين العرب غير تفكيك مفاصل الدولة القطرية(2)؟ والدولة القطرية هنا ليست مسألة مجردة أُسقطت من الفضاء. بل هي بالضبط ما يركز عليه أمين، هي مسألة طبقية كمبرادورية متخارجة، ومجموع هذه القطريات العربية كمجموع حبات البطاطس عند وصف ماركس للفلاحين.

 

** أمين: لئن أصبح اتجاه التطور يفعل فعله نحو توحيد اللغة المستخدمة بالفعل (وأنا اتمنى ذلك!)، فإن الاستنتاج الذى يمكن استخلاصه من الملاحظة هو أن "العروبة" الموحدة ،لعلها فى سبيل التحقق، احتمال أكثر منها واقع، بل واقع حديث، على خلاف أطروحة القوميين التى تزعم أنها "قديمة قدم الفتح الإسلامى/ العربى" كما سوف نرى فيما بعد.

- لا أتفق مع هذا التطهر العلمي، فمختلف الأمم القديمة تأخذ قدمها بالاعتبار، والصحيح هو عدم سحب هذا القديم على الواقع الحالي. فالوجود على أرض معينة ووجود تواصل تاريخي حتى لو تقطع اقتحاما من الخارج لا ينفي أن هناك أمما مستدامة، وليست قديمة وحسب. والعرب هم أمة موجودة قبل الإسلام. ولا أدري إن كان تعبير الفتح الإسلامي صحيحا أو الجاهلية، فالإسلام وليد عربي ولم يأت إلى العرب فاتحاً. يمكن تسمية الانتشار الإمبراطوري فتحا ولكن ليس في الوطن العربي (على الأقل من يُعترف بهم أنهم عرب، مثلا أهل اليمن في ذلك الزمان) بغض النظر ايا منه كان عربياً بالمعنى النسبي أم لا. كما لا يخدم كثيراً كون العروبة (بمعنى شعور أناس أنهم عرب) الموحدة اليوم في سبيل التحقق واستخدام هذا الإقرار لنفي تحققها في الماضي أو التشكيك فيه، بمعنى أن هذا النفي لا يخدم من ناحية علمية، وإن كان يخدم في نفي أطروحة القوميين المقصودين برد أمين. وأعني أن لا ضرورة لاستخدام الماضي لنقد الحاضر بمقدار ما أن الضرورة هي في قراءة جادة للحاضر وتطويره من أجل مشروع نهضوي.

 

** أمين: للأسف الشديد هناك فى وطننا العربى المعاصر (وفى مناطق أخرى فى العالم الثالث) ميول قوية تسعى إلى رفض "المفاهيم والنظريات المستوردة" لمجرد كونها مستوردة، خارجية دون اعتبار مدى صلاحيتها وحدود ما تقدمه من استخلاصات، وفى المقابل تسعى إلى ترقية شأن "الأصالة" إلى سماوات المطلق. فهؤلاء الذين يأخذون بهذا المبدأ ـ وبينهم الكثير من العروبيين ـ (وإن كان الكيلانى لا ينتمى إلى هذه الفئة!) يفهمون "العروبة على أنها قائمة بحد ذاتها، دون حاجة إلى استيعاب ناتج تقدم المجتمع العالمى الخارجى.

ـــــ حتى لو رغب هؤلاء بالقطع في التفاعل مع الخارج ولا اسميه الاستيراد فهذا محال. فلم يحصل في الماضي مع اي تجمع بشري، أما في العصر الحديث فمن يغلق على نفسه الباب هناك من يطرق الباب عليه ويدخل في الغالب غازياً، كما يمكن أن تنشأ ظروف تخلق من لدنه من أو ما يستدعي التفاعل وحتى الانفتاح على الخارج. لقد حاولت العثمانية ضبط انخراطها في النظام العالمي، ولكن طبقة التجار وخاصة تجار التهريب تمكنوا من خرق المنع. من يرفضون استيعاب ناتج المجتمع العالمي يعيشون وهم تحقيق ذلك المحال، وبدل أن يتعاملوا مع رياح التغيير يضطروا للتذيل لها. وإذا كانت بعض الدول قد اتبعت استراتيجية إحلال الواردات في الاقتصاد، فإن المطلوب في الفكر والثقافة استراتيجية الاطلاع والنقد والتطويع والتبييىء للتظريات الوافدة من الخارج. ومرة أخرى، فإن ناتج المجتمع العالمي يفرض نفسه بشكل أخطر من الخطاب، اي بالتقنية والاستهلاكية، هو بين ظهرانينا وإنكاره عودة سلفية خطيرة، بل إن قراءة خطابه والأخذ منه يشكل مناعة وتصليبا وفتح آفاق لدينا.

 

** أمين: أما فى البلدان التى أصبحت "الوطن العربى" فإن عملية التعريب (بل والأسلمة) فيها قد ظلت بطيئة أكثر مما يتصور القوميون الذين يقبلون أقوال قصص خرافية فى هذا المجال. فالأغلبية الكبرى من سكان المغرب استمرت فى استخدام اللغات الأمازيغية حتى عقود غير بعيدة. وهناك حركة إنعاش "الذاتية الأمازيغية" فى المغرب والجزائر لابد من أخذها فى الاعتبار فى العمل السياسى.

ـــــ مرة أخرى يعمم أمين ارتكاز قوميين على "قصص خرافية" مع أن المطلوب وضع هذه المسألة في سياقها الطبيعي بمعنى أن هذا الوطن مشترك مع أمم وإثنيات أخرى. وإن القومية الحاكمة، وهي قطرية جوهرياً هي التي تشتبك مع الثقافات واللغات الأخرى في موقف رجعي معادٍ للعرب وغيرهم على حد سواء. وهي لفرط لاديمقراطيتها ترى في التعدد خطراً على مصالحها الطبقية القطرية الضيقة. إن هذا التعميم وغيره من أمين يضع هو نفسه محط نقدٍ هو في غنى عنه لو حاول بعض الدقة والتوضيح وليس الانجرار إلى أُطروحات غير علمية ليسحبها هو ايضاً على مختلف القوميين، اي في وضع كهذا يمكن للبعض قراءة أمين على أنه يشمل الماركسيين القوميين أو العروبيين الذين يؤمنون بالوحدة العربية، والذين لا اعتراض لديهم على انفصال هذه الإثنية/ القومية أو تلك. بل الذين يقرأون حق هذه الأقليات في الانفصال من مدخل مختلف قد يقوم على أن هذه الأقليات حين تطالب بالانفصال إنما لأن نخبها السياسية الكمبرادورية والثقافية متخارجة (الموجة القومية الثالثة) عنها هي نفسها وليست عن العرب فقط، وأن هذه الأقليات قد تقوي انخراطها/ وحدتها/ تحالفها مع العرب في حالة الوحدة العربية القائمة على التنمية والتحرر والاشتراكية.

 

** أمين: «ألفت الانتباه هنا إلى أن "المجتمع العربى" فى عصره الذهبى (القرون الهجرية الثلاثة الأولى) لم يتسم بكونه وسطًا عربيًا إسلاميًا متجانسًا كما تزعم خرافة العروبة. بل اتسم هذا المجتمع باختلاط وتفاعل عناصر ثقافية ولغوية، بل ودينية من أصول متباينة، على نمط إمبراطورية الاسكندر، ثم الإمبراطورية الرومانية. ولم تمثل هذه "العروبة الناقصة" (غير المكتملة) عاملاً سلبياً، بل على النقيض أصبح هذا التنوع عاملاً إيجابياً فى ازدهار الفكر والحضارة».

ـــــ ليس دقيقاً أن يدمج أمين ثلاثة قرون من الزمن في وحدة واحدة، فالدولة الأموية كانت أقل اختلاطاً بغير العرب وأكثر تجانساً عربيا من العباسية، سواء في قرنها الأول او الثاني. لست أدري من هم العرب الذين يعتبرون العروبة حالاً خالصاً نقياً؟ والعروبة كما هي هوية أو انتماء اية أمة، هي حالة انتماء عام. كنت أتوقع من أمين أن يباعد ما بين طرحه وما بين التعميمات العاطفية مثل العروبة، فالانتماء العام عاطفي أكثر مما هو علمي بل لا يعرض نفسه كتوصيف علمي/اجتماعي. ربما الأدق أن يتناول الباحث طبيعة التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية في الزمن المبحوث، وهو ما ناقشه أمين في مواضع أخرى، وابتعد عنه في الفقرة أعلاه ربما لغرض الرد على (بعض الداعين للعروبة) مع أنه كان في غنىً عن ذلك. ما من دولة في الماضي والحاضر غزت أمماً أخرى إلا وكان هناك تأثير بدرجات على الطرفين، وهذا شأن العرب. ولا شك أن امين محقً في رفضه سحب العروبة على الحيز المتسع للإمبراطورية العربية ولاحقا الإسلامية، وإن كان هذا لا يُجيز له وصف العروبة بالخرافة. قد يكون من قبيل الخرافة وصف خُراسان بأنها جزء من العروبة، ولكن لا تكتنف الخرافة كل مكان في تلك الدولة. هذا وإن كان السطر الأخير من الفقرة قد أعاد أمين من الرد المنفعل إلى الرد المادي التاريخي.

 

** أمين: هذا وقد دخلت المنطقة فى مرحلة انحطاط بدءًا من القرن الرابع أو الخامس الهجرى. وقد انعكس هذا الأمر فى ثبات (بل وأحياناً تدهور) عدد سكانها الذى لم يزد فى أواخر القرن التاسع عشر عما كان عليه فى العصور القديمة، هذا بينما شاهدت الديموغرافية فى كل من أوروبا والهند والصين تزايداً مستمراً خلال نفس القرون. لقد ذكرت هذه الأمور فى كتاباتى، ولكن للأسف لم يلق هذا الذكر تعليقاً مناسباً من القراء فى الوطن العربى.

ـــــ تعقيبي على هذه الفقرة بعيد عن جوهرها لأنها تثير مسألة هامة متعلقة بتاريخ الوطن العربي منذ حينها وحتى اليوم. فمرحلة الانحطاط لا علاقة لها لا بالعروبة (من حيث دقة المصطلح ومدى انطباقه الجغرافي/ الديمغرافي) ولا بالقومية والأمة، بقدر ما هي متعلقة بأمرين: الأول: عدم قدرة الدولة/الإمبراطورية على الدفاع عن نفسها أمام الغزو الخارجي، وهذا عامل بنيوي داخلي. والثاني: دور هذا الغزو في القطع التاريخي للتطور أو الانتقال إلى تشكيلات أخرى (سواء الراسمالية أو اي منحى آخر ما بعد التشكيلات القروسطية سواء وصفها البعض بالإقطاع العسكري، المجتمع الحربي Worrier Society (مكسيم رودنسون)، التشكيلات الخراجية (أمين وإلى حد ما تيرنر)، النمط الاسيوي في الإنتاج (ماركس)...الخ). إن قراءة هذه المسألة هي التي باعتقادي تُبقي على مستوى أمين المفكر المبدع، اكثر من دخوله في نقاش أمور جانبية مطروحة في العصر وليست ضرورية فيه إلا من قبيل المناكفة السياسية. قد أغامر بالقول إن هذا القطع قد اسس بتواصله، اي تواصل دور الغزاة الأجانب، في تخليق خصوصيات قطرية هنا أو هناك، وهو ما تركز لاحقاً في عهد السلاجقة فالمماليك فالعثمانيين، إلى أن وصل الاستعمار الأوروبي. هذه مسيرة الاحتلال فالدفاع أو المقاومة بلغة العصر التي تحتاج منا اليوم مزيداً من التركيز. أعتقد أن هذه المسألة بحاجة إلى دراسة ضافية جدا لإثبات أو نفي، على الأقل لبحث فيما إذا كان أن الوطن العربي يمكن أن ينتقل إلى الراسمالية (أو غيرها) لولا هذا التدمير الخارجي(3).

ويفتح هذا الأمر على مسألة هامة أخرى وهي أن اقتحام الإمبراطورية العربية وهزيمتها وتفكيكها فتح فرصاً لمراكز أخرى في العالم وربما كانت العثمانية هي الوريث الإمبراطوري بعد العرب، لكنه الوريث الذي عجز (كمركز) عن احتجاز تطور أوروبا، بل إن نهضتها وحداثتها جاءتا زمنياً في حقبة غياب مركز عالمي ذي قبضة قوية، وهو ما اتاح لأوروبا ذلك التطور. وقد تكون أطروحتي صحيحة في هذا السياق بمعنى أن القول الدارج بين الاقتصاديين والسوسيولوجيين أن: "لا يابان بعد اليابان" ليس دقيقاً، بل إن واقع الحال: "لا أوروبا بعد أوروبا"(4) . ولو حاولنا دفع هذه المسألة أبعد للأمام لكان لا بد من الحديث عن أوروبا الرأسمالية/ الاستعمارية فالإمبريالية فالمعولمة، وهي الحلقات المتواصلة التي احتجزت تطور المحيط كما يؤكد ذلك أمين والثلاثة الآخرون من فريقه (الراحلان فرانك وأريغي، وإيمانويل ويلرشتاين). هذا الاحتجاز هو الذي وضع الوطن العربي بعربه وغير عربه في حالة من الفترة الانتقالية المديدة طوال القرن العشرين، لنجد هذا الوطن، سواء كان أمة واحدة وقومية واحدة أم العديد من هذه وتلك، لنجده لم ينتقل لا إلى تشكيلات راسمالية متقدمة ولا إلى تشكيلات اشتراكية. وأعتقد أن هذا الأهم، وان هذا جوهر ما يضغط أمين على محاوره باستمرار، اي قراءة المسالة الطبقية، وهو في هذا صحيح.

صحيح أن أمين لفت النظر إلى النمو الديمغرافي في الصين وأوروبا والهند. ولكن صحيح ايضاً أن نقرأ التراجع السكاني في الوطن العربي عبر العوامل التي ورائه. فالحروب والغزوات التي تمت ضد الوطن العربي لعبت دوراً اساسياً في التراجع السكاني. بل إن أمين نفسه من الذين كتبوا بأن الازدهار العربي كان قد قام على التجارة أو الدور في التجارة بعيدة المدى، وركز على الدخل المتأتي من الخراج وهو ما طبع التشكيلة بطابعه (التشكيلات الخراجية). وعليه، حين تراجع أو توقف الخراج كان لا بد أن يحل الخراب والفقر، ومن ثم التناقص العددي. تختلف الحالات الثلاثة التي طرحها أمين من حيث الموهوبية الثرواتية، الخصب الطبيعي لتلك المناطق. وهنا لا يجد القارىء أمامه سوى مقارنة موهوبية الموقع بالموهوبية الثرواتية بمعنى أن الثانية هي تكوين المكان، هي بيد المجتمع، في حين أن الموقع يتطلب دوراً خارجه وليس داخله فقط، وهذا يتطلب قدرة عسكرية مناسبة لا تتأتى في ظروف ضعف الدولة. أليس الخصب والقحط وراء التنقلات القبائلية من الجزيرة إلى بلاد الشام وحتى إلى المغارب العربية هذا مع العلم أن مجمل الوطن العربي ليس غنيا زراعياً باستثناء بقع هنا وهناك، تشكل مصر بقعة كبيرة وما بين النهرين، وحتى هاتان المنطقتان تتعرضان اليوم لخطر العطش والتصحر لأن منابع النهار ألتي ترويهما ليست محلية (في أغلبها على الأقل). وهذا يطرح مجدداً ضرورة الدولة العربية الموحدة باي شكل، بمعنى أن الاعتداء على السيلان الطبيعي للماء لا يتم إلا إذا كان الشريك ضعيفاً وهذا لا ينفي وجوب التفاوض، ليس هذا موضوع النقاش. من جهة أخرى، أليست الموهوبية الثرواتية هي التي حددت في الوطن العربي في القطرية المعاصرة مسار تطور القطريات العربية غالباً في منحيين:

الأول: منحى تطور القطريات ذات الموهوبية الثرواتية (زراعياً) مصر سوريا العراق بشكل خاص وهي التي كانت الموئل المبكر للحركة القومية بعمومها.

الثاني: منحى التطور التابع للقطريات الفقيرة ثرواتيا وديمغرافيا وحتى المبددة سكانياً، وخاصة السعودية ومختلف قطريات الجزيرة وليبيا وهي قطريات استنامت باكرا للتبعية وحين اكتشاف النفط كانت جاهزة للدور الريعي التابع والباذخ لا سيما وان ثقافة السلطة والمجتمع قامت على اعتبار النفط لمن اكتشفه.

 

** أمين: نعم عاشت النخب المثقفة العربية الإسلامية فى جو كوسموبوليتى فى حدود العالم العربى الأول ثم العالم العثمانى الوريث.

ــــ وكان لا بد أن تعيش هذه النخب هكذا، وأن تكون نخباً مُعوَّمة، طالما أن الدولة المركزية لم تعد عربية، وبالتالي لم تتحول او لم تلعب هذه النخب دور المثقف العضوي للطبقة الحاكمة، إن صح التعبير، فالسلطة لم تعد عربية، والنخبة العربية لم تجد لها مكاناً إلى جانبها، فكانت هذه النخبة إسلامية أكثر مما هي عربية بما أن الإسلام اصبح هو المظلة التي يحكم بموجبها كل خليفة. ربما تضيىء هذا الأقوال مقارنة النخب المثقفة في العصر العباسي الأول والثاني حين كان المثقف مثقفا عضويا للسلطة/ الدولة فكان النشاط الثقافي سواء الترجمة أو التأليف. ومع ذلك كانت كل فرقة ثقافية تتعرض للقمع من النظام الذي يعتمد فرقة أخرى. (مشكلة المعتزلة وإخوان الصفا والقرامطة) وضياع الكثير من أنتاجاتهم.

 

** أمين: وهنا يجدر ذكر أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعالم العربى الإسلامى. فإن جميع النخب فى العصور القديمة مارست كوسموبوليتية متماثلة. هكذا رأينا النخب الأوروبية تنتقل من قطر إلى آخر على مدى قرون، حينما كانت اللاتينية لغة مشتركة للثقافة. كما مارست النخب البوذية السفر والتنقل لمسافات طويلة فى الهند والصين واليابان وجنوب آسيا. إذن لا يُعد مجرد تواجد هذه الظاهرة دليلاً على أن الشعوب التى عاشت تلك النخب فى أوساطها كانت تكون "قوميات موحدة".

ـــ ليس شرطاً أن تشكل قوميات موحدة بقدر ما أن الشرط هو الدور الذي لعبته النخب في الأنظمة السياسية الاجتماعية في كل مرحلة، وهذا ما دفعني للإشارة إلى دور النخب في العصر العباسي مقارنة مع نفس النخب في قرون الاحتلال العثماني. من المفيد الإشارة هنا إلى أن حرية تنقل النخب خلقت مناخا لتقبل الوحدة الثقافية في الصين، التي لم تُجزَّأ كما هو حال الوطن العربي. وحتى أوروبا الإقطاعية، ومن ثم الراسمالية فقد بقيت منطقة مفتوحة على بعضها البعض. ألم تلعب الإيديولوجيا الدينية دورها في خدمة امراء الإقطاع من مختلف أنحاء أوروبا، ليشنوا حملات الفرنجة ضد الشرق العربي؟ ألم يكن ذلك الغزو أوروبياً جماعياً؟ لذا نجد أن النهضة في اوروبا كانت "نهضة أوروبية" وليس فرنسية أو بريطانية وحسب، لقد شكل هذا الحراك المرن للنخب مناخ التبادل والتطور المتوازي في أوروبا الغربية خاصة. كان تطور أوروبا متوازيا رغم حروبها الشرسة قوميا. أما احتلالات الوطن العربي وتجزئته فقد قزمت حتى فكر النخب.

 

** أمين: إن إشكالية تحديد مكونات ما يمكن أن نطلق عليه اسم "القومية"، وتعريفها الدقيق، وتمييزها عن أشكال أخرى من ظاهرة "الجماعة"، وبالتالى إشكالية وجود أو غياب مثل هذه الظاهرة هنا أو هناك عبر التاريخ .. هى إشكالية معقدة أكثر مما يتصوره القوميون بصفة عامة، والكيلانى بصفة خاصة. فالوقائع "الظاهرة" لا تثبت شيئاً، لا أن هناك "قومية (بمعنى أمة) عربية واحدة" تواجدت عبر التاريخ، ولا أن هناك "قوميات قطرية" هى الأخرى كرست وجودها عبر التاريخ. فالجمع بين الظاهرتين، والتقدم والتراجع لمختلف أشكال واقع الجماعة، هو احتمال أكثر واقعية.

ـــ ليس المهم إثبات الجمع بين الظاهرتين، وكذلك التقدم والتراجع، فهذا تحصيل حاصل، لا يوجد تطور خطي ومتصل ونقي لمجتمع معين في أية فترة، كل العلاقات تمفصل صراع ...الخ. هنا تكون الأهم مفاعيل هذه الوحدة/ صراع بين القومي والقطري ونتائجهما ليس على صعيد الصراع الاجتماعي الداخلي بل على صعيد الارتباط بالأجنبي، بالمستعمِر كذلك.  وقد يكون مفيداً أن نتابع موقف المركز من الدولة القومية والدولة القطرية. لهذا مدلوله. هل كان موقف المركز من الدولة الناصرية، بغض النظر عن محدودية قوميتها، كموقفه من الأنظمة في السعودية والأردن وغيرهما؟ ألا يحمل هذا معنى ما؟

هناك عامل آخر يفرض نفسه هنا وهو التناقض وجوباً بين القومية والقطرية، الصراع الطبقي تحديداً بمعنى دور الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في الوحدة، مع الكمبرادور صاحبة المصلحة في التجزئة. سيكون بل هناك اصطفاف طبقي في الحالتين، وهو أمر طبيعي. ولكي لا يفهمني أمين بشكل مختلف عما أعني، فإن مصلحة، حتى البرجوازية ذات التوجه الإنتاجي التنموي تتطلب الوحدة على الأقل بمفهوم السوق الأوسع، مغايرة ومناقضة لمصلحة الكمبرادور الذي يكتفي بالسوق القطري. قد يقول قائل، وماذا يضير الكمبرادور لو كان يستورد لسوق أوسع؟ وهذا صحيح، ولكن السوق القطرية الأخرى هي كذلك مفتوحة للمركز، فلماذا لا يحافظ على هذا النمط الجديد من "الملتزمين"، هذا إضافة إلى أن سوقاً واسعة سوف تشترط بدرجة أو أخرى مستوى من الوحدة أعلى من تبعية السوق وحسب. من هنا كان وجوب ضرب تجربة محمد علي وعبد الناصر وصدام حسين طالما هناك توجه تصنيعي إنتاجي.

 

** أمين: ومن ثم فمقولة أن القومية العربية أمر ثابت متواصل عبر تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية هى مقولة ذات طابع أيديولوجى بحت. وينتمى هذا النوع من المقولات إلى ما أسميته "النظرة الثقافوية" للمجتمع والتاريخ. وأقصد بها نظرة تبحث عن "ثوابت" تظل تحكم مسيرة التاريخ وبحيث يتسم كل شعب بسمة خاصة له، مختلفة عما هى عليه عند الشعوب الأخرى. وينفى هذا المنهج من الأصل احتمال فعل قاسم مشترك يتيح الحديث عن "تاريخ الإنسانية"، بشكل عام. فالمنهج الثقافوى ينظر إلى التاريخ على أنه مشكل من مسيرات موازية تبقى خاصة بالرغم من احتمال تفاعلها. ولقد أنكرت صلاحية هذا المنهج بقولى إن مثل هذه الثوابت لا وجود لها فى التاريخ. بل إن جميع ظواهر الحياة الاجتماعية عند جميع الشعوب خضعت للتغير، بما فيه تلك الظواهر التى تبدو "ثابتة" بسبب طابعها المقدس، وأقصد بالطبع العقائد الدينية. فالبحث عن "صحيح الإسلام" (أو "صحيح المسيحية") هو بحث ذو طابع لا علمى. أما البحث العلمى فهو ذلك البحث الذى يدرس ذلك المجتمع الإسلامى (أو المسيحى) الملموس، ويسعى إلى كشف الأسباب التى أنتجت فهماً معيناً للعقيدة الدينية نفسها وتمفصله مع الظروف المرحلية الملموسة.

ــــ هل المسألة المركزية هي في الوجود المتواصل والمطلق للقومية أم للأمة؟ ألا توجد الأمة قبل القومية؟ وإذا كانت المسألة القومية ثقافوية بدرجة ما وهذا صحيح، فلماذا لا ينشغل أمين في مسالة الوجود التاريخي الاجتماعي المادي للأمم، ومنها الأمة العربية. والثقافة لا تنحصر في ثقافة أمة أي لا تتوحد حتى ثقافة الأمة الواحدة. فهل ثقافة الفلاحين هي ثقافة الكمبرادور؟ وكي لا نغالي فهي تتوحد بالمعنى التاريخي وتختلف بالمعنى المعاشي الطبقي. تتوحد في الفلكلور أكثر مما تتوحد في نمط حياة ومصدر حياة كل طبقة. ربما فات أمين التنبه إلى أن إحياء المسألة الثقافوية على صعيد عالمي جاء كأحد التيارات المضادة للماركسية وتحديداً للمفهوم والواقع ومن ثم الصراع الطبقي. وفي هذا يمكن للقوميين من الطراز الذي يرد عليه امين أن يجعلوا من الثقافة أداة لخدمة الطبقات الحاكمة بحيث نبدو "جميعنا عرباً" تحت السلطة السياسية و "جميعنا عباد الله" في مكان العبادة! ألا يجلس المليونير لبضع دقائق إلى جانب الفقير في المسجد؟ أليست هذه اللحظة هي التي جذبت ملايين السود في اميركا إلى الإسلام، وهم بالطبع لا يعرفون حقاً ما هو وضع هذه "المساواة" في دار الإسلام.

هنا يصبح السؤال الأساس أين ندير النقاش؟ هل باتجاه وجود ثقافة دائمة محددة و "مستقلة" عن الثقافات الأخرى، أم وجود أمة (من كل القطريات أو من بعضها لا يقلقني هذا كثيراً) تبحث عن مستقبل أفضل وتناضل عبر طبقاتها الشعبية ضد الطبقات الحاكمة من جهة، وضد المركز الراسمالي بالطبع من جهة أخرى. وهذا يعيد وجوب التركيز على القطع الذي فرض على تطور المجتمع العربي كمجتمع، كطبقات، لا كثقافة، ومن ثم وجوب العمل من أجل الوحدة ليس لكي تبدو الأمة العربية وحدها حاملة "ثقافة إكرام الضيف" من بين كل الأمم، بل من أجل أمة تعيش بكرامة وتخدم توجه الإنسانية إلى الأمام في مواجهة أمم، وخاصة في المركز، تعتاش على دماء الأمم الأخرى وتزعم الثقافة الواحدة التي تحاول فرضها على العالم! ربما يفتح هذا على وجوب قراءة جادة لما يسمى المجتمع المدني وخاصة في الغرب، وهل مجتمعات الاستعمار مدنية حقاً؟ لكن لهذا نقاش آخر. إن "السمة الخاصة" للمجتمع التي يتحدث عنها أمين هنا وينقضها، مقصود بها من يزعمون وجودها الدائم والأبدي "التصالح الاجتماعي" اي التخدير الطبقي للطبقات الشعبية، وهذا مصدر الخطر الأساسي، بمعنى تكريس سيطرة وهيمنة الطبقة/ات الحاكمة. وأخيراً، قد تصح أو تتجلَّس مسألة الوحدة الثقافية في المجتمعات المغلقة والصغيرة، في بعض الإثنيات والطوائف.

 

** أمين: يتناول القوميون (والكيلانى منهم) إشكالية "القومية" تناولاً ثقافوياً ذا طابع مطلق على نمط تناول الإسلاميين لإشكالية الإسلام. فليس من الغريب إذن أن من تبقى من القوميين بعد هزيمتهم السياسية قد مالوا إلى الاندماج مع الإسلاميين فى تكتل سياسى موحد.

ـــ أعتقد ان هذا المثال قد زرع في المبنى الفكري لأمين كعب أخيل. فهو ينتقل من تعميم "القوميين" إلى تعميم الإسلاميين. وكأن التلاقي بين محيطات المعتقدات أمر يعني اندماج المعتقدين. فلا القوميون كتلة مصمتة واحدة ولا الإسلاميون كذلك. ويكفي ما اشرت إليه سابقا أن هناك قومية الطبقات الشعبية وقومية الطبقات الحاكمة/ التابعة. وتكفي كذلك الإشارة إلى أن عربياً، أو تياراً في الوطن العربي، لم يناضل ضد التخلف والتبعية العربية لن يكون شيوعياً حقيقياً. ما قول امين في شيوعيين عرب يفخرون حتى اليوم هم وحتى أنسالهم، أليس عجيباً حتى انسالهم، بالاعتراف بالكيان الصهيوني؟ وشيوعيين عرب عملوا مع المحتل الأميركي للعراق! فهل كل الشيوعيين من نفس الطراز؟ ومن الذي له موقع في التاريخ بالمعنى الحقيقي للتاريخ، اي البناء إلى الأمام، حزب الله في لبنان أم هؤلاء الشيوعيون؟ وهل إسلام السلفية السعودية هو إسلام حزب الله. إن من الغرابة أن يتمسك امين بموقف عام ومعمم وتعميمي من الإسلام، ليصوره كوحدة أو كتلة واحدة، متخلياً عن المرونة العلمية التي تطبع أطروحاته وإنتاجه. وكأن أمين يخشى الحرج مع اليسار الأوروبي أو الغربي عموماً الذي يهتم جداً بالتقرب من امين وتقريبه إليه! ومثلما أن لا ثقافة واحدة لأمة، كذلك لا يوجد إسلام سياسي واحد ولا موقف قومي واحد لكل من هو مسلم أو قومي أو مسيحي. هل مسيحية أميركا الاتينية نسخة عن المحافظية الجديدة؟ أما بخصوص تكتل سياسي موحد بين الإسلاميين والقوميين، فالإسلاميون ليسوا تكتلاً موحداً. هل حزب الدعوة في العراق في تكتل موحد مع حزب الله في لبنان؟ تجدر الإشارة إلى أن "التكتل الموحد" بين قوميين وإسلاميين ممكن أكثر في المسألة الاجتماعية وخاصة مسألة المرأة، أكثر مما هو ممكن في النضال السياسي.

 

** أمين: فالواقع هو أن الشعوب المعنية، بعد أن يئست من فشل خطاب العروبة وعجز ممارساتها عن تحقيق الهدف، بل عن إقناع الجماهير بالدخول معهم فى الصراع من أجل "الوحدة العربية".. هذه الشعوب اتجهت فى اتجاه آخر من خلال تكريس انتمائها إلى عقيدة دينية حلت محل عقيدة القومية.

ــــ يغيب عن أمين هنا التماسك العلمي، من هي هذه الشعوب؟ وهل يمكن الحديث في المجتمعات الطبقية عن "الشعوب"؟ أم عن الطبقات. وإذا كانت الطبقة لا تأخذ معناها إلا إذا كانت ذات مشروع سياسي، فما معنى اعتماد "الشعوب" في مشروع سياسي يراه امين "الأسلمة"؟. ومن الذي فشل؟ هل هي العروبة، خطاب العروبة أم قوى معينة حملت ذلك الخطاب. وحتى هذه القوى. وما المقصود بخطاب العروبة، هل هي اللغة، الأطروحات، الأسس؟ ليس مغزاي هنا تعريف العروبة بأكثر مما هي مسألة تعبير عن انتماء إلى المكان والزمان الحاضرين. إلى بقعة جغرافية رأى لينين أنها سياسية للقول هذه أمة، هذا عن المكان، وعن الزمان أعني اليوم وغداً، بماذا تحلم وكيف تجسد؟ بهذا المعنى فالعروبة أكثر من عروبة، ولا أقصد عروبة مصر أو الأرض المحتلة بالكيان وبأوسلو-ستان، بل عروبة كل طبقة/ تحالف طبقي على حدة، وفي مواجهة واحدها الآخر. الوحدة من خطاب عروبة، والمقاومة من خطاب عروبة، والكمبرادور الاقتصادي والسياسي والثقافي خطاب عروبة أخرى.

حتى والكثير من الطبقات الشعبية قد ذهبت لخطاب الدين، ولأن حركات وأنظمة قومية قد عجزت ففشلت، لكن هذا ليس نهاية التاريخ، ولا إغلاق باب البدائل إذا كنا نقرأ المرحلة، وأي مرحلة، قراءة مادية تعتمد الصراع الاجتماعي/ الطبقي حتى لو لم يكن ساخناً. التاريخ لا يدور، يُديره الناس. ولكي نكن منصفين لهذه القوى والأنظمة، التي لا اتمتع انا بتذكار هزيمتها، ربما لأني تربيت إلى وقت في مناخاتها بل كنت جزءاً منها. لنكون منصفين، فإن هزيمة هذه القوى ليست فقط لقصورها ولكن هناك المشروع الرأسمالي المركزاني وخاصة في حقبة العولمة. مشروع لا يسمح، ولن يسمح باي خروج من تحت عباءته، لا في القاهرة ولا بغداد ولا موسكو ولا عدن، ولا حتى في الصين. إنما الاستهداف هنا أشد ناهيك عن دور الكيان الصهيوني الإشكنازي. لا أتصور أن أمين يؤمن بما قال أن العقيدة الدينية حلت محل العقيدة القومية، ليست الأمور بهذه البساطة. ليست العقيدة الدينية أرضية لمشروع اجتماعي اقتصادي دولاني ما لم نصل إلى "أممية دينية" تختصر الدول القومية ليس في الخطاب بل في المشروع المجسد "حيِّزياً" فهل لهذا افق؟ على الأقل اليوم؟

لا شك أنك شاركت كثيراً في الكتابة والحوار عن ذبول الدولة القومية والسيادة أو بقائهما، سواء في كتابات هاردت ونيجري أو مابعديين آخرين. هذا ناهيك عن مخاطر الحديث عن عقيدة دينية بهدف التجسيد المشروعاتي السياسي الدولاني، لأن هذا يفتح استغلال قولك لمشروعية "الدولة اليهودية" وأنت لست هكذا قط. هذا ناهيك عن الحديث عن تقسيم العالم إلى دول دينية، أي أن "أممية دينية" ليست واردة على الأقل لأنه لا دين يتنازل للآخرين ولا بد للأمية الدينية أن تنتهي، بل هي عمليا، إلى اممية راس المال. وبهذا المعنى يظل الزمان والمكان مسرحاً لإحدى الأمميتين، أممية راس المال وأممية العمل.

 

** أمين: الغريب هو أن الكيلانى، الذى يعتبر نفسه ماركسيًا، لا يرى أن الماركسية تتنافر والمواقف الثقافوية. أعتقد أن هذا الأمر يظهر الطابع الدغمائى لفهم الماركسية عند الكيلانى. وسوف نرى فيما بعد ما يثبت ذلك، علماً بأن الذهنية الدغمائية هى ظاهرة موجودة بالفعل فى صفوف جميع مدارس الفكر، فى الحاضر والماضى، ولا يشذ معسكر الماركسية عن هذه القاعدة العامة.

ــــ قد يكون البعض ما زال يحمل الرؤية الثقافية لدى ساطع الحصري وهي على أية حال، رغم طوباويتها ليست النظرة العلمية ولكنها الأقل خطراً من الثقافوية المركزانية الرأسمالية الغربية التي خُلقت وأُنعشت للرد على الماركسية وتجاوها، وتحديداً المرتكز الطبقي فيها! وإذا كانت الثقافوية لا تناسب الوجوب الثوري في مجتمعات الغرب الراسمالي التي أنجزت الوحدة القومية المتقدمة راسمالياً بل تعوقه، فهي خطيرة على الوطن المجزأ وستجزئه أكثر.

 

** أمين: لن أضيف إلى ذلك تعليقاً على الكتابات القومية المتطرفة والساذجة التى تذهب إلى أبعد من إشهار "تواجد القومية العربية منذ الفتح" حتى تزعم أن العروبة ظاهرة سبقت هذا الفتح!

ـــ يصح هذا القول إذا كان المقصود بالقومية المعنى القومي المعاصر الذي يلخصونه في "وعي الأمة بوجودها ودخولها في مشروع تحقيق وحدتها" حتى بمعزل عن السوق ...الخ. ولكن، هل يمكن إنكار أن الصينيين موجودون منذ كنفوشيوس وقبلا منه، وكذلك الهند وفارس، لماذا هذا الكرم في الانتقاص من كون العرب كانوا موجودين تسميها امما أو شعوبا هذا امر آخر. وكما أن الذين في الصين صينيين، فالذين في "مكة" عرباً. ليس بالمعنى المعاصر هذا، نعم، ولكن وجود بشر على ارض تخصهم هو بداية الحديث عن أمة. أعتقد بأطروحة ان العرب موجودين قبل الإسلام، وأن الإسلام خطوة في التاريخ العربي إذا قرأنا التاريخ قراءة مادية.

 

** أمين: يزعم الكيلانى، ومعه جميع أصحاب "الفكر القومى"، أن الإنسان العربى (أو الأغلبية على الأقل) يمارس "عروبيته" بوعى ولا يعترف بالانتماء "القطرى" إلا غصباً عنه. كما يزعم الكيلاى أن "القطرية" اصطناعية ونتاج لـ "فعل خارجى"، ألا وهو تقسيم حديث للوطن العربى إلى دول (وأحياناً دويلات) مستقلة بعضها عن بعض وخاضعة للسلطة الأجنبية. وإذا كان ذلك صحيحاً– جزئياً- فيما يخص تقسيم الشام بين فرنسا وبريطانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكذلك ربما بالنسبة إلى فصل الشام عن العراق، فأعتقد أن القول يتجاوز حقيقة الأمور فيما يتعلق بمعظم البلدان الأخرى، وحتى فيما يتعلق بالهلال الخصيب.

ــــ من الخطورة بمكان التقليل من مشروع التجزئة الذي يتم تجديده حتى اللحظة، والتجزئة ليست مسألة أن أهالي جيبوتي عرباً أم لا. التجزئة هي مشروع استغلال الوطن العربي وغيره. إن "فرق-تسد" مرفوعة الآن إلى مستوى: "التفكيك والتذرير للمحيط وتركيز المركز". وفي الوطن العربي يجري تفكيك حتى القطر الواحد من داخله، تكرار ما فُعل بسوريا. أليست كارثة العراق في فك الكويت عنها؟ ألا تجري اليوم محاولات تفكيك العراق، بل هي تحصل وماذا عن الصومال؟ ألم تتم محاولات إقامة إسرائيل أخرى للنخبة المارونية في لبنان؟ أليس اتفاق طنجة 1956 هو كي لا تتم اية وحدة مغاربية، لا داع لتميتها "وحدة المغارب من أجل الوحدة العربية، لا داع، إنما هناك جوهر المشروع. لا يمكن سحب الحديث عن القطرية بمعناها السياسي المتخارج في تبعية للمركز، أي دورها الوظيفي، على خصوصيات القطريات التي هي موجودة حقا. وأعتقد ان رفض القطرية هو مشروع نضالي حقيقي في هذه اللحظة على الأقل؛ لأن الدولة القطرية هي تجسيد مصالح طبقة الكمبرادور التي استنفذت دورها.

 

** أمين: فللقطرية جذور أعمق ترجع إلى مسيرة التاريخ قبل الغزو الاستعمارى الحديث. وقد أدى اختلاف التطور المجتمعى إلى تباين الظروف الاجتماعية الملموسة التى تعيش الشعوب فى إطارها.

ـــــ هل كانت هناك قطرية في الحكم العثماني، أم ان هذا الاحتلال هو الذي كيَّف كل منطقة عربية طبقا لمتطلبات ارتباطها بالمركز العثماني؟ اي هل كان تطور هذه المناطق على طبيعته؟؟ هل كان لأي عربي أن يعيش أو يتطور دون هيمنة الاحتلال التركي؟ لم تكن تلك الجزيئات حرة التطور لنقول أنها قطريات لها اسسها. هناك اسساً للفوارق، قامت على الموقع الذي فرضه عليها العثماني، وهناك خلال العثماني وبعده طبيعة القطر نفسه. فهل كان للسعودية ان تُلحق بالسوق العالمي قبل النفط؟ بينما كان ذلك لمصر؟ إذن لمنحى التطور القائم على الموهوبية كما أشرت آنفاً دور اساسي. إن ردة الفعل على القوميين اليمينيين يجب أن لا تدفع لاختلال المنهج المادي التاريخي في التحليل. هناك "تطوير" ل اللاتكافؤ في الوطن العربي وليس تطورا اختياراياً. (مجلة المستقبل العربي المشار إليها سابقا).

 

** أمين: فنجد هنا مجتمعًا منقسمًا إلى قبائل فى الجزيرة والمغرب وموريتانيا وليبيا، بينما هناك مجتمعات أخرى لا وجود فيها لمثل هذه الظاهرة. وهل يمكن تجاهل الناتج الذى تنتجه ظاهرة القبائلية فى الوعى بالانتماء الذاتى؟ وكذلك هل يمكن تجاهل الانتماءات الطائفية المتعددة فى الهلال الخصيب؟ بل وحتى فى الجزيرة نفسها هل يمكن تجاهل التباين بين أهل نجد الوهابيين وأهل الحجاز وأهل شواطىء الخليج الشيعة؟

ـــ لا، لا يمكن تجاهلها، ولكن تجب قراءتها وليس بهدف تغذيتها. قراءتها من مدخل خطورة ولا تاريخية الوجود المنحصر على الذات غير ذات القدرة على الإنتاج مما يدفعها لتبعية خارجية ما، وبالتالي تعاكسها مع مشروع الدولة الواحدة، الموحدة ...الخ. يذكرني هذا الحديث بمساقات واسعة تُدرَّس في جامعة لندن وغيرها عن فسيفسائية الوطن العربي، وخاصة الشام والعراق، وهي ما تتم الاستعانة بها اليوم في العراق وحتى في السودان. إن هذه التنوع موجود في العديد من دول العالم، وإن بدرجات. وقد يكون السؤال الحاسم هو: هل للدولة المركزية القوية اقتصاديا دورها في حسم التخارج التبعوي لهذا الإقليم أو هذه الطائفة أم لا؟ هل كان تماسك الاتحاد السوفييتي سابقا بحكم القوة فقط ام بحكم القوة الاقتصادية؟ أليس لتفككه علاقة قوية ما بالضعف الاقتصادي وهبوط اسعار النفط الخام الذي كان يغطي عجزه؟ لو كانت الوحدة القومية تأتي بالمشاعر لاتحدت ألمانيا بباقات الورد منذ أيام بسمارك. وهل كان لألمانيا الغربية أن تبتلع الشرقية دون عسر هضم لو كانت فقيرة؟

 

** أمين: وبدلاً من أن نتحدث عن "الذاتية" (بالمفرد) ألا يكون من الأفضل والأقوى والأصح أن نعترف بأن للفرد العربى "ذاتيات" عديدة منوعة، لعلها تدخل فى تناقض فى بعض الظروف، وأن تتعايش دون صعوبة فى ظروف أخرى.

ـــــ هذا صحيح وهذا في كل مكان هذا في بريطانيا مثلا، رغم التقدم الراسمالي، ويظل الحسم هنا في قوة الدولة الاقتصادية وهذا سبب بقاء الولايات المتحدة، وتفكك الاتحاد السوفيتي، واستمرار الصين رغم الاستعادة الرأسمالية كما كان يحذر ماو.

 

** أمين: وذلك دون اعتبار أوجه أخرى للذاتية التى تخرج عن إطار الانتماء للجماعة، مثل الانتماء الطبقى والانضواء فى فلسفات الحياة المختلفة (قبول "التحديث" كما هو، أو رفضه، أو الأمل فى "تحديث الحداثة" نفسها... الخ)، وهى انتماءات متعددة شأن فعلها فى المجتمعات العربية المعاصرة هو شأن فعلها فى المجتمعات الأخرى غير العربية. ولو حصرنا النظر على الانتماء "الجماعى" (القومية أو الوطنية، سمها كما تشاء) لوجدنا هرمًا من الانتماءات تتطابق فوق بعض وتكوّن معاً الوعى الحقيقى المعيش. فأنا لا أنكر وجود بعد "عروبى" يعمل عمله، ولكن هذا الاعتراف لا ينفى وجود أبعاد أخرى للانتماء الجماعى.

ــــ إذا وقعنا في القراءة الثقافوية والتسليم بها او حتى الهوياتي سينتهي الهرم هذا إلى أنني رب الأسرة الفلانية وهذا عالمي، هذا ما دفعت إليه الرأسمالية منذ قرون وتدفع إليه اليوم المابعديات، تكفيراً بمختلف السرديات الكبرى. لذا يبقى الفيصل هو الواقع المادي والتحديد الطبقي ومدى تسيس الطبقات. هل احترام الملك عند المغربي شيئا سوى علامة سالبة هي اساسية في إجهاض حتى التقدم؟ وهذا يبرز سؤالا علينا جميعا حله: ما هي النظرية أو المساهمة التي علينا إنجازها، ولو كمسودة كي يكفر المواطن العربي بنظام الحكم، لا أن نستدعي سلبيات كهذه لإثبات خصوصيات قطرية، هي نفسها معيقة للتقدم الذي ننشده. لا خلاف على ذكرها وقراءتها، إنما الخلاف على عدم الدقة في توظيفها.

 

** أمين: هذا هو الأمر الواقع الذى لا يمكن تجاهله. اسأل فردًا مغربيًا على سبيل المثال عما إذا كان يعتبر "شخصيته" لا تختلف عن "شخصية" مواطن عربى آخر، وسوف يقول لك فوراً ذلك المغربى (أو العديد منهم) إن احترام الملك عنده يمثل عنصراً أساسياً فى ذاتيته، والجزائرى سوف ينظر إلى المغربى على أنه "شخص قريب"، ربما "شقيقه" فى بعض الأحيان، ولكنه "مختلف" بالتأكيد.

ـــ لنلاحظ المفارقة. صديقي الشيوعي البريطاني/ الإيرلندي توبي شلي، وقف عند صبي في سبتة ليمسح حذاءه (كان ذلك عام 1985) تحدث مع الصبي بالعربية فقال له الصبي هل أنت فلسطيني قال نعم نهض الصبي وأخذ يقبله. هل يفعل ذلك تاجر الكمبرادور المغربي؟ ربما كان والد هذا الصبي ممن يقدسون "مولاي الحسن الثاني" ولكن، كيف نوظف الموقفين؟ هذا الفيصل.

 

** أمين: إن الأفراد الذين يضفون بالفعل الأولوية الأولى للانتماء "العروبى" وينكرون بالنسبة إلى أنفسهم أى انتماء آخر، لا يمثلون سوى أقلية صغيرة وسط أقلية أخرى تحتل فضاء "المسيسين". وتصور أن ما يقول به أفراد هذه الأقلية هو صحيح بالنسبة إلى الجماهير، إنما هو إسقاط تعسفى لميول طيبة لا أكثر.

ـــــ السؤال هنا ليس علمياً، فحتى القول بالأولوية العربية لا ينفي أنني من فلسطين أو من البحرين، ولا ينفي النضال في المكان ولكن باي اتجاه؟ هل هو باتجاه تحسين شروط تبعية البحرين ام بناء شروط التقاطع العربي. كتبت ذات مرة إلى الشيوعي السوفييتي الراحل والمرتد الراحل إميل حبيبي: «إذا كان مشروع التسوية ممكنا فلماذا يكون مشروع الوحدة مستحيلا؟» (كان هذا خلال النقاش عن التطبيع وضده، وهو ما افضى إلى اغتيال ناجي العلي). هذا دور الأقلية المسيسة من جهة، وليس عليها سوى أن تذهب عميقا لتقرأ كيف تم تجهيل الأكثرية الشعبية. في حديث لطلبة كلية جامعية دعاني إليه المحاضر، سألت 60 طالب وطالبة ماذا تسمي نفسك بسؤال مباشر وسريع: أجاب طالب واحد عربي. فأردفت: من يؤيد صدام حسين في ضم الكويت: الجميع؟ هذا ما يجب أن تبحث فيه المادية التاريخية. فالطبقات الشعبية تبحث عن مصالحها حتى في لحظات تشويه وعيها، تبحث عن التنمية وحتى في الوطن العربي تبحث عن الكرامة.

 

** أمين: ولئن كانت ملاحظة حقيقة الوعى العربى المعاصر أمرًا واضحاً وبسيطاً، فإن كشف ما كانت عليه فى العصور القديمة هو أمر آخر، أصعب بالتأكيد. بيد أن الأكثر احتمالاً هو أن الأمور لم تكن مختلفة. فمن المشكوك فيه افتراض أن المزارع المصرى والبدوى فى الجزيرة وراعى الغنم فى المغرب قد عاشوا "ذاتية عروبية" تجمعهم فى "وعى بالوحدة"، هذا بينما يمكن تصور أن الأمر قد اختلف بالفعل من هذه الزاوية بالنسبة إلى كبار تجار فاس ودمشق، وعلماء القيروان والأزهر، ورجال السلطة العسكرية هنا وهناك، فيحتمل أن هؤلاء عاشوا بالفعل نوعاً من الذاتية المشتركة. ولنتساءل هنا: أكان جوهر مضمون هذا الوعى المشترك هو الانتماء القومى العربى أم الانتماء إلى ما كان يبدو لهم حقيقة "الأمة الإسلامية"؟ أميل إلى ترجيح الجانب الثانى على الأول، بدليل أن هذا الوعى بالانتماء إلى جماعة واحدة قد ظل قائماً فى إطار الإمبراطورية العثمانية غير العربية.

ــــ لا يمكن إسقاط وعي قومي في عصر راس المال على "عربي" بدوي أو راعٍ في الجزيرة قبل قرون. أنت هنا على حق. واستغرب إذا كان محاورك يقول هذا؟ من اين للبدوي او الراعي أو حتى الحرفي أن يفكر في العروبة ولماذا اصلا عليه ذلك، ما هو المناخ الاجتماعي، في تلك الفترة، الذي يثير في ذهنه علاقة ما مع مزارع في الدار البيضاء. السؤال هو اليوم: أين يقف المرء من التجزئة والتبعية عبر مصالحه المادية مدعومة باللغة والثقافة والتاريخ ...الخ وإذا كان الدين عامل احتواء في السابق فليس اليوم بنفس المضمون وخاصة الجانب الإيجابي. ولكن، ألا تعتقد ان استدعاء تأثير الدين قبل قرون مختلف عن استدعائه اليوم؟ وأن توظيفه اليوم أخطر؟ وهنا يكمن كعب أخيل لقوميين وشيوعيين عرباً في هجمتهم على الدين من باب المقصِّرين نضالياً أمام إسلام سياسي كفاحي. لا أعتقد أن الطبقات الشعبية غدت اصولية هكذا، ولا سلفية. المعيار الأساسي هو: من هو الطرف السياسي الذي يلتقط ما تبتغيه الأمة، بل الطبقات الشعبية ويناضل ضمنه. عندما رفعت الحركة الوطنية شعار الكفاح المسلح في الأرض المحتلة، وكنت أنا من مؤسسي الجبهة الشعبية في الضفة والقطاع، كنا في وضع قبول هذا ورفض ذاك، بمعنى صلاحيته وصلابته الكفاحية، كان تدفق الناس بلا حدود، لم نكن نستدعيهم، كانوا يأتون. وحينما تورطت الحركة الوطنية في اوسلو وواصل الإسلام السياسي نضاله المسلح وحتى عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، ذهبت الطبقات الشعبية إليهم. هل غيرت الناس عشقها؟ لا، هي اتجهت إلى الطرف الذي يحاول الإجابة على ما تريد. كل المليارات التي تدفقت إلى الأرض المحتلة لم تغير مزاج الجماهير، بل زادت الحركة المسماة «علمانية» رخاوة وتورطاً في مؤسسات الأنجزة، وفتح خروقٍ للمركز، دولا ومخابرات وأكاديميا وافرادا. وكل هذا يزيد رصيد حماس. آسف على الشطط فلسطينياً ولكن ربما هي مقتضيات التوضيح.

 

** أمين: ليس معنى ما سبق من انتقادى لخطاب العروبة أننى "عدو العروبة" بل إننى على عكس ذلك على طول الخط واعتبر نفسى من أصدقاء العروبة. ولكن بمعنى يختلف عن معناه عند العروبيين. فأنا من أنصار الوحدة العربية، بل اعتبر أن تحقيق هذه الوحدة لابد أن يحتل مكاناً هاماً فى العمل السياسى لجميع القوى التقدمية اجتماعياً والمعادية للاستعمار والنظم الخاضعة له.

ــــ أنت كأممي حقيقي لست مجرد صديق للعروبة أو للوحدة العربية، أنت من صلبها. أنت لست مجرد نصير للوحدة العربية، او الاتحاد ...الخ بل انت ممن يعملون بالفكر على الأقل من أجل إنجازها. ليس هذا تفضًّلا مني ولا تقرُّباً إليك. هل تذكر لقاءنا في جامعة نانتير في باريس في مؤتمر: "شعوب العالم في مواجهة العولمة" وقد ترجمت لي بتواضعك الجم الذي يذكرني بالرفيق ناجي العلي حديثي الطويل والممل. يومها كنت منتشياً بأنك سوف تزور الأرض المحتلة باعتبارها ارضاً محررة، وبدعوة من أساتذة/ واستاذات هناك من جامعة بير زيت. قلت لك حينها هذه محتلة ومستعمرة، وأن من دعوك مطبعين يريدون ألإيقاع بك كرمز أممي وثوري. وتقبلت الملاحظة ولم تأتِ. تصور لو أنك اتيت! هل تعرف ما هو حال أوسلو- ستان؟ هل سمعت مؤخرا عن "ترقية" المفاوضات غير المباشرة إلى مباشرة وتمنعات نتنياهو (يذكرني هذا بتفجعات يارميا- كيف تتغير الأزمان" فهو يصر على الاعتراف بدولة يهودية كالذهب الخالص! ونقول نعم! هل تعرف أن دوائر عديدة في الجامعات المحلية هي مستوطنات للغرب الراسمالي، وكيف يعقد رئيس هذه الدائرة أو تلك صفقة مع هذه الدولةأو الجامعة أو تلك، ويختفي عن الأنظار كالوزراء ومدراء أجهزة القمع. وهل تعرف ان القنصل الأميركي يقيم حفل إفطار على حلويات القطايف في بيت لحم، ويرفض حضور الراديكاليين؟ جميل لنا ولك أنك لم تأتِ.

 

** أمين: بل لابد أن نكرس لهذا الهدف أهمية خاصة. وأقول بالتالى إن تحقيق العروبة (وأفضل مصطلح: تحقيق الوحدة العربية) إنما هو احتمال. وإن لهذا الاحتمال جذورًا تاريخية يمكن الاعتماد عليها لدفع المشروع إلى الأمام. وأقول إن تحقيق هذا الاحتمال من شأنه أن يعطى للشعوب العربية مكاناً أقوى وأبرز فى مواجهة تحديات العصر.

ــــ نعم وهذا التحقيق يتطلب بلا مواربة المثقف المشتبك الذي يتجاوز المثقف الثوري الذي وصف به لينين ليبنكخت وطور مفهومه غرامشي، ويتجاوز مثقف فانون، وبالطبع مثقف سعيد النقدي/ المراوغ معاً. طبعاً يتطلب الحزب، وهو الحزب المختلف عن حزب لينين التقليدي. لم يعد الحزب فرقة ممن يعرفون اكثر من غيرهم ولديهم آليات الوصول للثقافة والوعي والمعلومة. فالمعلومة اليوم تغرقنا حتى الضياع. اصبحت المعلومة كحلم حي بن يقظان في الذهب حتى صار كل شيء ذهباً. الوفرة المميتة. لكنه يتفق مع حزب لينين في التمسك بالموقف والقناعة والتماسك أمام الشدائد والإغراءات اي التقشف الثوري. الحزب الذي لا يقول كادره حين يقرر الخنوع والمساومة والتطبيع ...أنا حر/ة. الحزب الذي ترفعه الطبقات الشعبية كي يمثلها لا يأتها من فوق بيروقراطيا أو نخبويا. الحزب الذي يكدح ويجوع ولا يساوم، وليس الحزب الذي يفتح بطنه لأي تمويل ليرشي أعضائه كي يبقوا فيه، وحتى ليرشي من ليسوا من اعضائه. الحزب الذي ينازل اليمين في مواقع اليسار وليس الحزب الذي يتمول من الأنجزة ومن السفارات لينازل اليمين في رشوة الكوادر. هو المثقف والحزب والحركة والطبقة، هل هذا ما يمكن بنائه في هذا العصر؟ صعب، ولكن لا خيار ولا محايدة.

 

** أمين: ولكن الهدف لن يتحقق طالما أنكرت القوى السياسية والأيديولوجية التى تسعى إليه واقع تنوع الانتماءات والخصائص "القطرية" وغير القطرية. هذا هو بالتحديد اختلافى مع الكيلانى والقوميين. فالقوميون شاركوا مع تيارات أخرى فى تغذية وهم خطير مفاده أن الوعى العروبى يسود من تلقاء نفسه فى صفوف الجماهير العربية. هكذا تصورت النظم الوطنية الشعبوية التى حكمت أهم البلدان العربية خلال الستينيات والسبعينيات أن تحقيق "الوحدة" أمر بسيط ويسير، إذ يعتمد على مطلب موجود وفاعل فى الجماهير. وضُربت المقارنة فى هذا المضمار- أكثر من مرة وعند معظم مفكرى المشروع الوحدوى- بما حدث فى ألمانيا وإيطاليا فى القرن التاسع عشر، وذلك دون عمل حساب لاختلاف الأوضاع، ليس من حيث فعل العامل الخارجى بالأساس، بل من حيث تباين التكوينات المجتمعية المعنية، ودور البورجوازية فيها.

ــــــ الوعي العروبي موجود، ظاهر أحياناً وكامن أحياناً أخرى. والسؤال هو من هي القوة الثورية التي تخلق مناخ تمظهره بما هو حضور كامن، وبأي إتجاه، فكونه عروبياً لا يعني أنه يمينيا وقوميا بحتاً، وكونه عروبياً لا يحق له تجاهل من ليسوا عربا كشركاء في كل شيء. يفتح هذا الحديث على التوليد العفوي للوعي لدى الطبقات الشعبية و/أو دور الحزب في التوعية. أنت محق، إن كنت فهمتك، لا يأتي التغيير في الوعي بفعل الطبيعة، الوعي عمل إنساني اساساً، ولكن، حينما يكون هناك تخريب للوعي تصبح التوعية واجبا حتمياً. فلكسر هيمنة الطبقة البرجوازية وبالطبع سيطرتها هناك هيمنة الطبقات الشعبية التي عليها المواجهة معها. ربما كان أخطر ظلم لغرامشي أن الحديث لم يدر حوله أو أن شراحه تحدثوا عن الهيمنة الأولى فبهتت النظرية وبدا الرجل كما لو كان تصالحياً! فالقوميون الذين تتحدث عنهم لم تكن مشكلتهم في عدم رؤية تباين الظروف والأوضاع ولا في الإيمان بالتلقائية وكليهما حقيقي. المشكلة أنهم لم يكونوا قوميين طبقيين اي شيوعيين؟ لا بل إن كثيرا من الشيوعيين هنا لم يكونوا شيوعيين. هل كان لماو أن ينكر القومية الصينية ويعترف بإسرائيل لو "زُرعت في الصين"؟ أو يستثني الصين الشعبية لصالح "الصين الوطنية"!. لم يكونوا حتى تنمويين لم يأخذو الصراع الطبقي كهدف ومشروع، فليس مشروعهم. ألم يكن ناصر يبني مجتمع الطبقة الوسطى بينما تحمله في كل مشروعه الطبقات الشعبية؟ ليس الأمر اختلاف الذاتيات بل الأمر اختلال الطبقات وانتماء القوميين المذكورين لغير الطبقات الشعبية. وهذا ما يوجب التدقيق والفصل بين إخلاص ناصر وتقشفه وبين رؤيته للحياة والمجتمع، فالرهبانمتقشفين ولكنهم ليسوا اشتراكيين.

 

** أمين: وما تلا قد أثبت هشاشة هذا التصور إلى حد تحديه. فانهارت الوحدة المصرية/ السورية لهذا السبب بالتحديد، أى بسبب إنكار اختلاف "الذاتيات". أذهب إلى أبعد من ذلك: فإن هذه التجارب قد أثبتت أن تلك القوى (الناصرية والبعثية) التى أنكرت التباين "القطرى" وفرضت محله خطاب العروبة، قد مارست فى واقع الأمر سياسات قائمة على تكريس الذاتيات القطرية المنكورة. هكذا فرض النظام الناصرى ما أطلق عليه السوريون تسمية "الفرعونية"، وهكذا كرس حكم العبث فعل الذاتية السورية فى مواجهة الذاتية العراقية.

ــــ تفتقر هذه الفقرة للدقة العلمية. ليس هناك تعريفاً ل "الفرعونية" هناك المصلحة الطبقية للبيروقراطية الحاكمة في مصر والتي لا علاقة لها بالذاتية السورية. هل كان ضباط الانقلاب الخمسة في سوريا معبرين عن "ذاتية سورية"؟ هل كان الانفصال مداً شعبيا، حتى "ثورة برتقالية"؟ نتحدث هنا عن انقلاب دعمته الإمبريالية والقطريات التابعة لها. لا بد من التفريق بين الانقلاب والحراك الشعبي. وبين اندفاع جماهيري محلي وبين تزويد الدبابات بالقنابل من الخارج. وبشكل اساسي بين موقف الأنظمة من الوحدة وموقف الطبقات الشعبية وخاصة في القطريات التي معظم شعبها يعتبر نفسه عربياً، اي لا اقول جزر القمر مثلا، أو سكان منتجع دُبي. هل ما أعاق وحدة سوريا والعراق "الذاتية لهذا القطر أو ذاك" أم البرجوازية القطرية في كلا البلدين ودعم الرجعية العربية والإمبريالية لها؟

 

** أمين: فاحتمال تحقيق الهدف المطلوب- أى الوحدة العربية- منوط بالاعتراف بالتنوع والتعامل معه، الأمر الذى يقتضى بدوره ممارسات ديموقراطية صحيحة. وأطروحاتى بهذا الشأن هى أن تحقيق المشروع لن يتم إلا بالتدريج، عبر عملية طويلة الأمد، بل أقول إنه يتطلب تكوين تحالفات اجتماعية بديلة لتلك الحاكمة، تحالفات سوف تختلف من "قطر" إلى آخر، ومن مرحلة إلى التالية. وتسميتى لهذه التحالفات بالنعت المشترك "الوطنى/ الشعبى/ الديموقراطى" لا يعنى أن مكوناتها سوف تكون متماثلة من بلد لأخر.

ــــ هذا أمر آخر تماماً. وهذا مدخل، ولكنه مدخل إلى باب مغلق ودون مفتاح؟ حتى العملية الطويلة تحتاج إلى الحركة السياسية الحزب الذي هو المفتاح وهو مشروع وعي وتوعية، هومشروع صراع فكري اشتباك مع أطروحات عديدة تذهب إلى تفريد كل فرد بمفرده. لذا، انت لست صديقا للوحدة، انت أكثر، كلنا منها ولها لعل السؤال الخطر هو: كيف نبني هذا التحالف في ظروف تغتال حتى ديمقراطية العلاقة بين المرء وزوجه! في ظروف يتقاطب مثقفون على الأنجزة والمناصب كالذباب على غير طبق الحلوى؟ في ظروف يجند النظام الحاكم جيوشا من المثقفين أوسع من جنود الأمن وأكثر. في ظروف يتقافز فيها كبار المثقفين العروبيين (كما يحلو لك القول) بين الطرح الديمقراطي والاعتراف بالكيان الصهيوني، ونِعم الملوك والشيخات والأميرات! لا تأتي يا سيدي الديمقراطية من قوى ومناخات كهذه. حتى ثقافياً، كم عربي يعرفك انت نفسك؟ وأنظر كم من الملايينن عشرات الملايين يعرفون مثقفي البلاطات! يتم المشروع بالتدريج نعم، وبتحالفات واسعة نعم وبأخذ الخصوصيات أخذا حقيقيا بالاعتبار نعم. ولكن كل هذا منوط نجاحه بقوة دفع وعمل سرية وذكية تواجد بين الجميع وتبدو كأنها ليست هناك. أن تكون بين الجميع ووحدك لتحمي المناضلين الطيبين من إخباريات العسس. هذا هو الواقع العربي الأكثر انحطاطاً. قد يبدو هذا القول حارقاً كحامض الكبريتيك، وهو كذلك ويجب أن يكون اكثر. كيف لا والمواطن العربي يجري مسح وعيه وحتى تفريغ راسه بالمسلسلات التي تعيدنا إلى ما قبل العثمانية ومحطات الأخبار الفضائية والأرضية والمذياعية تخبرنا بأنباء أميركا وحركات الملك والرئيس. هذا إذا لم نلتفت إلى ثقافة تقسيم المرأة بين الخباء وبين الغربنة والتخارج. رقيق في البيت ورقيق معولم. نصف المجتمع مشغول في احتلال نصفه الآخر. هل تنفع الديمقراطية والعلنية هنا؟

 

** أمين: وأنظر إلى هذا الموقف- وكتبت ذلك أكثر من مرة- على أنه يمثل نقطة الفصل بين الماركسية الخلاقة من جانب والماركسية (أو الماركسيات) الدارجة المبتذلة (بما فيها الماركسية السوفيتية، لا الماوية) من الجانب الآخر. ويبدو أن الكيلانى يغفل تماماً هذه الإشكالية. وبالتالى ينتمى إلى مدرسة ماركسية دارجة، هى اقتصادوية بالأساس. وذلك بالرغم من أنه وضع بجانب هذه الماركسية: نظرية ثقافوية مثالية ميتافيزيقية للقومية. ومن ثم فالاتهام الذى يوجهه الكيلانى لى- بالاقتصادوية- إنما هو اتهام غريب فعلاً، متناقض مع كل ما كتبته فى الموضوع.

ـــــ هنا تستعيد الأمور استقامتها حين تُنقل إلى النظرية ويستعيد أمين عافيته ولا سيما حين يعطي الماوية حقها وتفردها، يرتكز إلى الماوية، التي هي شيوعية قومية مناضلة ميدانيا من الريف إلى المدينة. حين نقرأ المجتمع عبر التشكيلة الراسمالية تضيق شقة الخلاف، لتبرز الطبقات ومصالحها وصراعاتها ولتبرز توليداتها الإيديولوجية لتخفي العامل المادي وتبرز التهويمات الإيديولوجية. وهنا لا يعود من ستار على الاقتصادوية، ويظل السؤال هنا: لماذا نقبل لماو إنجاز المشروع الاشتراكي على ناقلة قومية على الأقل خلال فترة التأسيس ونرفض أن نقوم به نحن. وهذا سؤالي لأمين الذي أقدر ماويته والتي استفدت منها كثيراً، لماذا أنت صديقاً للعرووبة والوحدة العربية؟ لماذا هذا البخل في العلاقة؟

 

** أمين: وقد اقترحت إعادة النظر فى التاريخ العربى على ضوء هذا المنهج، وبالتالى استبعاد النظر فى هذا التاريخ على أنه "موحد" و"ثابت"، وأن نحل محله نظرة تهتم بالتحولات. فالتاريخ العربى، شأنه فى ذلك شأن تاريخ المجتمعات الأخرى، يبدو لى نتاج تسلسل خطوات، بعضها دفعت نحو الأمام- أى نحو تكامل النمط الخراجى- وبعضها لها طابع ردات نحو تفكك هذا النمط.

ـــــ ليس لدي ما أختلف عليه مع أمين سواء على وجوب البحث المتواصل في القديم وقراءاته، ولا على رفض اعتماده كسلفية طالما نقرأ التاريخ وليس الأديان. وهذا يفتح على المسألة الأهم، وهي أن لا نسحب ضبابية القطع في التشكيلات السابقة لنضفي ضبابية على المشروع الذي علينا إنجازه. قد نختلف على الإقطاع العسكري/الحربي، والمراحل الخمس والنمط الاسيوي في الإنتاج والخراجي، على أطروحات امين وستالين وليرنر...الخ إنما يبقى السؤال هل نختلف على أن التشكيلات المحيطية في الوطن العربي بما هي راسماليت تعيد توليد التبعية ضمن مشروع واع تماما لمصالحها؟ وإذا ما اتفقنا على هذا، فما المطلوب؟ هل المطلوب إعادة الدفاع عن الدولة القطرية وتعداد مبررات اختلافها عن الأخرى، أم المطلوب تفكيك مفاصل الدولة القطرية؟ هذا عنوان كتاب لي. قد يصح لي القول هنا أن عدم النضال ضد هذه الدولة والاشتباك مع مفكريها ومن ثم عساكرها هو تورط في انسجام غير مقصود مع مشروع الراسمالية في حقبة العولمة على الصعيد العالمي ومشروع التبعية على الصعيد العربي، ومشروع اوسلو-ستان على الصعيد الفلسطيني المحتل. تفكيك المحيط وتذريره وتركيز المركز. أو خلق حكومة عالمية غربية راسمالية بالطبع ورعايا من مختلف الأمم رعايا ليس كقطريات أو قوميات بل فردا فردا على مستوى 7 مليار إنسان ليكون هناك 7 مليار هوية وثقافة وكيان!!!

 

** أمين: وتأتى ملاحظاتى حول السلطة والتجارة وتمفصلهما فى تمركز الفائض فى هذا الإطار. كما اقترحت كشف سر تبلور ظاهرة شبيهة بما يسمى اليوم "القومية" فى بعض المراحل السابقة على الرأسمالية، عندما يتحقق تمركز ملحوظ للفائض على صعيد فضاء يتجاوز الفضاءات المحلية الصغيرة المطلوبة لإنتاج الفائض. "فالقومية" المعنية هنا تخص الطبقات الحاكمة (السلطة والتجار) أكثر منها تخص الجماهير الشعبية التى ظلت فى كثير من الأحيان خارجة عن تأثيراتها.

ـــــ هذا الانفصام القومي القديم ليس غريباً على الحقبة الحالية، الراسمالية في حقبة العولمة. بالمفهوم العام وغير الطبقي ولا الدقيق، هناك قومية عربية، قد يكون من تنقدهم انت دُعاتها أو ممثليها. ولكن واقعياً وميدانياً أرى، وهذا ما كتبت فيه كثيراُ أن هناك قوميتين: القومية الحاكمة، قومية الطبقات الحاكمة/ التابعة/ المتخارجة ومعها مثقفيها العضويين وحتى المؤسسة الدينية القطرية. هذه القومية تزعم العروبة وهي ضد اي مشترك عربي. تقوم بتعظيم اللاتكافؤ على الصعيد العربي. وبما هي قطرية، فلا يجمعها سوى مؤتمر سنوي لوزارات الداخلية كي تتشارك في "عبقريات" القمع. والقومية الكامنة، قومية الطبقات الشعبية التي وإن تواجدت في القطريات، فهي ممتدة ما بين القطريات وهي ممنوعة من التواصل والتحقق. هل يكفي مثالا على هذا ان كيانات النفط تفضل العمالة الاسيوية على ثلاثين مليون عربي عاطلين عن العمل، حتى لو كانت من مخاطر العمالة هذه أن تتحول ذات يوم إلى كيانات كالكيان الصهيوني مثلا، اي احتلال منطقة (نفطية بالضرورة) وتجميع من ليسوا عربا او محليين فيها، بوتقة فيها كل من ليسوا عرباً. هل سيأتي يوما تفعل الإمبريالية شيئاً كهذا. لكنني مشغول ومأخوذ بالجاري، في محاولة لسحب هذه المساهمة على الواقع المعاصر. وأعتقد انها مساهمة جادة في تأكيد أن الطبقات الشعبية، ذات قومية محتواها جوهريا اشتراكي، بما يعني إمكانية الانتقال من النضال القومي الوحدوي، وهذا الأساس للطبقات الشعبية، إلى الاشتراكية. وهذا هو الهم الأساس بل هذه قراءة عملية للواقع.

 

** أمين: ولهذه الملاحظة أهمية خاصة. فالتطابق بين مختلف الفضاءات المذكورة فى السرد هو أمر نادر، يمثل الاستثناء، لا القاعدة. والقومية بالمعنى الحديث تفترض هذا التطابق بين فضاء عمل قوانين الاقتصاد فى إطار بنية متمركزة على الذات ("الاقتصاد الوطنى" باللغة الدارجة) وفضاء تحكم السلطة الشرعية ("الدولة الوطنية") وفضاء فعل ناجح لآليات "ثقافية" الطابع تضمن التجانس الذى يلازم ممارسات "المواطنة" (وأهم هذه الآليات تتعلق بسيادة لغة مشتركة).ولم يتحقق هذا التطابق سوى فى بعض بلدان رأسمالية المركز التى أصبحت نموذجًا بالنسبة للبلدان الأخرى. وهنا.. وهنا فقط يصح القول عن "قومية متكاملة".

ــــــ ولكي لا يبدو وصف القومية المتكاملة ماثرة تغري بالتقليد، وهو ما تجلى كثيرا في "محاولات اللحاق" يجب التشديد أن هذا التكامل هو تأكيد انتصار هيمنة الطبقة الراسمالية على الطبقات الشعبية. اي الإجهاز هلى الهيمنة الثورية، هذا يفتح على ما يسمونه المجتمع المدني. هذا التكامل هو ايضا على حساب الأمم الأخرى التي حيل دون تكاملها، هذا احتجازالآخرين، وهذا ما جعل علينا وجوب الرد على مراحل ستالين فيما يخص الأمة العربية بقوله :"إنها امة في طور التكوين" إلى أنها أمة محتجز تطورها قسراً، سواء كان ذلك بفعل خارجي استعماري أو/و بفعل قطري كمبرادوري. قد يبدو ما اثيره هنا طُرفةً. هل دولة قطر "متمركزة على الذات" كنموذج للدولة القطرية وهي تجهز 4 مليار دولار لتبريد منطقة تتسع ل 700 الف شخص، الشوارع والاستوديوهات، وذلك فقط كي تستضيف المونديال عام 2022؟ هل يعلم غير الله كم تنفق دولة قطر على قاعدة العيديد الأميركية؟ هل هذه الذات "القُطرية القَطَرية" التي علينا مراعاتها؟ أم أن نظاماً من هذا القبيل يجب أن يؤخذ إلى محكمة إنسانية لمقاضاته على هدر الثروات والطبيعة؟

 

** أمين: لذلك بالتحديد اقترحت إضافة نظرية هامة- فى رأيى- ألا وهى طرح صيغة "لقانون القيمة المعولمة" بصفته تعبيراً عن فعل قانون القيمة على صعيد منظومة عالمية قائمة على التضاد بين مراكزها وتخومها. وقد اتخذت هذه الصيغة لقانون القيمة المعولمة بدورها أشكالاً مختلفة متتالية صاحبت تطور النظام، أشكالاً خاصة بكل مرحلة من المراحل المتتالية المعنية.

ــــــ والسؤال هنا، هل يفعل قانون القيمة العالمي، وهو عالمي فعلاً أو يقوم على التضاد بين المراكز (كل المراكز) والأطراف (كل الأطراف)؟ هذا صحيح من ناحية شكلية بمعنى الدخل القومي والتحويلات من الخارج والميزان التجاري...الخ. لكن هذه في التحليل الأخير والعملي موزعة طبقياً، والطبقات الكمبرادورية تعتاش أو تكتفي بحصة اقتصاد التساقط Trickle-down Economy. فالكمبرادور موجود من حيث المكان في المحيط ولكن من حيث المشاركة أو الحصة في قانون القيمة، هو جزء من المركز. ربما هذا ما حاول جالتونغ(5)  تبيانه عام 1970، لكنه بما هو من مدرسة التبعية لم يدفع هذا التحليل قليلا إلى الأمام، اي لكسوته حلته الطبقية. كما أن الطبقات الشعبية في المركز مستفيدة من هذا القانون بدرجة ما من اقتصاد التساقط ايضا، وهذا ما يغريها بالتجرد من أو التخلي عن مشروعها في الهيمنة الثورية. لهذا يدور السباق اليوم على من الذي يمكنه التنظير لطبقة عالمية رأسمالية و/أو عمالية. وبالطبع يصطدم هذا ببقاء أو ذوبان الدولة القومية وهو ما سحب هاردت ونيجري إلى رؤية الهيمنة الأميركية الدموية ببداية نبوية لتحقيق الأممية! هذا السباق وكأنه محكوم بالتحفيز اللبرالي في الأكاديميا الغربيةوالمبلور دوما: هات شيىء جديد، هات شيىء خلاق، وليس اقرأ الواقع بشكل ثوري! في جامعة لندن، بيرك-بيك كولج كتبت ورقة 1984 حاججت فيها ان فائض القيمة يمكن تحصيله على الصعيد العالمي، وليس شرطاً أن تحصيله هو في الوحدة القومية /الدولة لقومية/التشكيلة القومية الواحدة. كان ذلك غريباً، ولكنه صار الآن عادياً.

لا يمكن في نظام عالمي وسوق عالمية ان لا يفعل قانون القيمة العالمي فعله. وربما من المفيد هنا الحوار ذات وقت في أليات التجاوز التدريجي –وهو غير مستحب- لكن تجاوزه ليس سهلا – أن يتم الحوار في : هل اعتماد قانون قيمة محلي/وطني هو خطوة نحو الفكاك من قانون القيمة نفسه، (هكذا كانت تحاول الماوية) وبالطبع الفكاك من قانون القيمة العالمي بما هر رأسمالي مركزاني اساساً. قد يكون صحيحاً ما حاولت قراءته خلال الانتفاضة الأولى في أطروحتي عن التنمية بالحماية الشعبية حين تمكنت الطبقات الشعبية من خلال المقاطعة ورفض التطبيع ومن تقوية التبادل الداخلي في محاولة للوصول إلى القطيعة مع اقتصاد الاحتلال، بل في محاولة الوصول إلى قانون قيمة محلي. كان هذا جوهر أطروحتي التي بدأتها قبل الانتفاضة وواصلت ذلك خلالها. هذا إلى أن كان أوسلو وتجسد في اوسلو-ستان، فتم الغدر بالانتفاضة التي تحولت إلى انتفاضة سياسية لتحصيل دولة فلسطينية ولم يحصل ولن يحصل.

 

** أمين: طبعاً ليست قراءة مؤلفاتى واجباً! ولكن عندما يزعم شخص أنه سيقدم "نقدًا لفكر فلان"، ينتظر منه أن يكون قد قرأ من ينقده.

ـــــ فيما يخص مؤلفات أمين، أعتبر نفسي ممن تتلمذوا عليها وعلى آخرين من مدرسة النظام العالمي، ومجلة مونثلي ريفيو، والماوية بالطبع والقطع. كتبت ورقة عن النمط الاسيوي في الإنتاج عام 1984 لأحد المحاضرين في جامة لندن بيرك بيك كولج، واستشهدت ب سمير امين. في غير موضع. اغتاظ الرجل وقال:

-      ولكن ليست هناك مساهمات ل سمير أمين

-      قلت هل قرأت له؟

-      قال: قليلاً.

كان عجبي كبيراً بالطبع رفضت العلامة فأحالها إلى محكمين فاعوني علامة عالية جداً. كان هذا مما ساهم في تعكر العلاقة به وما دفعني للانتقال إلى جامعة إكزتر. والرجل صديق للبراليين الفلسطينيين ومثقفي التسوية.

 

** أمين: إن المنهج الذى اقترحته لتحديد طابع التحدى يختلف بالقطع عن منهج الكيلانى. فقد حاولت أن أتناول الجوانب "الصعبة" فى تحديد طابع التحدى بطرح تساؤلات حول التمفصل بين النضال من أجل التحرير من الاضطهاد الاستعمارى (وإنجاز الوحدة/ العربية/ القومية) من جانب، وبين الصراع الطبقى من أجل تعديل موازين القوى لصالح الطبقات الشعبية من جانب آخر. علمًا بأننى أنظر إلى هذين الصراعين على أنهما غير قابلين للفصل. وفى المقابل أقول إن نظرية القوميين تستبعد من الأصل التعامل مع هذه الصعوبات الحقيقية التى تقف عقبة فى سبيل إنجاز التقدم الاجتماعى والتحرير السياسى، بما فيه إنجاز الوحدة العربية المطلوبة. فللقوميين إجابة جاهزة تعفيهم من بذل المجهود المطلوب، ومفادها هو أن "القومية هى الحل" على نمط "الإسلام هو الحل".

ـــــ هنا النقد صحيحً، والتعليل خاطىء مشكلة القوميين الذين يقصدهم أمين أنهم طبقين لأنفسهم. فهم ليسوا من خارج الطبقات، لا وجود للبونابرتية لا حزبيا ولا فرديا الكل طبقي وله مصالحه الطبقية، ولأن هؤلاء القوميين ليسوا اشتراكيين فقد ظلوا بعيدين عن جوهر الوصول إلى الوحدة العربية وعليه لم يصلوا، ويجب علينا عدم التسامح مع اية محاولات مشابهة من قوميين مشابهين بأتن يعيدوا الكرة مرة أخرى لنغرق في التبعية 40 سنة أخرى ثم نتنبه! وربما لا. المسألة هي في ان هؤلاء القوميين حتى ولو بشعور نقي وبريىء خدموا الطبقة التي انتموا إليها، ولذا لجأوا للإيديولوجيا والحماسة وليس إلى الاقتصاد السياسي بمفهوم الطبقة تحديداً

 

** أمين: بيد أن الفكر القومى يقصد معنى آخر ويضفى على التمييز اللفظى مضموناً خاصاً. يقصد هذا الفكر أن القومية هى قائمة بالفعل (وهذا قول يتجاوز حقيقة الأمر فى رأيى) وبالتالى أنها تمثل العنصر الحاسم فى إدارة العمل السياسى (وهذا خطأ استراتيجى فى نظرى).

ــــــ مرة أخرى في هذا الصدد، هناك قوميتين، واحدة كامنة وأخرى حاكمة، واحدة قومية في جوهر قطري تابع وواحدة كامنة في جوهر اشتراكي. فالمسألة ليست في الشعور ولا حتى في الانتماء النائم المسألة في البحث في الآليات المادية الموضوعية التي توجب الوحدة كمصلحة للطبقات الشعبية بلا مواربة. هذا ما اكتب فيه منذ عقود، وهو ما دفع كثيرين من الشيوعية الكلاسيكية السوفييتية بتسميتي "القومجي أو Black Left

 

** أمين: لسنا فى حاجة لأن نضفى على مفهوم العروبة أكثر مما يحتوى بالفعل، أى كواقع جزئى له جذور تاريخية، وواقع إيجابى فيما يحمل من احتمال. لسنا فى حاجة إلى اختزال تاريخ الشعوب العربية فى مجرد إشهار "عروبتها". بيد أن القوميين بصفة عامة لا يقبلون هذا الحكم، ويذهبون إلى إنماء خطاب ميتافيزيقى مطلق لا يفيد، خطاب يقترب من خطاب أصحاب النظريات العنصرية العرقية. وتضر هذه المقاربة أكثر من أن تفيد. إذ إن خطابها غير صحيح، مثل جميع الخطابات المطلقة. شأنه فى ذلك شأن النوع الأخر من الخطاب الميتافيزيقى، أقصد الخطاب الذى يسعى إلى إعطاء "العقيدة الدينية" (أو على الأصح ما يشبه العقيدة) الدور الحاسم والوحيد فى العمل، أو يدعى ذلك، إذ إنه فى الواقع يترك العوامل الأخرى- التى ينكر وجودها المستقل- تتحكم فى مسيرة الحياة.

ــــــ ليس دقيقا إطلاق الوصف على كل القوميين بل على مدارس أو انظمة. قالقومي الذي يقيم قناعته على الوعي الطبقي والنظرية الماركسية ويناضل من أجل الوحدة العربية نضالا طبقيا لا رومانسيا هو بمعنى ما قومي، ولكن ليس من طراز الآخرين. هذا التدقيق أو الفصل هام جداً، كي لا يُنظر إلى الطرح النقدي الذي يوفره امين على أنه ضد اي قومي بشكل مطلق.

 

** أمين: أولاً: إن إنجاز مشروع التحرير يقتضى "فك الارتباط"، ولن أسترسل هنا فيما أعنى بهذا المصطلح الذى قدمته بالتفصيل فى كتابات عديدة.

ـــــ هذا صحيح. ولكن، لا بد من مراجعة دقيقة لٍ : من الذي سيقوم بفك الارتباط؟ سلطة الدولة بما هي بيروقراطية؟ أم الحزب الثوري الذي ترفعه الطبقات الشعبية إلى السلطة ويظل تحت رقابتها. ماذا كان مصير التنمية التي قامت بها أنظمة البريوقراطية؟ أنظمة الاشتراكية المحققة؟ هذا ما حاولته في كتابي

Development by popular Protection vs development by State, 2005

فك الارتباط يحتاج إلى الحامل الثوري الحقيقي، الحزب الثوري. وحينها لا أعتقد ان سمير امين سيكتفي بأن يكون صديقا للوحدة بل سيكون أحد أعمدتها.

 

** أمين: ثانياً: إن تبلور القوى الاجتماعية/ السياسية/ الأيديولوجية القادرة على إنجاز المشروع يفترض تشكيل تكتل طبقى أسميته "التكتل الشعبى الوطنى الديموقراطى"، يكون بديلاً للتكتلات "الوطنية الشعبوية غير الديموقراطية" (على نمط الناصرية) التى اتسم بها عصر باندونج، ومن باب أولى: بديلاً للتكتلات الكومبرادورية الحاكمة فى معظم بلدان التخوم المعاصرة. هذا هو مضمون "الصراع الطبقى" المطلوب فى رأيى.

ـــــ لكن هذا التكتل ما زال فضفاضاً ومرناً. فاولاً الناصرية لم تكن تكتلاً شعبياً، كان هناك نظاما قوميا تقدميا مخلصاً يعمل لصالح الطبقة الوسطى بينما تتحالف معه الطبقات الشعبية وهو يتحالف مع طبقة أخرى.

كقول الشاعر: "عُلِّقتها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً غيري...وعلِّق أخرى ذلك الرجلُ"

هذا التكتل الفضفاض لا يكفي في حقبة من التاريخ تتطلب وضوحا بمعنى "إسطع بما تؤمر" لا بد من حزب شيوعي عربي بلا مواربة ليقود هذا التكتل. وكون الحزب كذلك، لا يعني ان لا يكون ديمقراطياً.

 

** أمين: إن هناك بالفعل اختلافًا حقيقيًا بين ما أطرحه من مشروع عمل وما يطرحه الكيلانى، فالكيلانى يغفل المشكلة ويرحب بأية قوة قد "تقود" معسكر النضال من أجل إنجاز الوحدة القومية، حتى لو كانت بورجوازية. ومعنى هذا هو إن الكيلانى يعتقد أنه من الممكن للبورجوازية أن تقوم بالمهام.

ـــــ هذا التحذير والمحظور عالي الأهمية . يجب أن نناضل بالنواجذ كي لا نعطي البرجوازية فرصة أخرى ، أن لا نجدد لها حكمها بضعة عقود أخرى. تكفي في الوطن العربي فترة انتقالية لمدة قرن، ولم ننتقل

أمين: أما أنا فأقول إن أية جبهة تقودها البورجوازية (المتشكلة بالفعل أو المكونة من فئات تميل إلى أن تتحول إلى بورجوازية) لا يمكن أن تنجز المشروع، حتى إن أعلنت ذلك هدفًا لها. فأعتقد أن هذا الإعلان هو فى واقع الأمر ديماغوجى الطابع، لا أكثر. وبالتالى فإن تشكيل تكتل طبقى آخر، بديل، هو الشرط المطلوب لإنجاز المشروع. علماً بأن هذا التكتل يمكن أن يكون قائماً على قيادة مشتركة تمثل مصالح وآفاقًا متباينة، بشرط أن تلعب الطبقات الشعبية فيه دوراً أساسياً، قد يؤدى- ولو بالتدريج عبر صراعات وإنجاز خطوات إلى الأمام وردات- إلى قيادة شعبية صريحة.

هناك أحاديث في الوطن العربي عن تنويعة من التكتلات سواء علىالصعيد الفلسطيني أو العربي. لكن ما هو معروض منها حتى اللحظة لا يخرج عن نطاق رضى الأنظمة الحاكمة! لكن دور الطبقات الشعبية غير واضح كما يجب في فقرة امين أعلاه، وكأن أمين خجولا هنا. يجب أن تقوم وترتفع الطبقات الشعبية من خلال حركتها السياسية إلى هذه المهمة، وهذا موضوع أعالجه في بحث آخر.

 

** أمين: على سبيل المثال "استخلص" الكيلانى من كتاباتى (التى لم يقرأها!) أننى أدعو إلى قبول الخضوع للتوسع الرأسمالى لأنه "يفتح" مجالاً لتكوين "بروليتاريا" ستقوم فيما بعد بدور حفار قبر الرأسمالية! أين وجد الكيلانى مثل هذا القول عندى؟ إنها بالفعل مقولة هؤلاء الذين أسميتهم أنا "الاشتراكيين الاستعماريين" مثل الكاتب الإنجليزى "بل وارن" الذى وجهت له النقد الشديد والمكتوب.

ــــــ بل إن بل وارين من الحزب الشيوعي البريطاني وأطروحته الرئيسية كانت أن العالم الثالث يسير باتجاه التصنيع في ظل الرأسمالية المحيطية التابعة(6). كان واريبن آنذاك من الصرخات الفاقعة ضد لينين ومن رحم الماركسية، أليست هي ايضا حمالة أوجه كما قال الإمام علي عن الدين؟ تشابه صرخته هذه صرخة هاردت ونيجري قبل بضع سنوات. كان وراين ضد لينين أما نيجري فضد الماركسية بشمولها. أما الذي "ابلى" أكثر منه بلاءَ "حسنا" فكان جيفري كاي(7)، الذي يقول بوضوح أن المشكلة كامنة في أن الاستعمار لم يدخل العالم الثالث ويستعمره بالعمق المطلوب" هكذا بوضوح. وأهمية إثارة هذه المسألة في هي ما نحن فيه الآن من "استدعاء الاستعمار" قد لا أتوسع كثيرا هنا إذا اشرت إلى كثيراً من الشوعيين والماركسيين العرب والكثير من القوميين الذين ايدوا احتلال العراق وشاركوا فيه لفرط عشقهم ل "دقرطة العراق"!

 

** أمين: والخلاصة واضحة: اتهامات الكيلانى ناتجة عن تخيلاته لا غير. وتخيلاته خاطئة. إن المحور الأساسى الذى يدور حوله طرحى لطابع التحدى الذى تواجهه شعوب التخوم بصفة خاصة والإنسانية جمعاء بصفة عامة، هو أن الاستقطاب الذى يصاحب التوسع الرأسمالى يقتضى تجديد نظرية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وتجاوز تعبيراتها الموروثة. فالواقع يفرض علينا اندماج الصراع من أجل تحرير الشعوب المضطهدة مع الصراع الطبقى من أجل الاشتراكية، يفرض اندماجهما فى صراع موحد.

ــــــــ ما هو الحامل لهذا المشروع التاريخي، ما هو التحالف الذي يجب أن يقوم ويتمكن من حمل هذا المشروع؟ ليس إلا حزب الطبقات الشعبية التي لا بد أن تكون إحدى مرتكزاتها القومية الكامنة التي هي بالشرط والقطع اشتراكية. نعم، هنا يجب أن يدور سجال جاد وعميق، وهنا يأتي موقع القومية العربية في الصراع، وبغض النظر إذا كانت هذه القومية او الأمة محصورة في الشام ومصر والعراق أم حتى في جيبوتي، ليس هذا ذا بال كبير، المهم في الأمر أن الأمم والشعوب الخاضعة للاستعمار والاستيطان والاغتصاب يمكنها بل يجب أن تتولد فيها قومية تقدمية ثورية، هذا ربما جوهر ما يفهمه أمين من باندونج. ولذا، ففي نضال القومية الكامنة العربية ضد برجوازيتها التي تشن حربا أهلية شاملة داخل الوطن، وفي نضال هذه القومية ضد الكيان الاشكنازي والامبريالية هي قومية تقدمية وثورية. هذه المسألة يعارضها بشدة اليسار الغربي وخاصة التروتسكي يرفض مجرد السماع لما نقول، ويهرول لاتهامنا بالقومجية هم ينفرون ويستنفرون لمجرد ذكر القومية العربية دون شتمها. إن الكثير من مثقفينا الطيبين يُحرجون هناك فيجاملون هذا اليسار. وهذا يتطلب موقفا واضحا فيه تحدٍ وتماسك ذاتي.

 

** أمين: إن الكيلانى هرب من مواجهة هذا النوع من الأسئلة الصعبة. أولاً يبدو أنه لا يدرك أن الغزو الخارجى ليس هو السبب الوحيد لمحنتنا، فالانحطاط الذى أصاب المجتمع العربى الإسلامى سبق هذا الغزو بقرون وجعل انتصار العدو سهلاً.

ــــــ لا يحدد أمين هنا ما يقصده بالغزو الخارجي. فإذا كان المقصود الغزو الاستعماري الغربي، فإن الحكم التركي هو غزو خارجي ايضاً، وهو الذي فقد منطقة كان قد جهَّزها للتبعية والخضوع سواء من حيث افتقارها للتطور أو حتى للمقاومة، هذا إذا كان يمكن فصل مستوى او درجة التطور عن القدرة على المقاومة. بل إن ما أُسمي عصر الانحطاط كان قد مر بالوطن العربي حتى قبل العثمانية، ناهيك عن حملات الفرنجة وسقوط بغداد ...الخ. لست مع النقد الناعم للعوامل المحلية في تخلفنا سواء الطبقات الحاكمة والقوى السياسية الحزبية والمثقفين....الخ ولكن الانحطاط الذي يشير إليه أمين له علاقة بالعوامل الخارجية ايضا.

 

** أمين: لقد قام الكيلانى على مدى صفحات طويلة بمدح التجربة الناصرية دون تحفظ بالنسبة إلى ما أنجزتها فى مصر، وليس بالنسبة إلى مواقفها فيما يخص الوحدة مع سوريا والصراع مع النظام العراقى وغيره. بل يمتنع عن إثارة تلك الأسئلة التى قد توحى بالشك فى صدقية القناعة القومية لناصر، مثل مساندته لإعلان استقلال الكويت على يد بريطانيا فى مواجهة بغداد.

ـــــــ هذا من تبعات الدولة القطرية رغم الحديث القومي للنظام، وهذا كذلك على علاقة قوية بصراع المحاور وهو دليل قصور ناصري في الفهم الاستراتيجي للتنمية والتطور والوحدة. وها قد دفعنا ثمنه لاحقاً. هناك نقد كبير على أن صدام حاول بالقوة إنجاز مشروع أو استعادة حق في زمن لا يسمح بذلك أي استعادة الكويت، ولست ضد تلك الاستعادة وحبذا لو توسعت. وفي هذا لغط كثير. لقد حصد الرئيس صدام حسين نتائج الخلل القومي عند ناصر كذلك. لو كانت الكويت صحراء بلا نفط لما فصلها الاستعمار البريطاني عن العراق اصلاً. ولو كان الأمر متعلقا بنفط الكويت لاكتفت الولايات المتحدة بعدوانها على العراق 1991، كان الهدف دور ونفط العراق، وخدمة الكيان الصهيوني. ولذا استخدمت مسألة الكويت والنووي كغطاء ليس أكثر مما يؤكد أن التدمير تحصيل حاصل. أما الحديث بأن العراق أعطى الأعداء المبرر، فليس إلا تشكي الضعفاء.

 

** أمين: وتصورت فى تلك الظروف أن الأمل آت من آفاق مختلفة، من حركة الطلبة فى مصر، من ثورة جنوب اليمن، من دخول الحركة الفلسطينية فى مرحلة جديدة بعد أن استقلت عن تبعيتها لإدارة خاضعة للنظم العربية.

ـــــــ يتعاطي أمين مع المقاومة الفلسطينية تعاطٍ عاطفي. فالمقاومة التي زعمت "الاستقلال" عن الأنظمة العربية مثلت حالة او رغبة قطرية رغم الافتقار إلى وطن للقطر ، وبالتالي تحالفت مع أنظمة قطرية كانت قد غادرت اي نضال ضد الاحتلال وقررت الاعتراف بالكيان. لقد عزلت المقاومة نفسها عن حليفها القومي من القوى العربية التقدمية وكان مآلها بالضرورة الاستسلام ...وهكذا كان أوسلو. لا بد من التفريق بين تحرر الفلسطنيين من الأنظمة وبين وقوعهم في شرك الكفر بالواقع القومي بالبعد القومي.

 

** أمين: ففى هذه المرحلة الباكرة كرست انتقاداتى لمواقف الاتحاد السوفيتى التى انحازت تماماً مع صف الناصرية، ففرضت على الشيوعيين المصريين حل حزبهم وتسليمهم لمقولة “الطريق غير الرأسمالى". وأدرك أنصار الاشتراكية السوفيتية من السوفييت والعرب خطورة موقفى. فأدانوه بتعبيرات شرسة اقتربت من السباب.

ـــــــ نعم، كانت العلاقة بالسوفييت في مستوى التبعية والإملاء. لكن هذه ليست خطيئة السوفييت وحدهم. فإذا كانت الطليعة الشيوعية أعجز من أخذ قرارها عن وضعها الحزبي والقومي فبأي معنى هي طليعة وشيوعية؟ هذا لا يقلل من الهيمنة السوفييتية التي دفعت الشيوعيين الفلسطينيين للاعتراف حتى اليوم بعدو استيطاني اقتلاعي القى بشعبهم في أربعة ارجاء الأرض. وحقيقة أن أمين كان من أوائل من فتح باب نقد السوفييت سواء في السياسة أو البناء الاشتراكي الداخلي. لم أؤمن قط بأن الاتحاد السوفييتي كان حليفا كما هو تحالف الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني . لقد دعم حل الحزب الشيوعي المصري، ورفض المشروع القومي في إزالة الكيان الصهيوني وهذه تعليمات سيد لا حليف وحسابات دولة لا ثورة. كان نمط العلاقة بالسوفييت وعدم الاعتقاد بان النظام السوفييتي اشتراكيا من اسباب خروجي من يسار المقاومة 1976. لم يسلم الشيوعيون المصريون وحدهم بالطريق اللاراسمالي، بل معظم الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي التي طالما اجتمعت واصدرت بيانات تبني هذا الطريق.

 

** أمين: فلا يمكن الفصل بين مواصلة الحوار حول احتمالات وشروط ظهور هذه الموجة المطلوبة الثانية من جانب وبين تحليل حقيقة النتائج المترتبة على استمرار سيادة الرأسمالية الليبرالية "المتهالكة" كما أسميها. وهى نتائج تلغى تماماً أوهام المؤمنين بالميول الطيبة، تلغى تماماً من الآفاق احتمال إعادة مجد العرب و(غيرهم) إذ يسعى فعل منطق النظام إلى سيادة ما أسميته "الأبرتهايد على صعيد عالمى"، أى إنكار حقوق جميع شعوب الجنوب.

ـــــــ ربما من المفيد هنا الإشارة إلى أن الابرتهايد على صعيد عالمي ليس مشروع راسمالية المركز البيضاء خاصة ولكن هناك مثقفيه الذين يخدمون راس المال عبر صراخ يسروي ضده. ربما كان تدمير العراق 1991 أكثر ما ابان ذلك (اسميتهم اولاد السكرتيرة(8)  مع الاعتذار للمرأة، حين يكون رأس المال في مأزق يهبوا لإنقاذه ودعمه. واليوم فإن المابعد حداثيين الذين يُنظِّرون ضد السرديات الكبرى: القومية والاشتراكية(9) ... الخ وهم بهذا إنما يدعون المحيط ليبقى غارقا في التبعية وليقنع بما قسم الله له، هذا ما يعزز الأبرثهايد على صعيد عالمي ويخلده.

 

** أمين: ينهى الكيلانى كتابه بصفحات خفيفة ولكنها دالة. فيقترح أجندة للعمل تنحصر فى بندين اثنين. أولهما إنعاش جامعة الدول العربية ومؤسساتها، وتدعيم شبكة منظمات المجتمع المدنى التى تمارس أنشطة على الصعيد القومى. لا مانع، بيد أن الجامعة العربية لن تنتج ثماراً تذكر على قدر التحدى- فى رأيى- طالما ظلت نظم الدول العربية على أنماطها الراهنة.

ـــــ لم اقرأ ما كتبه الكيلاني، ولكنني اعتقد أن إزاحة هذه الجامعة قد تأخر كثيراً. إن محطة فضائية واحدة تنطق بالعربية وحتى لو بها الكثير من التطبيع يمكن أن تبين المشترك العربي رغم أنفها في الفن واللغة وحتى الأخبار أكثر من هذه الجامعة. إن المطلوب جامعة للشعب العربي، والمطلوب حركة عربية واحدة حتى لو بأدوات التواصل الفكري اولا. إن منظمات المجتمع المدني مثار نقاش، وأعتقد أن أمين هنا يُجامل صاحبنا أو يجامل الكثيرين من نشطاء هذه المنظمات التي هي في الجوهر او غالبا منظمات أنجزة وهي قواعد متقدمة للأجنبي، هي بديل انثروبولوجي محلي أو مكمن محلي للاستشراق. وأبعد من هذا، هل هناك مجتمع مدني في الواقع أو المجتمع السياسي العربي؟

 

** أمين: وبالتالى تظل الأجندة التى يطرحها الكيلانى مقتصرة على الفئات الوسطى، فى أفضل الفرضيات. علماً بأن إنجاز خطوات فى الاتجاه المطروح (وأنا أرحب به) لن يشجع من تلقاء نفسه صعود الميول القومية، كما يأمل الكيلانى أن يكون، بل أعتقد- على العكس من ذلك- أن من شأنه أن يدعم "القطرية" المكروهة. وذلك لسبب بسيط ألا وهو أن مثل هذه الخطوات نحو الأفضل سوف تظل متباينة من قطر إلى آخر. ويقدم مثال لبنان دليلاً على صلاحية ما أقدمه هنا. فالشعب اللبنانى يدافع بحزم عن استقلال بلده لأن نظامه يعطيه مساحة من الحرية لا وجود لها فى بلدان الجوار. واللبنانيون بالتالى على حق فى الدفاع بحزم عن استقلال بلدهم. فالمواطنة المطلوبة التى تشجع انتصارات الديموقراطية ازدهارها ستظل نظرية بالأساس.

ــــــ كنت أحب لو دفع أمين تحليله قليلا إلى الأمام في هذه المسألة. أطروحتي في هذا السياق أن الدولة القطرية هي حالة استدعاء للتبعية والاستعمار وحتى الاحتلالات وأن المقاومة الشعبية، وكل مقاومة هي شعبية تزدهر وحتى تنتصر في غياب الدولة القطرية. فالدولة القطرية هي مشروع هزيمة لأنها اصلا مُسقطة على المجتمع العربي من خارجه ولذا فهي متخارجة وتشن حربا اهلية، وهذا ما أفقد المواطن العربي شعوره بالمواطنة ومن هنا فإن غيابها أفضل من حضورها طالما هي بأفق ومصالح القومية الحاكمة والكمبرادور. إن توفر شبه دولة للفلسطينيين أوسلو-ستان، انتهى إلى التسليم بالوطن للعدو، وخلق حكم إداري ذاتي يعيش منتفخاً بالتمويل الأجنبي الرسمي والمأنجز، ومن ثم التخلي عن الوطن. ما حصل هو تدفق ريع مالي لقاء تنازل وطني قومي سياسي عن الوطن! ومع ذلك فإن من بين من يقبض هذه الأموال هي كذلك منظمات "المجتمع المدني".

 

** أمين: إن إغفال الكيلانى لما أطرحه بصدد أجندة العمل الديموقراطى قد أدى به إلى طرح اقتراحات خجلة للأقصى، فالجبل القومى وضع فأراً ليبرالياً. وفى مقابل ذلك أعطى أنا الأولوية فى العمل للصراع الطبقى. نعم. فإن محور أزمة اليسار الديموقراطى والتقدمى محور اجتماعى، وبالتالى فإن أزمة المجتمع المحصور فى مأزق لا مخرج منه، تتجلى فى غياب دخول هذا اليسار فى الصراعات التى تعنى الطبقات الشعبية: العمل، الأجور، حقوق إقامة نقابات مستقلة، الحصول على الأرض، التعليم بالمجان، الصحة، السكن.

ـــــ غياب اليسار عن هذه ليس صدفة. إنه يسار يميني يسار اليمين ، هو يسار برجوازي ومتأنجز. مشكلته مع راس المال في عدم توفر فرصة له ليصبح من الطبقة الوسطى أو اعلى قليلا ، لذا كان أن انهال على طُعُم الأنجزة سواء بالمكاتب أو مشاريع التنمية الزائفة أو تذاكر السفر أو المنح المشبوهة أو اي مصدر تمويلي. مشكلة هذا اليسار أنه ليس طبقياً ولا عقيدياً، هو حالة فقر فكري وخواء محزن. اي يسار الذي يفاخر بالاعتراف بالكيان الصهيوني أو يكتم ذلك خجلا أو يدور حوله كما يدور القط حول صحن من المرق الساخن (لينين) ؟ اي يسار يحل نفسه بنصيحة من موسكو، اي يسار الذي ما ان انهارت الاشتراكية المحققة حتى هرول نحو البيت الأبيض إلى اللبرالية؟؟؟

 

رام الله المحتلة

(ينشر باتفاق خاص مع كنعان)

 

هوامش

(1) مقابل الزعم الأوروبي الراسمالي الأبيض أن عصر القوميات هو منتصف القرن التاسع عشر اي عصر القوميات في أوروبا، نرى أن هذه هي الموجة الولى بينما الموجة القومية الثانية هي في منتصف القرن العشرين اي حركات التحرر الوطني في المحيط، وأما الثالثة فهي في حقبة العولمة حيث في معظمها حركات تابعة ومصنوعة من الإمبريالية. يمكن لمن رغب متابعة هذه المسألةنشرة كنعان الإلكترونية .

(2) هذا عنوان كتابي عن المسألة القومية صدر عام 2009 برام اله عن مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية.

(3) قراءة كتابات عبد العزيز الدوري تغري بالبحث في هذه المسألة، مثلا كتابه: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، دار الطليعة، بيروت 1969.

(4) ناقشت هذا في كراس بعنوان: "الثورات نظرة وقراءة...لا استدارة للخلف"، منشورات لجان المرأة الفلسطينية آذار 2010 رام الله.

(5) Johan Galtung, A Structural Theory of Imperialism, International Peace Research Institute, Oslo, University of Oslo.

إذا قرأنا دور دولة أوسلو في القضية الفلسطينية (دور النرويج في إعداد دراسة مطولة اجتماعية اقتصاديةعن الفضة والقطاع ) والتي كانت الأرضية الاجتماعية الاقتصادية لاتفاق أوسلو، ثم اتفاق أوسلو نفسه ثم تغلغلها في الكاديميا المحلية، سنجد أنها قد لعبت دورا بارزا في اغتيال الانتفاضة والتنمية بالحماية الشعبية.

(6) Bill Warren, Imperialism Pioneer of Capitalism, Verso 1980,

(7)Kay, G, 1975 Development and Underdevelopment: a Marxist Analysis. London macmillan; New York : St Martins.

(8) أنظر مقالتي The New International Order, in The Gulf War and the New World Order, Zed Books, 1991, p.p. 259-69.

(9) عالجت هذا في الفصل الأول من كتابي: التطبيع يسري في دمكَ الذي سيصدر قريبا عن دار ابعاد في بيروت.